Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

دروب المنفى4، الجري إلى الهزيمة
دروب المنفى4، الجري إلى الهزيمة
دروب المنفى4، الجري إلى الهزيمة
Ebook937 pages7 hours

دروب المنفى4، الجري إلى الهزيمة

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

في هذا المجلّد الرابع من سلسلة دروب المنفى والتي تُغطّي فيه الشهادةُ وقائع الفترة من 1963 الى 1968 والكثير من أسرارها. هذه التغطية تشمل عقابيل الصراع البعثيّ الناصريّ الدامي ووقائع تفرّد حزب البعث بالسلطة في سوريّة، كما تشمل الوقائعَ التي أفضت الى حرب 1967 العربية – الاسرائيلية، والكثير من أسرارها. وإلى هذا وذاك، يسرد هذا المجلّد وقائع الحرب ذاتها، ويضمنها الأسرار التي عرفها المؤلّف بحكم عمله في الصحافة. ويتضمن هذا المجلّد فصولاً عن تجربة الجزائر في حرب الاستقلال وفي ما بعد الظفر بالاستقلال، كما يشمل عقابيل حرب حزيران يونيو 1967، ووقائع مساعي أنظمة الحكم المهزومة لتجاوز آثار الهزيمة.
Languageالعربية
PublisherRufoof
Release dateJan 1, 2017
ISBN9786492033238
دروب المنفى4، الجري إلى الهزيمة
Author

فيصل حوراني

محمود عباس

Read more from فيصل حوراني

Related to دروب المنفى4، الجري إلى الهزيمة

Related ebooks

Reviews for دروب المنفى4، الجري إلى الهزيمة

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    دروب المنفى4، الجري إلى الهزيمة - فيصل حوراني

    1 - تبديل قمة الهرم لم يؤثر على القاعدة

    بعد أحداث 18 تموز/يوليو 1963 الدامية، دخلت سورية مرحلة جديدة وجدتني غارقاً في دوامتها. خرج الناصريون من مجلس قيادة الثورة والحكومة. وتفرد حزب البعث بالحكم. وانتهت ازدواجية السلطة. وأقام الدم الذي أريق في هذا اليوم حاجز عداء بين الجانبين. واحتاج الأمر إلى مرور سنوات قبل أن يمكن تخطي هذا الحاجز. كانت تلك جولة ظفر فيها الحزب الذي أنتمي إليه بالتغلب على خصومه. غير أن الأمور لم تصر سهلة على البعثيين. ولم يتمكن هؤلاء من تحقيق الاستقرار لحزبهم أو للبلاد. وقد وجدت نفسي بعد هذه الأحداث غارقاً في أزمات متعاقبة كما كنت قبلها، فلم تتبدل إلا عناوين الأزمات. وكانت الأزمات كلها خانقة، فاشتد دفق الأسئلة المقلقة واندياح الشكوك. إنجلى ميدان الصراع عن أجداث عشرات الضحايا ومئات المطلوبين وألوف المعتقلين من الناصريين وأصدقائهم. وأحاطت الشكوك عشرات ألوف الساخطين. وتعي على البعثيين أن ينصرفوا إلى إعادة تنظيم الأمور وسد الثغرات الناجمة عن انهيار صيغة الحكم الثنائي.

    ولم تتح الظروف أن تتم العملية بالمقدار اللازم من الإتقان، فبدا الإرتباك واضحاً، وكثرت الأخطاء وتراكمت. وفي غياب التفكير السديد بالشأن الديمقراطي، ومع استفحال سطوة أنظمة الطوارئ بدعوى اشتداد الحاجة إليها، بدا كأن هدف الحكم الذي تفرد البعثيون به هو إرغام الجمهور على الاستكانة وليس اكتساب وده. وتركز جهد أجهزة الأمن على متابعة أي بادرة سخط دون أن يُعنى المسؤولون عن هذا الجهد بالتدقيق في طبيعة الوسائل المستخدمة أو يثنيهم عن استخدام وسائل القمع الرعبُ الذي تحدثه في كل مكان. وما كان لهذا كله إلا أن يحرمني من الطمأنينة. وفي سياق التبدلات التي طرأت على الهيئات القيادية، قدم اللواء لؤي الأتاسي رئيس الدولة استقالته، وقفز العميد أمين الحافظ الذي رفع إلى رتبة لواء إلى الرئاسة، وجمع معها قبضة القائد العام للجيش. لقد ظفر العسكري الأعلى رتبة بين عسكريي البعث والأكثر تشدداً في مواجهة الناصريين بجائزة الانتصار على هؤلاء.

    وفي السياق ذاته، شكل صلاح البيطار الذي كان قد كف عن حرده حكومة جديدة. ولم تخل هذه الحكومة من الناصريين وحدهم، بل خلت، أيضاً، من أولئك البعثيين الذين أظهروا في السابق ميلاً إلى التفاهم مع الناصريين. وكان أن انتقل هؤلاء بمعظمهم انتقالاً كاملاً إلى الجانب الناصري المهزوم وتعرضوا إلى ما يتعرض له من قمع أو كفوا عن أي نشاط. وفي السياق ذاته، اتسع نفوذ الضباط البعثيين المتشددين ضد الناصريين، وتولى زعماء هؤلاء مواقع المسؤوليات الهامة وصاروا هم أصحاب الكلمة الغالبة. أما في الحزب، فإن القيادة القطرية الجديدة التي تضم غالبية من المدنيين جهدت كي يبقى للحزب دوره في سياق التنافس مع العسكر. ولكن التناقضات داخل القيادة كانت كبيرة، ولم يكن العسكر بغير نفوذ فيها.

    كان في القيادة أربعة من زعماء تكتلنا، وهؤلاء هم حمود الشوفي والدكتور محمود نوفل وطارق أبو الحسن وخالد الحكيم، وجميعهم مدنيون. وكان الشوفي هو أمين سر القيادة. وإلى جانب هؤلاء، ضمت القيادة مدنيين اثنين من زعماء التكتل الذي كان آخذاً في التشكل والذي أطلق عليه خصومه تسمية القطريين متهمين إياه بهذه التسمية بأنه ينهج نهج جماعة أكرم الحوراني الذين استقلوا عن الحزب وتصدروا المناوئين اليساريين للوحدة مع مصر. وضمت القيادة من العسكريين ثلاثة من أكثرهم نفوذاً وأبعدهم طموحاً في الهيمنة على السلطة هم محمد عمران، وصلاح جديد، وحافظ الأسد. ولم تضم القيادة أياً من الأنصار المباشرين لميشيل عفلق، بل إن صلاح البيطار فشل في الظفر بمقعد في هذه القيادة. عكست بنية القيادة التناقضات التي تفعل فعلها داخل الحزب مثلما عكست تعقيدات المرحلتين: التي انقضت والتي بدأت للتو، وأظهرت أن المشاكل الناجمة من هذه التناقضات بقيت بغير حل. ولئن أمكن أن يتحد معظم البعثيين في مواجهة الناصريين، فإن انفثاء الصراع على السلطة مع هؤلاء عن خروج الناصريين من الميدان فتح الباب أمام احتدام الصراعات بين البعثيين أنفسهم. وما دمت أنا من نشطاء البعث فقد توجب علي أن أنخرط في المعمعان بكليتي وأكتوي بنيرانه.

