Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

شارع التنهدات
شارع التنهدات
شارع التنهدات
Ebook570 pages4 hours

شارع التنهدات

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

كتاب شارع التنهدات للأديب أنيس منصور. وهو من أروع كتبه على الحقيقة، يأخذك في رحلة إلى السماء، تنظر فيها إلى الأرض من جهة أخرى، ستختلف طريقة نظرتك للحياة بعد قراءة هذا الكتاب، أتمنى لك رحلة شيقة.
Languageالعربية
PublisherNahdet Misr
Release dateJan 1, 2003
ISBN9782112502030
شارع التنهدات

Read more from أنيس منصور

Related to شارع التنهدات

Related ebooks

Reviews for شارع التنهدات

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    شارع التنهدات - أنيس منصور

    Section00001.xhtml

    شارع التنهدات

    خطـــوة أرق

    وخطوة عرق

    العنــــوان: شارع التنهدات.

    المؤلـــــــف: أنيـــــس منصـــــور

    إشــراف عـــــام: داليــــا محمــــــد إبراهيـــــم

    جميع الحقوق محفـوظـة © لـدار نهضـة مصـر للنشـر

    يحـظــر طـــبـــع أو نـشـــر أو تصــويـــر أو تخــزيــــن أي جـزء مـن هـذا الكتـاب بأيـة وسيلـة إلكترونية أو ميكانيكية أو بالتصويــر أو خـلاف ذلك إلا بإذن كتابي صـريـح من الناشـر.

    الترقيم الدولي: 978-977-14-2139-5

    رقـــم الإيــــداع : 2003/8670

    الطبعة السادسة: يناير 2006

    Section00002.xhtml

    21 شارع أحمد عرابي - المهندسين - الجيزة

    تليفـــــــون: 33466434 - 33472864 02

    فاكـــــــــس :33462576 02

    تليفــون: 33466434 - 33472864 02

    فاكـــس: 33462576 02

    خدمة العملاء: 16766

    Website: www.nahdetmisr.com

    E-mail: publishing@nahdetmisr.com

    كَلِمَـة أُولى!

    كل شيء بدأ هنا

    كأنني كنت أتفرج على نفسي عندما رافقت د. طه حسين إلى الأوبرا لكي أشاهد مسرحية (يا طالع الشجرة) لتوفيق الحكيم.. وهي باكورة (أدب العبث) في اللغة العربية..

    ولم تذهب من أذني وعيني ضحكة طه حسين أو ابتسامته الساخرة وهو يتابع أحداث المسرحية..

    ولا غابت عن أذني قهقهة الأستاذ العقاد عندما قرأ مقالًا لي أبدي إعجابي بمسرحية توفيق الحكيم.

    أما طه حسين فقال: إن توفيق الحكيم لم يأت بجديد؛ فقد سبقه إلى هذا الأسلوب شعراء فرنسا: لوتريومون ورامبو وبودلير.. فعندهم شعر مثل نثر توفيق الحكيم: هلوسة.. تخريف.. هاها.

    والأستاذ العقاد استنكر كيف أنني أتحمس للعقل دائمًا ولا أقبل إلا ما كان معقولًا وأضحي من أجل الحرية الفردية بكل شيء.. وبعد ذلك أقبل من توفيق الحكيم أن يعتقلني في كلام فارغ ساعتين!!.. أين عقلي؟ أين هي الحرية الفردية؟!

    ومعنى ذلك أن توفيق الحكيم قال كلامًا فارغًا ويطلب منا أن نحترم هذا الهذيان.. وأن نحترم من أدباء اللا معقول في فرنسا: يونسكو وأداموف وبيكيت وغيرهم!!

    ولكنني أرى أنهم ليسوا مخرفين.. إنهم يريدون أن يقولوا لنا: ليست كل تصرفات الإنسان عاقلة.. فهناك تصرفات المجنون والسكران والمسطول والقرفان.. وكذلك الذي يتحدث إلى نفسه دون أن يدري بالذين حوله.. فمن الممكن أن يكون الإنسان وسط ألف من الناس ثم لا يدري بهم.. فهو يشعر بأنه وحيد ويتحدث إلى نفسه بصوت مرتفع..

    ويريد أدباء اللا معقول أن يقولوا لنا إن هذا السلوك اللامعقول واضح في المدن الكبرى.. حيث الناس كثيرون.. ومع ذلك يشعرون بوحدة شديدة..

