Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

الصخرة... وما تبقى
الصخرة... وما تبقى
الصخرة... وما تبقى
Ebook340 pages2 hours

الصخرة... وما تبقى

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

رواية تَحكيها خمسةُ أصوات مختلفة. هذه الرواية تنشر لأول مرّة هنا في موقع رفوف، وتجرى وقائعها في فلسطين في الفترة التي تلت إبرام اتّفاق أُوسلو، مع عودة صاحب كلّ صوت إلى الجذور التي نبت عليها موقفه وسلوكه إزاء الاتّفاق وما أقترن به أو نجم منه . إنها ، إذاً، رواية مادّتها الأساسيّة هي السياسة التي نوّعت مصائر الفلسطينيين مثلما نوّعت أصواتهم.
Languageالعربية
PublisherRufoof
Release dateJan 1, 2017
ISBN9786942562240
Author

فيصل حوراني

محمود عباس

Read more from فيصل حوراني

Related to الصخرة... وما تبقى

Related ebooks

Reviews for الصخرة... وما تبقى

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    الصخرة... وما تبقى - فيصل حوراني

    (1) سالم المؤتمن

    يوم طويل. من غزّة إلى عمّان. من الوطن إلى المنفى مرّة أخرى، من الوطن الذي يحتلّه الأعداء إلى المنفى الذي بدا لي أن لا مفرّ منه. إمتطيت خيبة أملي. أو لأقل إن خيبة الأمل هي التي امتطتني فيما أنا راجع إلى حيث تنتظرني أمّي. الأمّ التي طالما احتملت ما تمليه نزواتي المتعجّلة.

    نقلتني سيارة أجرة فيها سبعة مقاعد من مدينة غزّة إلى مدخل المعبر القريب من المدينة.

    وهنا، صار علينا، بقيّة ركّاب السيارة وأنا، أن نقطع المسافة بين المدخل وبين مبنى الإدارة على أقدامنا، أن نعبر ممّراً طويلاً ومتعرّجاً حاملين حوائجنا، الخفيف من الحوائج والثقيل، إلى أن نبلغ نقطةً يتقلص فيها عرض هذا الممرّ، فيرغمنا ضيقه على أن نعبره فردا فردا خلال باب لا يتسع إلا لشخص واحد، باب دوّار ينفتح وينغلق آلياً بكبسة زرّ كهربائي بإصبع واحِد من جنود الإحتلال الكثيرين الذين يرصدون حركة العابرين.

    المعسكر الفسيح الذي يتوسّطه مبنى الإدارة أقامه المحتلّون الإسرائيليّون على أرض قرية بيت حنون الفلسطينيّة وسمّوه معبر إيرز. بتسميته معبراً، طمس خبراء التضليل صفة المكان بما هو معسكر. وبالإسم العبريّ الذي منحوه هم أنفسهم لمعسكرهم طمسوا الإسم العربيّ الأصليّ للمكان. وبعد عذابات الانتظار المبرّر وغير المبرّر، وعذابات التفتيش والتدقيق في الأوراق، ومع المهانات التي يتعرّض لها كلّ عابر كأنها جزء من إجراءات العبور، نقلتني سيّارة سبعة ركّاب أخرى إلى أريحا. فجوْرُ عدوّنا لا يرسم حركة ناس وطننا وحدهم، بل يرسم أيضاً حركة السيارات التي تنقلهم. ومن بيت حنون إلى أريحا، عبرت السيّارة ما يعدّه الإسرائيليّون أرض دولتهم، ثم عبرت ما يسمّونه هم أرض - إسرائيل ليطمسوا بالتسمية المزوّرة إسمها العربي. ومن أريحا، في باص ركّاب كبير هذه المرة، بلغتُ المعبر الإسرائيلي الآخر الذي سأجتازه لأصير خارج وطني. انتظار، وعذابات، ومهانات أخرى لم أنخلع منها إلا بعد أن وجدتُني على أرض الأردن، حيث أمكن أن أتابع السفر دون منغّصات إلى عمّان.