    تبلورت في حزب البعث بعد 18 تموز/يوليو 1964، إذاً، ثلاث كتل رئيسة لكل منها جذور سابقة، وعدد وفير من الكتل والجماعات والشلل الأخرى. وحملت كل كتلة، بتكوينها وطروحاتها، ملامح التطورات التي ستعصف بالحزب والبلد في السنين التالية. أولى الكتل كانت تلك التي انتميت أنا إليها، وهي التي عدها ناسها كتلة اليسار واشتهرت باسم زعيمها حمود الشوفي وبرز بين أبرز زعمائها وأشدهم تأثيراً في فكرها وسلوكها صديقي الفلسطيني محمد بصل. عزز ناس هذه الكتلة يساريتهم بدعوتهم إلى تبني بعض المفاهيم الماركسية، فدعوا إلى بناء حزب الطليعة الثوري المتين، وتحدثوا عن التفسير الديالكتيكي المادي للتاريخ وصراع الطبقات وما إلى ذلك، وهم الذين تبنوا في الحزب الدعوة إلى الطريق العربي إلى الاشتراكية. جهر ناس كتلة اليسار بهذه الدعوات وتسلحوا بها في مواجهة أفكار ميشيل عفلق عن عبقرية الأمة العربية، والمثالية، والاشتراكية العربية، والقومية التي هي عند عفلق «حب قبل كل شيء». وكان لهذه الكتلة التي نشأت أساساً في سورية وبتأثير ظروفها أنصار في العراق. ومن هؤلاء كان علي صالح السعدي وحمدي عبد المجيد وهاني الفكيكي ومعظم الذين سيطروا آنذاك على قيادة البعث في القطر العراقي. وقد وصل اثنان من زعماء الكتلة، السوري حمود الشوفي والعراقي حمدي عبد المجيد، إلى القيادة القومية للحزب وسلكا فيها بهدي مواقف كتلتهما سلوكا مناوئاً لأمينها العام ميشيل عفلق وأنصاره الذين يشكلون أغلبية هذه القيادة. الكتلة الثانية كانت كتلة المسميين بالقطريين، وهي الكتلة التي كان للعسكريين النفوذ الأكبر فيها. وقد كان ناس هذه الكتلة متهمين من قبل خصومهم بأنهم يغلبون الشأن السوري الخاص على الشأن العربي العام وأنهم غير مخلصين لدعوة الوحدة العربية.

    أما ناس الكتلة أنفسهم فكانوا خليطاً يتداول أفكاراً مختلطة بعضها مستعار من طروحات اليسار وبعضها مستعار من غيره، وكان مدنيوها، ومنهم نفر يتعاطى الكتابة، يروجون آراء شعبوية، فيما انصرف عسكريوها إلى تجميع الصفوف لتعزيز فرصهم في الصراع على مواقع النفوذ. أما الكتلة الثالثة، إن جاز وصف تجمع مؤسسي الحزب الأوائل بأنه كتلة، فقد ضمت الذين احتفظوا بالولاء للقيادة التاريخية المؤسسة. وكان قد بقي في الميدان من أعضاء هذه القيادة ميشيل عفلق وصلاح البيطار وآخرون أقل شهرة منهما. وكانت هذه هي، إذاً، كتلة ميشيل عفلق، أو جماعة عفلق كما اشتهر أمرها. وقد راوح بعثيون كثيرون من الذين لم يحسم واحدهم أمره بين الكتل الثلاث أو تلطى على أطرافها. وباندحار الخصم الناصري ومواجهة الحزب مسؤوليات السلطة ومغرياتها، برزت خلافات الكتل وتبايناتها بأحد ما يكون، واحتدمت الصراعات، وانتضى كل فريق أسلحته، وتتابعت المعارك. في غضون ذلك، وبتأثيره، ومع استمرار التأثير المأساوي لوقائع 18 تموز/يوليو، بدت التجمعات الفلسطينية، في دمشق والمخيمات، شبه مغلقة في وجوهنا نحن البعثيين الفلسطينيين. فمعظم ناس هذه التجمعات كان ناصري الهوى. ولئن قبل الناصريون ما يفرضه واقع الحياة حين يضطر أي إنسان إلى التعامل مع هذا أو ذاك من البعثيين السوريين بما هم حكام البلد، فقد رأوا فينا نحن البعثيين الفلسطينيين خونة أو شيئاً من هذا القبيل. هنا، قد ينبغي أن أذكر لك أن غالبية أعضاء الحزب الفلسطينيين أيدت كتلة اليسار. وقد أفادنا هذا في تحقيق منجز طالما تطلعنا إلى الظفر به. فمنذ صار للكتلة ذلك الحضور الكبير في القيادة القطرية ثم في القومية، جددنا المطالبة بتنظيم فلسطيني مستقل. وقد انتهى الأمر بأن أصدرت القيادة قراراً يحول فرقة فلسطين المرتبطة بشعبة حي الميدان الدمشقي إلى شعبة فلسطينية خاصة مرتبطة بفرع دمشق. وإذا لم يلب القرار طموحنا كله، فقد عددناه خطوة أولى تضعنا في الاتجاه الملائم.

    وبتأييد من القيادة، صارت الشعبة الفلسطينية مسؤولة عن العمل الحزبي في المخيمات، ومنها المخيمات التي تقع خارج منطقة دمشق الإدارية، وكان في هذا بداية التميز الذي نطالب به. وهكذا، اقترن ازدياد نفوذنا في الحزب بازدياد المسؤوليات والأعباء التي نتولاها فيه. وقد عقدنا مؤتمراً للشعبة حرصنا على تنظيمه في صورة مثالية، وانتخبنا قيادة للشعبة، وصار عمر خليفة أميناً لسر هذه القيادة وزميلي في السكن إميل صبيح في عداد أعضائها. وعقدنا العزم على استعادة الصلة بالتجمعات التي تنفر منا، وخصوصاً تجمعات المخيمات.ّ وضعنا خطة طموحة لتحركنا في المخيمات. وجدنا أنفسنا إزاء تحد مثير وخطير، فلم نتردد. وجعلنا قوام الخطة تأييدنا لمطالب الفلسطينيين لدى السلطة وتبني شكاواهم. ولما كانت سطوة أجهزة الأمن هي الباعث الأقوى على الشكوى، فقد التزمنا مواجهة هذه الأجهزة بأنفسنا والحد من سطوتها. فكان أن تشددنا في المطالبة بالإفراج عن المعتقلين الفلسطينيين، وهم وقتها ألوف، وكف يد المخابرات عن مخيمات اللاجئين. وقد ركزنا ضغوطنا على قيادة الحزب، وخصوصاً على أصدقائنا من أعضاء القيادة لتحقيق المطلبين. ولك أن تتصور كم كان وضعنا طريفاً بمقدار ما هو مؤلم. فأغلبية الناس ترفض التعامل معنا، لأننا بالنسبة لهم أعضاء في الحزب الذي يبغضونه وموالون للسلطة التي يضيقون بها. وقادة الحزب والسلطة يدهشهم انحيازنا إلى هؤلاء الناس ويرون أننا نهون خطر أعداء الحزب ونتصرف بدافع إقليمي فلسطيني ونبالغ في تصوير المظالم الحالة بالفلسطينيين.