    وكذلك حال الأجنبي في بلد غريب لا يدري لغته ولا يعرف حياته وعاداته.. فإذا تكلم فهو ليس مفهومًا، مهما حاول.. هذا الشعور بالغربة أو بالغرابة أو الاغتراب من أهم صفات الأجانب والمهاجرين والأقليات والغجر والمنبوذين.

    مثل هذا الشعور قد لازمني معظم حياتي.. شعوري بالغربة والاغتراب.. وبأنني غريب.. فقد كان والدي كثير التنقل بين قرى مصر. فلا نكاد نمكث في مكان بعض الوقت حتى أجد أمي قد ربطت وحزمت الحقائب والصناديق استعدادًا للسفر إلى بلد جديد.. ولهذا السبب لم أستطع كثيرًا أن أقول: بلدنا.. بيتنا.. شارعنا.. أصحابي.. جيراني.. أهلي..

    وقد استقر في أعماقي أن الذي أراه اليوم لن أراه غدًا، ولن يكون له وجود بعد ذلك.. مع أن كل شيء في مكانه: الناس والبيوت والشوارع والمدارس والجيران والأقارب واللغة والدين والطبقة، والأمل في أن أتفوق وأن أدخل الجامعة.. كل ذلك ثابت.. ولكني أنا لا أراه كذلك، ولا أراه قد استقر واستكان في نفسي.. كأنني لست على يقين من شيء أو أحد.. فمن أدراني أنني سوف أجد صديقًا.. أو أن أجد جارًا، أو أذهب إلى المدرسة وبعدها إلى الجامعة؟ إنني لا أدري.. وليس في حياتي ما يؤكد ذلك..

    وقد التصقت بلساني تعبيرات كرهتها بعد ذلك: مش عارف.. يمكن.. ربما.. يجوز.. سوف أسأل أمي.. ليست عندي رغبة في الكلام..

    وأيقنت فيما بعد أنه ليس من الضروري أن تقول أمي أي شيء، ففي استطاعتي أن أرى وأن أفهم وأن أقرر.. ولكنها عادة سيئة لم أتخلص منها إلا بعد وقت طويل..

    وكثيرًا ما أحسست بأنني مثل أبطال (ألف ليلة) الذين يحملهم النسر بعيدًا ثم يلقي بهم في مكان مجهول.. وهم لا يعرفون أين.. ولا لماذا.. ولا أكاد أستقر حتى يجيء النسر ويحملني بمخالبه ويطير.. ويلقي بي في أرض غريبة. لماذا؟ لا أعرف. ما المعنى؟ لا أدري..

    لقد تذكرت القوات النازية التي كانوا يلقون بها من الطائرة في البلاد التي سوف يحتلونها بعد ذلك.. يلقونهم بالمظلات..

    ومع كل منهم موتوسيكل وخريطة وبعض الطعام.. والمطلوب من كل جندي أن يتحرك مع زملائه.. إنها خطة حركة وانتقال.. وليست لديه لغة ولا أية وسيلة للتعامل مع الناس.. فالذي يعرفه الجندي قليل جدًّا والمطلوب منه كثير جدًّا.. ولا يكاد يعرف موطئ قدميه حتى يحملوه في طائرة أخرى ليسقطوه بمظلة في مكان جديد..

    وهذا بالضبط ما أصابني.. فعندما جئت من المنصورة إلى القاهرة أحسست بهذا السقوط من الطائرة.. وبالأرض الغريبة.. لقد كانت صدمة عنيفة.. فكل شيء في القاهرة كبير وواسع.. وكل شيء كثير، فازددت شعورًا بالعزلة والغربة.. وعلى الرغم من أن في حياتي الكثير من الثوابت فإنني أفتقدها دائمًا: فأنا ترتيبي الأول.. وأعرف عدة لغات.. وأحببت الفلسفة وتفوقت فيها على جميع المتسابقين في مصر.. ودخلت قسم الفلسفة باختياري.. ولي اهتمامات أدبية واسعة.. ومعلوماتي أكثر وأوسع وأعمق وأشد تنوعًا.. ولا خوف عليّ.. ولا يهم إن كان عدد سكان القاهرة خمسة ملايين.. وفي الجامعة عشرات الألوف.. فيوم الامتحان هو الذي سوف يثبت أنني الأول.. ما الذي يخيفني؟.. ما الذي يزلزلني فأقول كلامًا غير منطقي إذا سألني أحد: ماذا تريد أن تكون؟

    ويكون الرد في كثير من الأحيان: لا أعرف.. ولكن أمي تريدني أن أكون وزيرًا؟! والذين يسمعون ذلك يضحكون مني. إنني أردد أمنيات أمي كالببغاء دون أن أفكر فيها..

