Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

شهوة الصمت
شهوة الصمت
شهوة الصمت
Ebook387 pages2 hours

شهوة الصمت

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

رواية حاولت الكاتبة خلالها أن تنقل مشاعر المرأة نحو تعبيرها الصادق تجاە قيمة الصمت في حياتها وأثر ذلك على كل المحيطين بها.... إنها رواية خاصة من حيث الفكر والتناول والإفادة.
Languageالعربية
PublisherNahdet Misr
Release dateJan 1, 2010
ISBN9785804176755
شهوة الصمت

Related to شهوة الصمت

Related ebooks

Reviews for شهوة الصمت

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    شهوة الصمت - أمينة زيدان

    Shhh.jpg

    To Myron Smith

    »لا شيء يقوِّي السلطة

    بقدر ما يقويها الصمت«

    »شارل ديجول«

    الفصل الأول: دوار خفيف

    Shhh.jpg

    سيلف بجسدك حتى تخلد إلى الاسترخاء. وعندما تستيقظ ستجد أنك خارج من كوابيسك إلى أن تنتظم الفوضى وتفتضح الخيانات.

    ستمر الكارثة والبعض سيصمد لإزالة آثارها والبناء من جديد فوقها.

    ستجد نفسك آمنًا في واحدة من تلك البنى التي طالما أردت أن تسكن بها عوضًا عن بيت يملأ جدرانه ملح الأرض التي تتفجر بالغضب.

    ستجلس بعد يوم عمل صعب، تهل عليك امرأة ترتدي قميص نوم ورديًّا لامعًا عند البطن والنهدين، ستكون المرأة التي طالما تمنيت وعلى الطريقة التي تحب. ستمسح التعب عن جسدك وتزيل عنك العبء لأن تجعلك تحكي وتسهب وتكرر وتستمر، وهي تنصت، لن تشعر معها بمرور الوقت، وستمنحك السكينة حتى يحل عليكما ذلك النوع من الضحك الذي لا يوقظ الصغار، نعم سيكون لك أطفال يملئون فراغات العمر الذي مر. ويحبونك كما لم يحببك أحد.

    مازلت منتبهًا. يجذبك الواقع بتفصيلاته، انس فأنت تعبت من ارتقاب الغد.

    كل شيء سيختلف عما اعتدت، ستصبح أكثر طيبة وقدرة على الابتسام بكل يسر، وتحرك قلبك الأغنيات القديمة التي ترتمي فى أذنيك وأنت، غير عابئ تسير على رصيف ممتد.

    وستجد الوقت لتسأل جدك عن أسباب كراهيته للزعيم، وليملأك بالحكمة صوت الشيخ مصطفى إسماعيل، ويعلو أداء النقشبندي بروحك إلى مرتبة من السمو.

    صداع خفيف يثقل رأسك؟ هذا مجرد عرض، سيزول وتصبح أكثر صفاء وقدرة على التركيز لو استسلمت. اشرب آخر جرعة واسترخ، لا تحاول الفهم من جديد؛ لأن الواقع الذي يجذبك إلى الخلف سينهار بمجرد عبورك. ألم تتعب بعد؟ ألم تفهم أن دورك فى هذا الزمن انتهى، وأنه بات عليك الرحيل بدون حمل حقيبة واحدة؟ تخيل لو أن الحب ساد ولو أن البنت الحلوة أذعنت لمنطق الولد الرومانسي وانتظرته لأعوام وأعوام حتى يعود إليها وهو رجل. هناك حيث تقول بكل إيمان ليس هناك أفضل من هنا.

    أنت عنيد أكثر مما توقعت، لذلك سأمنحك جرعة من مشروبي، إنه خيالي ولكن طعمه مقبول. تمامًا مثلما تكون الحياة وأنت تفقدها على التوالي وبلا انقطاع، وهي التي لم تمنحك غير بقايا الآخرين لتصبح مجرد عابر سبيل على فراش من أشواك تحملها فى جسدك.