    كنا لا ندخل المخيمات ولو من أجل الالتقاء بأنصارنا القاطنين فيها إلا في الظلام. وكنا نجيء في أغلب الأحوال جماعة وبعضنا مسلح خشية أن يستفرد الحاقدون على البعثيين بأي منا فيؤذوه. وكنا خاضعين في الوقت ذاته للمراقبة والتضييق على نشاطاتنا من قبل أجهزة الأمن مكروهين من عناصرها المبثوثة داخل المخيمات. وها أنذا أتذكر ما كابدناه على الناحيتين نتيجة سلوك سرية المخابرات الموكلة بشؤون المخيمات. كانت هذه سرية خاصة يقودها من اشتهر بكنيته وهو أبو رياض. وهو النقيب محمد عركه الذي اقترن اسمه بأبغض ما تعرض له الناصريون الفلسطينيون في تلك الفترة. استغل أبو رياض أنظمة الطوارئ وتغطى بالأجواء المسمومة التي أوجدتها أحداث تموز/يوليو، فأطلق العنان لعناصر سريته وأباح لهم أن يعيثوا فساداً في المخيمات بالمعنى الحرفي لهذه العبارة. جند قائد السرية حفنة من الزعران في كل مخيم، انتقاهم، غالباً، من سقط المنظمات الناصرية ممن أغواهم بالمال أو النفوذ أو التهديد، وأطلق أيديهم ليفتكوا بالناس. وحول أبو رياض قبو المبنى الذي تشغله قيادة السرية إلى معتقل يميمارس فيه التعذيب الجسدي وتُهان الكرامات بأحط الوسائل ويُساق إليه أي إنسان يعده زعران السرية مشبوهاً. وكان ضحايا السرية وناسهم يحملوننا، بالطبع، مسؤولية ما يجري فيشتد نفورهم منا.ّ كانت أصداء سخط الناس وأصداء الشكاوى التي يتداولونها فيما بينهم ولا يجرؤون على الجهر بها أمام المسؤولين تصل إلينا في صورة أو أخرى. وكنا نتبنى الشكاوى وننقلها إلى كبار القادة، فيطالبنا هؤلاء بالبراهين التي تثبت صحتها، فلا نفلح في تقديم برهان قاطع، لأن الساخطين أنفسهم يخافون من تقديم الشهادات ضد مضطهديهم. وكانت صرخات المعذبين تصل إلى أسماع جيران مبنى السرية وتؤرق ليلهم ونهارهم، بل إن هؤلاء الجيران كانوا يرون مشاهد المعذبين بأعينهم حين يجري التعذيب في ساحة القبو المكشوفة، فلا يجرؤون هم الآخرون على تقديم أيِّ شهادة. هنا، علي أن أذكر لك أن الاعتقال لمجرد الشبهة وتعذيب المعتقلين لحملهم على الإدلاء بالمعلومات كانا ظاهرتين شائعتين في البلاد ومقبولتين حتى من القادة الذين نلجأ إليهم. كان هؤلاء يقرون التعذيب الجسدي ولا يتحفظون عليه إلا إذا استهدف الأبرياء. فكان لا بد من أن نركز شكاوانا ضد ما ليس ضرورياً من القمع. بالرغم من هذا، عجزنا عن تقديم البراهين. وبلغ الاستهتار بمشاعر الناس في ذلك الجو حداً داهم عناصر السرية معه المآتم التقليدية التي أقامتها أسر ضحايا الأحداث، وطلبوا من أقرباء الضحايا أن يمتنعوا حتى عن استقبال المعزين. وعلى كثرة ما حاولنا، لم نجد بين الذين دوهموا شخصاً واحداً يجرؤ على الإدلاء بشهادة رسمية ضد أي من عناصر السرية. كانت شهرة هؤلاء بما هم متوحشون في انتقامهم أقوى حتى من حرص الناس على تكريم موتاهم. في هذا الوضع، قررنا أن نأخذ الأمور بأيدينا، وبادرنا إلى مقاومة سطوة السرية بالعنف.

    وهكذا، نظمنا ما يشبه المقاومة السرية ضد سرية محمد عركة. هذا القرار لاءم، أكثر ما لاءم، رفيقنا محمد عطية الذي يقطن في مخيم اليرموك هو وأسرته والكثير من أقربائه واللاجئين القادمين من قريته لوبية. وقد تكشفت شخصية محمد عطية عن شجاعة باهرة وعزيمة لا يوهنها أي تهيب. ومحمد هو الذي قاد المواجهة مع زعران السرية في مخيمه. كان هو أمين سر التنظيم الحزبي في المخيم، فرأى من الطبيعي أن يتصدى للمسؤولية، وكان عنده ما يحفزه على الإبتكار، فهو الذي يعاني أكثر منا نحن من بغض محيطه للسلطة ونبذه له. وراح محمد ينتقي أجرأ أعضاء التنظيم وأنصاره ويوجههم إلى مراقبة سلوك عناصر السرية ومعاقبة من يتجاوز منهم الحدود المألوفة. وهكذا، تعرض عدد من عتاة مخبري السرية إلى الضرب على أيدي شبان ملثمين يكمنون لهم ويستفردون بهم واحداً تلو آخر. وتلقى مخبرون آخرون إنذارات حاسمة. هذه المواجهات جرأت الساخطين من غير البعثيين، فاتسعت ظاهرة الملثمين وكثرت المواجهات واشتد تواترها. عندها، جاء دور النقيب عركة ليشكو التنظيم الحزبي الفلسطيني إلى القيادة، لكنه عجز هو الآخر عن تقديم البراهين. وفي يوم قمت فيه بزيارة لكتيبة الحرس القومي التي تتخذ مقراً لها في مبنى مدرسة التجهيز الأولى، وفيما أنا جالس مع الأصدقاء في الحديقة، برز عند المدخل الشابُّ الذي طالما تجادلت معه حين كنت أنتقد عبد الناصر أمامه فيتصدى هو للدفاع ويهددني بالانتقام. ولعلك ما تزال تتذكر ذلك الشاب الذي سبق أن حدثتك عنه؛ إنه حسن، أجير الجورة الذي حل محلي في العمل في المصبغة في العام 1957. كان حسن قد ترك العمل في الجورة وأنشأ لنفسه مصبغة صغيرة في حي الشاغور، ثم انقطعت أخباره.

    فلما رأيت مناوئي القديم مقبلاً على مقر الكتيبة، قدرت أنه ما جاء إلا لحاجة وهيأت نفسي للترحيب به ومساعدته. أما هو فما أن وقع نظره علي حتى تراجع فوراً، ودلت حركته على الذعر الذي حل به حين رآني. فكان من السهل أن أستخلص أن حسن العارف بأني بعثي خشي أن يلقاني أنا العارف بأنه كان ناصرياً متعصباً وتوجس أن أنتقم منه. ولم أشأ أن يظل حسن ضحية سوء فهم لا مسوغ له، فناديته باسمه، فلم يملك إلا أن يستجيب، وحثثته على الإفصاح عما بنفسه. تبين أن حسن مهدد من قبل أحد عناصر السرية. كانت بحوزة الشاب عصا ثمينة من الأبنوس أهداها إليه قريب يعمل في بلد أفريقي. وقد ألف الشاب الذي لا يملك أشياء ثمينة كثيرة أن يعرض العصا أمام زواره ويتباهى بها. وكان أن رأى عنصر السرية هذه العصا مرة فطمع فيها وطلب من حسن أن يعطيه إياها. فلما أبى الشاب أن يفرط بهدية قريبه واستكثر على نفسه هو الناصري المعتد بناصريته أن يخضع لعنصر مخابرات، أسرها العنصر ضغينة ضد حسن وراح يتحين الفرصة للانتقام.

    وعندما وقعت الواقعة وانهزم الناصريون، جدد العنصر مطالبته بالعصا، وأنذر حسن باعتقاله وأمهله بضعة أيام. واستكثر حسن مرة أخرى أن يسلم وهو مهزوم بما لم يسلم به في ظرف آخر، فجاء إلى الكتيبة شاكياً. سألت الشاب لأستثير حميته: «أما تزال شجاعاً كما عرفتك؟». ولم يدرك هو مغزى سؤالي، إلا أنه لم يملك سوى إظهار الاستعداد للتصرف بشجاعة. وبهذا الاستعداد، ارتسمت خطتنا للظفر بالبرهان القاطع الذي أعيانا البحث عنه، وصار على حسن أن ينتظر مهدده في الموعد المضروب ويتعرض للاعتقال ونراقب نحن ما يجري. جاء المهدد في الموعد، واقتاد حسن إلى مقر السرية. وكنا نحن قد رتبنا الأمر مع قائد الحرس القومي الذي كان في الوقت ذاته قائداً لقوات الهجانة العقيد حمد عبيد، فتوجهنا، عمر خليفة وإميل صبيح وأنا، مع العقيد إلى مقر السرية وداهمناه مداهمة بعد فترة وجيزة من وصول حسن إليه. وتلقانا أبو رياض غير مدرك سر وصولنا المفاجئ، ورحب بالقائد العسكري متجاهلاً وجودنا تجاهلاً تاماً. وشاء أبو رياض أن يطيل مراسم الترحيب، وأمر بإعداد الشاي، إلا أن العقيد طلب أن يرى حسن بالذات وللتو. يومها، عاينت أقبح ما وقعت عليه عيني حتى ذلك الوقت من سلوك الجائرين. كان حسن محاطاً باثنين من عناصر السرية وقد أرغماه على الانبطاح أمام المرحاض وطلبا منه أن يأكل، ولم يكن اسمه قد سجل في أي من سجلات السرية، كما لم يكن هو إلا واحداً من كثيرين اكتظ بهم القبو بعد أن جلبوا إليه دون أوامر اعتقال وقد غيب التعذيب معالمهم البشرية. ومنذ ذلك اليوم، بقي مشهد تعذيب حسن وحكاية عصاه الأبنوسية في بالي. وأنا أستحضر المشهد والحكاية كلما سمعت قصة تعذيب أيما أحد أو هُددت أنا نفسي بالتعذيب.

