Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

أسامة الباز - مسيرة حياة
أسامة الباز - مسيرة حياة
أسامة الباز - مسيرة حياة
Ebook502 pages3 hours

أسامة الباز - مسيرة حياة

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

الكتاب يتناول قصة حياة الدبلوماسي المعروف أسامة الباز من واقع
أوراقه الخاصة، ويستكمل الحديث عنه فى ربع الكتاب الأخير السفير
هاني خلاف زوج أخت أسامة الباز ..إنها صفحات من حياة وأعمال
الرجل الذي جمع في مزيج نادر بين نضال الثائرين وحكمة المصلحين..
ودهاء السياسيين وحرفية الدبلوماسيين .. ونقاء الزاهدين وجمع بين
السفير القرب من السلطان والاستقلال عنه وحب الناس في آنٍ واحد....
Languageالعربية
PublisherNahdet Misr
Release dateJan 1, 2014
ISBN9789771449058
أسامة الباز - مسيرة حياة

Related to أسامة الباز - مسيرة حياة

Related ebooks

Reviews for أسامة الباز - مسيرة حياة

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    أسامة الباز - مسيرة حياة - هاني خلاف

    الغلافUsamaElBazCover.jpg

    جميع الحقوق محفوظة © لدار نهضة مصر للنشر

    تأليف: السفير هاني خلاف

    إشراف عام: داليا محمد إبراهيم

    يحظر طبع أو نشر أو تصوير أو تخزين

    أي جزء من هذا الكتاب بأية وسيلة إلكترونية أو ميكانيكية

    أو بالتصوير أو خلاف ذلك إلا بإذن كتابي صريح من الناشر.

    تليفون: 33466434 - 33472864 02

    فاكس: 33462576 02

    الترقيم الدولي: 978-977-14-4905-8

    رقم الإيداع: 9931 / 2014

    الطبعة الأولى: نوفمبر 2014

    خدمة العملاء: 16766

    Website: www.nahdetmisr.com

    E-mail: publishing@nahdetmisr.com

    Arabic%20DNM%20Logo_Colour%20Established%20Black.eps

    21 شارع أحمد عرابي - المهندسين - الجيزة

    صفحات من حياة وأعمال الرجل

    الذي جمع في مزيج نادر بين نضال الثائرين..

    وحكمة المصلحين.. ودهاء السياسيين..

    وحرفية الدبلوماسيين.. ونقاء الزاهدين

    وجمع بين القرب من السلطان

    والاستقلال عنه وحب الناس

    في آن واحد

    تقديم

    بقلم: السفير الدكتور مصطفى الفقي

    سعدت بقراءة هذه الصفحات الثرية لهذا الكتاب الرصين الذي أعده صديقي وزميلي السفير هاني خلاف – وهو رجل سياسة وثقافة في ذات الوقت– حول رجل عظيم هو [أسامة الباز] الذي عاد إلى مصر بعد سنوات قضاها طالبًا للدكتوراه في الولايات المتحدة الأمريكية وكان ذلك في أواخر عام 1967 والشباب المصري ينزح إلى خارج وطنه في أعقاب الهزيمة النكراء والأجواء الخانقة لنكسة يونيو التي أطبقت على أنفاس جيل بالكامل وسحقته تحت وطأة الغضب والحزن والإحباط وبعد سنوات المد القومي والحلم العربي عاد إلينا ذلك الشاب المثقف الذي يتحدث الإنجليزية بلكنة أمريكية وفيه من حيوية النشاط السياسي الذي مارسه في الولايات المتحدة الأمريكية رئيسًا لاتحاد الطلاب العرب، وفيه من انفتاح وليبرالية سنوات وجوده في الغرب، وفيه من تعددية مصادر المعرفة التي حازها من تجارب في حياته التي بدأها [وكيلًا للنيابة] تمرس بحياة الشارع ومعاناة الناس ثم التحق بالسلك الدبلوماسي في منتصف الخمسينيات وفقًا لدرجته التي وصل إليها في النيابة العامة، وقد ربطته حينذاك صلات مباشرة ببعض الثوار من الضباط الأحرار من خلال أخيه الأكبر الذي كان ضابطًا في القوات المسلحة وقد رأوا في [أسامة الباز] -ذلك الشاب النجيب رفيع الثقافة غزير المعرفة متوهج الذكاء- نموذجًا يلتقون به ويستمعون إليه ويستعينون بخبراته حتى إنه شارك في صياغة بعض منشورات الضباط الأحرار ثقة فيه وإيمانًا بقدراته المتميزة، وظل في وزارة الخارجية لعدة أعوام فيما كان يسمى الإدارة العامة للأبحاث حيث تولى موقعه إلى جانب رجل وزارة الخارجية القوي في ذلك الوقت السفير [إبراهيم صبري] – ابن أخت الزعيم الراحل [مصطفى كامل] – وذاع اسم [أسامة الباز] بين أقرانه نموذجًا للجرأة والبساطة والكفاءة في وقت واحد.