    اذهب بسلام وسوف ألحق بك، كم سيكون مشوقًا أن ندخل عالمًا من أوسع أبواب الوهم، ولسنا بحاجة لأن نبرز بطاقات الدعوة. أنا وأنت سنكون هناك لما يحين الوقت، مهيئين لبعض. ولن تكون وحيدًا في انتظاري، ستحاط بنسوة شفيفات وبنهر يسبح فيه الطير، والشجرة التي افتقدتها تظلل عليك. هاه بم تشعر الآن؟

    - أشعر بالظمأ.

    ما عليك إلا أن تمد يديك. أين أنت؟

    - أسمع صوت الريح يهز فروع الشجرة.

    - هناك من يناديني باسمي.

    - اذهب إليه ودعني أتولى الحكي.

    نهضت من نومي حاملًا وجهها بين يدي. ولما أفقت كان شعرها وعيناها المرخيتان تلتمع في الضوء بدهشة فاقت دهشتي بالحلم الذي عشته كحقيقة. أسير مترنحًا في طريقي إلى المطبخ لأعد لنفسي كوبًا من القهوة، أشعر بوخزات موجعة في القلب لكنني تجاهلتها وأشعلت سيجارة. كنت مازلت أحفظ طعم شفتيها، لعقت شفتي وجلست بانتظار خروجها من الحمام.

    فيم يرغب من هو مثلي أكثر من امرأة تشاركه طالعه، تحلم معه؟ وتأتي بكوب دافئ، يهدئ تعب القلب.

    لم تكن أحلامي كبيرة في تلك المرأة مثلما هي بداخل الحلم حين أتعرف إليها من العينين وأحتفظ بسكرها على شفتي.

    امرأتي الأولى، صاحبة النظرة التي لا تمل من إظهار الحب.

    يهل عليها ليل تكون فيه وحيدة تمامًا. ليل أذكره تمامًا مثل اليوم، لما كانت تجلس بين أوراق، تحدق بها طويلًا وكأنها ستبكي. وأسمعها...

    هناك خطأ مازال يحدث، ويترتب عليه المزيد من الفوضى.

    «أسيصبح في مقدوري أن أصلح أرضي أنا على الأقل؟».

    حكاية شهوت:

    لم يعرف أحد كيف ماتت «شهوت»، وهم لا يعبئون كثيرًا بالأسباب، خلاصة الأمر أنها لم تعد موجودة. أنا نفسي لم أعد أتذكر في أي زمن توقفت فعليًّا عن رؤيتها. فنحن كثيرًا ما كنا نتخاصم، وكان صبري على الغياب طويلًا وعلى الوقت، وعلى صغيرة الحجم التي تشب على أصابع قدميها، وياله من عطر يفوح حين تطوق عنقي بذراعيها! تسأل بإلحاح عما أحضرته لها اليوم. فأجيب وأنا أنزلها على الأرض.

    - أحضرت لك ما يليق بأعوامك الثلاثة عشر.

    تمزق الورق الملون

    تتركه يسقط على الأرض

    تفتح العلبة الورقية

    تضعها على الأريكة

    تفتح فمها وعينيها بالدهشة

    تخشى الإمساك بحقيبة اليد البيضاء الصغيرة

    فأقول ليس بعد

    تفتح الحقيبة بحرص وتتردد في لمس زجاجة العطر، أراقب الدهشة المتكاثرة على وجهها وجسدها وأنا فرح برقائق الوهج التي تنطلق من الحدقتين. تقبلني في خديّ وتنهض مسرعة، كأن شيئًا لم يحدث بيننا. انصرفت في ذلك اليوم ولم تودعني وكأنها أرادت أن تثبت أنني لا أعني لها أي شيء. حتى شعرت بجرح، فقلت... ستشعر كلما تعطرت، بأصابعي توزع العطر على رقبتها وخلف أذنيها وتمسح به على رقبتها وبين النهدين، لقد نضجت البنت وتوردت طفولتها الصامتة بلون ولون أحال شقاوتها إلى أنوثة مغمضة العينين. لم ينته ذلك اليوم قبل أن أدرك أنها امرأتي الخاصة، حلمت بها لأول مرة بين يدي فابتدأ العشق.