    ويومها، صدر أمر القيادة القطرية إلى قيادة الجيش بحل السرية والتحفظ على قائدها ومعاونيه وإحالتهم إلى التحقيق. وعاد حسن إلى مصبغته وأهله ليروي للمفاجئين بعودته السريعة قصة نجاته على أيدينا ويبالغ في تصوير النفوذ الذي نتمتع به. تصورنا أننا حققنا انتصاراً. لكن هذا لم يكن إلا حلم ليلة صيف. فالسرية إن كانت قد حلت بالفعل فلبعض الوقت ليس غير. وقائد السرية إن كان قد حقق معه فقد وفر له التحقيق الفرصة ليؤكد على أن كل ما قام به كان من أجل خدمة النظام الوطني التقدمي الذي يتآمر عليه الخصوم. وعن تجاوزاته حتى لأنظمة الطوارئ، أثبت نقيب المخابرات أن تجاوزاته ذاتها هي الدليل الذي يب مقدار استعداده للمضي في خدمة النظام إلى يّ أبعد الحدود. ولم يلبث أن أعيد تشكيل السرية بعد بضعة أسابيع من حلها، وقد أوليت مسؤولية قيادتها لرئيسها السابق من جديد. وزاد سخط أجهزة الأمن علينا، كما زاد عدد الألسنة التي تتهمنا بأننا نتصرف بدوافع إقليمية فلسطينية ونبالغ في تصوير المظالم ونستهين بخطورة أعداء الحزب.

    وعادت السرية إلى سيرتها الأولى، وكل ما استجد أن عناصرها صاروا أشد حذراً وأكثر تهيباً حين يتعلق الأمر بالاحتكاك بنا.ّ إلى جانب المقاومة السلبية، نظمنا مبادرات إيجابية بهدف اختراق العزلة التي تحيط بنا. أتذكر من مبادراتنا واحدة هي أشهرها، وقد اعتمدنا فيها على أريحية الرئيس أمين الحافظ وولعه المشهور بما يسميه هو «الزكرتية» أو «القبضنة» وأخلاق الحارة الشعبية. ووضعنا على هذا الأساس خطة لجأنا إلى صديقنا منصور الأطرش ليقنع الحافظ بها. لم يحتج أبو ثائر، وهذه هي كنية الزعيم البعثي ابن القائد التاريخي للثورة الوطنية السورية ضد الاحتلال الفرنسي، إلى أكثر من الإشارة إلى خطتنا حتى يرحب بها أبو عبدُه، وهذه هي الكنية الشهيرة للرئيس الحافظ. وهكذا، شكلنا وفداً فلسطينياً ليتوجه إلى الرئيس ويعرض مطالب الفلسطينيين ويركز على الملح منها فيطالب برفع التضييقات المفروضة على المخيمات والإفراج عن المعتقلين والعفو عن الذين تورطوا في نشاطات ضد البعثيين والتخفيف عن أسر ضحايا الصدامات. وكان من المتفق عليه أن يعامل الرئيس الوفد بإكرام ويشرح سياسة الحزب أمام أعضائه ويدعو إلى فتح صفحة جديدة في التعامل مع الذين خاصموا الحزب ويستجيب للمعقول من المطالب. والواقع أننا أفلحنا في تشكيل وفد كبير العدد.

    وتوخينا أن يكون معظم الأعضاء من غير البعثيين وأن يتجنب البعثيون احتلال صدارته. وبالرغم من ظروف العزلة التي صرت تعرفها، ضم الوفد وجهاء مخيمات وموظفين كباراً وتجاراً من قطاعات عدة ورجال دين. كثيرون من هؤلاء لم يجذبهم إلى الوفد الخوف من السلطة أو الرغبة في النفاق، كما قد تتصور، بل جذبهم إليه الحرص على رفع المظالم وتخفيف الأذى عن الناس، وإن كان في الوفد، بالطبع، خوافون ومنافقون، أيضاً. أما رئيس الوفد المتحدث باسمه فكان الشيخ عبد الرحمن مراد. كان هذا الوجيه الفلسطيني المخضرم قاضياً مرموقاً في المحكمة الشرعية في دمشق، وكان واسع العلاقات جم النشاط مبادراً إلى فعل الخير، ولم تكن له سابقةً في تحدي السلطات أو استفزاز الحكام، فكان أليق أعضاء الوفد برئاسته.ّ وعندما مثل الوفد أمام الرئيس الحافظ، تكلم الشيخ عبد الرحمن بفصحاه السلسة ونبرة صوته التي تشي بتأدبه ووقعه المتأني، فتحدث عن الفلسطينيين الذين تورطوا في الهجوم على وزارة الدفاع بما هم أغرار وقعوا ضحية التضليل فضلوا الطريق، وطلب من رئيس الدولة أن يغفر فعلتهم، هم الذين غدوا الآن بين يدي ربهم، ويرأف بحال من خلفه هؤلاء وراءهم من أرامل وأيتام وأمهات ثكالى وآباء مفجوعين. استخدم الشيخ، إذاً، لغة الاستعطاف، ولا بد من أنه تصور أنها هي الأجدى في هذا المقام، وأمعن في الاستعطاف متوهماً أنه يل بهذا قلب صاحب السلطة. وقتها، طلع أبو عبده على الوفد بواحدة من ي مفاجآته. فقد قاطع رئيس الدولة حديث رئيس الوفد بحدة أربكت الشيخ الطيب.

    وصرخ أبو عبده مستنكراً أن يتحدث أحد بهذه اللغة عن الذين وصفهم هو بالأبطال الذين هاجموا وزارة الدفاع في عز الظهر. فهؤلاء عند الرئيس هم «الجدعان الذين تحدونا ولا يجوز الحديث عنهم بلغة الاسترحام»، وهم «الأبطال الذين لم يهابوا الموت والذين تصدينا لهم والدموع في عيوننا». ثم قدم أبو عبده مفاجأته الأهم، فأعلن أنه وقع لتوه قراراً يعدُّ فيه كل من فقد حياته في الصدام المسلح في 18 تموز/يوليو شهيداً تحصل أسرته على الراتب الذي يمنحه الجيش لأسر الشهداء. في ذلك الوقت، فيما أخذ الحزب يعزز سيطرته على مؤسسات الدولة، تنبهنا في الشعبة إلى أهمية المؤسسة العامة للاجئين الفلسطينيين، وحصلنا على موافقة القيادة على تعيين فلسطيني في منصب المدير العام، وترتب على لجنة فلسطين الحزبية التي أنا عضو فيها أن تختار من يصلح لهذا المنصب. وشهدت اجتماعات اللجنة، على طريقة اجتماعات تلك الأيام، مناقشات طويلةٌ ومتشعبة، إلى أن تبلورت الخيارات حول واحد من ثلاثة جميعهم أعضاء في اللجنة: محمد بصل، وعمر خليفة، وأحمد مرعشلي. وقد اعتذر محمد اعتذاراً غير قابل للمراجعة، لأنه كان مشغولاً بمهام حزبية يراها هو أكبر. واستكبر عمر المنصب على نفسه بدعوى صغر سنه وافتقاره إلى الخبرة. فلم يبق، إذاً، غير أحمد.