    إنه - ولا شك - نقص في التدريب على الحوار مع أحد.. وعلى أن أكون قريبًا لا غريبًا.. وعلى ألا أتهيب.. ألا أخاف.. فليس هناك ما يفزعني على نفسي.. وأن أظل هكذا منطويًا على خوفي..

    وكثيرًا ما أحسست كأنني أحد أبطال مسرحيات اللامعقول.. وأنني قرفان من النص المسرحي.. وأنني رافض لكل هذا الذي أقوله.. لأنني قلته طول عمري.. وأنني أحاول أن أخلق رأيًا عامًّا ضد المؤلف والمخرج عندما تركت المسرح ونزلت إلى الجمهور أسألهم عن رأيهم..

    لقد تخرجت في قسم الفلسفة وكان ترتيبي الأول، رحت أسأل كل الناس: ما الذي يمكن أن أعمله؟ ما رأيك يا سيدتي؟.. ما رأيك يا سيدي؟.. ولا بد أن يكون الإشفاق عليَّ هو الذي جعل الكثيرين يبذلون جهدًا كبيرًا في الإجابة عن هذا السؤال؛ لأن السؤال قد اتخذ عندي شكل الأزمة حتى صار طعمه مرًّا.. وشكله كئيبًا - يكفي أن تنظر إلى وجهي في ذلك الوقت وأنا أسأل وأنتظر.. مع أن الأمر سهل جدًّا: لقد تخرجت في قسم الفلسفة وفي استطاعتي أن أمضي في الدراسة الأكاديمية كما أراد أستاذي، وأصبح أستاذًا جامعيًّا فعميدًا.. فوزيرًا!!

    أو أتجه إلى ناحية أخرى فأهاجر من مصر إلى أي بلد وباللغات الكثيرة التي أعرفها أستطيع أن أكون كما أريد.. أو أشتغل بالكتابة الأدبية والتأليف الفلسفي..

    وعلى الرغم من أن كل هذه الإجابات محددة واضحة، فإنني لم أعرف في ذلك الوقت ما هي الخطوة التالية..

    ففي جميع الأحوال: القرار من صنعي.. فأنا أصنع قراري وأصنع نفسي أيضًا.. هكذا علمتني (الفلسفة الوجودية) التي أنادي بها.. والتي لم تثبت أمام هذه التجربة البسيطة.. التجربة الرافضة لكل تجربة أخرى وكل قرار..

    وعلى الرغم من أنني تلقيت إجابات كثيرة، فإن قوة في أعماقي ترفض.. تقول: لا.. تدير ظهرها.. تمط شفتيها في قرف.. ويأس من أن أجد حلًّا لمشكلتي.. لمعضلتي.. والتي ليست مشكلة وليست معضلة.. ولكن الفلسفة الملعونة هي التي علمتني أن أجعل كل شيء مشكلة لكي أجد لها حلًّا.. حتى إذا لم تكن مشكلة فأنا لا أعرف كيف أواجهها إلا إذا كانت عقدة.. ورحت أدير رأسي يمينًا وشمالًا لعلي أجد لها حلًّا.. أو أشرك غيري في هذه المعضلة..

    وليس في فلسفتي شيء بديهي.. وإنما كل شيء لغز.. سر.. معجزة.. أسطورة.. يريد حلًّا..

    وضاعت من العمر سنوات طويلة لا أحل فيها المشاكل.. ولكنني أتباهى بكثرتها.. وتعقيدها..

    وأنا عندما تخيلت نفسي أحد أبطال مسرح اللامعقول ونزلت إلى الجمهور لم أكن أبحث عن حل عند الناس.. وإنما كنت أبحث عن تأييد لهذا النوع من التفكير اللا منطقي واللا عقلي..

    كأنني واحد من ذلك الطراز من الناس الذين يخنقون أنفسهم.. يشنقونها ثم يطلبون من الناس العفو والسماح.

    أو مثل ذلك المجرم الذي قتل أباه وأمه ووقف أمام القاضي يطلب الرحمة لأنه أصبح يتيمًا!

    أو كما أراد توفيق الحكيم: أن أبحث عن اللبن عند بقرة فوق شجرة!!