    مع الوقع الثقيل للوقت الذي انقضى، ومع دبق العرق والغبار، أمكن أن أجتاز أخطار الحواجز العسكريّة التي ينصبها جنود الإحتلال على مسافة بين المعسكرين المسمّيين معبرين. فهنا يتصيّد الجنود الذين نُشّئوا على إحتقار الفلسطينيّ، الفرصَ لتشديد عَذاب ضحاياهم والتمتّع بتعذيبهم. ومع الهواجس التي ظلّت تفترسني طيلة الطريق، تكثّفت رغباتي كلّها في رغبة واحدة طمست ما عداها: أن أبلغ منزلنا في المدينة التي نشأتُ فيها، وأستريح، أن أهدّئ أوجاع الروح وأنام نوماً عميقاً دون هواجس. ولعلّكم تعلمون أن موجوع الروح يغرق في النوم ما أن يجد مضجعاً، إن كان مبعث وجعه هو الإحساس بالقهر والخذلان، كما كان عليه مبعث وجعي.

    بلغتُ المنزل مع غياب الشمس، أنا الذي غادرت غزّة قبل صياح أيّ ديك. وما أن حرّرتني أمّي المفاجأةُ بعودتي مفاجأةً كاملة من طوق ذراعيها، حتّى توجّهتُ إلى الحمّام. شئت أن أتخلّص من الدبق، فأهيئَ نفسي للراحة، للنوم العميق الذي أملت فيه. غير أن فضول أمّي أرغمني إرغاماً على السهر، على إطالة السهر، كما يجدر بي أن أقول.

    لم تنتظر أمّي أن أخرج من الحمّام، بل بدأ صوتها مناوشتي بالأسئلة وأنا ما أزال فيه، ولم ترحمني بعد خروجي، بل اتصل إنهمار الأسئلة بصوتها الذي لاحقني من وراء الباب. وتابعتُ الحكي، إلى أن أوهنت طراوة الليل لساني وتغلّب عليّ سلطان النوم. وقبل أن تشرق الشمس، بل قبل أن أستوفي حاجتي من الراحة، بدأت أمّي محاولتها حملي على الإستيقاظ. تُفلح المتلهّفة على إيقاظي في إنتزاعي من الإغفاء فتعيدني إليه حاجتي إلى الراحة. وفيما هي تمسّد وجهي براحة يدها الحنونة، تعتذر عن إضطرارها إلى إزعاجي، وتكرّر ترديد لازمتين احتلّتا لسانها: نوم الضحى يقطع الرزق، ولا بدّ من ما ليس منه بدّ. وظللتُ أنا أنوس بين لحظة إغفاء وبين لحظة صحو. وظلّت هي تكرّر المحاولة وتعيد تذكيري بالسبب الذي يرغمها على إيقاظي، فتداهمني الذكريات التي أفرّ منها، إلى أن تغلب منطقُ لا بدّ من ما ليس منه بدّ.

    لعلّ من حقّ مَن لا يعرفوني منكم أن أعرّفهم بنفسي قبل أن أوغل في الحكي. أنا سالم المؤتمن، إبن هذه المرأة التي لم يبق من أعيش معه في هذا المنزل سواها. دخلتُ مؤخراً في تجربة ليست كأيّ تجربة، وفشلت. والآن تُلحّ عليّ الرغبةُ في البوح، ليس بحصيلة هذه التجربة الأخيرة وحدها، بل بحصيلة ما سبقها من تجارب أفضت إليها. تتدافع الوقائع والصور في مجرى ذكرياتي، ولديّ الكثير ممّا أحكيه. وإذا تردّدتُ فلأنّي أخشى الإفتقار إلى ما قد أُدهشكم به، أنتم الذين خبرتم المدهشات كلّها ولم يعد من السهل إدهاشكم.

    أدرك أنّه إن كان عليكم أن تصغو إلي، فعليّ أن أجيء بجديد. فكيف أجيئكم بالجديد ما دامت حكايتي مماثلة للحكايات التي تتداولونها كلّ يوم. لن أخترع شخصاً غير شخصي. لن أختلق حكايةً غير حكايتي. لن أهوّل أو أختلق أو أكذب. ليس لأنّي مختلف عن الذين يهوّلون ويختلقون ويكذبون ليظفروا بإصغائكم، بل لأنّي انتهيتُ إلى الضيق بما يشوّه الحقائق، ولم أعد أملك إلاّ القدرة على الصدق وحده.