    وظل الحلم يتردد بتفاصيل صغيرة تتقافز بمشاعري خارج الوقت والأمكنة، وكأنها كانت معي منذ ابتدأت ومنذ كنت في الصحراء، نهارًا حيث لا ظل، وليلًا وأنا أبحث عن كهف، تحت إضراب غير مشروط عن الطعام، وبلا دعوة للتغيير ولا احتجاج على الظلم، فقط لأنني لم أجد ما آكله. وَهِنت حتى ارتحقت الأعشاب، ركضت بداخل الصحراء دون أن أعثر على إنسان حي يقودني إلى أي أمل في النجاة.

    العيش بغير أكل مثل الشعور النادر بالحب، مثل طلة من عيني طفل، مثل أن تفقد الجاذبية سطوتها عليّ، كنت خفيفًا، ونباتيًّا إلى حد الشذوذ. فأعشاب الصحراء الجافة كانت تبث في روحي الخدر، وكان لحساء الصبّار طعم حميم حين تذوب مرارته في الجسم وتترك عصارته لون التوت الأحمر على وجهي وأصابعي، لتذكرني بما لا أنساه، ومرت الأيام بى حتى

    ثقلت يداي

    وتيبست شفتاي

    والتهب بالجروح اللسان.

    لم أكن وحيدًا في ذلك اليوم، كان الكثير منهم هناك معي، في مجموعة من الدوامات طافت بي أبدانهم رقيقة ومعلقة في الفضاء، يدفعونني للضحك وللبكاء وللرغبة في أن يدركني الموت وأضمه إليّ حتى تطقطق العظام، كنت أعيش في بيت الموت دون أن ألقاه محبًّا لكل شبر وراضيًا تمامًا عن النفس التي أحملها أينما وطئت، وراغبًا في الموت، حتى انشق باب في السماء ولاحت منه «شهوت»، بهيئتها بعد أن أتمت الثالثة عشرة، لم تبتسم ولم تعلق بشيء. كل ما أذكره أننى سقطت بطولي على الرمل، ولم أر بعدها غير الصبيان يخلعون سراويلهم والبنات ينزعن الجوارب عن أقدامهن، قيدوا معصمي وسحبوني طويلًا على الرمال. لم أشعر بشيء على الإطلاق وكأنني لم أكن أنا الذي حمل حقيبته حول رقبته وسار مثقلًا بالرياح والأمطار والرمال لثلاثة عشر يومًا، مشوار طويل أطارد فيه الموت وأسأله الدعم، أسير وكأنني رجل من رمل تعانده الريح.

    كل شيء الآن يبدو كحماقة، زرعت بها الأرض ثم عدت ونسيت كل ما تعلمته غير أنني شخص تعس وغير محظوظ ومواقيتي دائمًا خاطئة... نعم أنا غاضب لأنني أقع في الخطأ نفسه مرة ومرة ومرات لأبدو مثيرًا للشفقة إلى حد أن يتهرب مني الناس، وإن واجهتهم فما من شيء إلا الازدراء. أنا غاضب بلا انتهاء، غضبي مكتوم بنفسي التي لا تعلمني الحذر، ومن ناحية أخرى تلقينني وحدي في العراء بلا خريطة أو صفيحة ماء، ثم تضعينني أمام البنت التي تصرح لي بغير كلمات عن أنها - وبالرغم من النقص الواضح بها وبلا مبالغة - تستطيع أن تعشق وتحب عشرة رجال في كل يوم وتقول لي بكل زهو إنني لن أكون واحدًا من أولئك العشرات في أي وقت ولم يكفها ما قالته بالإشارة وباستخدام لغة العينين، بل تمادت وصرحت لي أن دوري الوحيد في اللعبة هو...

    أن أحكي حكايتي مع «شهوت» وبنتها وعابري السبيل الذين أصبحوا رفقائي، على رحبة ضيقة من الأرض تناوبها الغرماء حتى أصبحت تئن بصمت من كل هذا الخراب الذي أصاب بدنها، فباتت متسخة واستشرى فيها العنف، وأصبح الانتحار فعلًا يوميًّا نقرؤه مع قهوة الصباح...

    ... ونخرج إلى جحيم الشارع ونجده جافًّا وعطنًا ولا يسمح بتبادل ابتسامة. كلنا لاهون وجامدون، وصامتون، ونحن مرتقبون للحظة الخطر الذي نراه كوحش يبخ حمم الفوضى والعبث.

