Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

الطيب المجتهد والمجتهد الطيب
الطيب المجتهد والمجتهد الطيب
الطيب المجتهد والمجتهد الطيب
Ebook3,622 pages25 hours

الطيب المجتهد والمجتهد الطيب

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

الطيب المجتهد و المجتهد الطيب كتاب عملاق يجمع نتاج الراحل الجليل الطيب تيزيني في الصحافة العربية خلال العقود الثلاثة الأخيرة من رحلة عطائه المعرفي الثري، وحزمها بين دفتي كتاب يضاف إلى القائمة الطويلة من الكتب التي تركها الراحل للأجيال من بعده منارة لا بد لكل عاقل مؤمن من الناطقين بلسان الضاد من الاطلاع عليها جميعها إن استطاع إلى ذلك سبيلاً، من أجل البناء على أرضية واثقة من «الوضوح المنهجي» والفكري الذي لا بد منه في أي اجتهاد لاستنهاض مجتمعات الناطقين بلسان الضاد من مستنقع التخلف والجهل واحتراب الأشقاء وتغول النظم الأمنية على حيوات ومستقبل كل من يعيش في حياض تلك المجتمعات، كمقدمة لا بد منها من أجل تحول المظلومين المقهورين المستضعفين من الناطقين بلسان الضاد من مستعبدين إلى مواطنين أحرار قد يستطيعون إدراك الطموح الفطري لكل إنسان عاقل على وجه البسيطة بحياة حرة وعيش كريم.


 

Languageالعربية
PublisherPublishdrive
Release dateMay 17, 2023
الطيب المجتهد والمجتهد الطيب

Related to الطيب المجتهد والمجتهد الطيب

Related ebooks

Reviews for الطيب المجتهد والمجتهد الطيب

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    الطيب المجتهد والمجتهد الطيب - الطيب تيزيني

    يمكن وضع القانون جانباً والاعتراف بما يفعله اليهود

    كان القرن التاسع عشر عصر نهوض كبير في أوروبا· فعلى معظم الأصعدة أو كلها كانت هنالك عملية من التدفق باتجاه التقدم، الذي لم يترك في حينه شكاً في أن البشرية إما أن تسلك هذا الاتجاه، فتحقق سعادتها بسلامها وعدالتها، وإما أن تتخلى عن هذا الاتجاه، فتدخل في نفق من البؤس والصراع الدامي· وفي سياق ذلك، كان مفهوم التقدم يهيمن في البحوث والدراسات الاجتماعية والاقتصادية والقانونية وغيرها، بحيث أخذت تبرز أو تنشأ أسئلة حول كيفية صيانة اتجاه التقدم المذكور· ومن الأجوبة التي قدمت على ذلك، كان ضرورة إنشاء مؤسسات دولتية ومدنية محلية وعالمية تناط بها مهمة الحفاظ على ذلك الاتجاه وتعميقه في حياة الدول والمجموعات والأفراد· وعلى هذا الأساس، نشأت مصطلحات أريد لها أن تكون تنظيراً لمسائل التقدم وتكريساً لها، مثل القانون الدولي والشرعية الدولية وحقوق الإنسان وسيادة الأوطان·

    لقد أتت تلك الوضعية المتعاظمة من مفهوم التقدم التقدمي في عصر أخذت تنشأ في أواخره وأوائل القرن التالي عليه، القرن العشرون حركة سياسية ستظهر في مستقبل قادم أنها تمثل خطاً مضاداً بالكلية لمفهوم التقدم ولكل حيثياته ونتائجه على صعيد الأهداف البشرية العليا المتمثلة في الحرية والكرامة والمساواة والأمن· لقد نشأت الحركة الصهيونية في حاضنة الاستعمار البريطاني، وتبلورت مضمخة بدماء الفلسطينيين، وذلك بدا بيناً مع بروز قادة لها تمرسوا بالوقوف في وجه التاريخ العالمي والعربي والفلسطيني· وكان على هؤلاء أن يصوغوا القواعد والقوانين، التي من شأنها أن تغطي واقع الحال الجديد المتمثل بـ إسرائيل بمثابتها دولة فوق الدول والقوانين الدولية·

    هكذا، جاء بن غوريون ليعلنها صريحة: يمكن وضع القانون جانباً، والاعتراف بما يفعله اليهود! إن معياراً جديداً يبرز على صعيد الحياة الدولية، ويتحدد في أن ما يفعله اليهود إنما هو الذي يؤسس لـ الحقيقة ولأنماط التعامل مع الواقع، أي واقع· ومن طريف المواقف أن نضع يدنا على التقاء ذلك المعيار اليهودي-الصهيوني مع الفلسفة الذرائعية التي تنطلق من أن الحقيقة هي تطابق الواقع المحلي والدولي مع المصالح الأميركية، حتى حين تتعارض هذه المصالح مع واقع الشعوب الأخرى والمتمثل في كونهم ذوي حق في التقدم والحرية والسيادة والعدالة·

    إن ما يحدث في فلسطين في هذه الأيام يظهر مصداقية ذلك· بعمق لقد أصدر الأحمق شارون وحكومته قراراً بإبعاد عرفات عن وطنه· أما السبب في ذلك فيقوم، كما يرى، على دوره في التحريض على الإرهاب، الإرهاب ضد من؟ ضد من يدوس وطنه بالأقدام، ويسعى إلى تفكيكه وتدميره· وهو في هذا، أي شارون، يسير وفق القانون اليهودي الصهيوني الاستثنائي عالمياً، والقائم على أن القانون هو ما يفعله شارون وطواقمه، وليس شيئاً آخر· ها هنا، نواجه تراثاً صهيونياً مسترسلاً يلح على ذلك· هكذا كان اسحق شامير كذلك واضحاً، حين أعلن: فلْنلتفت إلى معتقداتنا نحن، حيث لا الأخلاق، ولا التقاليد اليهودية تنبذان الإرهاب، بوصفه وسيلة قتالية في مجرى الصراع، لذا، فنحن بعيدون كل البعد عن تأنيب الضمير إزاء استخدامنا وسائل الإرهاب· نعم، هذا هو الواقع، ولكن أين العرب من ذلك؟!

    دمشق في 16 سبتمبر 2003

    ما بعد الاستشراق والعولمة والإسلام

    كاد المرء في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الفائت، العشرين، يعتقد أن عصر أو عصور الاستشراق قد انتهت أو دخلت مرحلتها الأخيرة· وكان هذا الاعتقاد قد برز مع تعاظم التقدم العلمي، خصوصاً على صعيد العلوم الاجتماعية والإنسانية -بما فيها التاريخية، ونشوء الفكرة القائلة إن الموضوع أو الموضوعات التي يبحث فيها الاستشراق انحلت في مختلف تلك العلوم، ودخل هو -من ثم- نفق التاريخ· وتأتي العولمة مع التسعينيات المذكورة لتطيح بذلك الاعتقاد، مذكّرة بأن الاستشراق لم ينته، وإنما هو مرشح لعصر جديد يعيد إليه ازدهاره وانتشاره، ربما على نحو لم يعهد مثيلاً له من قبل· وعلى هذا، فإن التحولات الكبرى، التي راحت تخترق العالم عمقاً وسطحاً وبكيفية أميركية صريحة ومتسارعة، أخذ الباحثون يقرأون فيها نشوءً لظاهرة مركزية أميركية وأفولاً لـ المركزية الأوروبية-الغربية التي عمّرت طويلاً·

    لقد عاد الاستشراق ظافراً· بيد أن هذه العودة عنت وتعني تحوله إلى صيغة جديدة أو معدّلة، وذلك على الأنحاء التالية: 1) لم يعد موضوع الاستشراق محدداً بـ الشرق عموماً، وإنما أصبح الإسلام هاجسه الحاسم، مع الإضافة التالية وهي أن الإسلام المعني هنا هو إسلام النفط في الخط الأول· وبهذا يتحدد الحقل الجيوسياسي للاستشراق الجديد· 2) إن الأدوات البحثية الجديدة، المهيأة لمعالجة الإسلام، سيجري استنباطها من خصوصية المرحلة التي تغطيها العولمة، التي قد تتحدد مفهومياً بأنها الظاهرة التي تسعى إلى ابتلاع الطبيعة والبشر وإلى تمثلهم وهضمهم ومن ثم تقيئهم سِلعاَ· ولعل هذا يجعلنا نضع يدنا على بعض المفاهيم، التي تعبّر عن ذلك وتغطيه، مثل: الكونية، والهيمنة الكلية، والقطب الواحد، والهوية الواحدة، وصراع الحضارات، ونهاية التاريخ· 3) تلك المفاهيم من شأنها أن تؤسس لـ العالم الجديد ولقطعية الامتثال له طوعاً أو غصباً· 4) إن تحقيق الامتثال المذكور يقتضي فكّ أسوار العالم بدوله ومجتمعاته، وجعلها مفتوحة أمام ما عليه أن يتأسس تحت اسم السوق الكونية السلعية ·

    وإذا كنا نلاحظ خطاً من التلاقي بين العولمة وما بعد الحداثة في دعوتها إلى تفكيك الأنماط الأساسية التي تعني بها العقلانية والتاريخية والتقدم والتضامن والعلم تعبيراً عن أنه جرى تجاوزها، فإننا -في الوقت نفسه- نضع يدنا على تلاقٍ آخر هو بين العولمة والاستشراق في صيغته الجديدة، التي يطلق عليها ما بعد الاستشراق· فهذا الأخير يجري اكتشاف أهميته الراهنة بالنسبة إلى العولمة من موقع أنه يمثل خزاناً من التراكم التاريخي في حقل تناول الإسلام (وغيره من الأديان والأفكار في الشرق عموماً)· إن حالة متصاعدة من التعاون بين منظّري العولمة والمستشرقين الجدد (المهيئين لتحوّلهم إلى مصاف هؤلاء المنظّرين) تمثل واحدة من علامات الحقل الثقافي العولمي·

    وجدير بالاهتمام ما حدث على صعيد موضوع البحث الاستشراقي، فإذا كان هذا الموضوع في مراحله التقليدية (الكلاسيكية) قد تحدد غالباً من خلال الدراسات النظرية ومن الثقافة العالِمة في الكتب والمصنفات، فإنه اتسع الآن من خلال دخول الدراسات التطبيقية المباشرة والثقافة الشفاهية.

    فالمسلمون الذين هاجروا من بلادهم الأصلية إلى الولايات المتحدة ودول متاخمة أخرى، يكوّنون الآن حقلاً واسعاً يتناوله المستشرقون الباحثون هناك بالدرس والتمحيص· وإذا علمنا أن هؤلاء المسلمين هم غالباً أولئك الواقعون بين سندان نظمهم السياسية القمعية ومطرقة العلاقات الأميركية القاسية وأحياناً المُهينة، أدركنا تعقيد العلاقة بين الاستشراق الجديد والإسلام والعولمة وبعض آفاقها·

    دمشق في 23 سبتمبر 2003

    من تاليران إلى الإدارة الأميركية: درش ذهب مع الريح!

