Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

إنها كرة الندم
إنها كرة الندم
إنها كرة الندم
Ebook579 pages4 hours

إنها كرة الندم

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

ان الكتاب عبارة عن تجميع لمقالات تؤرخ فترات زمنية تاريخية متباعدة محليا وعالميا، مجموعات متفرقة من المقالات التي تحدثت في كل شئ تقريبا، وفي كل المجالات، تكلم عن الموت والشعور به وفلسفته الغريبة، من يبحث عنه، ومن يهرب منه، تكلم عن طقوسه في العديد من الدول
Languageالعربية
PublisherNahdet Misr
Release dateJan 1, 2006
ISBN9789516916777
إنها كرة الندم

Read more from أنيس منصور

Related to إنها كرة الندم

Related ebooks

Reviews for إنها كرة الندم

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    إنها كرة الندم - أنيس منصور

    Section00001.xhtml

    إنها كرة الندم!

    العنوان: إنها كرة الندم!

    المؤلف: أنيس منصور

    إشراف عام: داليا محمد إبراهيم

    جميع الحقوق محفـوظـة © لـدار نهضـة مصـر للنشـر

    يحـظــر طـــبـــع أو نـشـــر أو تصــويـــر أو تخــزيــــن أي جـزء مـن هـذا الكتـاب بأيـة وسيلـة إلكترونية أو ميكانيكية أو بالتصويــر أو خـلاف ذلك إلا بإذن كتابي صـريـح من الناشـر.

    الترقيم الدولي: 978-977-14-3349-0

    رقم الإيـداع: 2005 / 22801

    الطـبـعــة الأولى: يناير 2006

    Section00002.xhtml

    21 شارع أحمد عرابي - المهندسين - الجيزة

    تليفــون: 33466434 - 33472864 02

    فاكـــس: 33462576 02

    خدمة العملاء: 16766

    Website: www.nahdetmisr.com

    E-mail: publishing@nahdetmisr.com

    قصــة حـــبيبــــي..

    سمعتها تقول:

    كأنني فتحت عيني في قرص الشمس، وكأن قنبلة انفجرت في أذني.. فأنا لا أرى بوضوح، ولا أسمع إلا ضوضاء..

    ماذا حدث لي؟

    لا أعرف.. إنه شاب كأي شاب في الدنيا.. ولكن قلبي تعلق به.. لا أعرف لماذا؟ ولا متى؟ ولا كيف؟.. وأحسست فجأة أنه شيء مهم جدًّا بالنسبة لي.. وأنني لا بد أن أراه كل يوم، أو أسمع صوته على الأقل.. أما التفكير فيه فهذا يحدث ليلًا ونهارًا.. وكلما أحسست بالضيق في البيت، شعرت به هو أكثر.. شعرت أنه هو الذي سينقذني، أنه هو الذي سيرحمني من عذابي مع أمي وأبي وإخوتي.. ولكن كيف يخلصني هو؟.. طبعًا لم أفكر أبدًا في ذلك.. بل إن مجرد التفكير فيه يريحني.

    ولكني لا أعرف اسمًا لشعوري هذا.. حب؟.. مجرد ميل؟.. استلطاف؟.. احترام؟.. إعجاب؟.. لكني في نفس الوقت أكره شعوري نحوه. أكره شعوري بأنني أحببته كده مرة واحدة.. إنني أشعر كأنه اغتصبني.. كأنه دخل قلبي بالقوة.. كأنه لم يستأذن في الدخول.. وإنما ضرب الباب برجله..

    وأحيانًا أقول لنفسي: إنني لا أعرف لي رأسًا من رجلين.. كل يوم أقابله.. كل يوم أراه.. كل يوم أكلمه.

    وأنا ما أزال في هذه الدهشة.. إنني لا أستطيع الابتعاد عنه.. هذا هو شعوري بالضبط.. أريد أن أكون بجواره فقط.. ولكن لماذا؟

    في الحقيقة لا أسأل نفسي أكثر من هذا..

    أريد أن أسأل الناس كلها عنه.. وأسألهم عني أنا.. هذا المولود الذي أحمله في قلبي، أريد أن أجد له اسمًا.. أريد أن أفرج الناس جميعًا عليه.. أقول لهم: هذا هو ابني.. وهذا هو أبوه.. أريد أن أسمع رأيهم في هذا الحب!

    ولا أعرف كيف يمكن أن يحدث هذا؟

    وفي يوم ذهبنا إلى حفلة.. هو ذهب قبلي وأنا ذهبت مع إحدى صديقاتي، بعد وقت طويل حتى لا يرانا أحد.. حتى لا يعرف أحد أن بيننا شيئًا..

