Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

كيف لا أبكى
كيف لا أبكى
كيف لا أبكى
Ebook475 pages3 hours

كيف لا أبكى

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

مجموعة من المقالات التى تتسم بالعفوية والسخرية المعروفة عن أنيس منصور
أنيس محمد منصور كاتب صحفي وفيلسوف وأديب مصري. اشتهر بالكتابة الفلسفية عبر ما ألفه من إصدارت، جمع فيها إلى جانب الأسلوب الفلسفي الأسلوب الأدبي الحديث. كانت بداية أنيس منصور العلمية مع كتاب الله تعالى، حيث حفظ القرآن الكريم في سن صغيرة في كتاب القرية وكان له في ذلك الكتاب حكايات عديدة حكى عن بعضها في كتابه عاشوا في حياتي. كان الأول في دراسته الثانوية على كل طلبة مصر حينها، ثم التحق في كلية الآداب في جامعة القاهرة برغبته الشخصية، دخل قسم الفلسفة الذي تفوق فيه وحصل على ليسانس آداب عام 1947، عمل أستاذاً في القسم ذاته، لكن في جامعة عين شمس لفترة، ثم تفرغ للكتابة والعمل الصحافي في مؤسسة أخبار اليوم.
Languageالعربية
PublisherNahdet Misr
Release dateJan 1, 2004
ISBN9783459063116
كيف لا أبكى

Read more from أنيس منصور

Related to كيف لا أبكى

Related ebooks

Reviews for كيف لا أبكى

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    كيف لا أبكى - أنيس منصور

    الغلافSection__1.xhtmlSection__1.xhtml

    كيف لا أبكي؟!

    العنــــوان: كيف لا أبكي؟!

    المؤلــــف: أنيـــــس منصــــور

    إشراف عام: داليا محمد إبراهيم

    جميــع الحقــوق محفـوظــة © لدار نهضة مصر للنشر

    يحظـــــر طـبــــــع أو نـشـــــر أو تصــويــــر أو تخـزيــــن أي جــزء مــن هــذا الكتــاب بأيــة وسيلــة إلكترونية أو ميكانيكية أو بالتصويـــر أو خــلاف ذلك إلا بإذن كتابي صريــح من الناشـــر.

    الترقيم الدولي: 978-977-14-2673-7

    رقـــم الإيــــداع: 5054 / 2004

    الطبعة العاشرة: يوليو 2021

    Section__2.xhtml

    21 شارع أحمد عرابي - المهندسين - الجيزة

    تليفـــون : 33466434 - 33472864 02

    فاكـــــس : 33462576 02

    خدمة العملاء: 16766

    Website: www.nahdetmisr.com

    E-mail: publishing@nahdetmisr.com

    كلمــة أولــى

    هل تعرف «فيكي».. طبعًا لا تعرفها.. ماتت أو كأنها ماتت.. لقد هاجرت إلى البرازيل.. وحكايتها طويلة. ولكنها كانت أول وجه أراه وأول صوت أسمعه يتلخبط مني الكلام.. بين العربية والفرنسية والإسبانية.. سمراء حلوة.. طويلة.. ما الذي كانت تقوله ونحن جالسان في مطعم في شارع سليمان باشا.. كانت تتكلم عن أشيائها الصغيرة.. إنها موظفة في إحدى الشركات الإيطالية.. وكل شيء حولها له قصة وحكاية.. وهي مركز كل الحكايات.. كل شيء له أوصاف خاصة وكل شيء مشكلة.. أو كان من الممكن أن يكون كذلك لولا يقظتها وذكاؤها وستر ربنا.. وكانت فيكي متدينة.. وكان الصليب ذهبيًّا ماسيًّا على صدرها..