    - إلى متى سيسوء الأمر؟

    سؤال نتناقله مع حكايات ما قبل النوم ونحن نعرف أن الغد سيصبح مثل الأمس ونتوقع نفس الظلم في الأحلام... نروح به عن ضمائرنا لتخلد للراحة. نفس الكلام المعتاد ونفس الخوف من الغد وتعويذة ندسها تحت وسائدنا آملين أن نصحو دون أن تسلب منا أرواحنا.

    وهكذا يكون عليّ دائمًا أن أعيد الحكاية بالتفاصيل الملائمة في وصف الحمق الذي اعتدت أن أكون عليه حيال كل ما يحصل بداية من حكاية «شهوت». ودائمًا ما يكون هناك وقت لمراجعة معاني الكلمات من أول وجديد، والبحث في أسباب الفشل دون الوصول إلى اعتراف كاف.

    خضت في معاركي وأنا معلق على ثورة متوهمة ولم أحظ بغير الخراب يسكن في روحي التي تفر من جسدي، وأضبطها تركض خلف الموتى على الرمل في ظل قمري، كالقمر الذي رسمته «شهوت» في أول لوحاتها، قمر يطل ومن تحته طائر يهبط نحو الأرض بثقب في رئته...

    كم من وعود بذلتها بألا أعود إلى الحكي

    عن وجوه من الماضي

    تبدو لي الآن كالفراشات.

    هذه المرة سأحكي بارتياح لابنة «شهوت». على أن أهدأ وأبدو باستقرار صائدًا عجوزًا يبحث عن الفريسة، ويطاردها ويغافلها وينطلق خلفها وهى ترجف بالخوف دون أن تقدر على فعل شيء، أفترسها في الحكاية فأهدأ إلى أن يقرصني العشق لكثرة ما هجوتها، فأبدو من جديد، يائسًا وحيدًا، وكأنني لم أكن يومًا عاشقا مؤملًا وخاليًا من مرارات الخيانة التي أتعرض لها كل يوم. رغم أنني شخص وحيد تمامًا أعيش كالكهنة والرهبان، أمارس طقوسي المعهودة لمن يحيرني ظهورهم على شاشة الحياة كملائكة مسجونين في قصر من زجاج. يشعرون بالأسى ولا يطلبون المساعدة، أسير خلف أطيافهم وأهذي كالمجاذيب أن شيئًا مروعًا يحث الأرض إلى الهاوية، وكل ما أجمعه خلفي من أتباع كان رجال يندبون ويطالبون النساء بدفع الثمن. يدور رأسي في الفراغ حتى أعود وأركن إلى أريكتي، أفكر وأفكر ولا أقدر على الفهم.

    العطن الذي ابتدأ في التوحش بإنتاج قواقع صغيرة لزجة تلتصق بالأعمدة وبزوايا الجدران، تكبر وتقوى قشرتها. وكأنها مؤامرة. سأحملها مسئولية تقويض المنزل. كنت أردد بين صعودي السلم بحثًا عن شيء لآكله دون إشعال نارٍ لطهي أي شيء يبقيني على الحياة، وكالعادة عندما أكون وحدي. تبقى «شهوت» مفردة أساسية من مفردات عالمي الصامت.عندها يبدأ الحكي وأحب من الأسماء ما شابه اسمها...

    وتبقى حقيقة أن شيئًا أساسيًّا مني قد مات ودفن مع وجهها الذي كشفته وقبلته قبلة عصية على أي تسمية.

    وأن أحدًا غيرها لم يعرف أنها كانت امرأة الحلم. ومع ذلك لم تنصفني، ربما لظروف ولادتها وكل ذلك الحكي الأسطوري عن الرائحة والابتسامة اللتين كانت تسددهما لمن يراها لأول مرة ليقع كارهًا للأبد أو محبًّا تسكره طلتها وتفعل به كما فعلت معي، لأظل طوال هذا الوقت أعيد ترتيب الحكاية لصالحها. مقررًا تجاهل مشكلتي الأساسية الملخصة في كوني كنت بحاجة لامرأة تمنحني شرف تربيتها وعشقها والحصول على حقي كاملًا من رعايتها، وتصبح بطلة لذكرياتي تتصدر صفحة السماء وتتحكم في سير الهواء المندفع ليجفف دمعة كانت ستسقط من عينيها، أويلطم وجهها بشعرها الخفيف الموزعة خصلاته بلا انتظام.