    أعرف ولَعَكُمْ بتلوين حكيكم وإخراجه عن النمط المكرّر. لكنّي لا أملك تلبية هذا الولع. ولنقرّ: إننا مستغرقون في التكرار، تكرار الصائب من القول والسلوك أو الخاطئ، الضارّ منهما أو المفيد، خصوصاً تكرار الخاطئ والضارّ.

    استنفذتم الحكي على ما كان جديداً، وتوقّفتم عن إتيان أيّ جديد يلوّن حكي مجالسكم، ولم يبق إلا المكرّر من القول والفعل. ومنذ غاضت قدرتكم على الإبتكار، صرتم بحاجة إلى التهويل حين تكرّرون الحكي على ما كان منكم أو كان لكم. وبما أنّكم، كما انتهى إليه حالكم، تسردون حكايات متماثلة، خصوصاً في مجافاة الحقائق، ولا تتنافسون إلا بالاستئثار بالحكي، فأكثركم نباهة هو من يسبق سواه إلى سرد ما يعرفه الجميع. هل صار التكرار يمتعكم، أو هل هي الحاجة إلى تزجية الوقت منذ لم يعد يعْمُرُ أوقاتكم إلا الفراغ؟ هل هو الحرص على إدامة الإحساس بالأهمية منذ صرتم عاجزين عن إثبات ما يُقنع بأنّكم حقاً مهمّون؟

    لماذا لا نتكاشف. أليس صحيحاً، والحال هو ما آل إليه حالنا، أن عليكم الإصغاء إليّ حتّى لو لم أتحفكم بجديد. وإذا شئتم أن تحسبوا إصغاءكم إلي مهمة جليلة، فليس في هذا ضرر لأحد. والذريعة حاضرة، فما أسهل أن تتكئوا عليها: فأنا رفيقكم على درب الكفاح الوطني الطويل، ورفيقكم مأزوم، وهو بحاجة إلى إفراغ ما يثقل عليه. أنتم لم تبتعدوا كثيراً عن الوقت الذي ألفتم فيه أن تحسبوا أي شيء تفعلونه جليلاً، فلِمَ لا تستعيدون هذا الوقت من أجلي!

    إذا سألتم لماذا حكايتي أنا بالذات، فما أسهل توضيح الأمر إن كنتم بحاجة إلى توضيح. فحكايتي أنا، الحكاية التي يتوفّر لكم ما يماثلها لكنها الأجد بين الحكايات المتماثلة، هي ما تحتاجون إليه كي يتصل الحكي، كي يستمرّ الإحساس بالأهمية بدل الإحساس بالإهمال، كي يستمرّ بقاؤكم. وما دمنا نتكاشف، فلنمضِ في البوح إلى تمامه. فحتى حين يقع ما قد يلهب أدمغتكم بالأسئلة، فإنكم تبحثون عن إجابات تطفئ اللهب بدل أن تؤجّجه. إنكم تطفئون ناركم كلما اتقدت، وغالباً ما تطفئونها بالترّهات، فما أعجب ما آل إليه أمركم: أن تخشوا وقدةَ الأسئلة لأن نارها تحمّلكم مسؤوليات لم يبق لديكم جَلد على حملها!

    خذوا مثلاً الحدث الذي وقع مؤخراً وكان من شأنه أن يبدل مألوفكم. فهذا الحدث أطلق أسراباً من الأسئلة، وأوقد نيراناً كان ينبغي أن لا تنطفئ. فهل اغتنمتم الفرص. قليلون منكم حاولوا. أمّا أغلبكم فتشبّثت بما آل إليه حالكم قبل الحدث. ومن جانبي، فعلت أنا ما هو أسوأ. أجهدت نفسي لأستخلص من الماء زبدةً، فماذا جنيت! لم أجن إلا الحكاية التي أجئ بها إليكم، الحكاية التي ليس فيها جديد.