    وكنت أتسلى بكل ما تقول.. وأناقش بحماس وأندهش لهذه القدرة الهائلة على أن يتحول كل شيء إلى عمل أدبي أو عمل فني.. فكل شيء له أوصاف وألوان.. كل شيء.. فهي لا تحكي وإنما هي تكتب وترسم أيضًا. فماذا قالت؟ ملأت أذني وعيني بالحكايات وبالرقة والحرارة والأمل.. هي عندها أمل.. وهي على يقين من أنني سوف أكون شيئًا مهمًّا. ولا أعرف من أين جاء لها هذا اليقين؟ سألتها قالت: رأيت في نومي..

    سألتها قالت لي: خالتي الفيرا فتحت لك الكوتشينة..

    سألتها قالت: رأيت في المنام أن القديسة تريزة طلبت مني أن أزورها.. وزرتها وأضاءت الشموع ومددت يدي في شنطتي وقد كتبت أسماء كثيرة كل اسم على ورقة فكان اسمك أول اسم.. ومعنى ذلك أن مستقبلًا عظيمًا ينتظرك..

    وهي على يقين تام من كل شيء. وحسدتها على نعمة الإيمان السهل القوي..

    كأنها ماتت منذ زمن طويل. ولم أصادف -إلا نادرًا- واحدة في مثل صدقها وإيمانها العميق..

    فكيف لا أبكي عليها؟!

    لا أعرف كيف يكون شكل الدنيا لو بقيت هيلجا.. ماذا جرى لها وماذا جرى لي بعدها.. التقينا أول مرة في مدينة الشروك بجنوب النمسا.. لايهم كيف كان اللقاء.. ولكن هي التي تهم.. كيف أنني لم أحاول أن أعرفها.. أن أدور حولها.. أن أقول لها حكاية.. أن أفتعل اهتمامًا وأنصب شبكة من الملاحظات والحكايات.. هي رأتني وقالت لي: أنت تريد أن تعرفني؟ فقلت: أتمنى ذلك. قالت: إذن نحن قد تعارفنا. هيا بنا..

    وانفتحت أمامنا شوارع المدينة ودروبها إلى الغابات وإلى الجبال.. ليلًا ونهارًا.. إلى دنيا لم أرها. ولم أسمع ولم أقرأ ولم أتصور ولا تخيلت. هي تحمل سلة من التفاح والسندوتشات والنبيذ.. وأن نذهب إلى الغابة.. والحيوانات والطيور والنهر يتدفق والأضواء مخيفة.. مخيفة لي.. أما هي فوجهها الأبيض وابتسامتها الحلوة.. وأسنانها الصغيرة والدم في خديها وشفتيها وكل أضواء النجوم في عينيها.. وأنظر إليها إنها خلاصة الجمال والفن والحيوية الجرمانية.. ما أوصافها؟ ما سر الجمال فيها؟ ما الذي أعجبني.. ما الذي سحرني..ما الذي أوجع قلبي وعقلي عليها؟

    ما الذي كان منها؟.. ما الذي بقي منها؟..

    شيء عجيب عندما قررت هيلجا أن تعيش في إنجلترا لأن لها أقارب هناك.. كيف خلعت يدها من يدي.. كيف نزعت نفسها من قلبي.. كيف فتحت قلبي.. وبرقة ولطف وأدب أغلقته وراءها.. بهذه السهولة.. بهذه البساطة.. هل كانت كاذبة؟ أبدًا! هل كانت تؤدي دورًا وانتهى العرض المسرحي؟ أبدًا..

    إذن ماذا؟ إنها ظهرت واقتربت جدًّا.. وأسعدها وأسعدني ذلك.. ولكن ليست هذه الحياة التي تريدها.. إنها تريد أن تعيش وأن تعمل وأن تتزوج في بريطانيا..

    لا هي وعدت بشيء..

    ولا هي دفعتني إلى وضع تريده ولا أريده.. إنها تعلم أنني سوف أبقى في مصر لا حياة لي إلا بها وفيها.. وكان ذلك واضحًا تمامًا. واحترمت آمالي واحترمت شجاعتها.