    ومن خلال معايشتي للدكتور الباز واقترابي منه على مدى الأربعين عامًا الماضية أستطيع أن أزعم أنه شخصية استثنائية بجميع المعايير فهو ابن عالم أزهري من محافظة [الدقهلية] تلقى دراسته الأولى في مدينة [دمياط] بحكم عمل والده في سلك التعليم، ومع ذلك فإن درجة تأقلمه – هو وشقيقه عالم جيولوجيا الفضاء [فاروق الباز] – مع مناخ الغربة توحي بالقدرة الرائعة على التكيف الذكي من بيئة البيت الأزهري إلى طبيعة الحياة المختلفة تمامًا في الغرب، كما أن إجادته الواضحة قواعد اللغة العربية لم تكن على حساب تفوقه أيضًا في اللغة الإنجليزية، ولعل الكثيرين لا يعلمون أنه يتميز بخط جميل للغاية في اللغتين معًا.

    جاءنا ذلك الشاب الرائع ونحن طلاب في معهد الدراسات الدبلوماسية بوزارة الخارجية في أجواء 1967 وما بعدها فإذا به يأتينا بالعالم كله عندنا ونحن مبهورون به مشدودون إليه، لقد أتحفنا بأساتذة مرموقين من أمثال [جورج أبو صعب] و[تحسين بشير] و[يحيى العزبي] و[عبدالوهاب المسيري] واستقدم لنا من رجال السياسة والفكر والثقافة والإعلام في العالمين الغربي والعربي، فهذا هو [لويس عوض] وذلك هو [أحمد بهاء الدين] ومعهما كوكبة من صفوة العقول في المنطقة كلها فاستطاع [أسامة الباز] أن يربي أجيالًا في الخارجية المصرية وأن تتكون له مدرسة دبلوماسية متميزة تجمع بين السياستين الداخلية والخارجية على اعتبار أن كلا منهما امتداد للأخرى، وقد شرفت شخصيًّا

    ولا أزال بالانتماء إليها، وعندما اختارني للعمل في مكتبه فور عودتي من خدمتي في [الهند] ألمت به وعكة صحية طارئة أرسل لي أثناءها كتابًا من مستشفاه يطلب مني القيام بما أستطيع من أعماله والوفاء بما أقدر عليه من المسئوليات الملقاة على عاتقه، عندئذ سنحت لي الفرصة أن أعمل مباشرة مع رئيس الدولة إلى أن عاد هو معافًى من مرضه يواصل دوره المرموق إلى أن التحقت أنا بمؤسسة الرئاسة سكرتيرًا للرئيس للمعلومات بعد ذلك بعامين. وأريد أن يعلم الجميع أن شخصية [أسامة الباز] تقوم على أسس أخلاقية رصينة فما رأيته يومًا يدق إسفينًا في شخص أو يطعن في مكانة غيره فإذا سئل عن إنسان قال خيرًا أو صمت، وللدكتور [أسامة الباز] دائرة واسعة من المعارف والأصدقاء في أعلى المستويات عربيًّا ودوليًّا وما زلت أتذكر الصورة الرئيسية في الصفحة الأولى في صحيفة [الأهرام] للرئيس الأمريكي السابق [جيمي كارتر] و[أسامة الباز] وحدهما يراجعان معًا بعض ملفات الصراع العربي الإسرائيلي، فهو من أخبر الناس بتفاصيل القضية الفلسطينية ودهاليز السياسة العربية وطبيعة العلاقات المصرية الأمريكية، ولقد سمعت بأذنيَّ حديثًا لرئيسة وزراء بريطانيا السابقة [مارجريت تاتشر] وهي تشير إليه باحترام وإعجاب شديدين.