    طه حسين بذكائه وفطنته هو الذي قال لي بسرعة: إن هذا الذي تعانيه يا سيدي هو تجربة وجودية من الدرجة الأولى.. مشكلة.. معضلة.. أزمة.. معايشة أزمة وتجميل لهذه المعايشة.. دون حل.. أو دون رغبة في ذلك!

    صح يا أستاذنا العظيم.. ولعنة الله على الفلسفة.. وعلى الفلسفة الوجودية بصفة خاصة!!

    وأتذكر في أول مرة سافرت إلى أوروبا مع عدد من كبار فناني مصر التشكيليين.. كانت عندنا مشكلة يومية عندما نحاول الجلوس على ظهر المركب، نظل واقفين لأن آخرين قد سبقونا واحتلوا مقاعدنا، فاهتدينا إلى حيلة.. لا أعرف من الذي اخترعها.. أنا أو الفنان عبد السلام الشريف أو الفنان صلاح طاهر أو الفنان حسن فؤاد.. وكانت حيلة بسيطة جدًّا، نقف أمام الناس الجالسين ونتكلم كلامًا فارغًا وبصوت مسموع، ويندهش الناس وينظر بعضهم إلى بعض.. وفي لحظة يقررون أننا مجانين.. فيتركون لنا المكان، ونجلس في منتهى الهدوء، فقد أدى الكلام اللا معقول إلى حل معقول، وكان حوارنا هكذا:

    - وأنت عملت له ماذا؟

    - ولا حاجة.. ذبحته. وقطعته وألقيت به للكلاب..

    - معقول؟! ولماذا لم تشعل فيه النار، وبالشكل ده تختفي معالم الجريمة؟

    - هذا ما فعلته بالضبط في زوجته..

    - متى؟

    - قبل سفرنا..

    - وماذا سوف تفعل اليوم..

    - نفس الطريقة.. أدخل غرفة القبطان وألف الحبل حول رقبته.

    - عندك حبل؟

    - عندي.. وعندي مواد مخدرة..

    - أين؟

    - معي..

    - وماذا ستفعل في هذا العدد الكبير من الناس الذين حولنا..

    - كما اتفقنا.. سوف نلقي بواحد منهم في البحر.. والباقي سوف يهربون..

    - ........

    وبسرعة ينظر الناس بعضهم إلى بعض.. ويمشون على أطراف أصابعهم.. ويتركون لنا المقاعد.. وأحيانًا مائدة الطعام..

    إنه كلام فارغ من أجل هدف.. أو كلام لا معقول من أجل حل معقول!

    لقد كانت هناك مشكلة ووجدنا لها حلًّا.

    حتى عندما اشتغلنا بالصحافة، لم أستغرق في همومها ومشاكلها اليومية.. ولم أقتحم ميادينها.. وإنما ظللت على شاطئها في أجمل مكان منها: في الصفحة الأخيرة.. صفحة الأدب والشعر والفن والنقد.. ولم أبرح هذه الصفحة الأخيرة طوال عمري.. كتبت القصة والقصيدة والمقالة واليوميات و(مواقف) سواء في جريدة «الأساس» أو في جريدة «الأخبار» و«أخبار اليوم» و«الأهرام».. ولم يكن انتقالي صعبًا من الصحف اليومية إلى المجلات الأسبوعية: الجيل و«هي» وآخر ساعة وروز اليوسف والمصور وأكتوبر.. فأنا أكتب نفس النوعية من الفكر الأدبي والنفسي والفلسفي والسياسي.. حتى عندما كان لي باب يومي كانت لي في نفس الوقت مقالات أخرى أسبوعية.

    ولذلك لم تطحنِّي عجلات السرعة في الصحف اليومية، وإنما كان عندي وقت لكي أقرأ على مهل.. وأكتب على مهل..

    حتى بعد أن تحدد حاضري ومستقبلي نهائيًّا كنت أسأل الناس: ما الحل؟ هل أمضي في هذا العمل؟ هل أتركه؟

    مع أنني وجدت الحل، ولا مشكلة هناك.. ولكني أريد إحياء المشكلة وأعايشها وأطيل في عمرها ليتخذ تفكيري مذاق الأزمة والمحنة والكارثة.

    واكتشفت أنه لا مشكلة هناك، فأنا كالذي يشرب القهوة سادة ليس بسبب نقص السكر، ولكنه يحبها كذلك.. فأنا مثلًا أشرب القهوة سادة وأشرب الشاي بالعسل.. فأحسن مذاق للقهوة أن يكون بلا سكر، وللشاي أن يكون بالعسل.. وهناك من يفضل القهوة بالسكر والشاي السادة.. إنها مسألة مذاق ومزاج، ثم تصير عادة بعد ذلك..