    رُبّينا على الإيمان بأن كلّ ليل يعقبه نهار، لا محالة. وخُصّ بالقول ليل الأسى والظلم، ليلنا الذي ما أطول ما امتد وما أشدّ ما تراكم أساه وتراكمت فيه المظالم. وركنتم أنتم إلى ما قيل، وتواصيتم بالتعويل عليه. هَدهد القول حاجتكم إلى التعلّل بالأماني الخادعة، فعلقتم أمانيكم عليه. لم يهيئكم أحد ولم تهيئوا أنفسكم بأنفسكم لحالة لا يطابق مجرى الحياة فيها قواعد الجغرافيا ولا تبدله وعود السياسة واستعارات الأدب. وحين بزغ ضوء بعد ليلكم الأوّل الطويل، لم تتصوّروا أن يعقب هذا الضوء إعتامٌ لا تبلغون نهايته. وحين أمضّكم طول التطلّع إلى فجرٍ لا يبزغ، صرتم تهلّلون لكل فجر كاذب وتقنعون أنفسكم بأنه أوّل النهار الجديد. وحين وُجد من حذّروكم من زيف ما تهلّلون له، كنتم قد ألفتم التهليل للزائف واستمرأتم حتّى مخادعة النفس، وكنتم قد فقدتم ليس القدرة على التمييز وحدها، بل فقدتم أيضاً الرغبة في التمييز.

    أنا واحد منكم. انتشيت، مثلكم، بضوء الفجر الذي بزغ ذات مرّة. وسبحتُ، مثلكم، في الضوء الذي غمر أرواحنا بأحلى الوعود. وبعد أن وُئد ذلك الضوء قبل أن يجلو الدروب كلها أمام نواظرنا، صار علي، مثلكم، أن أكابد العتمات، أو أن أتوسّم الضوء الهادي في بريقِ أي سراب. ألفتُ أن أُخدع. ثمّ صرت أُغالط نفسي بنفسي حين لا يخدعني سواي. وإذا لم يقترن السراب ببشائر مضلّلة، صرتُ اصطنع البشائر اصطناعاً. وانتهيتُ إلى ما انتهى إليه أغلبنا، فكففتُ عن التمييز بين الواقع وبين الوهم، بين الصادق وبين الخادع. وأدمنتُ التحليق مع الأوهام. وبمضيّ الوقت، غادرت أجنحتنا منابتها، ولم يبق لنا ما نحلق به إلا الأوهام، صرنا نتخيّل أننا في الأعالي تخيّلاً، فيما نحن قاعدون. ونسينا أن الأوهام لا توقف الإنحدار إلى القيعان.

    ومع تفاقم المعاناة، غاضت آمالنا الكبيرة الواحد تلو الآخر. فنشدنا أمل السلامة وحده. حتى هذا الأمل لم يبق كما كان، بل تقلّص. كنا نبحث عن السلامة العامّة، عن الحل الذي يُعيدنا إلى وطننا ويمكّننا من أن نعيش فيه أحراراً، فانتهينا إلى البحث عن النجاة من الإبادة الجماعية ثم إلى البحث عن السلامة الشخصية.

    وبإمكاني أن استبق، هنا، سرد حكايتي لأقرّ أمامكم بما استخلصتُه منها: إن أمل الظفر بالسلامة الشخصية، بمعزل عن السلامة العامّة، هو أشد آمالنا شبهاً بالأوهام.