    ....إني أكتب هذه المقدمة عن [أسامة الباز] اعترافًا بفضله على جيلي كله وتقديرًا لمدرسته في الدبلوماسية المصرية واعتزازًا بدوره الوطني فقد كان دائمًا هو المفاوض البارع طوال عمله في مجال العلاقات الدولية المعاصرة، ومن ثم فإنني أنضم إلى غيري من أبناء مصر وبناتها في تحية رجل عاش زاهدًا في المناصب مترفعًا عن الصغائر، خادمًا أمينًا للوطن، وعندما فكرنا في تكريمه بمناسبة عيد ميلاده [الماسيّ] فإننا لم نجد مكانًا أفضل من معهد الدراسات الدبلوماسية الذي علمنا هو فيه، إنه ذلك المعهد الذي تشرفت شخصيًّا بأن أكون مديرًا له في مطلع التسعينيات من القرن الماضي....

    إن هذه السطور هي تحية لمواطن مصري دخل إلى [المطارات] دائمًا مع العامة ولم يطلب يومًا فتح [صالة كبار الزوار]، وركب [مترو الأنفاق] مع كل الطبقات المصرية، وتمشى وحيدًا على [شاطئ النيل] دون أدنى حراسة، إنه نبت الأرض الطيبة وابن الكنانة البارُّ الذي تواصل دائمًا عطاؤه وعلت دومًا مكانته....رحمه الله رمزًا شامخًا في تاريخ مصر الحديثة.

    د. مصطفى الفقي

    فبراير 2014

    مقدمة المؤلف

    هناك في تاريخ الأمم والشعوب شخصيات تظهر بين الحين والآخر لتكون معبرًا أو جسرًا يصل [الفكر والثقافة] ب [السلطة]، وهناك آخرون يصلون [السلطة] ب [الإنسان] و[الأخلاق].. وقليلة هي الحالات التي تظهر فيها شخصيات تعقد الصلة بين [الفكر] و[الإنسان] و[الأخلاق] و[السلطة] في آن واحد.

    والدكتور أسامة الباز يعتبر من بين تلك الحالات النادرة التي قيضها الله للظهور في تاريخ مصر المعاصر كي تغذي النظام السياسي القائم على مدار أربعة عقود تقريبًا بروافد من العلم والثقافة والأخلاق والواقعية، وتحاول أن تضفي على مخرجات هذا النظام في ذات الوقت طابعًا منهجيًّا براجماتيًّا يخفف بعض الشيء من غلواء الثقافة السياسية الحافلة بالشعارات الراديكالية والأحلام الواسعة، والتصنيفات والأحكام المطلقة. ورغم أن أسامة الباز لم يملك في أي يوم من الأيام سلطة اتخاذ القرار السياسي النهائي، ولم يسع قط إلى ذلك، فإنه استطاع في مراحل كثيرة – ومن خلال دوره الاستشاري بالقرب من القيادة السياسية العليا ومن دوائر اتخاذ القرار الأخرى – أن يؤثر إلى حد ما في صياغة بعض السياسات والقرارات والتوصل إلى تسويات تتسم بقدر معقول من التوازن والمقبولية والتأثير.

    نعم. قد يكون صحيحًا أن بعض رجال الفكر لايرضون لأنفسهم – وقد لايستطيعون في أغلب الأحوال – بأن ينزلوا إلى تفاصيل الحياه اليومية والمزاحمة في مطابخ السياسة والتعامل مع المتربصين ومشتهي السلطة والثروة، إلا أن أسامة الباز تمكن من مغالبة هذا الموقف الشائع بين بعض رجال الفكر، وارتفع فوق الهواجس والمخاوف المرتبطة به، وفضَّل أن ينتقل من أبراج الفكر النظرية والتحليلات الأكاديمية المجردة والممارسات الدبلوماسية التقليدية إلى حيث التعامل المباشر مع قضايا الوطن وهمومه الشائكة في الداخل والخارج، انطلاقًا من ثقة كبيرة في نفسه وفي قدراته على مقاومة إغراءات المناصب وشهوات الحكم والسلطة والثروة.