    هل أنا أقلد (قوس قزح) الذي تكون ألوانه زاهية لامعة كلما كان السحاب تحته أسود قاتمًا؟ هل أنا حريص على الألوان، ولذلك فأنا أكثر حرصًا على سواد السحاب؟ هل من أجل هذه الألوان أجعل الدنيا سوداء.. سادة؟

    وعرفت فيما بعد أنه ليست هناك أزمة نفسية أو عقلية.. أو فلسفية.. وإنما هي (أزمة فنية) البحث عن أزمة الألوان والتعبير عنها.. أي إنها أزمة (تقنية).. أزمة حرفة الكتابة وحرفة الفن.. والفنان صانع ألوانه ومشاكله، وهو يحبس نفسه بنفسه لكي ينتج.. يخربش نفسه بأظافره ليصرخ، يعتصر عينيه ليبكي.. فهو مثل حيوان اللؤلؤ الذي يفرز دموعه الفضية في عزلة تامة.. ومثل دودة القز التي تحيك حولها كفنًا من الحرير.. تموت فيه ثم تظهر فراشة لتستأنف الحياة من جديد..

    هل كان في استطاعتي أن أوفر على نفسي كل هذا العذاب؟ لا.. إنها مرحلة ضرورية يمر بها الكاتب والفنان.. يمر بها سريعًا أو بطيئًا.. يتوقف عندها.. ولكن لا يدعها توقفه.. توقف نموه.. وتجهضه.. وتجهز عليه بعد ذلك..

    فأنت إذا نظرت الآن إلى ملابسك وأنت طفل.. فأنت لا تعرف إن كانت لك أو لغيرك.. فأنت لا تستنكرها ولا تسخر من طفولتك.. فهي مرحلة من عمرك.. جاءت وذهبت.. وبعدها مراحل تمضي..

    إنما يجب أن نقول ونمضي.. ونتغير ونمضي..

    إن يدي هذه قد دقت أبوابًا كثيرة برفق وبعنف.. وفتحت أذني لما أحب وللذي لا أحب.. وأعطيت عقلي لأفكار كثيرة ومفكرين كثيرين.. أحياء وأموات.. وأموات أكثر.. ووجدت ما أقوله.. وقلت.. وليس عندي ما أخجل منه.. فأنا أردت أن أعرف.. أن أعرف نفسي بنفسي أو عن طريق غيري.. ورحت أشهد الناس على فكري.. على قراري.. ولم أتخذ أعظم قرار. وإنما تابعت نفسي، ووصفت حالي.. وعلقت على جدران حياتي صورة هي صورتي.. ليست أجمل الصور ولا أسلوبي أجمل الأساليب.. ولكنني هكذا.

    ثم جلست على سلالم كثيرة.. أفكر في أمري. كأن الدنيا ليس بها غيري.. وهذا صحيح.. فدنياي هي أنا.. أنا أحسن من فيها أو أسوأ.. ولكنها دنياي.. وهناك ملايين الناس كل واحد منهم له دنياه..

    ولا أدعي أنني أحسن من الذين فكروا في حالي.. أو أنني أعقل من كل الذين ناقشوا مشكلتي.. ولكنها في جميع الأحوال مشكلتي.. وقراري.. وهذا أقصى ما استطعت..

    هل كان في الإمكان أحسن مما كان؟ يجوز.

    ولكن هذا أقصى وأقسى ما بلغت..

    كم ألف مرة قلت: آه! كم ألف مرة تنهدت! يوم أن اشتغلت بالصحافة.. وقبل ذلك عندما كنت طالبًا وعندما كنت طفلًا وحفظت القرآن الكريم في السابعة من عمري.. وتمنى لي الناس أن أكون أستاذًا في الأزهر.. وأمي تقول: إن الموت أهون عليها من أن أكون قارئًا أعمى أو مؤذنًا فقيرًا أو مأذونًا شرعيًّا!