    ولأني لم أسترح إلى هذا الخيار لأن أحمد ليس من تكتلنا اليساري، فقد جهدت لأحمل اللجنة على تخطيه، وقمت بمناورات فرضت على اللجنة إعادة النقاش حول الموضوع، ورشحتُ إميل صبيح للمنصب. إلا أن أعضاء اللجنة جميعهم اعترضوا على ترشيح إميل لأسباب عديدة لعل أوجهها أنه كان ما يزال طالباً في الجامعة أو حديث التخرج.ّ ما كان أشد براءتنا ونقاوة سرائرنا في تلك الأيام! لقد ناقشنا هذا كله بقلوب وعقول مفتوحة، وأوردنا ملاحظاتنا وانتقاداتنا بعضنا لبعض بأتم الصراحة، ولم يخش أي منا أن تؤثر صراحته على موقف الآخر منه. والحقيقة أن أحمد الذي ظفر بالمنصب احتفظ بعلاقات المودة مع الذين عارضوا ترشيحه تماماً كما مع الذين أيدوه. وسلك أحمد سلوك الحزبي المنضبط، فجعل اللجنة مرجعاً لقراراته وإجراءاته في المؤسسة وثابر على أخذ رأيها في كل ما يستجد. وقد بقي هذا هو شأن أحمد إلى أن احتدمت الخلافات بين كتل الحزب واشتد تنابذها. وقتها اصطف أحمد كلية مع كتلة عفلق وأهمل العودة إلى لجنة فلسطين التي يهيمن عليها اليسار. وصرنا نحن بهذا أقل الناس نفوذاً حين يتعلق الأمر بشؤون المؤسسة. لم يكن أحمد سيئاً لا في نواياه ولا في موقفه من حاجات الجمهور، ولم يفتقر لا إلى النزاهة ولا إلى نظافة اليد. إلا أن خبرة أحمد الإدارية، هو الذي كان أستاذ مدرسة، كانت أقل مما يتطلبه المنصب الكبير.

    وكانت شخصية أحمد ألين من أن يقدر على قيادة الموظفين والمدراء المخضرمين في المؤسسة. ومنذ أن أهمل أحمد استشارة اللجنة الحزبية، حكم الرجل على نفسه بأن يقع تحت سطوة البيروقراطية العتيقة، فلم يلمس الجمهور أي تبدل في أداء المؤسسة، بالرغم من وعود البعثيين الكثيرة بالتغيير. والواقع أن أحمد حاول أن يحتفظ بعلاقة طيبة مع كتل البعث كلها دون أن ينقص ولاؤه لعفلق، فتعذر ذلك كما يتعذر دائماً جمع النقائض. وعندما أفضت الخلافات إلى تنابذ الكتل وتعاديها صراحة، حاول أحمد، هذا الذي أُمْعِنُ في وصف حاله لك بما هو نموذج يمثل كثيرين، أن يشكل جسراً بيننا نحن اليساريين الفلسطينيين أغلبية أعضاء التنظيم وبين القيادة. فعل أحمد هذا ليس على طريقة الانتهازيين الكثيرين الذين يضع واحدهم رجلا في البور ورجلاً في الفلاحة، بل بدافع رغبة صادقة تعكس حرصه على أن يرى البعثيين كلهم متعاونين ومتحابين وقادرين على معالجة خلافاتهم بروح رفاقية. ودأب أحمد على السعي بيننا وبين القيادة ليخفف غلواءنا ضد عفلق ويخفف ضيق القيادة بنا.

    كان الرجل يحبنا ويقدر تفانينا في العمل العام، لكن ارتباطه بعفلق كان من نوع ارتباط المريد بشيخ الطريقة الصوفية. وقد وجد أحمد نفسه في المؤسسة في وضع لا يحسد عليه، يعارضه معظم الجمهور الفلسطيني على أساس أنه من البعثيين أهل الحكم، ويعارضه معظم البعثيين الفلسطينيين على أساس أنه يميني مستزلم لعفلق، ولا تؤهله إمكانياته لإدارة المؤسسة. وانتهى الأمر إلى أن صار المدير العام الجديد في جيب البيروقراطية القديمة، تنافقه هذه البيروقراطية وتستغله، ويظل الأمل بالتغيير حلماً لا يطابقه الواقع. ولك أن تعمم ما حل بأحمد ومؤسسته هذه فترى فيه صورة ما وقع لمعظم المؤسسات التي أنيطت مسؤولية إدارتها بناس مماثلين له: تبديل في قمة الهرم يقصر عن التأثير على قاعدته. ومن السهل أن تستخلص أن الحال كان أسوأ في المؤسسات التي تولاها رفاق يفتقرون حتى إلى ما يتمتع أحمد به من حسن نية واستقامة خلق ونظافة يد!ّ بكلمات قليلة: منذ 18 تموز/يوليو 1963، تضاءل خطر الناصريين الذي كان يهدد سلطة الحزب، وحل خطر الصراعات بين البعثيين أنفسهم محله. وقد كان هذا هو الوضع الذي وجدتني مستغرقاً في ملابساته.

    2 - يمين مخضرم ومقتدر ويسار قليل الخبرة

    قدمتُ إشارات على وجود خلافات داخل الحزب. ولكي تدرك أبعاد مجرى الأحداث اللاحقة، من المفيد أن تعرف أن الخلافات بين كتل الحزب وشخصياته المتضاربة شغلتنا نحن البعثيين بأكثر مما أتيح لنا أن ننشغل في معالجة الشؤون العامة. وقبل أي شيء وأهم من أي شيء، كانت هناك الخلافات العميقة التي يؤججها اختلاف الرؤية السياسية. وهذه هي، في رأيي، الخلافات التي وزعت الحزبيين على الكتل الرئيسة الثلاث، وهي التي فعلت فعلها في رسم التطورات اللاحقة. لا يعني هذا أن الخلافات داخل الكتلة الواحدة كانت مستبعدة أو قليلة الحدة، كما لا يعني أن الخلافات ذات الطبيعة الشخصية، الخلافات التي يؤججها اختلاف الأمزجة وتباين المصالح الخاصة، كانت قليلة التأثير. ولعلي لا أخطئ إن قلت لك إن الخلافات ذات الطبيعة الشخصية كانت أشد جذباً للانتباه وإثارة للصخب من خلافات النوع الأول. وأخطر المخاطر كان يحل حين يمتزج تأثير الخلافات الشخصية مع تأثير الخلافات السياسية.ّ وها أنا ذا أتذكر من حكايات الخلافات الشخصية واحدة كادت تفضي إلى صدامات عامة. اشتهرت هذه الحكاية باسم حكاية الرواد. خلاصة الحكاية كما هي مستقرة في ذاكرتي أن اثني عشر رائداً من الضباط البعثيين تعسكر وحداتهم في دمشق أو قريباً منها عَلِقوا جميعهم غانيةً أجنبية. استحوذت هذه الغانية على الرواد الشبان بجاذبيتها الجنسية وخبرتها وجعلت كل واحد منهم يتوهم أنه الأثير لديها ومنته بأن تصير له وحده إن حماها من نفوذ الآخرين. وكان أن علقت دزينة الرواد المغرمين في شبكة نزاعات جرى بعضها علناً وشاعت أخباره. ولأن الرواد كانوا من شاغلي المواقع التي تستند إليها سلطة الحزب، فإن نزاعاتهم انعكست على عمل الأجهزة وأثارت القلق على غير صعيد. وكادت حكاية الرواد والغانية أن تفضي إلى انقسامات لها أول وليس لها آخر. وحين أوشكت الحكاية على التحول إلى كارثة واستنفدت وسائل تسوية الخلافات بالحسنى، تدخل الرئيس أمين الحافظ وفرض الحل بطريقته المألوفة: المفاجأة والإجراءات الحازمة.

    فقد جمع الحافظ الرواد في مكتبه وراح يقرعهم مستكبراً أن ينازع بعضهم بعضاً بسبب مومس. وفيما الرواد مجتمعون في مكتب الرئيس، كانت الشرطة العسكرية تنفذ الأوامر التي أصدرها هذا الرئيس. وهكذا، حُملت الأجنبية إلى المطار ووضعت في طائرة مغادرة. وعندما تلقى الحافظ الإشارة الدالة على تنفيذ التعليمات، أبلغ النبأ إلى الرواد ثم واساهم، وكان من رأيه كما عرضه أمامهم أن الرجل الحقيقي لا يحزن لفقده امرأة، و«أحسن مومس يمكن الظفر بها بمائتي ليرة»، هكذا قال الحافظ ثم تعهد أن يدفع المبلغ من جيبه لأي رائد يقول إنه لا يملكه، وفض الاجتماع. تواتر الحكايات، ما تدوول منها بحجمه الحقيقي وما خضع لاختلاقات المخيلة، أباح أن تختلق الجهات الكثيرة الحاقدة على البعثيين حكايات أخرى مماثلة وتنشرها في معرض التشنيع على النظام القائم والتحريض ضده. ولو قُبلت الحكايات كلها لبدا أن وجود البعثيين متمثل في الفضائح. وقد استفادت من هذه الحكايات أجهزة الإعلام الناصرية والجهات العديدة الأخرى التي ساءها انتقال السلطة في سورية إلى أيدي البعثيين. وأُحيطَ الجمهور السوري بحملة شاركت فيها صحف كثيرة، وإذاعات، ومحطات تلفزيون، عربية وأجنبية. هذه الحملة صورت البعثيين على أنهم ناس متبذلون وفاسدون ومستهينون بقيم مجتمعهم وتقاليده.