    إنني كالتي وجدت أسورة من الذهب في الطريق.. ولفّتها في منديلها، وألقت بالمنديل في حقيبتها.. وبعد ذلك ذهبت إلى «تجار الصاغة» لتسألهم عن ثمن هذه الأسورة.. كل واحد يقول كلمته.. هذا يرفع الثمن، وهذا يخفضه.. وكلهم يضاعفون من حيرتي وارتباكي.. سألت الفتاة التي إلى جواري، وأنا لا أعرفها: مين والنبي الواد الحليوة اللي هناك؟..

    ونظرت لي ببعض عينها وقالت: هو فين ده يا حبيبتي؟!

    فأقول لها: الواقف هناك جنب الشباك.. وتقول هي: ده..؟ حليوة!.. حكمتك يا رب.. فين بقى حلاوته؟.. عينيه الضيقة.. شعره الأكرت.. التفتفة وهو بيكلّم.. بلا حسرة.. اللي ما في حد يسر الخاطر..

    كل كلمة من كلماتها كالسكين يقطع خيوط قلبي.. وأنظر إليه من جديد.. وأحاول أن أرى هذه الأشياء التي قالت لي عنها.. فلا أجد منها شيئًا.. ثم لنفرض أن هذا هو شكله، ثم إنه يعجبني.. ما دخلها هي؟.. ما دخلها أم لسان طويل.. وأنظر إليها هي مرة أخرى وأقول في نفسي:

    ويعني انت اللي عدلة.. واللي يشوفك وانت واقفة يقول عليك قاعدة. وصدرك ماله كده.. زي ما تكوني مخبية عيل صغير تحت فستانك الجربان.. شوفي نفسك انت!

    وأبتعد عنها وأذهب لأناس آخرين.. إنني كالتي قامت باستفتاء وتريد أن تعرف رأي الناخبين.. إنني لا أريد أن أؤثر على الناخبين، أريد أن أسمع رأيهم فيه بحُرِّيَّة. وفي كل مرة أقترب من بعض المدعوين والمدعوات أندهش جدًّا؛ لأنهم لا يتكلمون عنه.. أندهش عندما لا أجد اسمه يتردد على ألسنتهم.. إنني أتصور أنهم يجب أن يفكروا فيه، أن يتكلموا عنه.. أن يتركوا الطعام والشراب وينظروا إليه فقط.. ولكني كنت وحدي مشغولة به.. ومن حين لحين أنظر إليه فأجد بعض الفتيات يسلمن عليه.. وأشعر بالضيق من هذا السلام باليد.. لماذا لا تبتسم كل واحدة من بعيد لبعيد؟.. يعني لازم اللمس باليد.. لازم يعني.. وأتمنى أن يكون لي في ظهري عيون تراه.. تمامًا كالعنكبوت، يا بخت العنكبوت، إنه يستطيع أن يرى في كل الاتجاهات، وكلمة عنكبوت هذه لم تعجبني، فالعنكبوت تخرج منها خيوط رفيعة يمكن تقطيعها.. يمكن أن ينفخها الإنسان فتطير.. وأفكاري تشبه هذه الخيوط.. ونظراتي تشبه هذه الخيوط.. إنني عاجزة أمامه وعاجزة معه، ولا أعرف كيف أفر من عيون الناس ولا من أيدي الفتيات.. إنني أفضل أن أكون كدودة الحرير.. التي تفرز من فمها خيوطًا جميلة.. ومن هذه الخيوط الجميلة أنسج فساتين جميلة، أرتديها عندما أقفل باب غرفتي.. وأحلم بأنني أنيقة.. أنيقة له، جميلة له، عروس له..

    وأسمع ضحكاته تملأ المكان، فأتلفت وأنا ضاحكة مثله دون أن أعرف السبب.. فأجده واقفًا مع أصدقائه.. إنهم يتكلمون في أشياء لا أعرفها.. ولكن لا شك أنه سيد الموقف، إنه أحسن من يتحدث، أجمل من يضحك، أروع من يسكت.. طبعًا هو أحسن من بابا وماما وأخي.. طبعًا لا شك.. وأسمع في رأسي صوت ماما وهي تقول لي: ماله أخوك يا بت؟.. ماله أبوك يا بت؟! وأقول في نفسي: يا سم!