    تقدم سجلات التاريخ وكتبه دروساً وعبراً غالباً ما يجري تجاهلها أو التقليل من أهميتها من قبل من ينبغي أن ينتبه إليها· وفي هذه الحال، يتساءل الكثيرون: لماذا لا تستخلص الدروس والعبر المعنية من موقع المعنيين؟ وغالباً ما يرجع أولئك أسباب ذلك إلى غياب الحكمة أو قلّتها لدى من عليه أن يظهرها· وليس هذا خطأ في ذاته، لكن إرجاع الموقف إلى هذا السبب وحده لعله يمثل حقيقة ناقصة· أما ما قد يتمم هذه الحقيقة ويعمقها فيقوم على النظر إلى الموقف في ضوء المصالح الاقتصادية والجوسياسية·

    وهذا ما يمكن استنباطه من الموقف الأميركي من العراق في مرحلة التحضير للحرب وما بعدها، ومن موقف آخر له عمق تاريخي وأهمية استراتيجية في السياسة الفرنسية، التي أعقبت الثورة الفرنسية الكبرى لعام 1797 وما كان له علاقة مباشرة بغزو مصر من قبل بونابرت·

    ففي سياق التحضير لذلك الغزو الفرنسي لمصر والذي حدث عام 1798 كتب وزير خارجية فرنسا الثورة تاليران بتاريخ 14 فبراير 1798 تقريراً وجهه إلى حكومة الإدارة هناك، جاء فيه: إن أهالي مصر قاطبة يكرهون حكامهم المماليك الذين يسومونهم الظلم والاضطهاد·· فإنهم لا شك سيحاربون بـ(السلاح) طائفة المماليك أنفسهم· فليس ثمة خوف من مقاومة أو وثبة من الأهالي· لقد اعتقد تاليران أن المصريين المضطهدين من المماليك، كانوا ينتظرون من يحررهم من الخارج· ومن ثم، فإن دخول نابليون إلى مصر يأتي -حسب تاليران- في وقته· ولكن الأحداث التي تلت الغزو دللت على خطأ وخطل التقدير الفرنسي· فلقد اكتشف المصريون -بتجربتهم الحية التي تمثلت في المقاومة ضد الغزاة- أن الفرنسيين دخلوا بلدهم مستعمرين وليسوا محرّرين، مستعمرين يبحثون عن مصالحهم الاستعمارية الجشعة المضادة لمصالح الشعب المصري: لم يجد المصريون أنفسهم أمام خيارين متمايزين، المماليك أو الفرنسيين، إنما رأوا في هذين الفريقين كليهما حالة واحدة تتلخص في أنهما قوى غاشمة مغتصبة لحريتهم وكرامتهم واستقلال بلادهم· لقد كان على نابليون أن يجرّ ذيول هزيمة نكراء تلقاها على أيدي الشعب المصري، فترك مصر وهو يدرك أهمية ما أتت به ثورة بلاده (الثورة الفرنسية) من مبادئ خانها، وفي مقدمتها مبدأ الحرية·

    ذلك موقف في التاريخ الحديث، وموقف آخر يبرز في المرحلة المعاصرة بصيغة الحرب الأميركية على العراق· ها هنا، كذلك ومن موقع عقل ذرائعي (براغماتي) مصالحي، يقدم الأميركيون برئاسة بوش الابن على انتهاك حرمة بلد ذي سيادة مُقرّ بها دولياً، معتقدين أن الشعب العراقي سيجد في دخولهم إلى بلاده تحريراً من طغيان النظام السياسي السابق واستبداده· لكن ما إن انتهت الأحداث العسكرية باحتلال الأميركيين للعراق، حتى بدا الأمر وكأنه بداية جديدة لأحداث عسكرية أخرى، أخذت اسمها شيئاً فشيئاً وهو المقاومة، مقاومة الوجود الأميركي في العراق·

    لقد أخفق الأميركيون مرتين اثنتين، مرة حين هاجموا العراق بحجة أنه يمتلك أسلحة دمار شامل تبين أنها ذريعة لهذا الهجوم الاستعماري الأحمق، ومرة أخرى حين خاب تقديرهم بأن الشعب العراقي يستقبلهم بالورود· وفي هذا وذاك، وقفت الإدارة الأميركية عارية أمام العراقيين، وشعوب العالم، وشعبها ذاته، بوصفها قوة عسكرية غازية تفتقد الحد الأدنى من الشرعية القانونية الدولية، ومن المصداقية الأخلاقية والإنسانية· إذاً، لماذا فعلوا ذلك، فأدخلوا العالم في نفق مرعب من الاضطراب والتصدع على صعيد الاقتصاد والآخر السياسة والثالث العلاقات الدولية وغيرها كثير·

    في هذه الحال، لن يكون خطأ أن يقف الرئيس بوش ليعلن أمام العالم أنه ومجموعته السياسية والعسكرية والمالية قد ارتكبوا خطأ قاتلاً بما فعلوه مع العراق، وأنهم يستعدون لمغادرته حفاظاً على شعب العراق واستقلاله وسيادته، وكذلك حفاظاً على دماء الشباب العسكري الأميركي والبريطاني والكندي، والحبل على الجّرار!

    دمشق في 30 سبتمبر 2003

    المشروع السياسي العربي وبناء الدولة

    منذ فجر النهضة العربية الحديثة في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، بدأ يتكوّن بعض الوعي بضرورة التأسيس لدولة أو لـ(مؤسسة) تكون بمثابة الناظم للمشروع السياسي العربي والمدخل إليه· وقد راح يتبلور هذا الوعي في ضوء ثلاثة محاور كبرى واجهها العرب والمسلمون المنضوون تحت مظلة الإمبراطورية العثمانية في حينه، وهي التالية:

    1 ـ النزوع إلى الاستقلال بقدر أو بآخر وبمعنى أو بآخر عن تلك الإمبراطورية.

    2ـ تحديث (تطوير) العالم العربي بولاياته وأقطاره المختلفة ·

    3ـ التعامل مع الغرب الآخذ بالتصاعد اقتصاداً وسياسة وثقافة وقوة عسكرية، والطامح إلى اكتشاف (حقول حيوية) يسوّق إليها منتجاته المادية وقيمه الثقافية والأخلاقية ·

    في ظل تلك المحاور الكبرى، كان على العرب والمسلمين المعنيين أن يشقوا طريقهم، مع العلم بأنهم كانوا قد دخلوا المحورين الأول والثاني قبل بروز المحور الثالث في حياتهم، أي قبل بروز عملية التّماس بينهم وبين الغرب الحديث، على النحو الذي أخذ يتم مع دخول نابليون الفرنسي إلى مصر وإحداثه (صدمة) فكرية وسياسية، ما فتئت أن وجدت بعض الصدى في بعض البلدان العربية، وخصوصاً الشامية منها· كان شعور العرب والمسلمين يتعاظم باتجاه ضرورة (لمّ الشمل) في رحلة تاريخية أخذت تطرح عليهم استحقاقاتها: إن الاستقلال عن الإمبراطورية العجوز سيفضي إلى الدخول في عالم آخر هو الغربي الجديد· ومن ثم، فإن تلك الضرورة لـ(لمّ الشمل) تغدو بمثابة صمام أمام لهم· وهذا ما تمخض عن مسألة ثم عن مفهوم (الدولة) وما يقتضيه من مفهوم (الوطن)·

    كان رفاعة رافع الطهطاوي واحداً من أوائل من التقط فكرتي الدولة والوطن، اللتين كانتا في مقدمة الأفكار التي يتأسس عليها مشروع سياسي عربي، في ضوء ذلك، كان ممكناً أن يعلن الطهطاوي إياه عبارة ربما لخّصت أهم الاستحقاقات، التي وجد العرب والمسلمون أنفسهم أمامها: (فليكن هذا الوطن مكاناً لسعادتنا أجمعين، نبنيه بالحرية والفكر والمصنع)· لقد وضع الطهطاوي يده على المفصل الحاسم في عملية التأسيس للمشروع السياسي العربي، وأبرز -من ثم- نقطة الخلاف والصدام مع الغرب المأتي على ذكره· إنها النقطة المتصلة بـ(سياسية) المشروع المذكور· فأن يعمل أولئك على تلقّف تكنولوجيا الغرب (ولن يحصّلوا بالطبع إلا بسيطها والمهيّأ منها لأغراض استهلاكية)، أمر محتمل، ويمكن أن يتساهل به ذلك الغرب تمويهاً لمسألة التحديث وتشجيعاً لنشوء مجتمع عربي استهلاكي غير مُنتج، ولكن أن يحاولوا أي (العرب والمسلمون) التأسيس لمشروع سياسي نهضوي يضع يده على ضرورات التكنولوجيا والصناعة والعلم، فإن هذا يدخل في حقل المحظورات ·

    بهذا الاعتبار، صحّ رأي من يرى من الباحثين العرب أنه لم يكن من المصادفة أن تأتي عملية التدفق الاستعماري الغربي نحو الوطن العربي في سياق ظهور الإرهاصات الأولى للمشروع السياسي العربي، مجسداً خصوصاً بالدعوة لإقامة مؤسسات سياسية دستورية تندرج في إطار دستور وطني يضبط الحياة السياسية والحزبية والتشريعية والقضائية والتنفيذية وغيرها· فكان أن جاء احتلال بريطانيا لمصر، مثلاً، بعد انتفاضة عرابي باشا في مصر والتي كان من أهم مطالبها إصدار دستور وطني يؤدي إلى الإقرار بهيئات نيابية تمثيلية· بل إذا أردنا السير خطوة أخرى إلى أمام، وجدنا أن من أكبر العوائق، التي وقفت في وجه المشروع النهضوي والتنويري العربي، كان ذلك الذي حددناه، وهو غياب التأسيس لهذا الأخير بمشروع سياسي دستوري، تأتي عملية التحديث التقني والصناعي والتكنولوجي في سياقه المفتوح· ولعلنا، في هذا، نكون قد أشرنا إلى اختلاف حدث في الواقع العربي النهضوي الحديث مع ما حدث في الواقع الغربي النهضوي الحديث، الذي ربما كانت عملية التحديث تلك سابقة فيه نسبياً على المشروع السياسي· والسؤال الآن، أما زال ذلك راهناً في الواقع العربي الراهن؟

    دمشق في 7 أكتوبر 2003

    المثقف العربي في تيهه الثقافي

    مات إدوارد سعيد وترك من الأسئلة ما سيظل مفتوحاً ومعلقاً إلى مرحلة قادمة أو أخرى. بل لعلنا نقول إنه، في سيرته الذاتية، ترك أمثولة لعلها نموذجية على صعيد المثقفين العرب. فهو، كأمثولة، كان عليه أن يظل في حالة شبه دائمة من الترّحال من مدينة إلى أخرى ومن قارة إلى أخرى، بعد أن غادر مدينته القدس باتجاه أميركا. لقد عاش حياة تماهت مع عصر كان هو والاضطراب والصراع والقتال على أرض فلسطين، على موعد. كان ذلك بعد أن ظهرت قوى القهر وتبلورت في مشروع استعماري يخترق الشرق العربي، ويأخذ صيغتين اثنتين، واحدة تمثلت في معاهدة سايكس-بيكو، وأخرى تجلّت في وعد بلفور.

    ومع وضع فلسطين برسْم التسليم ليهود العالم بعد طرد سكانها الفلسطينيين العرب منها، كان على هؤلاء أن يتقبلوا مصيرهم، الذي أخذوا يدركون أنه مخضَّب بسيول من الدماء قد لا تنتهي في الأفق المنظور. عاش إدوارد سعيد خارج فلسطين وداخلها، مُرغماً في هذا وذاك على الانسياح في تيه عميق، أدرك أنه قد لا يرى نهاية له في حياته. وها هو مات، ولم يفلح في إنهائه. فهو، بمثابته واحداً من جيله، عاش أزمة عميقة بدأت بالكفاح، ويراد لها أن تنتهي -في اعتبارها الأعلى- بالنُّواح. لكن نجمة صغيرة أخذت تلوح في حياته وحياة جيله، مُعلنة أن القوة الغاشمة الصمّاء قد لا تنتصر دائماً، إذا أجمع شعب -حتى لو كان أعزل- على الدفاع عن حقه التاريخي، أي إذا أعلن هذا الشعب، بالقلب واللسان واليد، أن الحياة مساوية للموت، إذا اقتضى الأمر ذلك.