    * * *

    ومن هنا كانت البداية.. وكان الخلاص من عذاب الفلسفة.. في هذا الشارع.. ومنه.. وإليه.. وعلى جانبيه.. ومن نوافذه.. والمطاعم هنا وهناك.. هنا كانت خطواتي الأولى السريعة المضطربة.. الصاعدة.. إلى فوق. ومع كل خطوة: آهة.. ومع كل خطوة: أرق وعرق.. ونفس طويل من أعماقي.. كأنني أخوض بحارًا.. كأنني لا أركب سفينة وإنما أجرها على الشاطئ.. ولا أعرف لماذا يركب الناس السفن ولماذا آخرون يسحبونها على الشاطئ.. لماذا الناس أمواج؟ ولماذا الناس أسماك؟ لماذا أناس يقولون: آه..؟ وأناس يقولون: الله..؟ ويطلبون المزيد من الآهات والتأوهات.. لماذا أناس ألوان قوس قزح..؟ ولماذا أناس هم السحاب الأسود تحته؟..

    في هذا الشارع كانت دنياي الجديدة في شارع الشواربي الذي به جريدة «الأساس» التي عملت بها..

    كل شيء بدأ هنا.. وكل الناس وكل الآمال والأحلام والأوهام.. وكل من عرفت وكل من أحببت وكل ما كرهت ومن كرهت.. وهنا كان «البج بانج».. أي الانفجار الكبير.. بداية الخلق.. نهاية البداية وبداية النهاية.. والطريق الذي مشيت فيه ولا أزال..

    يدك على كتفي، وامش ورائي وإلى جواري.. وتقدمني.. واعذرني ولا تتعجل الحكم.. وسوف تجدني دائمًا أمشي.. وحدي ومع الآخرين.. وضد الآخرين.. ولكني وحدي دائمًا.. مهمومًا بما أفكر.. حزينًا على الذين تساقطوا في الطريق.. ملتفتًا بكل جسمي وببعض عيني إلى الذين كانوا ولم يبق منهم إلا ظلالهم وصداهم..

    وبعض الذين ذهبوا لم يذهبوا من نفسي.. ما تزال لهم حياة أقوى من حياتي.. وماض أقوى من حاضري.. هل هم كذلك.. أو أنني استرحت إلى هذه التضحية؟

    إن الطريق يلتوي ولكني أسير فيه.. ويصعد ويهبط.. ولا أزال ماضيًا.. مغمض العينين.. مفتوح العقل، موجع القلب.. ولكني ماض إلى الأمام وإلى أعلى.. صادقًا كل الوقت.. حزينًا بعض الوقت.. راضيًا معظم الوقت..

    * * *

    فهذا الكتاب ليس إلا مقدمة لكتاب طويل عريض.. إنه مقدمة لمشروع لم يتم بعد.. فما دمت حيًّا فهو ناقص، ولن يتم إلا بالموت.

    وهنا مذكرات ناقصة أيضًا.. ناقصة من أولها ومن آخرها.. فقد ضاع منها الجزء الأكبر.. ولا أعرف كيف ضاع.. وما تبقى رأيت أن أنشره؛ ففيه أفكار وأسماء وعناوين لكتب صدرت وكتب لم تصدر.. ففي سنة 1960 خطر لي أن أكتب عن شارع التنهدات.. ورسمته وحددته وتركته ومضيت إلى مشاريع ومغامرات فكرية أخرى.

    ثم عدت إليه، ولما عدت وجدته طويلًا عريضًا.. فاكتفيت مرة أخرى بالإشارة إليه، وليس هذا الكتاب إلا إشارة لما أريد أن يكون أو أحلم بذلك.

    * * *

    وهذه صفحات عن (الجزمة).. أو بمناسبة الجزمة.. أو الكلام عنها أو النظرة إليها..

    وهو جزء من مشروع. فقد كان في نيتي أن أتحدث عن الملابس في كل تاريخها من أيام ورقة توت أمنا حواء إلى شفافيات فساتين مارلين مونرو والقضية التي أقامها الناقد الأمريكي الكبير (أدموند ولسون) عندما قارن بين الضرائب التي يدفعها عن مؤلفاته والضرائب التي لا تدفعها مارلين مونرو رغم أن أرباحها بالملايين. فهي تقدم كشفًا بمصاريفها كممثلة إغراء ولا بد أن تقدم فواتير بملابسها الغالية الشفافة وخصوصًا ملابسها الداخلية من حرير وورد.. ثم تقدم كشفًا بمصاريف الطبيب لأنها مصابة بتوترات عصبية بسبب الإرهاق والحرمان والعذاب.. وكشفًا بمصاريف العناية الصحية والتدليك وحمامات الماء والبخار.. ومساعداتها للجمعية الخيرية.. والنتيجة أنها لا تدفع دولارًا واحدًا! بينما هو يدفع مئات الألوف من مئات الألوف التي يكسبها..