    .. وأخيرًا قررت أن أبتعد عن هذا الجو.. لقد تعبت أعصابي.. إنني أخشى أن يسمعني الناس وأنا أكلم نفسي.. أخشى أن أناديه بأعلى صوتي، إنني أريد أن أناديه وأقول: حبيبي أهوه.. عريسي أهوه.. إيه يعني.. سيعرف الناس أنني أحبه.. وإيه يعني.. أنا أريد أن يعرف الناس ذلك.. سيقولون إنني مجنونة.. ولكن سيقولون إنه شاب تموت فيه البنات.. وهذا يرضيني، هذا يملأ قلبي بالإعجاب له.. طبعًا أموت فيه.. والناس مالها.. مال الناس بي..

    وقررت أن أذهب إليه وأقول له: يالله نخرج.. ثم أعود وأقول لنفسي:

    وهو أنا دخلت معاه؟

    وفجأة أنظر إليه.. وكأنني فتاة أخرى.. فأجد العرق على وجهه.. عرق؟! مع أن النوافذ كلها مفتوحة.. عرق؟! لا بد أنه مكسوف.. مكسوف من إيه؟! إذا كانت الرجالة بتنكسف.. أمَّال إحنا نعمل إيه.. مكسوف وعامل جريء.. عامل طويل اللسان.. عامل راجل.. إن هذه الجرأة ليست إلا محاولة لتغطية الخجل الحقيقي.. وقد رأيت أنه أتخن مما تصورت وأنه أقصر مما كنت أراه قبل ذلك.. ثم البنت التي بقي إلى جوارها وكأنه يرفرف عليها بأجنحته.. كأنه خائف عليها.. من إيه؟.. دا شكلها يقرف.. هل هذا هو النوع اللي يعجبه من البنات.. فيها إيه؟.. مش شايفة..

    وأخرجت المنديل من جيبي وتمنيت أن يكون هو فيه.. ثم بصقت.. وقلت بصوت هامس وأنا أترك المكان: إنت فاكر نفسك إيه؟.. دا حتى مناخيرك كبيرة! وانت عامل زي بابا!

    الإنسان مهموم بالموت (1)

    الذي ننساه ونحن شباب، ولا نذكر سواه ونحن شيوخ:

    الموت.. إنما ولدنا لنموت..

    والموت عربة تقف على كل باب، والذي يموت هذا العام سوف يستريح في العام القادم.. والموت هو ذلك الشيء القبيح الذي نخفيه في أجسامنا..

    ولو انهدمت الدنيا، فما الذي يخيفك.. إنك لن تموت إلا مرة واحدة!

    والموت الذي نتوقعه لا يجيء، والذي لا نتوقعه هو الذي يجيء!

    هذه الحياة جهنم، والموت باب مفتوح على الراحة الأبدية!

    الموت ليس مرضًا له علاج.. الموت علاج للمريض والمرض، وللطبيب والطب!

    ليس الموت هو الذي يوجع القلب..

    وإنما الفقر الذي نموت فيه والنسيان الذي ننقل إليه!

    والقرآن الكريم يقول: ﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ﴾ [الزمر الآية 29]..﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ﴾ [النساء الآية 78]..

    ﴿ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾ [الرعد الآية 38]..

    وأن يموت الظالم ليس هو العدل، ولكن أن يعاقب الظالم هو العدل!

    وشاعرنا أبو العلاء يقول:

    والشاعر شيكسبير يقول: إننا نصيد السمكة بدودة كانت تأكل رأس الملك، ونأكل السمكة التي أكلت الدودة!

    وعندما مات الموسيقار بتهوفن وقد فقد سمعه.. قال: سوف أسمع الموسيقى في السماء!

    وعندما مات الفيلسوف إنكسا غوراس سألوه إن كان يريد شيئًا؟ فأشار إلى تلامذة مدرسته وقال: أعطوهم إجازة.

    وعندما مات المارشال «ناي» في معركة «واترلو» قالوا للضباط حوله: قولوا للجنود أن يتفرجوا كيف يموت المارشال على أرض المعركة!

    ولما أعطوا الإمبراطورة ماريا تريزا بعض الحبوب المنومة وهي على فراش الموت رفضت وهي تقول: بل أريد أن أرى الله وأنا في كامل قواي العقلية!

    وعندما ذهبت أخت الأديب تشارلز دكنز لتضع المخدة تحت رأسه، قال ضاحكًا: المخدة لا تريح.. الأرض هي التي تريح!

    ولما اقتربت خادمة الأديب الأمريكي أوهنري من فراشه وراحت تسحب الستائر على النافذة قال لها: بل افتحي النوافذ.. أشعلي المصابيح فأنا أريد أن أرى طريقي إلى الظلام الأبدي!