    ورغم أن أسامة الباز قد نجح – وكما يحكم الكثيرون – في الاحتفاظ لنفسه على مدار العقود الأربعة بمسافة باعدت بينه وبين دوائر الشبهات وصراعات مراكز القوى وما يرتبط بها في بعض الأحيان من دسائس ومناورات.. فإن أحدًا لا يستطيع أن يعرف على وجه الجزم واليقين – السبب الحقيقي الذي أدى إلى انزواء دوره السياسي في السنوات الأخيرة التي سبقت سقوط النظام في 25 يناير 2011 ولا شعوره الحقيقي قبل ذلك حين كانت تغالبه في كثير من الأحيان عقبات الإدارة البيروقراطية من حوله، أو حين كانت أفكاره المنهجية ورؤاه المستقبلية تتعثر وسط ركام الموروثات التقليدية والرؤى قصيرة النظر، وصراعات المصالح الآنية، والأحابيل التي يضعها ناصبو الفخاخ وأعداء النجاح.

    تنوعت أدوار ومساهمات المرحوم أسامة الباز بين مجالات السياسة الداخلية في مصر وعلاقاتها الخارجية. وقد ساعده في هذا العطاء المزدوج تفضيله البقاء في الوطن وعدم الانتقال للعمل في أي من السفارات المصرية بالخارج كما هو متبع في نظام السلك الدبلوماسي. وأصبح د. أسامة بذلك حالة فريدة ليس فقط في تاريخ وزارة الخارجية بل في تاريخ الإدارة المصرية ونظامها السياسي.

    وعلى صعيد السياسة الداخلية أسهم الدكتور الباز في تطوير مواقف وعلاقات الكثير من القوى السياسية والوطنية وإثراء تجربة التعددية الحزبية، كما ساعد في تطوير التعليم الجامعي وأوضاع البحث العلمي، وفي إدماج الأبعاد الاجتماعية ضمن سياسات التنمية والإصلاح الاقتصادي، وفي تعزيز الحريات النقابية، واستقلال القضاء، وتطوير سياسات السفر والهجرة ورعاية المواطنين بالخارج. وكان له أيضًا دوره غير المنكور في إرساء سياسات جديدة لتمكين المرأة وتعزيز دور الشباب ومنظمات المجتمع المدني، وفي الانتصاف لآلاف من أصحاب المظالم والشكاوى الفردية والفئوية وغير ذلك مما نفصله في هذا السجل.

    وأما علاقات مصر وسياساتها الخارجية فقد أضفى إليها المرحوم أسامة الباز سمات جديدة من الواقعية والانفتاح والبراجماتية وكان له دوره في إدارة الدبلوماسية المصرية قبل وبعد حرب أكتوبر 1973 وفي صياغة مواقف مصر التفاوضية التي أدت إلى استرداد سيناء عام 1982 وإدارة المعركة القضائية الدولية التي انتهت باسترداد طابا عام 1987. وأما دوره في إدارة علاقات مصر العربية فقد كان محوريًّا ومؤثرًا حتى في أصعب أوقات القطيعة الصعبة منذ عام 1979 وحتى عام 1989. وأما القضية الفلسطينية وجوانب الصراع العربي الإسرائيلي الأخرى فقد ظلت بؤرة اهتمامه الدائم ومحورًا لأغلب اتصالاته وجهوده مع مختلف القوى العربية والإقليمية والدولية حتى قال عنه أحد الأمريكيين ذات يوم: [إن أسامة الباز يمثل سببًا من أسباب بقاء المشكلة وبابًا أساسيًّا من أبواب تسويتها في نفس الوقت].