    أقدّر أنّ بينكم من يطالبوني بأن أروي الحكاية من أوّلها، بدل أن أُلامس خواتيمها، حتى مع أنها ليست حكاية فريدة. وأُقرّ بأنّ هذا طلب مشروع. ولكني أتساءل بدوري: ألا تختلط في أحاديث مجالسكم خواتيم الحكايات ببداياتها، ألا تحكون أنتم وتكرّرون حكايات كلّها متماثلة؟ لو رأيت أنكم توّاقون حقاً إلى ما هو جديد، لعددتُ هذا علامة طيبة، العلامة التي تبشّر بالتعافي وتخلصني من الظنون التي تفترس يقيني، ولما حلّ في جسدي وروحي الكلالُ الذي يهدمهما الآن. ولو جئتم إلى الحقّ، إلى ما تعرفونه وتهملونه، لرأيتم في حالكم ما أراه أنا فيه، ولقلتم ما أقوله. فحالكم فريد حتى وهو يماثل سواه، حالكم جماعةً وحالكم فرداً فرداً. كيس بطاطا أنتم، كيسَ طال احتشادكم فيه. أو، إن شئتم وإن جاريت أنا ولعكم بتجميل ما ليس جميلاً، فأنتم كيس برتقال، أو كيس زيتون، أو كيس أي ثمرة تنسبونها إلى وطننا وتتباهون بوجودها فيه وتحسبون تباهيكم به من سمات الوطنيّة. كلّ حبّة في الكيس تشبه الأخريات. وإن تمايزت حبّات عن سواها، فالتمايز في أشياء لا ينقص التماثل في غيرها. حبّة صغيرة وأخرى كبيرة، واحدةً ذابلة وأخرى عفيّة، واحدة معطوبة وأخرى سليمة، واحدة خامدة وأخرى لامعة، إلا أنها كلها متماثلة. وحالكم فريد في تماثله مثلما هو فريد في تكراره، تماثل التفاصيل فيه فريد، وكذلك اختلافها.

    تقولون إن تميّزكم سطع في تمكّنكم من الاستمرار في الوجود بالرغم من جهود عدوكم المتواصلة لإبادتكم، فيا له من قول! لكأن الذين شُرّدوا من أوطانهم قبلكم لم يستمرّوا جميعهم في الوجود، أو لكأن الغجر واليهود الذين تعاقبت محاولات إلغاء وجودهم قد فنوا. تقولون إنكم قاومتم محاولات إبادتكم، لكأن الواحد منكم لم يفعل طيلة حياته شيئاً سوى المقاومة. أو كأن الذين استُهدفوا قبلكم بالإبادة قد أسلموا رقابهم خانعين. نظّمتم، حتى وأنتم في منافيكم المشتّتة، ثورةً ليست كأيّ ثورة. أليس هذا هو ما تتباهون به كما لم تتباهون بسواه، أليس هو، إذاً، بيت قصيدكم، صدر هذا البيت وعجزه وإيقاعه المتميز، الظاهر من معناه والمستتر. الثورة التي أطلقتموها من منافيكم كانت مفخرتكم الباهرة، فماذا بعد؟ هل تُحسب الأمور ببداياتها أو بخواتيمها؟

    هل تُحسب حركات الكفاح الوطني بإطلاق ثورة باهرة أو بالإرتداد عنها؟ وماذا جنيتم من ثورتكم قبل أن توقفوها؟

    ترون أني أردت أن أبدأ الحكاية من أوّلها، فإذ بي قريب من الخاتمة.

    وها هي الأسئلة التي أملتها المرارات تعيدني إلى البداية. وفي بدايتي شيء ميّزني، شيء تذكّرته الآن فقط، فوجدت ما يستحق أن أبدأ به لأستحوذ على انتباهكم بكامله. فلئن وُلد كل واحد منكم في مكان معروف، فأنا لا أعرف المكان الذي وُلدتُ فيه، ولم تحتفظ ذاكرة أحد بسماته. ثمّ لئن وُلد أكثركم قبل نكبة أهله أو بعدها، فأنا وُلدتُ يوم نكبة أهلي بالذات، لا قبله ولا بعده. إنه اليوم الذي اقتلع فيه الظلم أهلي من مدينتهم يافا وأسلمهم، أسلم الناجين منهم، إلى دروب المنافي. وإذا توخيتم الدقّة، فإنّي ولدتُ يوم شدّدت العصابات الصهيونيّة المسلّحة هجومها على مدينة أهلي وأرغمت معظم أهاليها على مغادرتها. فكان مولدي في مكان ما على الطريق الواصل بين منزل الإقامة في فلسطين وبين خيمة اللجوء في الأردن.