    لقد عاش إدوارد سعيد تيهاً فكرياً عالمياً في تيه جغرافي عالمي، منطلقاً في ذلك من الأرض المقدسة، التي أُرغم على افتقادها وعلى البحث عنها من خارجها. وإذا كان سعيد قد عاش في أميركا، أي في البلد الذي يعمل على تأييد احتلال فلسطين إسرائيلياً، فإنه كان يدرك أن الكفاح من أجل تحريرها أو تحرير الأراضي المحتلة منها، في أيدٍ أمينة، هي أيدي الشعب الفلسطيني، وبصورة أخص في أيدي الانتفاضيين. أما التّيه الذي عاشه الرجل فقد جاوز الأربعين عاماً، لكن دون أن تكون دائرة فتحه قد ولّت. وهكذا المثقفون العرب، الذين إذ يعيشون تيههم في قلب بلدانهم نفسها، فإنهم أخذوا أو أخذت جموع منهم تدرك أن إنهاء تيههم لعله يمكث في أيدي أولئك الانتفاضيين، على الأقل في البدايات الأولى من ذلك. في سياق ذلك، قد يكون أصبح وارداً أن يرى الباحث الأسئلة التي تركها إدوارد سعيد مفتوحة ومعلقة، حالة يقترن مصيرها بمصير الانتفاضة بمثابتها مدخلاً أو أحد المداخل إلى المشروع العربي النهضوي التنويري. ومن أجل تعميق هذا النظر، يغدو ضرورياً التدقيق في بعض تلك الأسئلة السعيدية، كي لا يقع المرء في عمى الألوان. أما أهم هذه الأسئلة فيظهر في الصيغة التالية: هل يمثل الغرب وجهاً واحداً ونسقاً واحداً ولوناً واحداً في موقفه من الشرق، كما كان سعيد يعتقد؟ لن تكون الإجابة مستقيمة، إذا لم تأخذ بعين الاعتبار ما تمخض عنه الغرب في تظاهراته ضد الحرب على العراق. لقد تمخض عن أنه غربان اثنان أو أكثر. إن الوصول إلى مثل تلك الإجابة إذا ما وضع في إطار ما يحدث في الواقع الفلسطيني العيني، فإنه يقود إلى وضع اليد على ما قد يعتبر واحداً من أنماط انحسار التيه، الذي عاشه إدوارد سعيد مع المثقفين العرب، بل مع الشعوب العربية. وهكذا، من الانتفاضة إلى الغرب الآخر، نكون قد وصلنا إلى تخوم سعيد التي نقرؤها مستقبلياً.

    دمشق في 14 أكتوبر 2003

    شارون يتابع «حرب الاستقلال»!

    تتتابع الأحداث الدموية في فلسطين، متجلّية في كل أشكال القمع والقتل والتهجير وحرق المزارع وهدم البيوت واغتيال الانتفاضيين· أما القيادة الإسرائيلية، وعلى رأسها شارون، فتقوم بذلك محقّقة، كما يرى منظّروها الاستراتيجيون، خطوات جديدة على طريق «حرب الاستقلال» التي بدأوا بها مع بداية التأسيس العملي للمشروع الصهيوني في أربعينيات القرن المنصرم· ومن ثم، فإن ما يقوم به الجيش الإسرائيلي في فلسطين من احتلال لمناطق جديدة في الضفة الغربية وقطاع غزة الآن، علينا أن نفهمه بمثابته «استكمالاً» لتلك الحرب، التي لعلها تنتهي مع احتلال فلسطين كاملة، إن لم نقل مع احتلال «المحور التوراتي: من النيل إلى الفرات»·

    ويلاحظ أن إسرائيل، في ذلك، تسلك الطريق التي اختطتها النخب الإسرائيلية السياسية والعسكرية وفقاً للاستراتيجية، التي قامت عليها إسرائيل، ومن ثم وفقاً لضرورة التمييز بين «الاستراتيجي» و«السياسي» في علاقتها مع سكان فلسطين الأصليين «الفلسطينيين»، كما مع المحيط العربي إجمالاً· فـ«الاستراتيجي» يتحدد في المبدأ التالي، الذي صاغه بن غوريون منذ عقود، حين أعلن: نحن بحاجة إلى الهدنة مع الفلسطينيين كي نستكمل بناء دولتنا، بحيث يأتي «السلم» بيننا وبينهم بمثابة «المبدأ المطلق»· ولذلك، كان ذا أهمية منهجية وسياسية دقيقة أن نقرأ أحداث الاقتحام الجديد الإسرائيلي لمدينة رفح وغيرها، في ضوء ذلك «المبدأ الإسرائيلي الاستراتيجي»، كي لا يختلط هذا المبدأ ببعض الخطوات، التي ترغم إسرائيل على اتخاذها في الحقل السياسي التطبيقي·

    وقد وضعت حنان عشراوي يدها على «اللامُعلن» في الحرب الشارونية الراهنة ضد الفلسطينيين، فأعلنت في مقابلة معها صدرت في «العدد 50 من مجلة الدراسات الفلسطينية» في بيروت: إن سياسات شارون التي تُشعل مفارقة زمنية بكل تأكيد، تنطلق من أنه يريد إرجاعنا إلى فكرة استكمال المشروع الصهيوني الأصلي، أي إلى الأصولية الصهيونية، بهدف إلغاء الهُوية الفلسطينية الوطنية وحق تقرير المصير الفلسطيني· وحقاً، إذا نحن دققنا فيما تفعله القيادة السياسية العسكرية الإسرائيلية ضمن فلسطين وخارجها (مع سوريا مثلاً حين هاجمت طائرات حربية إسرائيلية موقعاً فيها)· يتضح لنا أن ذلك هو بمثابة إصرار إسرائيلي على السّير في خط استكمال «حرب الاستقلال» الاستعمارية الاستيطانية· وبهذه المناسبة، لا يصح النظر -كما يفعل جمع من السياسيين والباحثين العرب وغيرهم- إلى ذلك «الإصرار» على أنه مجرد حماقة فجّة يرتكبها شارون وطواقمه· إنه، أي الإصرار المذكور، وجه من أوجه الاستراتيجية الإسرائيلية الصهيونية حيال فلسطين والوطن العربي، وإن أخذ ذلك طابع الحماقة الفجة والمناهضة للتاريخ ولمبدأ السيادة الوطنية·

    في هذا وذاك، يُبدِي النظام السياسي العربي تقاعساً مذهلاً حيال ما تقوم به إسرائيل، وذلك إلى درجة التفريط بحقوقه التاريخية الشرعية وبحقوق الشعوب العربية، التي يقف على رأسها· وهذا النظام السياسي، الذي يريد أن يستر رأسه بأكوام من الرمال، يتجاهل أو يجهل (وكلاهما خطير إلى حدّ المأساة) ما يفعل الإسرائيليون في العراق، يداً بيد مع الأميركيين· فلقد أعلنت الأنباء منذ بعض الوقت أن إسرائيل فتحت في العراق «مركز بحوث» لن يطول الوقت حتى يعمّم هذا المركز معلوماته ودراساته على المثقفين والباحثين السياسيين العرب، إذا ما استمر الوضع على ما هو عليه الآن!

    إن متابعة «حرب الاستقلال» الإسرائيلية سوف تكتسي ألف صيغة وشكل· ولن يحق بعدئذ أن يقف المتقاعسون وقفة تأسّف، لأنهم سيكونون ضمن ضحايا الانكسار!

    26 أكتوبر 2003

    بعض الفكر السياسي العربي الراهن مراوغاً

    جاءت حرب العراق الأخيرة ونتائجها الاحتلالية لتطرح في الفكر العربي السياسي أسئلة ومعضلات كثيرة، معظمها معلّق منذ زمن طويل أو قصير· أما الديمقراطية فتمثل واحدة من أكثرها إشكالاً وصعوبة والتباساً، وفي الوقت نفسه من أكثرها إثارة للاختلاف والصراع بين الأطراف والمجموعات العربية، سواء تمثلت في مثقفين أو سياسيين أو حزبيين من داخل السلطة السياسية أم من خارجها· ولا شك أن هذه المسألة-المعضلة أهملت، إلى حدّ خطير، في الفكر المذكور، وذلك إلى درجة تسهم في تعميق الأيديولوجيا الوهمية الإيهامية فيه، خصوصاً في المرحلة الراهنة·

    لقد أخذ ذلك يتضح بصيغ ينضح منها الخبث والنفاق والمراوغة واللف على المواقف السياسية والثقافية المتصلة، الآن، بما يحدث في العراق· فإذا كان الأميركيون قد أعلنوا، قبل غزوهم العراق وفي سياقه، أنهم يدخلون العراق ليحرروه من الاستبداد والديكتاتورية ومن ثم ليحدثوا فيه تحولات ديمقراطية عميقة، فإنهم بعد دخولهم وجدوا أنفسهم عُراة من مصداقية ذلك الخطاب الديمقراطي التحريري أمام أوساط الشعب العراقي وشعوب المنطقة والعالم عامة· ولعل الكثير من المحللين السياسيين والباحثين العرب والآخرين كانوا يدركون هذه النتيجة من خلال قراءتهم للنظام السياسي الأميركي، خصوصاً في موقفه من الآخر، دولة كان أم شعباً· بيد أن احتلال الأميركيين للعراق أتى امتحاناً دقيقاً لمصداقية خطابهم المذكور·

    إن ما أحدثه ذلك الخطاب الديمقراطي التحريري الأميركي في بعض الفكر العربي الراهن يتمثل في نتيجة بالغة الدلالة على صعيد النظام السياسي العربي· فلقد راح جمع من المثقفين الوالغين في التواطؤ مع بعض أطراف النظام السياسي العربي يتساءلون بروح مشبعة بالتشفّي: ألم نقل لكم أيها المدافعون عن الديمقراطية إن هذه الأخيرة ليست أكثر من لعبة امبريالية أميركية تريدون أن تطبقوها في بلدانكم العربية، وتحرجوا بها نظامكم السياسي الوطني، ألا تلاحظون أن لنا خصوصيتنا الديمقراطية، التي لا علاقة لها بمبادئ الإقرار بالتعددية السياسية الحزبية والتداول السلمي للسلطة والمشاركة السياسية والثقافية للجمهور في شؤون بلده، لأن هذه المبادئ أتت من الغرب ؟

    وعلى هذا، بدلاً من السّير قدماً في اتجاه إصلاح المجتمع العربي، بتجلياته القطرية إصلاحاً سياسياً واقتصادياً وثقافياً وعسكرياً، يجري الدفاع عن هذا المجتمع عبر الهجوم على الديمقراطية، بحجة أنها مهزلة أميركية غربية وثمة وجه آخر للمسألة، ويقوم على اعتقاد أولئك المثقفين أن هجوم النظام الأميركي على الدول العربية واتهامها بالتحجّر وانتهاك حقوق الإنسان إن هو إلا هجوم على دول ذات سيادة وقوانين خاصة في تطورها· ومن ثم، إذا أتت المذمّة من الأعداء، فعلينا أن نفهمها بمثابة فضيلة للمذموم· والحق، إن في هذا الخطاب السياسي العربي المراوغ إشكالية قد يمكن تسويقها وتسويفها، إذا لم تكن هنالك إمكانية لتحليلها علمياً: إذا كان المجتمع العربي -خصوصاً بعد احتلال العراق وإسقاط نظامها الاستبدادي- بحاجة إلى الديمقراطية كمدخل للإصلاح والتحديث، فليس ذلك لأن هنالك نموذجاً قاطعاً للديمقراطية يحمل طابع الأمركة· فهذه الديمقراطية التي تُنتهك في الولايات المتحدة، خصوصاً بالتساوق مع حرب العراق، لم يكن لها بالتالي أن تجد تطبيقها في المجتمعات القطرية العربية·

    ذلك أولاً؛ أما من ناحية أخرى فإن اتهام الولايات المتحدة للبلدان العربية بتغييب الديمقراطية عن شعوبها، ليس أمراً باطلاً· لكن الأمر الباطل يكمن في زعمها أنها أتت إلى العراق لتحرره وتؤسس للديمقراطية فيه· وهذا ما تؤسس عليه قيادات تلك البلدان لعبتها القائمة على رفضها للولايات المتحدة وهي ضالعة معها، وعلى رفضها للديمقراطية في بلدانها باسم كونها مستجلبة من خارج· وعلى هذا، فإن ما يروّج له مثقفون سوريون وعرب آخرون، في مناسبات متعددة في إطار الخطاب السياسي العربي المراوغ، إنما هو وجه من أوجه تعقيد الموقف العربي عمقاً وسطحاً.