    وكان في نيتي أن أترجم موسوعة بديعة عن (الملابس الداخلية) وهي محلاة بأجمل الصور، واتفقت مع صديقي الناشر إبراهيم المعلم واشترطت أن تكون الترجمة باسم آخر غير اسمي. واشترط أن تكون باسمي. ولم تصدر الموسوعة لأنني رفضت، ولكن بقيت رغبتي في أن أستعرض تاريخ الملابس والأزياء والأناقة. وقد مارست كثيرًا وطويلًا الكتابة عن الفساتين.. ففي سنة 1950 كنت أترجم الموضوعات التي تبعث بها مندوبة الأهرام في باريس واسمها (أليس باخوس)..

    ومارست ذلك العمل اللذيذ في المجلات التي رأست تحريرها: الجيل وهي وآخر ساعة وأكتوبر، وكنت حريصًا على أن أوقع بإمضاءات مستعارة كثيرة مثل: أحلام شريف. هالة أحمد. منى جعفر.. سيلفانا ماريللي..

    * * *

    أما هذه الدراسة عن الأستاذ العقاد، فهي دليل على أنني لا أمل الكتابة عنه؛ لأنني كثير القراءة له، والإعجاب به، والحرص على أن أكون حاضرًا معه أو هو حاضرًا معي.. أن نتواجد فكريًّا وأدبيًّا.. وقد أصدرت عنه كتابي (في صالون العقاد كانت لنا أيام).. وكتبت عنه في كتابي (عاشوا في حياتي).. وفي كتابي (هؤلاء العظماء ولدوا معًا).. وفي كتابي (أنتم الناس أيها الشعراء)، فهذا المقال ليس إلا مشروعًا لبحث جديد.. أو نظرة جديدة إلى الأستاذ العقاد..

    * * *

    فليس هذا الذي بين يديك كتابًا واحدًا.. وإنما هو مشروع لعدة كتب نقلتها من حقيبة بها كل مشروعاتي الفكرية.. أو أضع فيها كل ما يخطر على بالي من (الأفكار البذور).. أو بذور الأفكار ثم أتركها لتنمو في داخلي.. حتى تستقيم أعوادها.. فتزهر وتثمر.. ثم أعالجها بالنشر حتى لا تموت..

    فإن عدت إلى هذا كله مرة أخرى أو مرات أضفت له.. وإن لم أعد فيكفي أنني وعدت، وأن العمر لم يسمح لي بذلك..

    ولن أنسى بيتًا رأيته في مدينة (رابالو) على ساحل الريفيرا.. هذا البيت بلا باب ولا شباك.. ولم يرتفع عن الأرض إلا طابقين.. وحوله يدور العشاق يتمسحون فيه ويتطلعون إلى السماء ويتعانقون.. ويسمونه (بيت الأحلام).. فهو لم يكتمل كالأحلام.. والعشاق يكملون البيت في خيالهم.. ويجعلون له لونًا وعطرًا ويملئونه بالورود والأطفال والأصدقاء.. كل واحد على هواه.. فبيت الأحلام، كالأحلام لم تتم.. إنه مجرد مشروع.. إنه (سيمفونية ناقصة)..

    والفيلسوف الألماني العظيم (كنت) كان يحب تأمل البيوت القديمة والكنائس العتيقة، ويفكر فيما هو أعظم وأجمل وأروع.. فأقام في الفلسفة صروحًا جديدة رائعة.. وكان يرى أن المباني القديمة تدعوه لأن يقيم ما هو أجمل.. أحدث.. فأقام الذي بهرنا..

    أما أستاذ الفلاسفة الوجوديين (هيدجر) فقد وعد بإصدار موسوعة فلسفية.. ولكنه لم يستطع.. فكتب الجزء الأول منها وتوقف. وكان الجزء الأول هو كتابه (الوجود والزمان). ولم يتجاوز بقدرته العقلية الجبارة أن يذهب إلى أبعد من (وجود الإنسان) فقط. أما بقية أشكال الوجود فلم يجد نفسه قادرًا على بلوغها أو احتوائها.. فقال كلامًا عميقًا، ولم يكمل عبارته.. وعبارته هذه جاءت في أعمق وأصعب كتاب فلسفي في القرن العشرين..