    وجاءني خطاب وخطاب من بريطانيا تتحدث فيها عن حياتها الجديدة.. كأن لم تكن لها حياة قبل ذلك.. كأنني لم أكن أو أنني كنت بعض الوقت.. وليس من المعقول أن تبكي على الذي ذهب.. لقد ذهب ولكنه لم يختف.. ذهب ولكنه لم يمت.. إنما بقي ذكرى لنا.. كما بقيت هي ذكرى جميلة..

    ونحن مختلفان.. أريد أن أستوقفها بعض الوقت، لأحزن وأبكي عليها.. ولكنها لا ترى ذلك.. هي توقفت ونظرت ودمعت ولكن الحياة لا تنتهي.. ويجب ألا تنتهي. وإنما أنا صورة في ألبوم حياتها.. تنظر إليها وتعيد النظر.. ثم تميل عليها تقبلها.. وقبلي صور.. ومن بعدي صور أخرى..

    كأن هيلجا ماتت.. فكيف لا أبكي عليها؟!

    ولا أنت تعرف ماتيلدا التي درست الفلسفة مثلي. وتحب معظم الفلاسفة الذين أحببتهم. ولها رأي في الدنيا والآخرة.. كأنها تردد ما في دماغي.. والذي أتردد كثيرًا في الحديث عنه..

    كانت تمشي في شارع ناسيونالي في روما. وكنت أبحث عن مكتبة. وظننتها فرنسية فسألتها باللغة الإيطالية إن كانت تتكلم الفرنسية. فتوقفت سعيدة وقالت: نعم..

    وكانت تدرس اللغة الفرنسية. ووجدت الحديث معي فرصة للتدريب عليها.. وكان لقاء.. وألف لقاء.. وكانت ماتيلدا مخطوبة لطيار. وهذا الطيار مقامر. وكاد يبدد أموالها.. وبعد أيام في روما وفي برلين وفي مدن رايالو وبورتو فينو وسانت مرجرينا على الريفيرا الإيطالية استطاعت ماتيلدا أن تزرعني في حياتها وأن تزهر وتثمر في قلبي وعقلي.. كيف؟ لا أعرف.. ولا كيف أننا نتكلم كثيرًا عن الزواج. بالضبط ما لا أريد ولا أحب.

    وكنت عندما أصافحها وأعود إلى غرفتي.. أشعر أن الغرفة تضيق.. تضيق والأكسجين ينسحب من الدنيا وأكاد أختنق بالدموع: ما ذنبها؟.. لماذا أنا تعيس؟

    في ذلك الوقت كانت عندي قضية عمري هي: أن أكون شيئًا في عالم الصحافة والأدب. ولا شيء آخر يشغلني أو يجب أن يشغلني.. لا شيء.. لا حب ولا سياسة ولا دين.. لا شيء.

    وجاءت الخطابات الجميلة التي تبعث بها من روما وتقول لي فيها: بعد أن قابلت البابا يوحنا الثالث والعشرين وقال لها.. وقالت له.. فهو أحد أقاربها.. وتفسر كلام البابا على أنه نبوءة لنا نحن الاثنين.. حياتنا معًا.

    وأنا أقول: أبدًا! ليس قبل أن أكون شيئًا. صحيح هي أجمل من في الدنيا وما في الدنيا.. ولكن ليس الزواج مستقبلًا.. ولا هو مؤهلًا علميًّا.. أن أكون شيئًا مهمًّا هذا كل شيء في الدنيا وبعد ذلك يجيء أي شيء آخر..

    وفي يوم طلبت مني أن يكون لي حساب في بنك العمال في روما. ولم أفهم. ولكنها فتحت لي حسابًا. وضحكت كثيرًا. وفي يوم تلقيت خطابًا من البنك يقول: إنه قد تحول لحسابي 500 مليون ليرة. أي: ما يعادل نصف مليون جنيه - يا خبر أسود!