    دمشق في 28 أكتوبر 2003

    إشكالية التنوع الثقافي بين اليونيسكو والولايات المتحدة

    أعلن مؤخراً أن الولايات المتحدة عادت إلى منظمة اليونيسكو، وقد أتى ذلك بعد عشرين عاماً من الغياب، غياب الأولى عن الثانية· وإذا كانت الولايات المتحدة قد انفصلت عن اليونيسكو قبل ذلك التاريخ لأسباب منها مسألة دفع مستحقاتها المالية، فإن عودتها الآن إلى الحظيرة تثير قلقاً في بعض أوساط الأعضاء· فالمرحلة الآن غير المرحلة المنصرمة والتي تعود إلى عام 1984 الآن تعود الولايات المتحدة إلى المنظمة الدولية بعد أن أعلن بوش الأب في أعقاب حرب الخليج الثانية أنه زعيم العالم، وبعد حرب البلقان ببداية تكريسها هيمنةَ الولايات المتحدة على العالم، وأخيراً بعد انتصار قوى التحالف على العراق بزعم امتلاكه أسلحة دمار شامل لم تُكتشف بعد ، إضافة إلى تهديد سوريا بـ قانون محاسبة سوريا في الكونغرس الأميركي··· إلخ· إنها -بكلمة- مرحلة الهيمنة الأميركية، التي يراد لها أن تكون كونية وفي العمق في ظل نظام عولمي جديد آخذ في التصاعد·

    من هنا، لم يعد السؤال التالي نافلاً: لماذا أتى توقيت عودة الولايات المتحدة إلى اليونيسكو في مرحلتنا الراهنة؟ ويبدو أنه في سبيل وضع اليد على إجابة قريبة إلى المصداقية على هذا السؤال، ضروريٌ أن نشير إلى ما نراه حاسماً في تعريف النظام العولمي الجديد المذكور، وأن نوظف هذا التعريف في خدمة الموقف المعني (التنوع الثقافي)· فالنظام المذكور هو ذلك الذي يسعى -عبر تجلياته الاقتصادية والعسكرية والسياسية والثقافية- إلى ابتلاع الطبيعة والبشر، وإلى هضمهم وتمثلهم ومن ثم تقيئهم سِلَعاً في السوق الكونية السّلعية الجديدة· في هذه الحال، تتحول السوق إلى مقولة شاملة تتجلى اقتصاداً، كما تتجلى سياسة وثقافة وقيماً وأدياناً··· إلخ· وهذا يعني أن الثقافة تصبح واحداً من رموز كثيرة مهمتها تسويق تلك السوق· ها هنا، يتوقف الحديث عن ثقافات متعددة تعبّر عن خصوصيات الشعوب والأمم في تقدمها وكفاحها من أجل حياة أفضل·

    وإذا كانت تلك الثقافات المتعددة مرشّحة لـ التوحيد بوشم السوق المذكورة عبر تحويلها إلى رموز سوقية، فإن ثقافات أخرى مهيأة للقفز إلى المقدمة في حياة الشعوب والأمم، وهي من نمط فقد جدواه الإنساني وربما تحول إلى عائق لتقدّم المعنيين من الناس· هكذا حال التقاليد والعادات والتوجهات القبلية والعشائرية والطائفية والإثنية والمذهبية، التي تحضّ على العزلة والتفرّد العرقي والتعالي ورفض الآخر ··· إلخ· إن حديثاً عن تعدد ثقافي هنا أمر وارد، ولكن في سياق التّفتيت والتّشْظية على نحو يقف في وجه مجموعة من المفاهيم، مثل الإنسان والوطن والأمة والنهضة والتقدم التاريخي· وإذا وضعنا في الاعتبار أن تلك التقاليد والعادات والتوجهات تخضع الآن لكثير من محاولات الاختراق من موقع إعلام عولمي عملاق في حقول القيم والسياسة والثقافة والجنس والفن، فإننا سندرك كم هو خطير ذلك الناتج عن هذه العملية: إنها إنتاج أنماط ثقافية (بالمعنى الأنتروبولوجي) قائمة على التلفيق وعلى إمكانية تكوين هوية هجينة مبعثرة بين أطراف متعددة وفاقدة للتوازن والانتماء·

    ويزداد موقف الولايات المتحدة وضوحاً من قضية التنوع الثقافي على صعيد الشعوب والأمم، حين نعلم شيئاً عن موقفها من مشروع الاتفاقية الدولية للحفاظ على التنوع الثقافي، الذي سيأخذ مع عام2005 صيغته في نطاق التصّويت عليه· ذلك أن هنالك ما يقترب من الرغبة العامة ضمن اليونيسكو في منح إعلان هذا الأخير سلطة قانونية وأخلاقية ملزمة بالأخذ بـ التنوع الثقافي من النمط الأول، أي القائم على احترام التنوع الثقافي لدى الشعوب والأمم وعلى الإقرار به بوصفه حالة ملزمة دون إكراه· وللعلم؛ فقد تبنت اللجنة الرابعة للجمعية العمومية لليونسكو نصاً يقترح اتخاذ قرار حول جعل مسألة التنوع الثقافي موضع معاهدة دولية· فما كان من السفير الأميركي الجديد لدى اليونيسكو إلا أن عبّر بوضوح عن رأيه في مشروع الاتفاقية، حين قال: إنها فكرة سيئة!

    حقاً، إنها فكرة سيئة لنظام يؤسس لتوديع عالم صنعه الناس بعجره وبجره ولكن بإرادتهم وحرياتهم عموماً، واستقبال عالم يضج بالسلاح والفوضى والبشر النكرات إضافة إلى أنماط جديدة من الموت؛ مع الإقرار بتقدم جنوني في حقلي الاتصالات والمعلومات!

    دمشق في 5 نوفمبر 2003

    المصير التاريخي للخطابين القومي والديني

    منذ بواكير النهضة العربية الحديثة (أواخر القرن الثامن عشر) أخذت تبرز عملية تنابذ وتقارب بين الخطاب القومي العربي والخطاب الديني الإسلامي· ولم تكن العوامل الداخلية وحدها المؤثرة في ذلك، بل كانت العوامل الخارجية، كذلك، فاعلة مؤثرة، وإن بقدر أقل· ومن طريف الموقف التاريخي أن تأخذ العوامل الخارجية صيغاً هي أقرب إلى الهزل والنفاق· وقد ظهر هذا خصوصاً فيما قام به نابليون بونابرت في أثناء تدخله في مصر وغزوه لها· لقد قدّم نفسه للشعب المصري على أنه ما أتى إلى بلده، إلا ليحرره ممن أطلق عليهم المماليك الكفّار، فهو -من ثم- مؤمن مسلم·

    ومن طرف آخر، كان هنالك من مارس دور العربي، مع أنه ليس كذلك· وهذا ما لاحظناه في مسلك محمد علي باشا حاكم مصر وابنه إبراهيم باشا، مع الإشارة إلى أن الأمر في هذه الحال لم يكن هزلاً ونفاقاً· ومذكرات إبراهيم هذه تقدم أدلة على ذلك، حين أعلن أن هدفه تمثل في التأسيس لدولة عربية مصنّعة عصرية· ومع ذلك، ظلت مهمة التأسيس لعلاقة مثمرة بين العروبة والإسلام في عصر النهضة وحتى الآن، قائمة ومشكلة· ولعل ذلك سيبقى مسألة مطروحة أمام المثقفين والمفكرين والسياسيين العرب والمسلمين، إلى مدى آخر مفتوح· أما هذا التقرير فيأتي الآن من الاضطراب الهائل، الذي أخذ يخترق العالم العربي والإسلامي كجزء من العالم كله·

    وما يمكن ملاحظته من عناصر جديدة في المسألة المذكورة قد يتمثل فيما قدمه الرئيس الأميركي بوش في خطابه الأخير· ففي هذا الأخير شنّ بوش هجوماً صاخباً حاداً على سوريا وإيران، قد يمكن قراءته بمثابته موقفاً مضاداً للخطاب القومي في سوريا وللخطاب الديني في إيران· وبالأصل، يمكن وضع اليد على الفكرة الأساسية التي تكمن في هذين النمطين من الخطاب من موقع الخطاب العولمي الأميركي ذاته· فهذا الأخير يفصح عن نفسه -مع محددات أخرى- في التأسيس لما يطلق عليه الما بعْديات، ما بعد الوطن وما بعد الأمة وما بعد الحداثة، وكذلك ما بعد القومية وما بعد الدين···إلخ· ويراد من هذا أن يؤكد على ذلك كله، لأنه استنفد أغراضه· أما البديل عن ذلك فيتمثل في السوق بمثابته حقلاً تتحدد في ضوئه كل أشكال الحياة الاجتماعية والسياسية والقيمية والجمالية، إضافة إلى الاقتصاد والتكنولوجيا وغيرها·

    وإذا خصصنا الأمر أكثر، لعلنا نلاحظ أن موقف بوش الجديد يأتي، بقدر ما على الأقل، رداً موارباً وحانقاً على الهزائم اليومية التي يواجهها الأميركيون في العراق· وعلى هذا، إذا كانت هذه الهزائم تأتي من عراق كان يأخذ بالخطاب القومي العربي، بنحوٍ أو بآخر، فإن من اللازم التصدي لمثيله في دمشق، حتى إذا ظهر أن هذا يختلف عن ذاك· وثمة نقطة دقيقة تقوم على أن الخطاب القومي المذكور، الذي يلوّح بتصفيته، إنما هو خطاب أخفق وانتهى، في أساسه، بالصيغة التقليدية المتخلفة، التي تلبس بها: منتزعاً من الديمقراطية والعقلانية والحداثة التنموية· أما يمكن أن يكون الخطاب القومي العربي قابلاً لأن يأتي في صيغة أخرى هي بالضبط تلك التي تلح على الديمقراطية والعقلانية والحداثة التنموية· وهنا يصح القول، إن مثل هذه الصيغة تمثل مشروعاً عربياً سيظل معلقاً ومشكلاً، إلى أن يتكون حامله الاجتماعي التاريخي في حقل الشعوب العربية·

    أما الخطاب الديني، الذي يرشحه بوش للابتلاع أو الإقصاء فلعله يجسد أحد أوجه المشروع العربي المذكور، وذلك بمعنى أن الحديث هنا عن إسلام سياسي ودولة إسلامية يظل مدعواً إلى أن يجد مسوغاته في هذا المشروع ذاته· إن العلاقة بين الإسلام والعروبة ذات بعد تاريخي وبنيوي لا ينفصم، مع الإشارة هنا إلى أن الإسلام إنما يعني، هنا، الإسلام الحضاري المتآخي مع التقدم، كما في التسامح والاقرار بالغير موضوعياً·

    وفي هذا وذاك، نرى أن رهان بوش إنما هو رهان على إخراج العرب والمسلمين من التاريخ.

    دمشق في 11 نوفمبر 2003

    الاستبداد بين بريجنسكي والحجّاج

    مع عملية التحول من خطاب أسلحة الدمار الشامل إلى خطاب الديمقراطية، كما لاحظناها في خطاب الرئيس بوش الأخير خصوصاً، عادت إلى الديمقراطية نكهتها الخاصة وأهميتها الاستراتيجية في الاستراتيجية الأميركية حيال البلدان العربية وبلدان أخرى في العالم· فإذا اتضح أن حديثاً عن أسلحة دمار شامل في العراق أو في سوريا فقد مصداقيته وظهر زائفاً مُلفّقاً، فإن حديثاً آخر أخذ يظهر إلى الحياة السياسية الأميركية وهو حديث الديمقراطية· ومن شأن هذا أن يضع يدنا على أن النظام السياسي الأميركي يتعامل مع أكثر من خيار على صعيد مسألة دولية أو أخرى· وفي هذا إشارة ضمنية نقدية إلى أن معظم تجليات النظام السياسي العربي تستند إلى خيار واحد قد يستمر خمسين عاماً، كما هو الحال على صعيد بلدان الطّوق أو بلدان جبهة الصمود ، كما تريد أن تسمي نفسها·

    والحق، أن في الخطاب الأميركي الجديد عنصراً من المصداقية· ففي كل بلدان العالم العربي تلقى الديمقراطية عزوفاً من قِبل حكوماته وأجهزته التنفيذية، ويظهر فيها قانون الطوارئ علناً أو ضمناً، وليس في هذا جديد! أما الجديد الطريف في ذلك فيبرز في عملية التحوّل المذكورة فوق من خطاب السلاح إلى خطاب السياسة، الذي يخفي، بمراوغة ونفاق، دور الولايات المتحدة في تكريسها لعناصر الاستبداد في النظام السياسي العربي، أي في ما تريد أن تصلحه وتطوره في هذا النظام· وفي هذا يفصح عن نفسه أحد المبادئ الموجهة للاستراتيجية الأميركية حيال العالم الآخر ، وهو أن يتدخل الأميركيون في بلد عربي أو آخر كي يؤسّسوا للفساد السياسي والاقتصادي والثقافي فيه أو يسهموا في ذلك، ليأتوا بعدها ويعلنوا ضرورة قيامهم بدور من يسعى إلى رفعه وتجاوزه، كما فعلوا تماماً في العراق·