    أما لويس الرابع عشر فقد نظر إلى إحدى عشيقاته وهي تبكي.. لماذا تبكين؟

    وهل ظننت أنني سوف أعيش إلى الأبد؟.. لقد كنت أظن أن الموت أصعب من ذلك بكثير!

    أما لويس السادس عشر فقبل إعدامه قال: أرجو أن يكون دمي ينبوعًا لسعادة فرنسا!

    وقبل أن ينتحر الطاغية نيرون قال: إن الإنسانية سوف تفقد فنانًا عظيمًا!!

    وقد حاول الإمبراطور فاسبازيان أن ينهض من فراشه قبل موته وهو يقول: إن الإمبراطور يجب أن يموت واقفًا!

    .. إلى آخر ما قيل ويقال عن هذا الشيء الذي يولد معنا،. والذي نقترب منه كلما أمعنا في الحياة.. والذي نعيش به وفي خوف منه.. وعلی مقربة منه.. ونهدد به ونتهدد به. إنه هذا الموت الذي يفرق الجماعات ويهدم اللذات ويلغي الفوارق بين الطبقات.. وهو أيضًا ذلك الشيء الذي لا يحب أحد أن يتكلم عنه.. وإنما نتستر عليه.. كأنه جريمة.. مع أن الجريمة ألا نذكره.

    وحتى لا يكون الموت جريمة أو السكوت عليه نوعًا من الجريمة، فقد أصدر ثمانية من المفكرين كتابًا عن «الإنسان مهموم بالموت».. وفي مقدمة هؤلاء الثمانية المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي. وهو أيضًا الذي كتب ما يقرب من نصف هذا الكتاب. والكتاب يقترب من الموت: نفسيًّا وأدبيًّا وجسميًّا وتاريخيًًّا ودينيًّا..

    وسوف أختار المقال الأول عن الصفحات التي كتبها المؤرخ الكبير توينبي.. وهو - ولا شك - عالم جليل..

    وإن كان أسلوبه ليس جميلًا ولا عبارته سهلة ولا معانيه واضحة. وإنما يمكن أن نصف عبارته بأنها «شرقانة» أي لكثرة المعاني والتحفظات والاعتراضات والاستدراكات التي احتبست فيها.. ولكنه هو وحده القادر على أن يستعرض تاريخ الحضارة الإنسانية بسهولة وأستاذية.. وقد قيل في نقد هذا الكتاب:

    إنهم جماعة من «العواجيز» يريدون أن يجعلوا الناس يصابون بالرعب ويكرهون حياتهم!

    وكان رد توينبي على هذا النقد: لم تعُد الفوارق طويلة ولا عريضة ولا عميقة بين الشيوخ والشبان، إن الخوف من الموت النووي قد جعل الناس جميعًا على مسافة واحدة من القبر!

    في كل التاريخ كان هناك احترام للموتى.. وجثث الموتى. وأقيمت الجنازات منذ أقدم العصور حتى عصر الإنسان المعروف باسم «إنسان يناندرتال». ففي ذلك الوقت كانت هناك طقوس.. هذه الطقوس تدل على مدى احترام الحي للميت.. أو مدى حرصه هو على أن يحترمه الناس عندما يموت.. وفي نفس الوقت كانت هذه الطقوس تدل على مدى عمق الفزع الذي يستشعره الإنسان أمام الموت.. ومن مظاهر احترام الميت أننا ندفنه في مغارة.. أو في قبر.. أو ضريح.. أو هرم.. أو نحرق جثته ونحتفظ بها في إناء.. ثم نلقي بالرماد بعد ذلك في النهر.. أو تترك جثة الميت لكي تأكلها الصقور والنسور.. وسبب ذلك أن الإنسانية كانت تخشى أن يتلوث الماء والهواء والنار والتراب بجثث الموتى؛ لأنها كانت ترى أن هذه العناصر مقدسة.. وكل هذه المواقف الإنسانية القديمة تدل على معنى واحد: أن الميت له كرامة، وأن هذه الكرامة يجب أن نصونها له.. وأن ندفنه باحتفال مهيب.. وألا ننظر إليه على أنه كلب مات - مع أنه لا فرق بين الإنسان والكلب عند الموت!

    وفي العصر الحديث حيث أصبح كثير من الناس لا يؤمنون بقدسية الموت، ولا بما سوف يحدث بعد الموت، وبأنه لا فرق بين الكلب وصاحب الكلب، فإنهم مع ذلك لا یتخلفون عن السير في جنازة، ولا عن تعزية أهل الفقيد، ولا عن الاعتذار إذا فاتهم ذلك!