    هممت بنسيان «شهوت» ولم أجد بدًّا من تحنيط ذكراها وتمديدها في قعر عقلي، فعلت أكثر من مرة، استبدلت بها نساء الأرض، ودعوت واحدة على عشاء وتركتها تحكي بصبر، رغم أن الحكاية دائمًا عن القهر فقد تحملت التثاقف والنصائح والتطوع بتقديم إجابات عن أسئلة كونية شديدة العمق، كل ذلك فعلته لكِ؛ لأنني أفتقد مع طلوع الصبح صمت «شهوت». وكان نهارًا قائظًا قبل الكارثة ربما بشهرين، كنت قد يئست تمامًا وفقدت الرغبة في الفعل، أحدق طويلًا في مروحة السقف علها ترسل نسمة طرية أو صريرًا يوقظ المرأة التي تتمدد بجواري ونسيت اسمها بالفعل. كانت نائمة، تغطي جسدها بالملاءة ولا يظهر من عريها إلا الكتف، كان الصمت ثقيلًا يحجب كل ما يتعلق بالعالم الخارجي، ولم أستطع تذكر أي شيء عن الليلة الفائتة وكيف حضرت هذه المرأة إلى فراشي نظرت إليها طويلًا لأتأكد من ذاكرتي وأنفي لعقلي !! أن تكون هي «شهوت» وضعت يدي على كتفها ومررت على ذراعها برفق، استدارت فرأيت وجه «شهوت» وابتسامة «شهوت» وصمت «شهوت» فوقعت في أسرها بقية النهار وطيلة الليل.

    بدا الأمر وكأن الحلم انتقل إلى الواقع فكنت أنهل منها ما يكفيني لباقي العمر؛ لأنني أدرك بطريقة ما أن الحلم والواقع قد التقيا...

    لكن ما حدث كان أن اكتملنا ببعضنا تمامًا كما يحدث في الروايات القديمة. انتهينا ورحلت المرأة التي بدت كشهوت، متى وكيف، هذا ما لم تحفظه ذاكرتي، هل يليق أن يلتقي من هو حي بمن هي ميتة على هذا النحو؟ سألت ولم يلتفت لسؤالي أحد.

    بعد ذلك اليوم بدأ يراودني يقين أنني لست كائنًا حيًّا، وأنني محض شيء عالق بين الحياة والموت لسبب أجهله.

    عام وعام وأعوام وأنا أدور حول يوم وليلة بَدَوَا لي ككل العمر، أنادي فلا ينتبه لي أحد، هل أنا غير مرئي أم هم الصم والعميان؟ ذلك ظل السؤال. وأنا بطريقة أو بأخرى رجل ميت فما الذي يعنيني إن كنت وحيدًا أم لا، بدأت أستعيد «شهوت» التي قضت بالصمت تجمع الموتى وتدسهم في ذاكرتها وتنتحر بهذا الشعور الذي لازمها أنها السبب في كل مصائب الأرض، أصبحت سريعة في الرسم، تخرج كل ما بداخلها من كلمات على شكل رسوم تبوح بكل شيء حتى تنام، بعد كل ما عانته، خاوية ونظيفة ومعدة للحياة، تمامًا مثل الأرض تنتظر كارثة لتطوي بها كارثة. وأنا المصاب عند كل كارثة، أقف وأشاهد وأزفر السباب على الكل.