    وجرى التركيز في عدد كبير من مواد الحملة على الضباط المتنفذين المشهورين، وصُور هؤلاء على أنهم عبيد لشهواتهم، وقيل إنهم يقضون أوقاتهم في الحانات والمواخير. وقد بلغت شدة هذه الحملة حداً حمل الرئيس أمين الحافظ على المشاركة في التصدي لها بنفسه. ولأن محب «الزكرتية» غير المتزمت حين يتعلق الأمر بالسلوك الشخصي فعل ذلك على طريقته، فقد جاء تدخله طريفاً. فقد عز على الرجل الذي يبغض النفاق أن ينفي حاجة البعثيين كغيرهم من البشر إلى الترويح عن النفس، فذهب إلى القول إنهم في سورية لا يحجرون على حرية أي إنسان في اتباع السلوك الشخصي الذي يريحه، فمن شاء أن يطلق لحيته ويعتكف في مسجد فله هذا، ومن شاء أن يذهب إلى الحانات ويسكر فله هذا، أيضاً. أعلن أبو عبده رأيه في مؤتمر صحافي، ثم اختار من محفوظاته، كعادته، بيت الشعر العربي القديم الذي يلائم المقام وقرأه للصحافيين متلذذاً بتنغيم إيقاعاته تنغيماً يجعلها تؤدي المعنى الذي يتوخاه: نحن قوم تذيبنا الأعين النجل على أننا نذيب الحديدا! ومن حكايا الخلافات الشخصية أتذكر واحدة أخرى أبطالها اثنان من الضباط الذين صارت لهم فيما بعد شهرة وغانية مواطنة وليست أجنبية. كانت بطلة الحكاية شابة باهرة الجمال، وكانت ابنة وحيدة لمومس متقاعدة تملك منزلا جميلاً في أول شارع بغداد وتمارس فيه التجارة بجسد ابنتها بعد أن بار جسدها هي. هذه الشابة علقها الضابطان وحاول كل منهما أن يستأثر بها عشيقة خصوصية له، دون أن يعرف أي منهما علاقة الآخر بها.

    ورعت الأم علاقة ابنتها بالضابطين ووجهتها بحيث تستخلص منهما أعم الفوائد. ثم وقع ما لا بد منه. فبعد اجتماع عمل شارك فيه الضابطان، توجه كل منهما إلى المنزل ذاته فالتقيا أمام مدخله. وهناك، تعارك الغاويان بالأيدي، على مشهد من العشيقة وأمها والجيران والمارة، وجلجلت الفضيحة. وانتهى الأمر إلى أن انضم كل من الضابطين إلى كتلة تناوئ الكتلة التي انضم إليها زميله وتواجها في الصراع على السلطة بالحدة ذاتها التي تواجها بها في الصراع على فراش الشابة.ّ أما الخلافات على مواقع السلطة، أو قل إن شئت تعبيراً أقرب إلى المتداول في كلام السياسيين: بشأن تحمل أعباء السلطة، فكانت هي الأشد والأكثر شيوعاً. وفي هذا النوع من الخلاف، امتزجت النوازع الشخصية مع الأخرى العامة الناجمة من طموحات مختلفة، فتشابكت الأمور وتعقدت. وهكذا، اقترنت كل خطوة بمعركة خفية أو معلنة، صغيرة أو كبيرة. وتوالت المعارك، عند توزيع العضوية في الهيئات القيادية، عند تسمية الوزراء، أو تولية الضباط مواقع المسؤولية في الجيش، أو تعيين المحافظين، والمدراء العامين، أو عند ما هو دون ذلك. فإذا أخذت في الحسبان كثرة المناصب المتاحة للبعثيين وهم يعززون هيمنتهم على مواقع السلطة في الهيئات والمؤسسات المدنية والعسكرية في العاصمة والمحافظات، فبإمكانك أن تتصور كم كان كبيراً عدد المعارك التي انشغل هؤلاء البعثيون بها وما أججه التعارك من نزاعات بين الكتل! بالرغم من ذلك، وخلافاً للقناعات الرائجة التي قد تكون وصلت إليك، لم تكن الخلافات التي أشرت إليها هي الأشد تأثيراً في رسم المواقف أو الأخطر على الحزب ودوره في البلاد. فقد ظل بالإمكان التوصل إلى تسويات بين المختلفين في هذه المجالات وحلول للمشاكل المثارة. أما الأخطر فتمثل في الخلافات الجوهرية المتصلة برسم السياسات العامة إزاء المسائل الكبرى التي تواجهها البلاد، وفي تزاحم الكتل على الاستئثار بمواقع صنع القرار بشأن هذه المسائل. وهذا التزاحم هو، عندي، السبب الأول الذي أدى إلى احتدام الصراع على مواقع النفوذ داخل الحزب، والجيش، والحكومة والهيئات القيادية كافة. دارت الخلافات التي أتحدث عنها حول تحديد هوية الحزب العقائدية وتطويرها، وحدود دوره في الحكم، والوحدة العربية بمفهوماتها ومضامينها المتعددة، وقضية فلسطين والحل الملائم لها، والنهج الاقتصادي العام، والموازنة بين دور المدنيين والعسكريين في السلطة، وتوجهات السياسة على الصعد المحلية والعربية والدولية، وما شابه ذلك من قضايا أخرى كبيرة. ميشيل عفلق والذين احتفظوا بالولاء لزعامته، والآخرون الذين استثمروا وجوده ليكسبوا الحكم العسكري صبغة مدنية، هؤلاء جميعهم آثروا الاحتفاظ بالمقولات العامة التي كونت عقيدة الحزب عند الشروع في تأسيسه على عتبة الأربعينات. وهذه، كما لا بد من أنك تعرف، مقولات قليلة وغامضة بشرت بها على مدى عقدين مقالاتُ الأستاذ وأحاديثه الموجزة وتربى عليها أعضاء الحزب وأنصاره.

    وكانت مقالات الأستاذ وأحاديثه التي ألقاها في غير مناسبة قد جُمعت وطُبعت فضمها كتابان حمل أولهما عنوان في سبيل البعث وحمل الثاني عنوان معركة المصير الواحد، وتكررت فيهما بضع مقولات عن الأمة الواحدة، والرسالة الخالدة، والقومية العربية التي هي حب قبل كل شيء، والطليعة الثورية التي يتوجب أن تُعدَّ نفسها لترتقي إلى مستوى تحقيق رسالة الأمة، وتميز البعثيين الذين هم هذه الطليعة عن الشيوعيين واختلافهم عنهم. وكان على كل مرشح لعضوية الحزب أن يقرأ مقالات بعينها من مقالات الكتابين وعدداً أقل من مقالات كتبها بعثيون آخرون لم تجئ بأكثر أو أوضح مما جاءت به مقالات الأستاذ. وقد صار لعمومية المفهومات وغموضها وظيفة جديدة بعد أن سيطر الحزب على السلطة، إذ أنهما أباحا للأستاذ والمحيطين به أن يحتفظوا لأنفسهم، هم سدنة المفهومات، بحق الإفتاء وتقديم التفسيرات التي يبرز التطور الحاجة إليها، أي أن يرسموا السياسات. وهذه الوظيفة تمثلت بالنسبة للباحثين عن سند فكري للحكم في تسويغ إدعاء العقائدية دون الالتزام بمفهوم محدد أو برنامج. أما يساريو الحزب فقد ضاقوا بأَسْرِ المفهومات العامة والغموض، وتوخوا الانفتاح على أجواء العصر الأكثر تقدمية. وشاء هؤلاء أن يستوعب الحزب مستجدات العصر ويتطور من صيغة عشيرة يرأسها الأستاذ إلى صيغة طليعة يتفاعل بها الحزب مع المجتمع. وأما القطريون، فقد ضموا خليطاً غير متجانس، واتسم سلوكهم ببراغماتية من نوع ينفر أمثالي، إذ أنهم رددوا بعض طروحات عفلق وتعاونوا معه، كما رددوا بعض طروحات اليسار لكنهم ساندوا حملة عفلق على يساريي الحزب. والواقع أن موالي كل واحدة من الكتل توفر لهم ما يشد صفوفهم نحو طموح عام يجدونه هم مشروعاً ويشكل بالنسبة لهم عقيدة تميزهم عن غيرهم. فالعفلقيون، إن جاز التعبير، جمعهم طموح مثالي إلى بعث أمة عربية واحدة في دولة واحدة تقف نداً إزاء الدول الكبيرة القائمة وتتميز عنها أو حتى تمتاز عليها، فلا تكون شيوعية مادية ولا رأسمالية استعمارية.