    تميز منهج الدكتور أسامة الباز في معالجاته القضايا الداخلية والخارجية التي تصدى لها أو التي أسندت إليه بتجاوز المنطق الأيديولوجي الجامد أو التقيد بالمثاليات و[التابوهات]، واعتمد بدلًا من ذلك على الاعتبارات البراجماتية التي تقيس الخيارات وصحة القرارات بمدى قابليتها للتطبيق، ومدى توافر القبول العام لها، وحجم النفع والضرر منها... وكان حريصًا أيضًا في معالجاته على إقامة الاعتبار المناسب لما يسمى ب [الثقافة السائدة] و[التداخل المتعاظم بين الظروف المحلية والخارجية]. وهذه الطريقة البراجماتية في العمل السياسي وفي التفكير عمومًا هي في الواقع ما يمكن تسميته الحرفية السياسية

    Political Proficiency أو فنِّيات صنع القرار وإدارة الحكم Decision Making Techniques وهي ما تميز بها عطاء أسامة الباز طوال مشواره الطويل في الحياة السياسية والدبلوماسية المصرية، وهي ذاتها السبب الرئيس في احتفاظه بموقعه الاستشاري ومواصلة عطائه لأربعة عقود متصلة تغيرت فيها قيادات الحكم، وتبدلت خلالها توجهات النظام السياسي والفلسفات الاقتصادية والإدارية السائدة وأجواء التشريع والعمل الحزبي.. لكنه استمر بمهنيته ومنهجيته العلمية والفنية عاملًا على تنقية الخيارات وترشيد القرارات ومحاولًا تحصينها بأسباب التوازن والمشروعية والفاعلية قدر الإمكان.

    تمسك أسامة الباز طوال حياته الدراسية والمهنية والسياسية بالانفتاح على مختلف الثقافات والنظم والتجارب. فرغم نشأته الدينية في بيت عالم أزهري، واعتزازه بما يحتويه التاريخ الإسلامي والثقافة الإسلامية من جوانب تقدمية وحضارية في مجالات التربية وأصول الحكم والإدارة ونظم التشريع والاقتصاد والإعمار ومبادئ العدالة الاجتماعية وغيرها فإن ذلك الاعتزاز لم يحجب لديه تقدير جوانب العطاء الإيجابي للحضارات والديانات الأخرى. وهو في إسلاميته يتمسك بالجوهر والأصول لا بالفروع والقشور، ولم يعرف عنه التخندق داخل مذهب فقهي أو فكري واحد، بل راح يجوب كل المذاهب والأفكار والشروح المطروحة ويختار من بينها في معالجاته السياسية والاجتماعية ما يلائم الزمان والمكان والطبائع والمستجدات.ورغم إقامته الطويلة أثناء دراساته العليا بالولايات المتحدة الأمريكية، واختلاطه الواسع بمختلف الشرائح الاجتماعية والقوى السياسية، ورغم تقديره لكثير من جوانب الحياة اليومية هناك فإنه لم يقع أبدًا في براثن الانبهار المطلق بالنموذج الأمريكي، ولم يمنعه تقديره لبعض الجوانب في هذا النموذج من الإعجاب بنماذج اجتماعية ونظم سياسية واقتصادية أخرى في العالم سواء في روسيا أو في الصين أو اليابان أو الهند وفي بعض البلدان الأوروبية والإفريقية.

    وإذا كان [الانفتاح] و[الواقعية] و[تجنب الأحكام والإطارات المطلقة] تمثل معالم أساسية في عقلية أسامة الباز ومنهجه السياسي فقد يضاف إلى ذلك أيضًا مجموعة من القيم الأخلاقية والاجتماعية التي حكمت كثيرًا من سلوكه السياسي والإنساني، حيث لم يعرف عنه قط أية نظرة شوفينية ذكورية تجاه المرأة على نحو ما كان سائدًا في العديد من الدوائر العربية والشرقية، ولم تظهر في حياته أبدًا أية علامة تدل على التمييز في النظرة أو في المعاملة بين المسلمين والأقباط ولا حتى مع أصحاب الديانة اليهودية. ويدل مسلكه المتواضع مع العمال والسائقين في مكتبه ومع شباب الجامعات الذين يلتقيهم في مناسبات مختلفة، وارتياده الأماكن العامة دون حراسة، واستخدامه أحيانًا وسائل المواصلات الجماعية في تنقلاته، وتفضيله الترجل على الأقدام إذا ما كانت الجهة التي يقصدها قريبة، وقيامه بالتسوق لبيته وأسرته بنفسه.. يدل كل ذلك -وعشرات من الأمثلة الأخرى– على تحرره من الإطارات النمطية التي تشيع في سلوك [الدبلوماسيين] و[المسئولين السياسيين]. والعجيب أن أسامة الباز لم يكن ينتهج هذا المسلك بطريقة مفتعلة أو انطلاقًا من خطة لتحسين صورة المسئولين أو لاكتساب شعبية.. بل كان يصدر عن فطرة وأخلاق جُبل عليها بتأثير من بيئته الأسرية وعناصر تكوينه الأولى في طفولته وشبابه، وربما بتأثير أيضًا من بعض أنماط الحياة التي عاشها وأعجب بها في الخارج أثناء دراسته.