    والقبائل البدائية لا تحترم كل أجساد الموتى.. فهي لا تحترم جثث الأعداء. إنها تمزق أعضاءها المختلفة. بل كان من مظاهر القوة والنصر أن يشربوا الماء أو الخمر في جماجم الأعداء..

    وسبب هذا الموقف العدائي هو أن هناك نوعًا من التعصب القبلي.. تعصب قبيلة ضد قبيلة أخرى. ثم إن هناك اعتقادًا آخر هو أن أكل لحم العدو يعطي للإنسان قوة، ولا يزال هذا الاعتقاد سائدًا بشكل آخر؛ ففي الريف يرون أن الذي يأكل قلب الذئب أو قلب الأسد يصبح شجاعًا كالذئب أو كالأسد..

    وقد هان الموت أمام الآلهة، فكثيرًا ما رأينا في كل العصور أناسًا يضحون بحياتهم من أجل الآلهة.

    وأعز ما يمكن أن يضحي به الإنسان: نفسه.. أو أن يضحي بأبنائه. وقد تكون التضحية بالابن أقسى من التضحية بالنفس. وكان هذا النوع من التضحية منتشرًا في العالم القديم كله. وكان في أمريكا قبل أن يكتشفها كولمبوس. وكذلك في أرض كنعان قبل المسيح بألف عام.

    وفي «التوراة» نجد أن الملك «يفتاح» يضحي بابنته للإله يهوه، فقد تورط هذا الملك في وعده أمام الرب.. والملك «يشع» يضحي بابنه ووريثه.. والملك «أحاز» قد ألقى بابنه في النار.. وإبراهيم عليه السلام قد ضحى بابنه الوحيد..

    وبعد ذلك أصبحت التضحية بالحيوانات بدلًا من الابن والنفس..

    وقد اختفى هذا النوع من التضحية في العالم كله، فيما عدا زمن الحروب، ففي زمن الحرب أصبحت التضحية بالروح من أجل الوطن، شرفًا يحرص عليه كل إنسان..

    وكل الأديان السماوية تؤكد للإنسان أن له كرامة، حيًّا وميتًا، وأما الأديان القديمة فكانت تقدس الحيوانات وتضعها فوق الإنسان، الفراعنة فعلوا ذلك والهنود أيضًا.

    وبعض الديانات الهندية ترى أن الأرواح عندما تفارق الأجساد تحل في أجساد حيوانات أخرى. ولذلك حرمت الديانات أكل الحيوان.. وفي الهند نجد أن الكثير من الحيوانات تعيش في هدوء ودلال لأنها مقدسة، كالأبقار والقرود والصقور والنسور.. وفي الهند ديانات تحرم أكل الحشرات أيضًا!

    وإذا كان الموت يسوي بين الإنسان والحيوان والحشرات، فإن الإنسان يعرف أنه سوف يموت.. ويحسب لذلك ألف حساب. ولكن هذه المعرفة لا تنقذه من النهاية المحتومة.. وفي ذلك تقول «المزامير»:

    «الأخ لن يفدي الإنسان فداء، ولا يعطي الله كفارة عنه، حتى يحيا إلى الأبد فلا يرى القبر.. بل يراه.. الحكماء يموتون.. كذلك الجاهل والبليد يهلكان، ويتركان ثروتهما للآخرين.. إنه يشبه البهائم التي تباد..».

    وعلى الرغم من التقدم العلمي الهائل الذي حققه الإنسان في القرون الثلاثة الماضية، فإن الموت يقهر الجميع - كما قال الأديب سوفوكليس من 24 قرنًا!

    فمنذ قيام الحضارة السومرية - أي منذ خمسة آلاف سنة في العراق - أنفق الإنسان معظم طاقته وذكائه وطعامه وموارده على الحرب. وإذا كانت الحرب مظهرًا من مظاهر القوة، فمن المؤكد أنها من مظاهر العجز الأخلاقي أيضًا. فعلى الرغم من قدرة الإنسان أن يسيطر على الأشياء المادية وعلى الحيوانات والنباتات ومظاهر الطبيعة، فإنه ما يزال عاجزًا عن التفاهم مع أخيه الإنسان.. ومع القوى السامية الكامنة وراء الأشياء. وهذا العجز يدفع الإنسان إلى الغرور، والغرور هو أبو الخطايا كلها؛ لأن الغرور يجعلنا نرفض الخطأ ونرفض إصلاح الخطأ.