    واليساريون جمعهم طموح الشبان المنفتحين على المعارف المعاصرة ممن ظنوا أنه يمكن استخدام النهج العلمي الماركسي لتحقيق هذا البعث. أما القطريون فقد حملوا سمة من هنا وأخرى من هناك، وتميزوا بطموحهم المثابر لتحقيق الهيمنة على السلطة، وانصرفوا إلى تعزيز مواقع أنصارهم في الحزب والجيش والهيئات المدنية. كان تمايز الكتل ظاهراً ولكنه كان تمايز قُوىً خرجت من منبع واحد وحملت الكثير من السمات المشتركة. وقد تماثل ناس الكتل كلها، على العموم ومع الإقرار بالاستثناءات، في إيلاء الأهمية للقول أكثر مما للفعل وإغفال التطابق بينهما. كما تماثل هؤلاء في إحلال التصور محل الواقع وجعل الرغبات في مقام برنامج العمل. وكان أكثر ما تماثل فيه الجميع هو تصرفهم بمنطق النخبة التي تعطي لنفسها حق النطق باسم الجمهور والتفكير نيابة عنه وتمثيل مصالحه، دون أن تُتاح للجمهور فرصة التعبير عن نفسه بنفسه أو السعي إلى تحقيق مصالحه بجهده النابع من إرادته. شيء آخر ماثل فيه الجميع بعضهم بعضاً هو إهمالهم لمقتضيات الديمقراطية. ولأن عملية إعادة بناء الحزب، أي إعادة تنسيب الأعضاء الذين كانوا فيه قبل حله في العام 1958 إثر قيام الوحدة بين سورية ومصر، كانت ما تزال جارية عندما انفرد الحزب بالسلطة، ولأن هذه العملية اقترنت بمحاولات التوسع بضم أعضاء جدد لم يكونوا في الحزب من قبل، فإن الانفراد بالسلطة ترك بصماته على بنية الحزب وأثر فيها تأثيراً سلبياً خطيراً. فالحرص على توفير سند شعبي للسلطة أدى إلى التساهل في شروط العضوية واستقطاب الأنصار، فالتحق بصفوف الحزب، باسم العودة إليه، كثيرون من الذين اجتذبتهم إليه منافع الحكم وحدها، وانضم إليه أعضاء جدد كثيرون من الصنف ذاته. وانضم إلى الحزب، بوجود التساهل في التدقيق في شروط العضوية، كثيرون كانوا أعضاء أو مناصرين في أحزاب خاصمت حزب البعث في وقت أو غيره. هذه الظواهر سهَّل التنافسُ بين الكتل استشراءها. وأوجد التنافس ظاهرة سلبية أخرى وهي انضمام أعضاء جدد إلى الكتل مباشرة أي قبل أن تتوفر لهم خبرة العمل في حزب موحد وحاجاته. لم نسلم في التنظيم الفلسطيني من تأثير هذه الظواهر. لكننا تميزنا بالتدقيق في شروط العضوية واختيار الأنصار الجدد.

    وكنا في هذا المجال متشددين غاية التشدد. وما ساعدنا على التشدد هو أن التنظيم بأغلبيته الساحقة كان ينتمي إلى كتلة واحدة، فلم يتأثر بالظاهرة السلبية المتمثلة في تنافس الكتل على اجتذاب المناصرين بأي ثمن. لكن هذا استتبع أن نجعل الأنصار الجدد موالين للكتلة ونزج بهم في مناوءة الكتل الأخرى. وأنا أتذكر تجربتي الشخصية مع الأنصار الجدد الذين توليت المسؤولية عن حلقاتهم. فقد ترتب على هؤلاء أن يقرأوا في الاجتماعات الرسمية بإشرافي ما هو مقرر للأنصار من مقالات عفلق وأمثاله كمنيف الرزاز وإلياس فرح، ثم أن يستمعوا إلى شروحي وتحليلاتي، أي إلى ما يتعارض مع ما قرأوه. كنت أمر على المواد المقررة كما يفعل مدرس مادة الديانة غير المتدين حين يشرح للتلاميذ نصوصاً لا تستهويه، ثم أصرف معظم الوقت في تنمية ملكة الجدل عند الأنصار وتثقيفهم بما نتداوله في كتلتنا مما لا يقرره الحزب ولا يُقره. وكثيراً ما واجهني نصير من الأنصار بهذا السؤال: «أنت تقول لنا غير ما تقوله مقالات الأستاذ ولك آراء تنقض آراءه، فبأي الموقفين نأخذ؟». وكنت أقدم دائماً إجابة واحدة: «خذوا بما تقره عقولكم، كلام الأستاذ مقرر في الحزب، لكنه غير مقدس!». أما خارج الاجتماعات فكنا نحرض الأنصار وغير الأنصار صراحة على الأستاذ ونعبئهم للمواجهة مع كتلته. في هذا الجو، استعد الحزب لعقد مؤتمره القومي السادس، فجرت الانتخابات الحزبية ففازت فيها نسبة ملحوظة من المناوئين لقيادة عفلق. فجند عفلق مواليه وإمكانياته وتحالفاته في حملة استهدفت ألا يَنتخب المؤتمر قيادة قومية مناوئة له أو أن تصدر عنه قرارات غير مواتية، أي أن لا يظفر اليسار. وفي هذه الحملة بالذات، انكشفت صورة لشخصية عفلق تغاير الصورة المرتسمة في الأذهان مغايرة النقيض للنقيض.

    فطيلة عقود سابقة، حرص عفلق على أن يَرى الحزبيون فيه صورة الثوري الناسك المترفع عن الصغائر المنصرف إلى جلائل الأمور. أما في الحملة، فبرز عفلق مناوراً براغماتياً لا يتعفف عن كسر قواعد الأخلاق ولا يتردد في اتباع الأساليب الوضيعة لصد الخطر الذي يتصور أنه محدق به. أكدت نتائج الانتخابات الحزبية أن عفلق مصيب في تقييمه لليسار بما هو خطر مداهم لسلطته، خصوصاً منذ تعزز التحالف بين يساريي سورية البعثيين ونظرائهم العراقيين. ولمقاومة اليسار، متّن عفلق حلفه مع القطريين بين يدي المؤتمر القومي. ورضي هؤلاء بأن يشكلوا متراساً يحمي الأمين العام. وفي العراق، اتخذ عفلق تدابير أو رضي عن أخرى تضعف كلها الحزب. فعل عفلق هذا ما دام في ضعف الحزب في العراق إضعاف لليساريين الذين يهيمنون على قيادته. وقد استخدم عفلق وسائل التحريض والتآمر كلها لإضعاف اليساريين أينما كانوا. وما فعله عفلق في العراق بالذات هو الذي يبرز المدى الذي قد يذهب إليه المدافع عن سلطته. فالأمين العام للحزب تحالف هنا حتى مع العسكر العازمين على تقويض سلطة الحزب. قَبِلَ عفلق بالمجازفة لأن تحالفه هذا يضعف مناوئيه الحزبيين اليساريين. وأغمض القطريون السوريون العيون إزاء سلوك عفلق بالرغم من إدراكهم لخطره. فهؤلاء لم يكونوا على أي حال شديدي الاهتمام بما يجري في العراق. واجتذب عفلق في حملته على اليسار كل من أمكن اجتذابه من اللائبين على أطراف كل الكتل، فانجذب إليه من هؤلاء خليط من المدنيين، ولباه يمينيون مفتونون بصمود الأستاذ ضد اليسار، ومغامرون غير مفتونين بشيء سوى غوايات السلطة. واغوى عفلق أكثر عسكريي سورية نفوذاً بقدرته على إضفاء الشرعية الحزبية على إجراءاتهم هم في الحكم. كان خاتم هذه الشرعية ما يزال في حوزة الأمين العام؛ وكان العسكر بحاجة إليه فيما هم يؤسسون حكمهم. من هنا، اجتذب عفلق معظم العسكريين وبدا دعم هؤلاء للأمين العام كأنه تعبير باهر عن التزامهم الالتفاف حول الشرعية.