    يومها، عزمت أمّي على النأي بجنينها وصغارها الذين وَلدتهم قبلي عن الأخطار التي أحدقت بكل منزل في يافا. غادرت أمّي المدينة مع من غادرها من مواطنيها العزّل، وحدّدت الصدف وحدها وجهتها نحو الشرق وليس الشمال أو الجنوب اللذين اتجّه نحو كلٍّ منهما مغادرون آخرون. ويومها، بقي أبي في المدينة مع المسلّحين الذين بقوا ليدافعوا عن يافاهم العزيزة. ولأنّ الأخطار اجتاحت الوطن بطوله وعرضه، فإن أمّي اختارت أن تواصل السفر إلى أن تبلغ عمّان، شاءت أن تلدني في مكان آمن، فاختارت المدينة الهادئة. وعلى الطريق، في شاحنة مكتظّة بأحمالها من البشر والحوائج، داهم الطلق أمّي، واشتدّ، فلم يبق إلا التوقّف ما دام صندوق الشاحنة لا يوفّرُ متسّعاً لقضاء أي حاجة.

    ولأن سائق الشاحنة رفض أن ينتظر أطول ممّا انتظر، فإن أمّي وصغارها وجنينها تُركوا في العراء وسط غموض العتمة التي استحكمت وهواجسها. وهناك وُلدتُ أنا. فلا تستغربوا أن المسكونة في ساعة ولادتي بالقلق والخوف والأوجاع والمحاطة بالعتمة لم تحتفظ في ذاكرتها بأيّ سمات للمكان، ولم تتيقّن مما إذا كان غربيّ نهر الأردن، أي في فلسطين، أو شرقيّه، أي في الأردن، ولم تعرف ما إذا كانت صرختي الأولى قد سُمعت قبل منتصف الليلة الظلماء أو بعده.

    في هذا النحو، جئتُ إلى الدنيا أخاً لأربعة أبناء، صبيّ في الثانية عشرة من عمره وثلاث بنات أصغر منه. ومنذ ولادتي، قُدّر عليّ أن أصير يتيم الأب. فأبي استشهد في ليلة مولدي قبل أن يعلم أن زوجته وضعت الصبيّ المأمول بعد ثلاث بنات.

    نشأتُ في مخيمّ للاجئين أنشأه طوفانهم الذي اشتدّ مع احتدام القتال في وطنهم. نبت مخيّمنا في عراء في محيط ما كانته عمّان آنذاك. ونما المخيّم، ونموتُ أنا بالتزامن مع نموّه، وتدرّجتْ أحوالي وأحوال الأسْرة مع تدرّج أحواله. ونمت عمّان هي الأخرى وتوسّعت، إلى أن صار المخيّم واحداً من الأحياء التي تضمّها المدينة. في البداية، أقمنا في خيمة جاءت بها جهة خيرية أغلب الظنّ أنها أجنبية. وحين بدأتُ أميّز ما يدور حولي، كنّا ما نزال في هذه الخيمة. أمّا حين أتممتُ السادسة ودخلت المدرسة الابتدائية، فكانت الخيمة قد استقرّت صورة في ذاكرتي، صورة لا تفارق موضعها في الذاكرة أبداً. ومحلّ الخيمة، حلّتْ برّاكة مصنوعة من الخشب وألواح الزينكو المعدنيّة. البراكةُ التي أقمنا فيها طيلة سنوات دراستي الابتدائية جاءت بها وكالة الغوث الدولية، الأونروا كما شاع إسمها، الأونروا ذات الشهرة، ذات الشؤون والشجون في حياتنا. وحين انتقلتُ إلى المدرسة الإعدادية، كان أخي الكبير قد وجد طريقه منذ سنوات إلى الكويت، وظفر في إمارة النفط هذه بعمل، ولم يبق عيش أسرتنا مرهوناً لما تجود به الأونروا. انتقالي إلى المدرسة الثانوية جرى بعد أن صار لنا منزل حلّ محلّ البراكة، منزل حقيقي بناه أخي بحرّ ماله، حجرة للزوّار وإثنتان للنوم، وأخرى للمعيشة، ومطبخ،

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1