    أما العنصر الثاني في ما تقدمه الاستراتيجية الأميركية الآن فيقوم على فهم السياسة بوصفها حرباً عسكرية· ويظهر ذلك للعيان في ما أعلنته الإدارة الأميركية مراراً، وخصوصاً بعد إخفاقها في اكتشاف أسلحة دمار شامل في العراق، من أنها أتت بالأصل إلى العراق لـ تحرره من طغاته، أي لتقوم بدور المحرر له من الاستبداد: إنه خطاب مركّب معقد ينتقل من الحدود إلى الحدود، من السلاح إلى السياسة ومن الحرب إلى السلام، ولكن كذلك من السياسة إلى السلاح ومن السلام إلى الحرب· وإذا كان الأمر كذلك، فإن إنتاج الديمقراطية في العراق يستدعي القيام بعمل عسكري مسلح لإصلاح واقع الحال: فأي خطل ونفاق يكمن في ذلك؟ كيف يبيح الأميركيون لأنفسهم حقّ التدخل في شؤون بلد أو آخر باسم العمل على تحريره من طغاته، الذين ما استمروا إلا بتأثير عوامل متعددة منها دعم الأميركيين لهم·

    في هذا السياق المُفعم بالكوميديا السوداء القارصة، مهم أن نستعيد ما قاله بريجنسكي لأحد وزراء الداخلية في النظام العراقي السابق في أثناء حوار جرى بينهما: إذا أردتم أن تضبطوا أوضاعكم، فعليكم أن تجعلوا شعبكم يترحّم على الحجّاج! لقد قدم بريجنسكي -في ذلك- نصيحة بالغة الدقة والعنف للمسؤول العراقي، فتحقق للشخصيتين ما أرادا، الأول (الوزير) في إحكام القبضة على شعبه، بحيث إذا ما قرر الأميركيون دخول العراق بهدف تحريره ودمقرطته، فإنهم يجدون أنفسهم أمام جيوش دون شعب؛ والثاني (بريجنسكي) في النصر الذي حققه عبر الإسهام في شلّ طاقة العراق الحقيقية، إذا ما جدّ الجدّ!

    إن الحديث مجدداً عن الديمقراطية في العراق، الذي يقاتل بعض شعبه الآن قوات الاحتلال الأميركي، تحول إلى لغة رمزية لعلها تتضمن رمزين اثنين على الأقل· أما الرمز الأول فهو خربطة الحدود بين القانون الدولي وقانون الغاب، وبين الإخفاق الأميركي العسكري والبحث عن خيار آخر يكرّس التدخل في العراق· لكن الرمز الثاني يُفصح عن أن العالم لا يحتمل وجود قطب عولمي واحد، خصوصاً إذا كان فاقِد الأهلية لاحترام الآخرين.

    دمشق في 18 نوفمبر 2003

    بن لادن والمشروع العربي الإسلامي

    تتسع دائرة الأحداث محلياً وإقليمياً ودولياً وتتسع معها دائرة العنف والعنف المضاد، وتجد مجموعات وكتل بشرية متعاظمة نفسها أمام مخاطر تأخذ عليها أنفاسها· وفي هذا وذاك تبث أجهزة الإعلام العملاقة من الأنباء والأفكار والخطب ما يجعل الأمر أكثر التهاباً وقلقاً· وفي هذا الإطار نفسه قلّما يمرّ خطاب أو نبأ أو مناسبة سياسية دون أن ترد مجموعة من الأسماء والمصطلحات والأفكار، التي يجري تداولها على ألسن الناس، ومنها اسما بوش وبن لادن، ومصطلحا محور الشر ودار الكفر· ولعل المتتبع للأحداث، مع دراية أولية بمسائل التقدم المعرفي، يضع يده على علاقة عميقة ولكن مسكوت عنها غالباً بين الاسمين المذكورين، وكذلك بين المصطلحين المشار إليهما· فالنموذج الذي يمثله الرئيس بوش يشير إلى ما يعتقد أنه النموذج النقيض المتمثل في بن لادن· ولكن تدقيقاً في العلاقة بينهما يمكن أن يقودنا إلى أنها ذات طابع يقوم على التضايف، بمعنى أن الواحد منهما يفهم بمزيد من العمق حين ينضاف إلى الثاني·

    وإذا سرنا خطوة أخرى إلى الأمام، لعلنا نجد أنفسنا وجهاً لوجه أمام حقيقة طريفة مرة، وهي أن النموذج الأول (البوشي الأميركي) هو أحد الأسباب الكبرى الكامنة وراء النموذج الثاني (البنلادني الإسلامي)· فانطلاقاً من الفهم الوظيفي في العلوم الاجتماعية والسياسية، يمكن طرح الفرضية الكبيرة القائمة على القول إن الفكر الأميركي السياسي المعاصر والراهن خصوصاً هو الذي أنتج بن لادن وصنعه للقيام بمهمتين اثنتين· أما الأولى منهما فتتحدد في أن الفكر المذكور أنتج بن لادن كي يمثل أحد المداخل الاختراقية إلى الفكر الإسلامي والمسلمين، وذلك على أساس أن الرجل أعلن نفسه، شيئاً فشيئاً، بمثابة المدافع عن الإسلام الظلامي التكفيري، الذي يستطرد بالحقيقة وبالوجود في الحقل الإسلامي· إذاً، بن لادن هذا ينصّب، أميركياً، على أنه المعبّر عن الإسلام وعلى أنه المرجعية في ذلك· وهكذا، يكون بن لادن حصان طروادة أميركياً يمتطيه أمثال بوش ورامسفيلد وباول لتقديمه مسوّغاً لاستباحة العالم الإسلامي والعربي القائم، بمقتضى ذلك، على التكفير والإرهاب لمن يخالفه من المسلمين أولاً، ولمن يقف في وجهه من الكفار في الغرب والشرق ثانياً·

    أما المهمة الثانية المنوطة بـبن لادن، أميركياً، فتتمثل في اللفّ على المشروع العربي الإسلامي في النهضة والتنوير، وذلك بصيغة اختطاف هذا المشروع من حامله الاجتماعي والسياسي المتمثل في الجماهير العربية والإسلامية، وتحويله إلى مشروع من الصراع المسلح والتفجير والاغتيال والمنازلة، ومن ثم إلى اختزال المسألة كلها إلى انتحار فردي أو جماعي في سبيل قتل جموع من الناس قد لا تكون لهم أو لبعضهم علاقة بالمسألة كلها· وبهذا، يتم التفريط بجوهر الموقف (الأميركي السلطوي الرئيسي)، ليستبدل بمواقف ثانوية أولاً، ولتؤدي -في حال التصدي لها- إلى تدعيم ذلك الجوهر؛ وهذا بغض النظر عن مصداقية النوايا التي يمتلكها أصحاب هذا الفعل أو بعضهم من البِنلادنيين·

    إن المشروع العربي الإسلامي، الذي يضع نصب عينيه أهداف تحرير العالمين العربي والإسلامي وإنهاضَهما، يرى في الجماهير المذكورة أداته الحقيقية النافذة، التي إذ تقوم بمهمتها هذه فإنها تكون قد انطلقت باتجاه تلك الأهداف، التي تقع هي منها بمثابة المركز· وهو بذلك مشروع أمة بأطيافها كلها، التي تندرج تحت سقف الوطن· ومن شأن هذا أن يؤكد على مجموعة من المبادئ، التي لابد أن تحرك ذلك المشروع إضماراً وإعلاناً، ومنها الحرية والتعددية والعقلانية، إضافة إلى مبادئ الوطن واحترام حقوق الإنسان والتنوير والالتزام بالشرعية الدولية العادلة والسيادة والقانون وحق الشعوب في تقرير مصيرها·

    وكيفما الأمر، فإن القصور الأكبر سياسياً ومعرفياً ودينياً، في النشاط البِنلادني يكمن في استبدال الانتفاضة والمقاومة بأفعال فردية أو جمعية لا تفشل في تحقيق مبتغاها فحسب، بل تقدم كذلك للخصم مسوّغات وحججاً للانقضاض على العالمين العربي والإسلامي بمزيد من القوة والمكابرة والمراوغة على الأقوال والأحداث والاضطرابات الراهنة·

    إن فكّ الارتباط بين المشروع العربي الإسلامي مع البِنلادنية يبدأ بالوعي التاريخي والفعل المقاوم·

    دمشق في 25 نوفمبر 2003

    الفكر السياسي العربي أمام إشكالية زائفة:

    إما التحرر من الأجنبي وإما الديمقراطية!

    يعيش العرب راهناً، نُظُماً وشعوباً ومؤسسات للمجتمع السياسي، إن وجدت، حالة أو شبه حالة من الحوار السياسي حول أعقد مسألة عامة يواجهونها، كما تتجلّى اختلافاتهم المصيرية حولها، مع الإشارة إلى ضيق هامش هذا الحوار ومحاولة النُظم العربية التضييق عليه، أو تحاشيه، أو تجاهله، أو التقليل من أهميته، وفي حالات قصوى منعه وملاحقة من يدعو إليه أو يمارسه، نعني بذلك المسألة الإشكالية التي تُفصح عن نفسها بصيغة السؤال المركّب التالي، الذي طالما طرحه ويطرحه كثيرون: ما العمل في المرحلة الراهنة، مرحلة تفكُّك العرب ومحاولة إخراجهم من التاريخ، ما الذي يتعيّن علينا أن ننجزه من استحقاقات؟ وهل تتمثل هذه الاستحقاقات في حصر الجهود في بوتقة واحدة هي (التحضير) لمقاومة (ما) للغزاة الأميركيين وحلفائهم الحاليين والآخرين المُحتملين؟ هل تتحد هذه المقاومة -فيما إذا قُرّر العمل بموجبها- في التحضير لمعركة أو لمعارك عسكرية ومسلحة نخوضها ضد المعتدين؟ أم هل تتحدد تلك الاستحقاقات في إنجاز مشروع سياسي تقف في مقدمته مسائل الديمقراطية وإعادة بناء المجتمع السياسي والمدني، بحيث يكون ذلك بمثابة القاعدة الحضارية، الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية وغيرها، للدخول -في ما بعد- في مرحلة المواجهة المباشرة للمعتدين والطامعين في أرض العالم العربي وثرواتها وقوتها الديمغرافية (السكانية)؟

    إن الحوار الذي يدور علناً وضمناً في أوساط عربية وإسلامية راهنة يكاد يأخذ صيغته الرئيسية بذلك التخيير بين الأول والثاني من طرفي المعادلة، التي أتينا عليها: فإما هذا، وإما ذاك! ولعلنا نضع يدنا على ملاحظتين اثنتين يمكن أن تُسهما في التقاط إحدى خصوصيات كلّ من الطرفين المذكورين· أما الملاحظة الأولى وتتصل بوجهة نظر مَن يرى في (التحرير والمقاومة والمواجهة) منطلقاً للعمل العربي الآن، فقد تتحدد في أن هؤلاء (باستثناء المنتفضين في فلسطين والمقاومين في العراق) أقرب أن يكونوا إلى الدفاع عن النظام السياسي العربي وأبعد من طرح مسائل الديمقراطية، التي يرونها الآن غير قائمة على بساط البحث· ومن ثم، فأولئك هم أميل إلى (إرجاء) استحقاقات الديمقراطية لصالح (لمِّ الشمل الوطني) في وجه العدو التاريخي الصهيوني والاحتلال الأميركي الراهن للعراق· وقد برزت وجهة النظر هذه منذ عقود خمسة تمتد على تاريخ الاستعمار الصهيوني الاستيطاني لفلسطين، وكانت تشتغل على مبدأ غدا شهيراً في الأدبيات السياسية والحزبية العربية وهو: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة!