    لم تقتصر صفة [الزهد] في شخصية أسامة الباز على ما يتصل بمظاهر السلطة وطقوسها البروتوكولية والأمنية وما قد يصاحبها من أعمال الظهور الإعلامي والدعاية والتسابق نحو الترقية والاستوزار، بل امتدت لتشمل أيضًا كثيرًا من مباهج الحياة العادية كالمأكل والملبس والمسكن. فقد كان معروفًا بزهده غير العادي في الغذاء والطعام عمومًا. ولم يسع أبدًا إلى تغيير مسكنه المتواضع في منطقة حمامات القبة بالقاهرة الذي ظل مقيمًا به لأكثر من أربعين عامًا حتى تزوج وانتقل – بناء على رغبة زوجته – إلى مسكن آخر في العجوزة ثم المعادي. ومع ذلك فقد ظل مسكنه الأول مع والدته بمثابة الملاذ الآمن الذي كان يعود إليه بين الحين والآخر لإعادة شحن طاقته الذهنية والنفسية بكل ما كان يمثله هذا المسكن القديم من معاني البساطة والأصالة والدفء والفطرة الطبيعية، وبكل ما كان يحمله له من ذكريات عزيزة عن الوالدين والأهل ورفقة الشباب.

    لم يفكر د. أسامة الباز في اقتناء أي من الكماليات التي صارت بمرور الزمن من الضروريات كالتليفون المحمول، والسيارة الخاصة، والحاسوب الشخصي. والأعجب أنه لم يعرف في أي يوم من الأيام مفردات راتبه الشهري الذي يحصل عليه من وزارة الخارجية ولا مستحقاته الأخرى عن الأسفار أو المهام الإضافية أو العلاوة الدورية أو غير ذلك.وعندما تولى منصب وكيل أول وزارة الخارجية وترأس بذلك مجلس السلك الدبلوماسي لاحظ الكثيرون من أعضاء الوزارة تبرمه عند النظر في بعض الطلبات التي يتقدم بها بعض الدبلوماسيين لتغيير مواقعهم أو لرفع مخصصاتهم المالية، أو طلبات السفراء لشراء قطع أثاث أو سيارات وأجهزة جديدة لبعثاتهم في الخارج، وكان يرى أن مثل هذه الاهتمامات تضعف من صورة الدبلوماسي عمومًا، وتكشف عن انفصال غير صحي بينه وبين ظروف الوطن الاقتصادية وأولوياته الأهمّ.

    هذا الكتاب... لماذا؟ وكيف؟

    واليوم...وبعد أن رحلت عن دنيانا في سبتمبر 2013 تلك الشخصية الفذة ذات العطاءات المتنوعة والأخلاق الفريدة وبعد أن جاء رحيلها الصامت وسط أمواج صاخبة من الثورات الشعبية والحراك السياسي والاجتماعي الواسع في مصر وغيرها من بلدان عربية، وما صاحبها – ولا يزال يصاحبها – من مظاهر عنف وتطرف واستقطابات حادة وتحركات خارجية ظاهرة وخفية...راح المخلصون في بلادنا يبحثون عن نموذج فكري وسياسي وأخلاقي يستطيع أن يجمع البلاد والعباد مرة أخرى، وأن يجسر الفجوات ويرأب الصدوع ويكفل التغيير المنشود للشعوب بتكلفة أقل...وراحت تقفز في أذهان المنصفين من المؤرخين صورة الراحل الكريم أسامة الباز ومنهجه البراجماتي العاقل والمتوازن في معالجة المعضلات، ورؤاه الفكرية المبكرة عن ضرورات التغيير وضوابطه وشروطه وآلياته الصحيحة التي كان يبثها في كلماته المكتوبة والمسموعة، وفي تحركاته السياسية والدبلوماسية، وفي مشورته لأصحاب السلطة والقرار.