    وهذه القوى السامية وراء الأشياء قد جعلها الإنسان على صورته.. فكل الآلهة القديمة لها ملامح إنسانية فيما عدا الديانات الكبرى التي جردت هذه الروح عن الصفات الإنسانية..

    مثل «إنليل» في السومرية القديمة.. و«مردوخ» في البابلية.. و«آشور» في الآشورية.. و «آمون - رع» في المصرية القديمة.. و«براهما» عند الهنود.. و«زيوس» عند الإغريق.. و«أدرين» في إسكندناوه..

    والفرق الوحيد بين الإنسان والآلهة، أن الإنسان وحده يموت! ولكن الآلهة التي أحبها الإنسان كثيرًا.. تلك التي ماتت وبعثت من جديد.. وتعذبت لأنها قريبة الشبه من الإنسان مثل: تموذ وأزوريس وأدونيس وآتيس وبرسيفون وبالدر.. والمسيح!

    ولا شيء يجعل الإنسان يشعر بهوانه أمام الموت، إلا أن هناك كائنات بدائية جدًّا لا تموت.. مثل الأميبا. فهذه الأميبا تعيش بالانتشار والاستمرار.. ولا تعرف الموت الذي تعرفه كل الكائنات الأخرى.. وفي قمتها الإنسان!

    فما الذي يفعله الإنسان أمام هذه الهاوية: الموت؟

    يرى المؤرخ الكبير توينبي أن الإنسان واحد من تسعة.. أي أنه أمام الموت يتخذ واحدًا من هذه المواقف التسعة:

    1- الاستمتاع بالحياة: فما دام الموت على رقاب العباد فلماذا لا نأكل ونشرب ونرقص؟! والمؤرخ هيرودوت يروي لنا قصة بليغة وجميلة عن أحد الفراعنة الذي عرف أنه سوف يموت بعد سنوات. فما كان من هذا الفرعون إلا أن حول ليله نهارًا. ولكن هذا الفرعون أرهقه الأرق والسهر، فمات معذبًا مرهقًا. فليس من المعقول طبعًا أن يظل الإنسان خائفًا لمجرد أنه سوف يموت.

    إن هذه الحقيقة يجب ألا تزعج أحدًا؛ لأنه لا مفر، ولا حل، ولا علاج.

    ويقول المؤرخ اليوناني هيرودوت: إنه كان من عادة الفراعنة أن يضعوا أمامهم تمثالًا صغيرًا أثناء الطعام ليتذكروا الموت.. فالموت كالحرب والثورة؛ حالات مرحلية، والموت في النهاية راحة من هذه الحياة.

    2- كراهية هذه الحياة، وكراهية الموت أيضًا. فالأديب سوفوكليس كان يقول: أسوأ شيء أن نموت، وأسوأ من ذلك أن نولد.. وأحسن شيء أن نجعل حياتنا قصيرة.

    ويقال: إن امرأة طلبت من الآلهة أن تعطي ولديها أجمل ما في هذه الحياة. وقد أجابتها الآلهة إلى طلبها: فمات ولداها أثناء النوم.. إن هذه قصة ذهبية لا يتعب من تكرارها أديب اليونان سوفوكليس..

    أما سولون فكان يقول: خير للإنسان أن يموت من أن يولد!

    ومن حكم الإغريق أيضًا: من أحبته الآلهة، مات شابًّا!

    وكان الإغريق يرون أن هذه الحياة وهم. وأن الموت هو الحقيقة المؤكدة؛ لذلك فالانتحار شرف.. لأنه هرب من الحياة! ولذلك انتحر الخطيب العظيم ديموستين، وكذلك الملك كليومنس الثالث ملك إسبرطة.. وكان الجنود الرومان يفضلون الانتحار على أن يموتوا بأيدي أعدائهم..

    أما الفيلسوف العظيم ديموقريطس، فقد فعل ما يتمنى أن يفعله كل إنسان- أنا مثلًا - فقد انتحر عندما لاحظ أن قوته العقلية والجسمية بدأت تتضاءل.. فأضرب عن الطعام حتى الموت!