    فسافرت إلى روما. وقابلت الصديق صلاح يوسف كامل مدير الأكاديمية. وقلت له إن ما تيلدا حولت لحسابي هذا المبلغ. ثم إنها اختفت.. وأغلب ظني أنها هربت فلوسها حتى لا يستولي عليها خطيبها المقامر..

    وبدأت أبحث عن ماتيلدا.. ذهبت إلى صديقاتها في «ديوان المحاسبة» في ميدان سان سالفسترو.. واحدة قالت: عند خالتها في مدينة بيروجه.. وإليك عنوانها..

    وذهبت. ولم أجدها..

    وواحدة قالت: إنها عند عمتها في مدينة تارنتو في أقصى الجنوب من إيطاليا.. والمسافة بين البلدين كالمسافة بين المنصورة وأسوان. والدنيا صيف. وقطارات إيطاليا المتجهة إلى الجنوب شعبية جدًّا..

    وفي تارنتو قالت لي عمتها: كان في نيتها أن تجيء..ولكن لسبب ليس واضحًا سافرت إلى برلين. وإليك عنوانها..

    وسافرت إلى برلين وإلى باريس.. أين أنت يا ماتيلدا.. أين أنت.. قلبي يتقطع عليك.. ولكن مستقبلي أهم..وتذكرت «كهف العبقرية» في الأساطير الجرمانية.. فمن حق أي إنسان أن يدخل الكهف بشرط.. أن يترك ذراعًا أو ساقًا أو عينًا.. وأنا لا أتردد ولن أتردد في أن أفعل ذلك.. حتى لو كانت الضحية هي ماتيلدا.

    وفي العام التالي ذهبت مع صلاح يوسف كامل إلى وزارة العدل وكتبت شيكًا بالمبلغ الذي تركته ماتيلدا مع اسمها بالكامل وعناوين خالتها وعمتها وصديقاتها..

    وكرهت روما..

    وبعد عشر سنوات اتصل بي صلاح يوسف كامل، وقال: وجدتها..

    - من؟

    - صاحبة ملايين الليرات..

    - أين؟ في عرضك في طولك.. كيف وجدتها.. كيف حالها.. تزوجت.. أين تسكن.. لا تزال جميلة.. ماذا قالت لك.. عنوانها.. تليفونها!

    وبقية القصة لا يمكن وصفها.. فكيف لا أبكي عليها؟!

    أما أجمل من رأيت في الدنيا حتى اليوم فهي خالتي.. لا رأيت قبلها ولا بعدها.. لا صوتها ولا شكلها ولا لون بشرتها ولا جمالها ولا عطفها ولا حنانها.. لقد اختارها الموت لكي تقصف عمري.. إنها أجمل وأحسن وأروع.. فيها كل الصفات الجميلة الرائعة في أي قاموس وفي أية لغة.. كيف جمع الله كل هذه المعاني.. وكيف أنه اختارها.. كأن الله - سبحانه - قد وجدها كثيرة على الناس.. كثيرة علي أنا بالذات - فالعالم الآخر أحق بها..

    عاشت خالتي كأنها ما عاشت.. وماتت كأنها ما ماتت.. فهي في عيني وفي خيالي وفي قلبي وعقلي.. ما هذا الذي كانت تقوله خالتي وتقوله أمام أمي.. وكنت أصدقها.. كانت تقول وأنا نائم على صدرها: أنا أمك الحقيقية..

    وكنت أنظر إلى أمي وإلى خالتي ولا أفهم.. خالتي آية من آيات الله في الجمال، وأمي هي أمي.. ولا أعرف كيف أن لي أُمَّيْن في وقت واحد.. كيف أفتح عيني على وجه خالتي.. وآكل وأشرب معها.. وأمي لا تعترض ولا تندهش.. وأنا مأخوذ بالذي أرى والذي أسمع..

    ويوم قالت لي خالتي: تتجوزني؟

    فقلت بسرعة: نعم..