    ويأتي هذا الكتاب عن حياة وأدوار أسامة الباز كمحاولة من أحد تلاميذه المقربين إليه الذين تابعوا أفكاره وأعماله على مدار العقود الأربعة الماضية – لتأصيل منهجه العام وطرائق مقاربته للقضايا الوطنية والقومية والدولية. ولعل في هذا التأصيل والاستجلاء ما قد يفيد في معالجة بعض التطورات والقضايا المستجدة التي تمر بها حاليًّا مجتمعاتنا المصرية والعربية، ولعل فيه أيضًا ما قد يشير على المستوى الاجتماعي والإنساني والأخلاقي إلى مقومات التنشئة الصحيحة للشباب، وإلى مؤهلات النجاح العلمي والمهني، وأخلاقيات السلوك السياسي القويم، وطرائق الاقتراب النزيه من السلطة بغير التماهي الكامل معها وبغير الوقوع في شهوات التحكم والاستحواذ المرتبطة بها.

    ومهما كان صدق الدوافع التي تحدونا إلى هذه المحاولة، وحرصنا على بذل كل ما يمكن في سبيل إخراج هذا العمل على نحو رصين يليق بمكانة ودور أسامة الباز في تاريخنا الحديث، إلا أن هناك عددًا من الاعتبارات والإشكاليات الفنية والقانونية والأخلاقيه التي تحكم هذا الجهد وتحيط به، والتي يلزم توضيحها في هذا الاستهلال.

    ولعل أولى وأصعب هذه الإشكاليات تكمن في الطابع الانفرادي الذي اتسم به أداء الدكتور أسامة الباز في معظم أدواره وأنشطته. فرغم أن كثيرًا من المقربين إليه – ومنهم السيد عمرو موسى – كانوا حتى وقت قريب يرون فيه [مؤسسة متكاملة] بمعنى أنه يفكر ويكتب ويقترح ويتحرك ويتابع الأمور بنفسه كوحدة مستقلة ومنفردة، وأن اهتماماته لا تقتصر فقط على الشئون السياسية والدبلوماسية بل تشمل أيضًا مسائل الفكر والثقافة والإبداع الفني، ومسائل الأديان والقانون والاقتصاد والشئون الاستراتيجية والأمن.. فإنه لم يسع أبدًا إلى أن تكون له مدرسة أو تلاميذ ومريدون، ولم يحاول قط تأطير جهوده وتقنين اختصاصاته بشكل واضح وجامع ومانع، أو توثيق أنشطته على نحو يكفل الرجوع إليها بطريقة ميسورة ومتكاملة كما يفعل أغلب أصحاب المدارس الفكرية والمهنية وأصحاب المواقع السياسية والرسمية. ورغم الجهود الكبيرة التي كان يبذلها معاونو الدكتور الباز من الدبلوماسيين والإداريين في وزارة الخارجية ورئاسة الجمهورية من أجل تنظيم برامج عمله ولقاءاته، وأرشفة مكاتباته الرسمية وبريده الشخصي، فإن هذه الجهود لم تستطع – وباعتراف الكثيرين منهم– ملاحقة كل أنشطته الدبلوماسية والسياسية والفكرية والاجتماعية، فظل العديد منها رهينًا بذاكرته الشخصية وذاكرة المخالطين له – على اختلاف المراحل والظروف التي تجمعهم به.

    ويرتبط بهذه الإشكالية العامة إشكالية فنية متعلقة بتعدد وتوزع المتاح من مراجع ومصادر تلزم لإنجاز مشروع كمشروع بحثنا الراهن عن حياة وفكر أسامة الباز، وصعوبة التمييز في تلك المصادر بين ما يعتبر [وثائق رسمية للدولة] يلزم التعامل معها بحذر وفق قواعد أمن المعلومات وضوابط النشر، وبين ما يعتبر محررات ومخطوطات شخصية تخصه مما يمكن التعامل معها واستخدامها بغير حرج كبير. وقد يدهش القارئ حين يعلم أن عملية الحصر والفرز والتبويب والتجنيب التي قمنا بها قبل إعداد هذا الكتاب قد استغرقت قرابة عام

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1