    وفي هذه (المشروعات الفكرية) التي في هذا الكتاب الذي بين يديك أعرض أفكاري كما كتبتها.. وأعود إليها من حين إلى حين.. وأضيف وأغير وأبدل وأكرر.. وكان في الإمكان حذفها ولكني لم أ فعل.. دليلًا على انشغالي بها وعودتي إليها واقترابي منها وابتعادي عنها.. وهو أسلوبي.. فأنا أعيد وأزيد وأدور حول المعاني وأحلق فوقها مقتربًا ومبتعدًا لعلِّي أراها أوضح وأعمق.

    وفي المحيط الهادئ توجد جزر (الفصح) وفيها أعجوبة التاريخ القديم: تماثيل صخرية ضخمة لرءوس بلا أجساد.. تماثيل ناقصة.. لقد حيرتنا.. فنحن لا نعرف من الذي صنعها ولا المعنى ولا لماذا تتجه كلها إلى ناحية واحدة..

    قالوا: إنها ذكرى كائنات جاءت من فوق وتركتها.. أو جاءت وعادت فأقام لها أهل الجزر هذا الحفل الحجري الضخم..

    وكانت هذه التماثيل الناقصة لغزًا.. والمؤرخون يحاولون اليوم إكمال هذه التماثيل بخيالهم وفلسفتهم.. صحيح إنها ناقصة.. ولكن حيرتنا بها ومعها كاملة..

    شيء مثل ذلك جاء في هذا الكتاب: رءوس مواضيع لم تكتمل..

    وهذه حالي..

    وهذه مراهقتي العقلية ودوختي الفلسفية..

    وقد تجد هذه الأفكار قلقة حائرة كأنها لشاب في أول الطريق.. أو في بحثه عن طريق.. في نيته.. إنه في ضلال فلسفي.. وضياع بلاغي.. فاعذرني فإنني مازلت كما بدأت أجادل.. أجاهد لعلِّي أكمل ما بدأت، وأفي بما وعدت.

    ولكن الذي قرأ لي ألوف الصفحات وملايين الكلمات.. ومائتي كتاب قبل ذلك، يعرف أنني أحاول أن أعرف، فإذا عرفت حاولت أن أعرف أكثر وأعمق.. لكي أكون أوضح وأسهل عبارة وفي متناول أي قارئ.. وقد كان ولا يزال أملي وحلمي..

    أول ما فتحت عيني

    عيني ويدي على الكتاب

    (١)

    امسكوه وهاتوه!

    ويمسكونني ويأتون بي إلى أمي فلا بد أن تضربني هذه المرة، فالذي فعلته لا يمكن السكوت عليه.. فقد مزقت الكتب ورحت أضعها بين أسناني وأمشي على أربع وأقفز بها من السرير إلى الأرض.. مقلدًا القطة عندما تهرب بصغارها خوفًا من القط أو الكلب.. وليست هذه هي المرة الأولى.. فقد وقعت من السرير على أنفي وسال دمي..

    وقبل ذلك ضربتني أمي لأنني أخذت كتب والدي وكتبًا أخرى ليست له ودخلت بها تحت السرير، وأنا لا أعرف القراءة وأقلب فيها أو أتقلب فوقها.. وأنام. ويبحثون عنِّي ويجدونني نائمًا أو هاربًا نائمًا. فأحيانًا أضع الكتب تحت رأسي.. أو تحتي.

    وفي إحدى المرات هربت بالكتب تحت السرير وأشعلت شمعة لكي أرى الصور.. وكان دخان وخرجت أسعل وأعطس فقد وقعت الشمعة على الكتب وكادت النار تشتعل في الكتب ومراتب السرير.

    وهكذا ولدت والكتب في يدي أو تحت رأسي تحت السرير. لا أقرأ. ولكن ألمسها أقلبها وأتفرج على الصور. فلم تكن كتب والدي، وإنما هي كتب أحد أقاربنا قد أودعها عندنا لأنه مسافر إلى القاهرة ليكمل دراسته في كلية الزراعة. وكتبه فيها طيور وحشرات وأبقار..

    ولم يجد والدي حلًّا إلا أن يطلب منِّي أن (أقرأ) في الكتب وأنا جالس على الكرسي أو فوق السرير. ولا يهم أن أضعها تحت المخدة. وقد ظللت أفعل ذلك عشرات السنين. ولم يكن هناك سبب، وإنما هي العادة، بل ظللت سنوات طويلة جدًّا أخفي الكتب وأهربها إلى البيت حتى بعد أن أصبحت

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1