    وكانت هذه نكتة العائلة والضيوف. وكانت تقول للناس: هذا عريسي.. ويسألونني: أنت عريسها؟!

    فأقول: نعم..

    والناس يضحكون من الطفل الذي تزوج خالته..

    وكبرت.. وخالتي كبرت.. وظلت جميلة طيبة رقيقة في غاية الدفء.. إنها تعطي كل ما أطلب والذي لا أطلب.. ولم يحدث أن طلبت من أمي أي شيء.. ولكن أحب أمي وأحب خالتي.. ولا أعرف الفرق بين هذا الحب وذلك الحب..

    ولا أعرف معنى هذا الحب العميق.. ولا أوله ولا آخره.. وما الذي يمكن أن يحدث إذا سافرت إلى القاهرة لأدرس في الجامعة وبقيت خالتي في المنصورة.. لم أسأل. لم أفكر. فقد سحبتني الجامعة من الدنيا كلها.. اختفت الدنيا.. اختفي كل الناس تقلصت كل الشوارع والبيوت.. فلم يبق إلا شارع واحد من بيتنا في الزمالك إلى الجامعة..

    وأنا غرقان في الجامعة في الدراسة والكتب والقلق والفلسفة جاء من يقول: تعيش أنت.. خالتك ماتت!

    يارب ارحمها.. ماتت؟ يعني إيه؟ إزاي؟ ما السبب؟ لماذا؟ وأسئلة كثيرة لا معنى لها.. إلا أنني تصورت أنها باقية لا تموت.. وأن الله قد ادخرها لي.. حتى أفرغ من الدراسة فأجدها في مكانها.. لأذهب إليها كلما اشتقت إلى قلبها الطيب وحضنها الدافئ وعطفها وأمومتها اللانهائية.

    لم أستطع أن أبكيها في يوم في شهر في سنة.. وإنما ظللت أبكيها العمر كله.. فلم أر لها مثيلًا في أي شيء..

    فكيف لا أتحول دمعة في عين الدنيا كلها؟

    أما الذي كان زلزالًا له توابع كبيرة وصغيرة فهو يوم أن قابلت الأخت فرانشيسكا..

    كنت أتردد على مكتبة «الدير الدومنيكي» في شارع مصنع الطرابيش في العباسية.. الشارع يبدأ بمدرسة الطائفة الإسرائيلية وينتهي بالدير الدومنيكي حيث الأب والصديق قنواتي والأب بولانجيه.. وكلاهما كان أستاذي في دراسة الفلسفة المسيحية.. كانا في غاية الرقة واللطف والصدق.. لا أنسى يوم قابلت الأب قنواتي في روما.. وسألني عن أي شيء أبحث..

    قلت له: قرأت إعلانًا عن موسى حلاقة جديد يمكن استخدامه شهورًا..

    وكان ذلك سببًا في أن نمشي معًا في شوارع روما ساعتين حتى ذهبنا إلى المحل الذي يبيع للرهبان الكاثوليك بنصف السعر!

    وفي يوم لمحت إحدى الراهبات تدخل الدير الدومنيكي.. كأنني أعرفها وعرفتها وقلت لها: أنت إيفون؟ وقالت لي: أنت أنيس؟

    إيفون كانت أخت أحد أصدقائي في مدرسة المنصورة الثانوية.. كانت حلوة. وكانت هي التي تقدم لنا الشاي والجاتوه. أما أمها الست أم فايز فكانت صديقة أمي.. وكانت أمًّا لكل أصدقاء ابنها فايز.. كانت أمنا جميعًا..

    وفي حديقة الدير الدومنيكي قالت لي إيفون حكايتها.. ولما دخلت الدير غيروا اسمها إلى فرانشيسكا وحلقوا شعرها.. ولكن وجهها ازداد نورًا. وبشرتها أكثر نضارة. ما الذي يحدث لمن يدخل الدير؟ من أين يأتون بهذا النور في العيون وهذا الصفاء في الوجه.. وهذا النقاء في الصوت. وبهذا الامتلاء.. لقد امتلأت نفوسهم وعقولهم ومعداتهم بعيدًا عن هذه الدنيا.. امتلأت هناك ومن هناك..