    أما الملاحظة الثانية فتتعلق برأي الآخرين القائلين بضرورة تسبيق الديمقراطية على (المقاومة والتحرير)، وتقوم على القول إن إنجاز هذا الاستحقاق الأخير إنما هو طريق موضوعي شرطي يأتي بعد إنجاز الاستحقاق الآخر، الأكبر، أي الديمقراطية· وهنا، يتساءل هؤلاء عمّن سيقوم بأداء استحقاق الديمقراطية، ويجيبون: إنه الشعوب العربية الحرة من الاستبداد والقادرة على صياغة مصائرها التاريخية، وليس تلك الشعوب التي تئن تحت قبضة المستبدّين الذين يستفردون بالسلطة أولاً وبالثروة ثانياً وبالإعلام ثالثاً وبمرجعية الحقيقة رابعاً! وبهذا، فالموقف هنا يتمثل في أرجحية الديمقراطية على شؤون الدفاع والحماية والمقاومة وكل ما يدخل في هذا الحقل· ولعلنا نرى -مع بعض التحفظ والحذر- أن فرقاء من ممثلي هذا الرأي يمكن أن يكونوا ذوي نزوع إلى تسويغ (الاحتلال) أو (التحرير) من خارج على حساب القبول بالاستبداد، معلنين -ببعض الحق الخفيف- أن إزالة هذا الاستبداد لن تأتي من الداخل، طالما أن هذا الداخل محاصرٌ بقضّه وقضيضه من قبل (دولة أمنية) تطرح شعاراً لها في ضرورة أن يُفسد من لم يُفسد بعد، بحيث يصبح الجميع مُداناً وملوثاً فاسداً تحت الطلب!

    إن الإشكالية المأتي عليها سوف تفصح عن نفسها من حيث هي أمر زائف خاطئ وقاصر معرفياً، إضافة إلى كونها قد تُنتج مخاطر على صُعد كثيرة ضد الوطن· ولعل الأقرب إلى الحقيقة يتمثل في النظر إلى الأمر من حيث هو موقف واحد بوجهين اثنين، كلاهما يُفضي إلى الآخر، الديمقراطية والتحرير· فالسؤال حول الديمقراطية هو كذلك سؤال حول من ينجز مهمات التحرير وكيف وضمن أية آفاق؟ وكذلك، سؤال التحرير هو سؤال حول ما إذا كانت الديمقراطية تأتي على دبابات الغزاة، أم هي فعل داخلي أولاً؟

    دمشق في 1 ديسمبر 2003

    من أين ينطلق الموقف: من الفساد أم من الاستبداد؟

    تتعاظم وتائر الفساد في كثير من بلدان العالم، ومن ضمنها بلدان عربية· وفي سياق ذلك ومعه، تُلاحَظ ظاهرة أخرى متمّمة وتكاد تتحول إلى حضور كثيف في حياة قطاع كبير من المجتمع العربي، ونعني بها ظاهرة الإفساد· ويأتي ذلك بدوره متمّماً لحالة التخلف، الذي يُراد له أن يصير تخليفاً، أي حالة من ديمومة التخلف وتأبيده· وفي هذا وذاك، يتجه باحثون وسياسيون نحو تقصّي الأسباب الكامنة وراء ذلك والمرجعية التي تكرسه· ويمكن أن يضع هؤلاء أيديهم على أسباب ومرجعيات مختلفة لما نحن بصدده· ولكنهم سيواجهون بالضرورة إحدى هذه المرجعيات مجسدة، بالضبط، في (الفساد)·

    وكي نضبط الموقف، نشير إلى أن ما نعنيه بالفساد ويتجلى في ثلاثة مستويات، هي السلطة والثروة والإعلام· ومن ثم، يغدو الفساد، هنا، استفراداً بالسلطة وبالثروة وبالإعلام، على نحو الخصوص· في عملية الاستفراد هذه تغيب الديمقراطية والعدالة والحرية في الرأي· وحيث يصير الموقف متمثلاً في هذه الحالة، فإنه يغدو من طبائع الأمور أن تنشأ حاضنة خصبة لنشوء أنماط متعددة من الفساد تتوزع تلك الحقول الثلاثة الرئيسة، إضافة إلى حقول أخرى تخومية، مثل القضاء والتربية والتعليم· أما الفساد ذاته فهو -بالتعريف- انحراف عضوي أو قصدي من أهداف وآليات وقيم خطةٍ ما في حقل ما من حقول المجتمع، وذلك على نحو يؤدي إلى اختراقها وإخراجها عن نسقها، الذي قُدّمت فيه· وحين يتخذ الفساد طابعاً قصدياً، فإنه يتحول إلى إفساد تقبع وراءه قوى تفيد منه اقتصادياً أو سياسياً أو إعلامياً أو ما يتصل بأوضاع أخرى، أو كل ذلك مجتمعاً·

    وإذا كان الأمر كذلك، فلعلنا نستنبط نتيجة كبرى في نطاق معظم الدول العربية، وهي وجود بل ربما هيمنة حالة من الفساد والإفساد فيها، طالما أنها في أوضاعها العامة تقوم على الاستفراد بالسلطة والثروة والإعلام وغيرها· وقد أخذت تلك الأوضاع تتعاظم في تأثيراتها المدمّرة في حياة أفراد تلك الدول المعنية إفقاراً وتهميشاً وإذلالاً· وإذا كنا متنبّهين للتأثيرات الخارجية التي تسهم بقوة في تثبيت وتعميق الأوضاع المذكورة في البلاد العربية المعنية، وخصوصاً تأثيرات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، إلا أننا نرى أن الداخل العربي بنظمه السياسية والاقتصادية والإعلامية هو أولاً موضع المساءلة· هذا أولاً؛ أما ثانياً، فيلاحظ أن (الفساد) و(الإفساد) إذا كانا -في اعتبار أول- من نتائج الاستبداد المحدد هنا، فإنهما -في اعتبار ثان- يسهمان بقوة في تثبيته وتوطيده وتسييده· وهذا ما يعني -ضمن ما يعنيه- تحول دول الاستبداد إلى لقمة سائغة في نظر الغزاة الطامعين الاستعماريين·

    في ضوء ذلك، تظهر خطورة (الدراسة)، التي وضعتها مؤسسة (الشفافية الدولية) Transparency International قبل بضعة أسابيع في لندن· ففيها نضع يدنا على واقعة هي أن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا -أي الحزام العربي لهذه القارة- يمثلان المنطقتين (الأكثر فساداً في العالم)، إضافة إلى اثنتي عشرة دولة فيهما تمثل (قمة الفساد) ضمن جدول تكوّن من مئة وثلاثة وثلاثين دولة· وجدير بالذكر أن واضعي هذه الدراسة أحالوا طغيان الفساد في الدول المذكورة إلى (النظم الفردية غير الديمقراطية التي تلجأ إلى توزيع مغانم الشعوب على شريحة صغيرة مؤيدة لها، وإلى مجموعة من رجال أعمال في كل دولة تحميها تلك النظم، وتتقاسم وإياها الصفقات الداخلية والخارجية· تفعل ذلك لتكدّس مليارات الدولارات في بنوك إقليمية أو دولية لحسابها الخاص، وكذلك لحساب عائلاتها وأقاربها والمقربين منها)·

    بتلك الصيغة المثيرة تتضح أمامنا وقائع خطيرة تصل في خطورتها إلى حدّ السيف المسلط على رقاب الشعوب العربية· وتغدو تلك الصيغة أكثر إشكالية ومدعاة للقلق والاضطراب، حين نأخذ بالحسبان أن ذلك غالباً ما كان طريقاً معبدة لاستباحة البلدان والشعوب المعنية من قبل الطامعين بأنماطهم واتجاهاتهم المختلفة· وفي هذه الحال، لا يصح تناسي الدرس العراقي ودروس (عربية أخرى محتملة)، خصوصاً منها تلك التي تنتمي إلى حكومات عربية لا تعتبر نفسها، حتى الآن، (معنية) بما حدث في العالم وفي العراق، إلى درجة أنها لم توجّه أي بيان إلى شعوبها بشأن ذلك·

    إن الفساد والإفساد بتجلياته المتعددة إنما هي وضعيات تجد مرجعياتها في نظم سيا-اقتصادية وأيديولوجية يمكن أن تقود بلدانها إلى كوارث لا بد من أن تدفع ثمنها·

    دمشق في 8 ديسمبر 2003

    حوار الحضارات (خارج التاريخ)

    درج الكثير من المثقفين والباحثين والمفكرين والمؤرخين والسياسيين العرب منذ الحادي عشر من سبتمبر خصوصاً على إثارة قضية (الحوار بين الحضارات)· وراح البعض أو الكثير من هؤلاء يطرحونها في ضوء الاستحقاقات، التي فرضتها أشباح ذلك (الحادي عشر)· وإذا افترضنا، مع أعداد كبيرة من الدارسين في الشرق والغرب، بأن هذا اليوم المشؤوم كان من صنيعة الأميركيين أنفسهم، على الأقل جزئياً، وأنه من ثمّ أنتج مشكلات زائفة من نمط التصنيف الدولي الزائف: من ليس معنا، فهو ضدنا، فإنه كذلك أنتج اضراباً وارتباكاً في أوساط أولئك المثقفين والباحثين··· إلخ، في رؤيتهم لقضية الحوار المذكورة، أي -تحديداً- الحوار بين أوروبا والإسلام تخصيصاً بين الغرب والشرق على نحو العموم·

    أما وجه الاضطراب والارتباك الأساسي في ذلك فقد ظهر في وضع ذينك الحقلين موضع التقابل والتعارض وربما كذلك التضادّ، بحيث أصبح الطريق معبداً للقول بـ(تضاد عنصري)· ويأتي ذلك باسم الحفاظ على (خصوصية) كل من الطرفين المعنيين، الغرب والشرق وأوروبا (ومعها أميركا في هذا السياق) والإسلام (أو العرب كما يظهر عند عدد من الكتاب)· وإذا كان الأمر كذلك، صار حرياً بنا أن نقول ما قاله الشاعر البريطاني: الشرق شرق، والغرب غرب ولا يلتقيان· وبهذا، يكون ما نسميه (حواراً) قد تحول إلى تكريس التخوم والحدود الصماء، التي تفصل بين الحضارات وشعوبها· هذا أولاً· أما من طرف آخر، فيظهر الاضطراب والارتباك المأتي على ذكرهما في صيغة أخرى من (الحوار) بين الحضارات، وتقوم على التقابل بين مستويين تاريخيين مختلفين لحضارتي الشرق والغرب، والإسلام وأوروبا· وحيث يكون الأمر كذلك، فإن الحوار يغدو بين الغرب (الراهن) القائم على التقدم الهائل على أصعدة التكنولوجيا والمعلوماتية والمواصلات والاقتصاد و التعبئة العسكرية الحربية، بما تتضمنه من أسلحة دمار شامل، من جهة، وبين الشرق (المنصرم) وما تضمنه من أديان خصوصاً الإسلام، من جهة أخرى·

    وعبر نظرة فاحصة لواقع الحال المعروض ها هنا، تتضح اتجاهات تكسير السياقات التاريخية والسيوسيوثقافية لحضارتي الشرق والغرب، بحيث يفقد (الحوار) بينهما كل مصداقية علمية، ليتحول إلى تقابل فاقدٍ للدلالة والتاريخية، ومن ثم غير منتج على صعيد المعرفة· وفي مثل هذا الموقف، تبرز أمثال الزعم التالي: الغرب أكثر تقدماً وأكثر قابلية للتقدم، في حين أن الشرق أقل تقدماً وأقل قابلية للتقدم· وفي هذا وذاك تكون الشروط التاريخية، التي أنتجت كلتا الحالتين، قد أطيح بها وغُيّبت، لتحل محلها آراء تظهر (لقيطة)، أي لا نسب لها في تاريخ البشر·

    إن مثل ذلك النمط من (الحوار بين الحضارات) ظهر في مؤتمر عقد مؤخراً في بيروت بين الثامن والعاشر من هذا الشهر (الثاني عشر) ضمن مؤسسة (بيروت التراث)· وكنا مع آخرين من الباحثين والمفكرين والمثقفين ممن شاركوا في هذا المؤتمر، قد أسهمنا في مواجهة ذلك النمط الحواري، الذي ظهر لدى بعض المشاركين بصيغة شد الحبل حتى أقصاه باتجاه الغرب وباتجاه الشرق (وقد أخذ الإسلام هنا نموذجاً له)· وقد كان ملموساً أن الحوار حول ذلك في ضوء عقلانية رصينة وموضوعية صارمة مفتوحة يمكن أن يقود إلى نتائج مرموقة، بالاعتبار المعرفي والأيديولوجي· أما النتيجة الأخرى، التي أمكن وضع اليد عليها في هذا السياق، فقد أفصحت عن نفسها بصيغة التأكيد على ضرورة الاهتمام المركز بالإنتاج المعرفي العلمي من قِبل كل من يعمل على صعيد الثقافة والفكر العربي· لأن من شأن ذلك إن أخذ به، أن يسهم في إعادة بناء الفكر العربي نقداً وتدقيقاً وتعميقاً· بمقتضى التقدم العلمي العمومي واحتياجات الوطن العربي، في مرحلة حرجة خطيرة ويُراد له فيها أن يستباح ويخرج من التاريخ المتدفق بحيوية·