    ومعروف أن برجرينوس قد أحرق نفسه أمام كل الناس. وهذا الرجل قد يتهمه علماء النفس اليوم بأنه ذو ميول استعراضية. ولكنه فضل أن يختار لحظة الموت، بدلًا من أن يفرضها عليه أحد من الناس.. وفي الهند تنتحر الزوجة بعد وفاة زوجها.. وكثيرًا ما كان الانتحار نوعًا من الاحتجاج السياسي، كما يحدث في فيتنام. وكما انتشر ذلك في أوروبا وأمريكا أيضًا.. وفي اليابان: ينتحرون لأسباب أخرى. فمن الممكن أن ينتحر المواطن الياباني ليؤكد للإمبراطور نفسه أن حياته تهون من أجل الإمبراطور فقط.. دون أن يكون هناك سبب وجيه لذلك. ومن الممكن أن ينتحر الوزير في مجلس الوزراء؛ لأنه أخطأ، وإصلاح الخطأ هو الانتحار، واليهود القدامى كانوا ينتحرون بالجملة حتى لا يقعوا في أيدي الأعداء.. أما في أستراليا فإن السكان الأصليين كانوا يتركون الشيوخ وراءهم؛ لأنهم عبء على القبيلة، ويظل الشيوخ في مكانهم حتى الموت..

    إنهم جميعًا لا يرون الحياة شيئًا هامًّا، وأن الموت أفضل منها..

    3- منذ آلاف السنين هناك اعتقاد بالحياة بعد الموت. أما كيف تكون هذه الحياة فليس واضحًا تمامًا.

    ولكن هناك شعورًا عامًّا بأن الإنسان إذا مات فإنه ينتقل من حياة إلى حياة أخرى. ومن هنا كان الحرص على القبور وعلى دفن الجثث وعلى تحنيطها وعلى وضع الطعام والمجوهرات مع الجثة.. وتحنيط الجثث لم يظهر في مصر الفرعونية فقط، بل ظهر أيضًا في بيرو..

    ويبدو أن تغييرًا طرأ على الفكر الفرعوني في أيام الدولة القديمة، فقد انتشر لصوص المقابر الذين لا يؤمنون بكرامة الميت وقداسة الموت، ولكن هؤلاء اللصوص كان لديهم شعور بالذنب أيضًا، ولكن يظهر أن الفقر أقوى من الموت.. أي أن الحرص على الحياة كان أقوى من حرص الموتى على الحياة بعد الموت.. ولذلك نبش اللصوص ألوف القبور.. وحرموا أصحابها من الحياة بعد الموت.. أو من الحياة الكريمة.

    4- وعلى الرغم من أن الإنسان يعرف هذه النهاية فإنه حريص على أن يعيش بعدها قليلًا. ومن هنا كانت رغبة الإنسان في الشهرة وفي المجد.. أي أن تكون له ذكرى بعد وفاته. وهذه الذكرى على شكل شعر أو أناشيد في أيام المجتمعات التي لا تقرأ ولا تكتب. وهذا الشعر تتناقله الأجيال من فم إلى أذن إلى فم.. وقد نُقشت هذه الذكريات بعد ذلك على الجدران، وعلى الخشب وقطع العظام.. وكثيرًا ما لجأ الحكام إلى المؤرخين والشعراء والفنانين يطلبون إليهم أن يسجلوا حياتهم وأمجادهم.. ليعيش هؤلاء الناس بعد موتهم.. ومن المضحك أن الملك الذي يحرص على البقاء بعد موته، ينساه الناس ولا يذكرون إلا هذا الشاعر أو الفنان أو المؤرخ الذي نقل لنا ذلك.. فالفنان أطول عمرًا من الملك.. والفن نفسه أطول عمرًا من الجميع!

    5- وقد يطول العمر عن طريق الأبناء.. فالذي يموت يعيش في أبنائه..

    .. فالله لم يَعِد إبراهيم عليه السلام بالخلود، وإنما وعده بأن يكون له أبناء كثيرون.. ففي سفر «التكوين» من «التوراة» نقرأ:

    «وأجعل نسلك كتراب الأرض حتى إذا استطاع أحد أن يَعُدَّ تراب الأرض فنسلك أيضًا يُعَدُّ..».

    وإبراهيم عليه السلام عندما طلب من الله أن يرزقه بولد قال له: إنني أخشى أن يرثني رجل يولد في بيتي.

    - يقصد أنه يخشى أن يرثه أحد أبناء الخدم، والإنسان يكون حريصًا على من يرثه، إذا كان عنده ما يخشى عليه من مال وأرض وعقار وسلطان، وقصة الملك بطرس الأكبر وابنه معروفة، فالملك بطرس الأكبر ظل يضرب ابنه الأمير ألكسي حتى مات. فقد كان الملك يكره هذا الابن؛ لأنه صديق لكل أعداء أبيه. ورأى الملك بطرس الأكبر أن القضاء على هذا الابن إنقاذ للشعب الروسي من خليفة فاسد - منحل - وهذا يدل على مدى انشغال الإنسان بما سوف يحدث بعد موته.. لاسمه وشعبه وتاريخه.