    قلت لها: قولي لي يا إيفون ماذا حدث؟ ومتى؟

    وعرفت أن أمها ماتت..وأن أخاها فايز مات في حادث سيارة وكان قد تزوج قبل الحادث بأيام.. وكان لها أخ قد هاجر إلى كندا فعاد بسرعة ليستولي على ثروة الأب والأم ويطردها من البيت ليبقى هو وزوجته وأولاده.. فمن الطبيعي جدًّا أن تتجه إلى العالم الآخر.. في الدير في حضن السلام والصلاة والصفاء..

    قالت لي: أنت تصدقني؟

    ـ طبعًا!

    ـ هل تذكر يوم قلت لك: إنني أحبك؟

    ـ نعم..

    ـ وصدقتني؟

    ـ لا..

    ـ لماذا؟

    ـ لم أعرف المعنى.. ولا كان عندي أي استعداد نفسي لذلك.

    ـ هذا صحيح.. هل تعرف كم خطابًا أرسلت إليك.

    ـ لا أعرف.

    ـ مائة خطاب..

    ـ لم أتسلم واحدًا منها..

    ـ نعم. لأنني لم أبعث بها.. كتبتها وأخفيتها. هل تصدق أن معي بعض هذه الخطابات..

    ومدت يدها إلى أعماق ثوبها الأبيض وأخرجت لفة من الأوراق القديمة. واختارت واحدًا. وقالت ويدها ترتجف: لك.. لا تقرأه هنا..

    ونهضت واستودعتني واختفت وظللت جامدًا في مكاني..

    وفي البيت قرأت ما كتبته إيفون أو فرانشيسكا:

    أنيس.. إن أول «علقة» من أمي كان سببها أنني قلت لها: أمنيتي في الدنيا أن أتزوج أنيس.. الباقي يمكنك أن تعرفه.. فأنت مسلم وأنا كاثوليكية.. ونحن عيال.. ولكن أخي فايز هو الذي قال لي: أحسن واحد.. أحسن من أخ..أنتِ على دينك وهو على دينه.. إيه يعني؟.. أنا شخصيًّا سوف أتزوج مسلمة.. وأغير ديني.. المهم: السعادة.. وكل الأديان تؤمن بإله واحد.. والباقي لا يهمني..

    تعرف يا أنيس.. ما الذي جعلني أحبك في صمت؟ شيء غريب جدًّا.. في يوم رحت أبحث عن أخي فايز فوجدتك أنت وفايز وكوهين ومخالي تحتضنون بعضكم البعض في حب ومودة.. في هذه اللحظة رأيت الحب.. بين المسلم واليهودي والمسيحي ومخالي الملحد.. إنها لحظة حب.. لحظة صدق.. وأنت الذي جمعت هؤلاء الأصدقاء معًا.. أنت سبب هذا الجمع أنت مصدر هذا الصدق.. في هذه اللحظة قلت لنفسي: إن هذا الزوج قادر على أن يجعل دنياي أوسع.. وأصدقائي من كل دين فلا نعرف إلا التسامح وإلا المحبة.. والله محبة.. وحكاية ثانية: هل تعرف أنك الوحيد الذي يقبل يد أمه.. رأيتك تقبل يد أمك وكأنك تسجد على كفها.. تصور. في هذه اللحظة دخلت قلبي ولم تخرج.. هل تذكر أنك قلت لنا يوم عيد ميلاد فايز إنك قرأت قصة القديس إبيلار الذي أحب الراهبة هلويزا.. وكيف أنه ترك حياة الرهبانية وتزوج راهبة تركت الدير.. ورأى الاثنان أن الحب عبادة.. وأن الزواج عرس في السماء.. وأن السعادة هي في الحب والوفاء وتلك هي العبادة والبركة.. ويومها قلت لي ضاحكًا: سوف ندخل الدير ثم نهرب معًا!