    دمشق في 15 ديسمبر 2003

    الفلسفة في (يوم الفلسفة العالمي)

    احتفلت أوساط ومؤسسات ثقافية عديدة في العالم بـ(يوم الفلسفة العالمي)· وكان ذلك قد حدث (قبل أسبوعين تقريباً) متوافقاً مع حدوث مجموعة من اللقاءات الفكرية في بيروت شاركت فيها مجموعات من المفكرين والمثقفين والإعلاميين والسياسيين· أما الموضوعات التي طرحت للحوار والتدقيق فقد توزّعت على التراث والأصولية والعولمة والمرأة العربية والإعلام وغيره· وكان الاحتفال بيوم الفلسفة المذكور قد تم في دمشق تحت عنوان (الفلسفة والنظام العالمي الجديد)· وعلى هذا يبدو الأمر على الصعيد الثقافي والفكري التنظيري العربي كأنه يسعى إلى تكوين ورشات عمل في معظم المؤسسات المعنية في عدد من البلدان العربية، والأمر كذلك· نقول هذا ونحن نعلم أن عدداً ليس ضئيلاً من الخلافات والاختلافات تظهر فاقعة بين أولئك، بحيث يقف المرء أمامها في حالة من الكآبة، ناهيك عن هشاشة بعض ما يطرح من ذلك·

    اشترك عدد من الباحثين والمثقفين وأساتذة الفلسفة في الاحتفال بيوم الفلسفة في دمشق· وأول ما يلفت الانتباه على صعيد ما قدمه معظم أولئك يتمثل في أنهم تجاوزوا عنوان الندوة، وأدخلوا الجمهور في مداخلات كانت أقرب إلى تأملات في الفلسفة وفي بعض التجارب الفلسفية الذاتية· كان واضحاً تماماً ابتعاد المتحدثين عن (موقع الفلسفة في النظام العالمي الجديد)· وعلى الفور كانت تساؤلات جموع من الجمهور قد انصبت على عزوف هؤلاء الغريب عن الأحداث العالمية والإقليمية والمحلية، التي تضع البشرية على حدّ السيف· وازداد الأمر استعصاء، حين اتضح أن هنالك رغبة في (الفكر المجرد) وفي البقاء في (برجه العادي)، وذلك بصيغة ممارسة (القلق الوجودي)·

    لقد كان الاحتفال بيوم الفلسفة العالمي مناسبة أو بعض مناسبة لإثارة ما يمكن أن يحدد القاع الفلسفي للنظام العالمي الجديد ولواقع الحال في الفكر العربي الراهن· ولكن ذلك جرى تجاوزه، بحيث إنه لو لم يُرأب هذا الصدع من قِبل بعض المداخلين، لكان الأمر أقرب ما يكون إلى الكوميديا السوداء· وقد أبرز هذا الأخير مسألتين اثنتين لهما علاقة وثيقة بمفهوم (الحقيقة الفلسفية)· أما المسألة الأولى فتنطلق من (الفلسفة الذرائعية) ذات المنشأ الأميركي والتي ترى مبدأها المركزي متمثلاً في (أن الحقائق تحددها المصالح وتمنحها مصداقيتها العلمية)· ومن ثم، فإن النظام العالمي الجديد ذا الطابع الأميركي يرى أن كل شيء مباح ومسموح به، إذا كان ذلك مستجيباً لمصالحه· وقد قدم هذا النظام أدلة قاطعة على هيمنة مبدئه الفلسفي الذرائعي، حين فعل ما فعله ويفعله في العراق، دونما سندٍ شرعي أو أخلاقي أو سياسي، وحين يدعم المشروع الصهيوني الاستيطاني في فلسطين بكل ما أتي من قوة عسكرية ومالية ودبلوماسية وغيرها في كل الحقول·

    أما المسألة الثانية فتتصل بـ(مصير الحقيقة) التاريخي، كما نظّر له رؤوس النظام العالمي المذكور من الكتاب والباحثين والمثقفين، ولم يعد خفياً على أحد ما أعلنه فرنسيس فوكوياما -مستلهماً الفيلسوف الألماني هيجل- من أن التاريخ يُفضي إلى (نهايته) المجسدة بالولايات المتحدة الأميركية بمثابتها أقصى التاريخ· وإذا كان النظام العالمي-العولمي يتأسس على السعي إلى ابتلاع الطبيعة والبشر وإلى هضمهم وإخراجهم سِلعاً في سوق سلعية كونية (قرية كونية واحدة)، فإنه بذلك وفي سياقه يكون قد بشّر بنهاية (الحقيقة) وكل (الأنماط الأساسية)، التي تكوّنت في تاريخ البشر، مثل العقلانية والتقدم والتاريخ والحداثة والديمقراطية ومفاهيم الوطن والدولة والإنسان والنهضة والتنوير وغيره· ذلك لأن هذه المفاهيم وتلك الأنماط تعيق المسعى العولمي المذكور، وذلك في استمرارها في التبشير بأحلام البشر وتقدمهم· وبكلمة، إن (الحقيقة) -حسب فوكوياما- تتحدد بخطّين اثنين، واحدٍ يتجه نحو وضعها أمام (آخر) حلقة لها ممثلة بالنظام الأميركي العولمي، وثان يمنحها (أي الحقيقة) شخصية قاطعة هي تلك التي تستمد شرعيتها من (السوق السلعية الكونية)·

    بهذا وذاك، نكون أمام نمط من الأيديولوجيا الأميركية العولمية، التي تتحدد بما تتحدد به (الفلسفة الذرائعية-البراغماتية): كل ما يستجيب للمصالح العولمية الأميركية ويحققها، يمثل حقيقة؛ وما يعكس كذلك، خارجها· ومن ثم، فإن الإيديولوجيا المذكورة هي إيديولوجيا التسويغ لتلك المصالح وتعميمها وجعلها مهيمنة في العالم، كما هو الحال بالنسبة إلى (أسلوب الحياة الأميركية)·

    إن الاحتفال بيوم الفلسفة العالمي تحت عنوان (الفلسفة في النظام العالمي الجديد)، بدمشق وغيرها من ا لمدن العربية وغيرها إن هو إلا إشارة باتجاه التحفيز على الفكر العقلي النقدي العربي·

    دمشق في 22 ديسمبر 2003

    استحقاقات جديدة في عام جديد؟

    لعل المثل الشعبي الشهير القائل (اشتدّي يا أزمة، تنفرجي)، يعبّر عن بعض أحلام البشر في السلام والعدل والتقدم· وتبرز هذه الأحلام بقوة أكثر مع نهايات كل عام وبدايات عام آخر، حين تكون هموم البشر آخذة في التعقّد والاضطراب وتنذر بانفجارات يمكن أن تصدع العالم أو التوازن الدولي· في مثل هذه الحال يبحث البشر عن حلول خلاصية متعددة المرجعيات، الدينية والسياسية والأخلاقية، إضافة إلى الدبلوماسية والعسكرية، بل كذلك تلك ذات الطابع الكارثي (كأن يتمنى المظلومون وقوع كوارث طبيعية في صفوف الظلمة)·

    وهكذا مع أعياد الميلاد ورأس السنة الجديدة وبالتداعي مع عيد الأضحى المقترب حثيثاً، يبحث البشر على الأرض كما في السماء عما يخرجهم من (عنق الزجاجة)، الذي أوصلتهم إليه حروب متتالية وصراعات دموية في كثير من أصقاع الأرض، كتلك التي اندلعت في يوغوسلافيا وأفغانستان وفي العراق، وفي فلسطين أيضاً ذات الانتفاضة الداخلية في عامها الرابع تقريباً· إن التبشير ها هنا بما يقترب من نهاية للحروب ومن ثم بالوصول إلى (نجمة الصبح) أمر يمتلك -في هذه الحال- أهمية قصوى في تاريخ العالم· لهذا، فإن ما نشر منذ بعض الوقت في مواقع inosmi.rn لعالم الاجتماع الأميركي والأستاذ في جامعة جورج واشنطن اميتاي اتيزيوني، يثير الكثير من الاهتمام والفضول والقليل -بحدٍ أدنى- من الآمال· يقول الأستاذ المذكور مقرراً أنه (الآن، مع انهيار الامبراطورية الأميركية أمام أعيننا، حان الوقت كي يعرض أنصار العالم متعدد الأقطاب، الذي تمارس فيه الأمم المتحدة دوراً مفتاحياً، مقدرتهم على تحقيق هذه الفكرة· وهكذا فأيام الامبراطورية الأميركية أصبحت معدودة، على رغم أنهم في واشنطن يحاولون عدم رؤية ذلك· فلقد أصبح واضحاً أن النظرية حول إمكانية قيادة العالم بالطريقة العسكرية، لها حدودها)·

    إن ذلك الذي ينظر إليه الأستاذ اتيزيوني بمثابة إرهاص بانهيار الامبراطورية الأميركية، يثير بضعة أمور تتلخص فيما يلي: 1) ربما لم تمر في تاريخ العالم الحديث والمعاصر حالة تماثل ما يحدث على صعيد الامبراطورية الأميركية: تصدع الامبراطورية، التي اعتقد بعض منظرّيها بأنها ستطبع العالم في القرن الحادي والعشرين بطابعها، على الأقل لبضعة عقود إن لم يكن على مدى هذا القرن· أما ما يلفت في ذلك فهو أن ظهور ذلك الإرهاص بالتصدع يأتي في مرحلة زمنية قياسية، في قصرها· 2) تأتي هذه الحالة بعد وضع العالم برمته على كف عفريت، خصوصاً مع ظهور المقولة البوشية القصوى: من ليس معنا، فهو ضدنا! وبعد حدوث (الحادي عشر من سبتمبر) الذي لفقت فيه أكبر كذبة في التاريخ السياسي والعسكري، ووضعت البشرية على حافة (الهاوية الوجودية)· 3) إذا كانت الولايات المتحدة قد شنت عشرات الحروب (تصل إلى سبعين) في مرحلة (عولمتها) وقذفت إلى النار عشرات المليارات من الدولارات وسببت مقتل الآلاف من الناس، فإنها قد تكون لحظة كبرى في تاريخها أن ينتفض حكماء شعبها ودعاة السلام وسيادة الشعوب والعدل في المعمورة كلها، ليطالبوا بوقفة نقدية شجاعة يمكن أن تطرح مثل الأسئلة التالية: لماذا لا يتجه في هذا القرن الحادي والعشرين الاهتمام إلى أن خُمس الأطفال الأميركيين الذين تقل أعمارهم عن اثنتي عشرة سنة يعانون بانتظام من الجوع، وإلى أن خُمس البالغين أميون؟ لماذا لا يفكَّر في تأمين سكن لـ750 ألفاً من الناس ينامون في العراء في حدائق الولايات المتحدة ومحطات سككها الحديدية؟ كيف يمر المسؤولون الأميركيون بسلام على واقعة أنه في كل عام يقتل واحد وثلاثون ألفاً من الأميركيين -من ضمنهم خمسة آلاف طفل- بأسلحة نارية؟ وأخيراً وليس آخراً، ألا يعني شيئاً بالنسبة إلى أولئك المسؤولين أن يكون ربع الأشخاص المسجونين في العالم يعيشون في السجون الأميركية، مع العلم أن عدد الأميركيين يمثل خمسة في المئة فقط من سكان العالم؟

    إن العام الجديد 2004 (لا بد) أنه يحمل خيراً أو بعض الخير للبشرية، ولكن مع التأكيد على أن تحويل هذه القطيعة القائمة على التمنيات إن هو إلا جزء من نشاط هذه البشرية، ذلك أن تاريخ البشر يصنعه هؤلاء بعجرهم ومجرهم· فليكن العام الجديد رهاناً على سلام العرب والمسلمين العادل، ومعهم العالم كله!