    وعبر التطاحن الذي اشتد أثناء التحضير للمؤتمر القومي السادس، تمخض المشهد الحزبي عن مؤتمر من نوع خاص. وفي هذا المؤتمر، تمثلت كتل الحزب كلها بأكفأ قادتها المدنيين والعسكريين وأشدهم استعداداً للعراك. وهكذا، تعارك المؤتمرون أكثر مما تجادلوا، واختصموا على أشياء كثيرة دون أن يتفاهموا على شيء. وخلال أيام المؤتمر الذي انعقد في دمشق في تشرين الثاني/نوفمبر 1963، صال المتعاركون وجالوا في ميادين الفكر والسياسة المختلف عليهما. طرح اليساريون ما عندهم، وتصدى عفلق لهم بغير هوادة، فأظهر أن محاولاتهم تجديد فكر الحزب ليست سوى محاولات انقلاب ودعوة إلى حزب آخر. أما جمهرة العسكريين المعنية في المقام الأول بدوام السلطة فقد أيدت الأستاذ. ضاقت غالبية العسكر بفذلكات اليسار وأدركت أن حالة الحزب القائمة في ظل فكر الأمين العام هي أكثر حالاته ملاءمة لطموحها فتشبث بها وبه. وركز عسكر الأمين العام جهدهم على منع اندياح تأثير اليسار المتزيي بالزي الماركسي في أوساط الجيش. وقال أمين الحافظ أمام المؤتمر قولاً بليغ الدلالة، وصاغ القول بصيغة إنذار حاسم: «ليختلف الرفاق كما يشاءون، أما الجيش فسنقطع اليد التي تمتد إليه!.» آمل في أنك تعرف ما ينبغي عليك معرفته من وقائع أشهر مؤتمرات حزب البعث هذا ونتائجه. وفي المراجع المتيسرة الكثير مما يغني. أما هنا فسأحدثك عما يتصل بالشأن الفلسطيني الذي تطرق له المؤتمر. تعرف أنت أن انعقاد المؤتمر تزامن مع شروع إسرائيل في تنفيذ مشروعها الكبير لتحويل مجرى نهر الأردن من أجل الاستئثار بمائه. وقد كان موضوع التحويل وما يتصل به من احتمالات الاحتكاك أو حتى الحرب مع إسرائيل هو الهاجس الذي يقلق السوريين والعرب الآخرين المعنيين بالصراع مع الدولة المعتدية.

    وكانت أجواء المزايدات التي أطلقها العراك بين البعثيين والناصريين قد دفعت قادة سورية إلى الإعلان عن اعتزامهم منع التحويل بالقوة. وعندما انعقد مؤتمر الحزب القومي، وهو أعلى هيئات الحزب، توجب أن يفحص المؤتمرون مسألة التحويل هذه ويتخذوا التوجيه الملائم بشأنها. وكان بين اللجان التي توزعت أعضاء المؤتمر لجنة خاصة بفلسطين. وقد انضم إلى هذه اللجنة عشرون من أركان الحزب والدولة. وما تزال ذاكرتي تحتفظ بوقائع المداولات التي شهدتها لجنةُ فلسطين هذه، كما رواها لي في حينه غير عضو من أعضائها. فقد قدم أمين الحافظ عرضاً للوضع العسكري انطوى على الإقرار بأن ميزان القوى لا يبيح الدخول في مجابهة عسكرية مع إسرائيل لمنع التحويل. وعرض صلاح البيطار الوضع السياسي وخلص إلى النتيجة ذاتها. وأظهرت المداولات كلها أن منع التحويل بالقوة متعذر. لكن استشراء روح المزايدة حال دون وجود عضو واحد من الأعضاء العشرين مستعد لنقل هذا الاستخلاص إلى اجتماع الهيئة العامة للمؤتمر. وهكذا، جاء قرار المؤتمر ليؤكد على الشعارات السابقة. وفيما ظلت الآليات الإسرائيلية تفتت الصخر وتحفر المجرى الجديد، ظلت إذاعة دمشق تردد الأغنية التي يصم صخب إيقاعها الآذان: «نهر الأردن ما بيتحول .ّ» أما التقرير العقائدي الذي ناقشته لجنة خاصة ثم عرض على المؤتمر فهو الذي استقطب أوسع الاهتمام ودار حوله أشد العراك. وضعت عناصر يسارية فلسطينية وسورية وعراقية مشروع هذا التقرير ظانة أن اليسار له الغلبة في المؤتمر فضَمنت المشروع أفكار اليسار وطموحاته كلها. ويكفي أن تعرف أن صياغة المشروع تمت على يد ياسين الحافظ، وهو من كان شيوعياً حتى وقت قريب ثم انتقل إلى البعث حاملاً طموحه الأخاذ بإكساء الفكر القومي أردية ماركسية، لتدرك إلى أي مدى كان اليسار معتداً بقوته الفكرية! والذي حصل أن المؤتمر أجاز التقرير العقائدي، غير أن إجازته تمت عبر الصراع المرير على كل عبارة أو فكرة فيه، وبعد أن نجح المعترضون على المشروع في إدخال مقدار أو آخر من التعديلات عليه. ولما لم تكن ثمة محاضر مكتوبة للمداولات، فقد أمكن لعفلق الذي أبقاه المؤتمر على رأس الحزب أن ينشر نصاً للتقرير يلائمه ويزعم أن هذا هو ما صادق عليه المؤتمر.

    عندها، سخط اليساريون وقالوا إن التقرير الذي نشره عفلق مزور. وبالعودة إلى أشرطة التسجيل التي يفترض أن تضم مداولات المؤتمر، اتضح أن هذه الأشرطة فارغة، بل وجد منها ما يحمل الأغاني الهندية التي كانت مسجلة عليه من قبل. وفي تفسير ما وقع، شاعت روايتان: قال بعضهم إن الأمر نجم من خلل متعمد في آلة التسجيل، وقال آخرون إن الخلل لم يكن متعمداً، وغابت الحقيقة بين الروايتين. وعندما حاولت أن أتقصى الحقيقة بنفسي، عرفت أن الإشراف على التسجيل أوكل إلى عضو في المؤتمر يعاني متاعب في عينيه وتستحوذ الحوارات على انتباهه فتصرفه عن الاهتمام بالتسجيل. وهذا العضو وهو الفلسطيني كمال الخالدي، وهو صديق حميم لي، لم ينته إلى رأي قاطع: هل كان الخلل متعمداً أو غير متعمد. أيا ما كان الأمر عليه، فإن عفلق تشبث بالشعارات القليلة التي صاغ بها فكر الحزب وواصل كفاحه ضد التجديد. وفي المواجهة مع المنتقدين، اشتهر عن عفلق قوله في المؤتمر: «بمقالاتي القليلة التي تستهينون بها مكنت الحزب من الاستيلاء على السلطة في قطرين». وهذا قول له تتمة منطقية ترك عفلق لحصافة سامعيه أن تستخلصها: فماذا فعلتم أنتم بشططكم الفكري؟! والمدهش أن المؤتمر

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1