    هل تصدق أنني صدقتك؟ والله يا أنيس صدقتك.. وكتبت لك عشرين.. ثلاثين خطابًا أبارك هذا الحلم. ولم أبعث لك هذه الخطابات.. إنها كانت إنجيلا لحياتي أقبله وأصلي له.. وأبكي عليه وعليك وعلينا.. وسوف أبكي يا حبيبي..وسوف أنتظرك وأنا مؤمنة بأنك ستجيء يومًا.. ستجيء يومًا - إيفون...

    وكان يومًا طويلًا وليلًا أطول.. آه يا إيفون لو كان عندي وقت.. آه يا إيفون لو كنت قد ظهرت بعد ذلك.. ولكن الدنيا سودتها في عيني: ألوف الكتب والنظريات والآراء والمذاهب.. كأنني أقيم في كهف تحت هرم من الكتب.. فأنا لا أرى ولا أسمع ولا أتكلم.. أنا مأخوذ.. غرقان..

    ولما تخرجت في الجامعة ذهبت إلى الدير الدومنيكي أسأل عن الأخت فرانشيسكا. لماذا؟ مجرد سؤال.. من يدري؟ دعوتها إلى أن نجلس معًا. تقول وأنا أسمع وأقول.. فقال لي الأب قنواتي: أوه.. تأخرت كثيرًا جدًّا إنها الآن في أجمل مكان.. إنها في مدينة أسيزي مدينة القديس فرانشيسكو ونحن أتباعه.. نحن الفرنسيسكان..

    وكان القديس فرانشيسكو قد جاء إلى مصر في منتصف القرن الثالث عشر.. ويوم رأى رجلًا يضرب كلبًا حتى الموت لزم الفراش حتى كاد يموت.. فهو أكثر الناس حبًّا للحيوان.. وكان يسمح للحيوانات والطيور بأن تدخل الكنيسة فهي مخلوقات الله أيضًا.

    وبعد 15 عامًا من آخر لقاء مع الأخت فرانشيسكا ذهبت إليها في مدينة «أسيزي». وسألت عنها. وسألوني: من أنت؟ ولماذا؟ وما صلتك العائلية بها.. وأين كنت طوال هذا الوقت؟ وغلبني البكاء فتوقفت مديرة الدير عن الأسئلة الكثيرة التي كان لابد من أن توجهها لي..

    وجاءت إحدى الراهبات ورفعت رأسي ببطء خوفًا من أن أرى شيئًا يصدمني.. ولم تكن هي وإنما زميلة لها طلبت مني أن أسير وراءها. ومضت في مصر طويلًا جدًّا جدًّا.. هل كان كذلك أو أنه شعوري؟.. لم يكن ممرًّا على سطح الأرض.. وإنما كأنه سرداب تحت الأرض.. ومشيت. وتحت شجرة في الحديقة.. أشارت لي أن أجلس ومددت يدي إلى كوب من عصير البرتقال أبل ريقي.. وشممت رائحة أعرفها.. لا أعرف اسمها ولكن أتذكر هذه الرائحة.. الرائحة تجيء من ورائي وتلفت وكانت الأخت فرانشيسكا..

    وأشارت لي أن أجلس. جلست. ورحت أنظر إلى وجهها.. لم يتغير شيء.. بادرتني: أنا كبرت؟

    ـ أبدًا..

    ـ ازددت وزنًا؟

    ـ أبدًا..

    ـ قرأت خطابي؟..

    ـ ياه.. إنت لسه فاكره..

    ـ كيف وجدته؟..

    ـ والله تعذبت كثيرًا جدًّا يا إيفون.. يا فرانشيسكا.. بمنتهى الصراحة أنت غلطانة..

    ـ لماذا؟

    ـ كان لابد أن تقولي.. قولي لي..

    ـ قلت لك

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1