    دمشق في 29 ديسمبر 2003

    نقد (العقل) العربي يبدأ بإقصائه من الفكر العربي

    درج شطرٌ متنامٍ من الكتاب والباحثين العرب منذ عقدين من الزمن على الكتابة في ضرورة مراجعة نقدية للفكر العربي، خصوصاً في تجلّيه المعاصر· ولعل هذه الرغبة أن تكون قد تعاظمت منذ سقوط بغداد وتصاعد الأسئلة القديمة الجديدة· وبرز في سياق ذلك بل ربما في مقدمته سؤال يتجه مباشرة نحو ما يعتبره البعض (مَربِضَ) الفكر العربي وهو (العقل) العربي، تحديداً· وقد تابع هذه الموجة كتاب آخرون من خارج الحقل العربي، خصوصاً مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر· وفي المحصلة بدا الأمر وكأن قاسماً مشتركاً يجمع بين هؤلاء وأولئك ويتمثل في توجيه (الاتهام) إلى (العقل) العربي بمثابته عقلاً أخفق تاريخياً· أما كيف، فيتضح بكونه دلّل على عجزه على الانفتاح على التاريخ، بحيث ظهر -وفق وجهة النظر المعنية هنا- أنه مغلق أو أنه أغلق بعد أن شُحن في عصر التدوين العربي (وهو يُنظر إليه على أنه القرن الهجري الثالث)·

    وإذا كان الأمر كذلك، فينبغي أن يعاد فتح ذلك (العقل) بـ(عملية جراحية) يشترك فيها خبراء من خارج الحقل العربي، أي من قِبل من يمتلك (عقلاً مفتوحاً) قادراً على المساعدة في ضبط ما يعتبر استحقاقات فكرية عربية· وبتعبير آخر، يحتاج (العقل) العربي نمطاً من (العقلانية الديمقراطية الغربية)، كي يدخل التاريخ العربي والعالمي من جديد· أما إذا دار الحديث على نمط آخر من (العقل)، من مثل (العقل الإسلامي)، فالأمر يأخذ مساراً آخر، وإن ظل يشترك مع المسار الأول من الناحية المنهجية·

    إن إيضاح ذلك يقوم على أن (العقل) الإسلامي أصبح مترهلاً عاجزاً عن مواكبة العصر، ومن ثم، فإن (إصلاحه) لا يتم إلا بالعودة إلى الأصل عودة سلفية، أي وفق الشعار الأصولي المحدد: الأسلاف لم يتركوا شيئاً للأخلاف! ومن شأن هذا أن يعني دعوة لإقالة الإنسان وتفكيره العقلي· أما وجه المشاركة في الموقفين فيقوم على أن كليهما يرفض النظر إلى العقلين، العربي والإسلامي) على أنهما داخل التاريخ والعصر، وعلى أنهما يستمدان مرجعيتهما من الغرب (في الحالة الأولى)، وفي القرن السابع (في الحالة الثانية)·

    هكذا، يتضح الموقف في سياق طرح السؤال المركّب التالي من قبل مجموعات جديدة متعاظمة من المثقفين والسياسيين: لماذا يخيم على العالمين العربي والإسلامي هذا الترهل الهائل في مرحلة يمكن أن تستفز -في حقل جيوسياسي وقومي آخر- شعباً بأكمله؟ هل الأمر يجد الإجابة في النظم السياسية والثقافية المهيمنة فيهما، خصوصاً في التركيب الاستبدادي لها؟ وإذا أقصينا الفرضية العرقية المفتضحة والقائلة إن الأمر يكمن في (العرق العربي والإسلامي)، فكيف يتعين علينا أن نأخذه (أي الأمر)؟

    ها هنا، تبرز ملاحظتان اثنتان يمكن أن تُفصحا عن بعض الإجابة على ذلك السؤال المركب· أما أولاهما فتقوم على أن العرب -مثلهم في ذلك مثل غيرهم من الشعوب- خضعوا منذ التدفق الاستعماري ثم الامبريالي ثم (الآن) العولمي لحروب إبادة واستيطان، بحيث لم يتمكنوا من متابعة تجربتهم أو تجاربهم النهضوية الحديثة منذ أواخر القرن الثامن عشر· بيد أن الملاحظة الثانية تتمّم سابقتها بالقول إن ذلك التدفق ما كان له أن يفعل ما فعله إلا ضمن بنية داخلية عربية وإسلامية في أوائل فتوّتها، ثم في حالة اختراقها ومحاولات تفكيكها· وفي هذا وذاك، كانت بداية تكوّن نظم استبدادية في العالمين العربي والإسلامي قد أخذت طريقها·

    وجدير بالاهتمام أنه في سياق تكوّن تلك النظم الاستبدادية، ظهرت أفكار تتحدث عن (المستبد العادل والعاقل)؛ مما هيأ لنشأة التفكير في وجود (عقل عربي وإسلامي) له وجوده الثابت، الذي على الجميع أن يقروا به، ومن ثم بوجود ضرورة تنصيب مثل هذا (العقل) رئيساً وحاكماً على (الرعية)· أما ما أتى بعدئذ فقد تبلور في الكشف عن أن الحديث عن (عقل عربي وإسلامي) إن هو إلا خطاب يكرّس الاستبداد (المتجذّر) في شخصية العربي والمسلم· أما البديل عن هذا المصطلح فهو (الفكر العربي والإسلامي)، أي الفكر المتكون والمتغير تغيّر الشرط التاريخي· وهذا، بدوره، يؤسس لفكرة أن التاريخ هو سيد الأحكام، وليس مصطلحاً يعتبر ثابتاً قطعياً يعيش فوق التاريخ·

    دمشق في 5 يناير 2004

    (المشروع الصهيوني) بلسان حال شارون: (ليس الآن.. وليس أنا)

    لطالما راهن ويراهن مثقفون ومفكرون وسياسيون عرب وأجانب على احتمال أن يلجأ الإسرائيليون، أخيراً، إلى الحكمة والحصافة، بتحفيز من (راعي السلام الأول)، الولايات المتحدة الأميركية، باتجاه خطة سلام ما مع العرب· وانتشر الاعتقاد بذلك في أوساط من المثقفين والمفكرين والسياسيين العرب وغيرهم، ليؤسس لدعوة جديدة لدى هؤلاء تقوم على فتح (ملف التطبيع) مع إسرائيل· وظهر الأمر وكأن حقبة جديدة من السلام انفتحت على مصراعيها بين العرب والإسرائيليين· وأخذت تبرز بعض الفئات الجديدة في العالم العربي تراقب الموقف بشيء من الحذر وببعض الشيء من التفاؤل، اعتقاداً بأن الصراع العربي-الإسرائيلي ربما انتهى إلى مثل ذلك السلام، أو لعله وصل حدوده في ظل الهيمنة الجديدة، التي أخذت تمارسها الولايات المتحدة على العالم· وتبين لأولئك أن الأوان قد آن لـ(استراحة المحارب) في ظل تعاظم السقوط والنهوض العربي، لصالح المشروع الصهيوني·

    لقد رحب أولئك وآخرون في الداخل العربي كما آخرون في العالم بما اعتبروه (أفقاً جديداً) في قضية الصراع المذكور· وربما كان الصلح بين مصر وإسرائيل وبين هذه وبلدان عربية أخرى أحد تجليات الحال الجديد، حتى حين تكون بلدان عربية أو أخرى قد سلكت هذا الطريق سراً أو بشكل نصف علني· فلقد تفكك الاتحاد السوفييتي، وانكسر العراق في حروبه، وأعلنت عن نفسها عملية التقدم العلمي الهائلة لثورتي المعلومات والاتصالات في ظل نظام القطب الواحد الجديد، فماذا (تبقى للعرب) غير الإقرار بواقع الحال الجديد، والقبول -من ثم- بما قد يحافظ على بعض الكرامة الوطنية والقومية! وقبلت النظم العربية، خصوصاً أنها في ذلك تكون قد خرجت من (عنق الزجاجة)، ودخلت مرحلة جديدة مديدة من استقرارها· وفي الناتج من ذلك، أخذت جموع من العرب تستدرك ما كانت تلح عليه من أن الحق العربي في فلسطين لم يعد ملك الجغرافيا والتاريخ، منطلقة بتثاقل وببعض القلق، ولكن بشيء من الإقرار بمفهوم (التحولات العاصفة) الجديدة، نحو التوقيع على (أوسلو)·

    راحت انتصارات (الواقعية السياسية) تتالى من طرف النظم العربية، ومعها مجموعات من الفئات ذات المصالح الاقتصادية والسياسية والثقافية· لكن على الطرف الآخر من المشهد، ظل الموقف رابضاً هو هو، كأنه تجسيد للمثل الشعبي الشهير: جَبلْ، ما يهزّك ريح! لم يتعدل المشهد الإسرائيلي باتجاه (الأفق الجديد)، أفق السلام والتطبيع، كما بشّر دعاتهما نظماً وفئات· لم (تراع) الطواقم السياسية الإسرائيلية الاستراتيجية عواطف هؤلاء المبشرين، مع إصرار الأخيرين -تعباً أو لعباً أو خبثاً أو أملاً - على تناسي المقولة الكبرى، التي قدمها -في حينه- أحد كبار مؤسسي إسرائيل بن غوريون والقائلة: (إن اتفاقاً مع العرب أمر ضروري لنا، وليس من أجل السلام· إذ لا يمكن أن نبني البلاد في حالة من الحرب الدائمة، لكن السلام هو وسيلة· أما الهدف فهو التحقيق المطلق للصهيونية)·

    لكن (مسيرة الإذلال السلمية) تبقى هي الحقيقة الثابتة في الاستراتيجية الإسرائيلية تجاه العرب· ولعله لا بوش الابن، كما هو الحال لدى بوش الأب وغيره من الرؤساء الأميركيين، قادر على (زحزحة) موقف إسرائيل (المبدئي الثابت) من القضية، وذلك لحقيقة عظمى تتماهى الآن بالنظام العالمي الجديد الأميركي، هي التالية: إن ما تراه إسرائيل بمثابة حقيقتها العظمى المذكورة إن هو إلا حقيقة الولايات المتحدة العظمى·

    هكذا وعلى مسار (الإذلال السلمي للعرب)، يعلن دراكولا الشاروني -كما عبّر عنه الكاتب الإسرائيلي (يوئيل ماركوس) في صحيفة (هآرتس) (في 23/12/2003)-: (ليس الآن، وليس أنا)! إن شارون، في هذا، يصوغ بدقة أيديولوجية ومنطقية بليغة أسّس لما أنجزه أسلافه وما قد يؤسس لأخلافه تحت عنوان: إسرائيل فوق الجغرافيا والتاريخ· ومن ثم، فلا تغيير في الأفق أبداً· أما العرب (فعليهم السلام)، الذي عليه أن يُفضي إلى تفكيكهم وتحويلهم، في بلدانهم، إلى عبيد متشرذمين تحت قبضة النظام العولمي الجديد· ولكن، أليس من حق العرب أو معظمهم أن يقولوا: حسابُ الليل غير حساب النهار!

    دمشق في 12 يناير 2004

    صراع على الاستقرار والعدالة في المسرح الدولي

    قد يمكن النظر إلى التاريخ البشري على أنه -في أحد أهم وجوهه- تاريخ صراع بين فريقين اثنين، فريق يدعو إلى الاستقرار الاجتماعي حفاظاً على التوازن في العلاقات بين البشر ودرءاً لمخاطر الاضطراب والحروب، حتى لو أدى ذلك إلى نشوء حالات من الغُبن والظلم بحق مجموعة أو أخرى. وفريق آخر يلح على العدالة الاجتماعية معلناً أنها حين توجد، تكون كفيلة بالقيام بوظيفتين اثنتين، هما توزيع عادل للثروة والسلطة، والحيلولة من ثم دون نشوء مثل تلك الحالات.

    وقد وصل الأمر لدى الفريق الأول إلى القول بقبول «الحاكم الجائر»، إذا كان ذلك طريقاً إلى الاستقرار وتحاشي المخاطر المذكورة. وبرزت في التاريخ العالمي، ومن ضمنه التاريخ العربي، آراء ونظريات تأخذ بذلك وتلحّ عليه. ولعلنا

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1