    وهذا الخوف نفسه هو الذي جعل الإنسانية تعرف نظام الوصية.. فالأحياء يكتبون وصاياهم، وهذه الوصايا كثيرًا ما أحرجت الأحياء وحيرت القانون. وهذه الوصايا تطلب من الأحياء أن ينفذوها ويحترموها.

    ألوف الملايين من سكان الأرض ما يزالون متأثرين بما أوصى به هؤلاء العظماء: محمد، وكارل ماركس، والقديس بولس، وعيسى، وبوذا، وكنفوشيوس. فعلى الرغم من أن هؤلاء العظماء قد ماتوا فإن سلطانهم ما يزال قويًّا قاهرًا.

    ومقتل الأمير ألكسي يجعلنا نفكر في هذه الحقيقة الغريبة: أننا نودع كنوزنا وحكمتنا في خزائن تملكها الأجيال القادمة التي لا نعرفها..

    وهذا الخوف من الأجيال القادمة جعل الأباطرة الرومان: نيرفا وترايان وهادريان وأنطونيوس بيوس يتركون على العرش أربعة من أبنائهم غير الشرعيين.. أو أبناء بالتبني! ولم يدفعهم إلى ذلك إلا حرصهم على الصالح العام بينما وجدنا الإمبراطور ماركوس أوريليوس يجعل من ابنه وريثًا له.. وكان هذا الابن نكبة على أبيه وشعبه!

    والتفكير في الأجيال القادمة معناه: أننا ننظر إلى سبعين مليون جيل ستعيش على هذه الأرض قبل أن تصبح عاجزة تمامًا عن إطعام أهلها.

    ولا يمكن - من الآن - أن نعرف ما الذي سوف يبقى من جيل إلى جيل.. ولكن الإنسان لا يستطيع إلا أن يفكر، وإلا أن يفكر في أن يعيش ولو قليلًا بعد موته.. أو يتوهم ذلك!

    6- ولكي ينشغل الإنسان عن الموت، فإن بعض الديانات الهندية هيأت الناس لقبول هذه النظرية أو هذه التجربة اليومية: أن يستشعر الإنسان أنه جزء من الكل المطلق.. أو من حقيقة الكون.. أنه شعاع في الشمس.. أنه قطرة من البحر.. أنه ذرة من الشاطئ الرملي الأبدي.. وأنه بذلك ليس إنسانًا معينًا، وإنما هو الإنسانية كلها.. هو الأبدية.. وأن الموت ليس إلا انطفاء الشعاع وتلاشي قطرة في قطرات.. وأنه لا يفنى وإنما يختفي.. ليظهر بعد ذلك عشرات الألوف من المرات.. في حيوانات ونباتات.. وفي أناس آخرين.. فهو إذن لا يموت..

    وهناك موقف آخر من الموت: هو أن ينشغل الإنسان تمامًا عن رغباته.. وأن يعطلها واحدة واحدة.. أي أنه ينصرف إلى داخل نفسه.. ويطفئ كل مصابيح الحس.. ويعيش في ظلام الطهارة والهدوء.. وأن يكون في حالة أقرب إلى الموت.. فبدلًا من أن ينتظر الموت، يذهب إليه..

    7- وكثير من الديانات الهندية والصينية القديمة تؤمن بخلود الروح.. وأن الروح إذا انفصلت عن الجسم، فإن الجسم يفنى.. أما الروح فباقية.. ولا بقاء إلا بالروح.. ولكن الروح لكي تكون على صلة بالأرواح الأخرى يجب أن تكون هي في جسم.. فالجسم هو واسطة الاتصال بين الأرواح.. ولا أحد قد رأى أو لمس روحًا لا جسم لها..

    وحتى في العالم السفلي.. أو عالم الأرواح التي تتعذب في النار، لايمكن الاتصال بها إلا إذا «تلبست» هذه الأرواح بأجسام مادية.. ولذلك رأينا أبطال «الأوديسة» الإغريقية عندما يهبطون إلى عالم الجحيم فإنهم يحملون معهم أكوابًا من دم الأغنام يقدمونها للموتى، فإذا شربتها أرواح الموتى أصبحت ملموسة، وأمكن التفاهم معها.. وإن كانت الديانات القديمة تحدثنا أن الملوك والأبطال لهم وجود ملموس بعيد عنا.. كأن يكونوا نجومًا لامعة

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1