    (1) نفيسة

    نفت عن «شهوت» التي وجدت بين المقابر صماء وبكماء أن تكون ابنة خطيئة، لما وجدوها ترتدي ملابس قطنية بيضاء ونظيفة نوعًا. فروي أنها كانت مولودة لأب وأم عمليين إلى حد أنهما حين أدركا نقصانًا بصنعتهما الصغيرة، قررا إبعادها عن عالمهما الشائك المعقد بالمؤامرات، اتفقا على أن يودعاها بيتًا عريقًا تسكنه الحكايات وصور السادة والزعماء وأحكما الأمر كوصفة نيتروجينية يتبادلانها بحذر يليق بعالمين مهمين نشأا في الريف وتعاهدا على المشاركة منذ كان هو في الثانوية العسكرية، وكانت صبية خجولة ونابهة في إعدادية البنات. لحقته بالجامعة، وكانا موجودين بشكل لا يلفت انتباه الآخرين فيه غير أنهما لا يفترقان.

    كما روي عنهما أنهما كانا يتحولان لوحشين حين يجمعهما فراش وأنهما كانا يصدران أصواتًا لها طاقة إخافة لمن يسمعها، ذلك الخوف الحقيقي الذي قد يشيب له شعر البدن، وهما لا يبلغان شبعًا لذلك لا ينتهيان إلا وهما هامدان تمامًا بلا أي إشارة للحياة.

    لم يلحظا أن الابنة تسمع وشيشًا بتردد يحول الأصوات إلى طبقات يحفظها وعيها، كذلك ميزت الوليدة صوت الموج الثقيل حين عبرا بها المركب وعرجا على الكنيسة في سيرهما على شاطئ النهر، ثم اتجها إلى المقابر الممتدة حتى المصانع الموحشة، حففاها بأوراق الشجر الجافة ورحلا في اتجاه الصحراء.

    أما الأخبار التي ذاعت عنهما بعد اختفائهما الكلي فلم تخرج عن سياق تصريحهما أن الماء سيتمدد وأن الأرض ستغرق في غضون نصف قرن وأن المدينة ستختنق وتتحول إلى مجتمع بذيء من عصابات وقطاع طرق، جهلاء ومستضعفين، بغايا وقوادين، فقراء ومرضى، قتلة ومتسولين، حتى تضيق الأرض وتنتقل البشرية إلى زمن آخر.

    نفيسة المرصفاوي لم تكن في ذلك النهار تميز بين الضوء واللهيب، حتى إن السماء بدت لها كسوة سوداء تحرق القلب وتفجر الصور والمخاوف والقلق القديم، حواديت المائدة وحكايات ما قبل النوم، النصائح والأحلام. انتهى انتظارها الدائم لأي خبر طيب من الأرض البعيدة.

    أظن أنه جائز لامرأة ثكلى أن تتجاوز الحد، أن تفر من الواقع إلى الجنون وأن تعصر روحها انتقامًا لموت ابنها، في النهاية نزلت من على البسطة الرخامية وتربعت على الأرض الحجرية، كبشت التراب وأهالته على رأسها، عجنته بدمعها وصبغت به وجهها وبوابتي العينين تحرك الألم وكأنه رمح ناري يتجول في أحشائها مع تدفق موسيقى الجيش بلحن بدا لها سيرياليًّا، وغير مناسب لطقسها. لم يتصور أحد أن هذه المرأة التي تستدعي أغنيات الموت هي نفسها اللامعة المتوقدة القوية المتسلطة الطيبة الحكيمة التي كانت. لكنهم اتفقوا على أن موت الولد يحولنا إلى أناس آخرين.

    انسل أحد المشيعين من الجمع؛ إذ كان ممتلئ المثانة إلى حد جعله يمطر عرقًا غشَّى بصره فهرول إلى حائط يفك عليه حصره، وما إن أخرج أنفاس الارتياح، انتبهت الطفلة التي صدرت عنها حركة تشبه الأنة الأخيرة في حياة كائن صغير، فتحرك ورق الشجر الجاف وأصدر خشخشة انتبه لها الرجل فاستدار بجذعه...

    انسكب الضوء باهرًا على الأكفان المصفوفة بمجرد إزالة الحاجز الإسمنتي، عرفتهم درية وأوصتهم خيرًا بالوافد الجديد المحبوكة أشلاؤه بداخل العلم، أبت أن تغادر قبل أن تخبرهم أن لغمًا انفجر فيه هناك في الصحراء، وارتجف الضوء ورد الغطاء إلى عين القبر وعادت تسأل...

    لماذا لم يتفاد الموت؟

    * * *

    ثمانية

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1