Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

سنوات الفرص الضائعة
سنوات الفرص الضائعة
سنوات الفرص الضائعة
Ebook739 pages5 hours

سنوات الفرص الضائعة

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

يتناول الكتاب الفرص الضائعة على مصر في حكم مبارك .. والكاتب باعتباره كان قريبا من حكم الرئيس السابق فهو دبلوماسي مرموق، ولديه خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية اكتسبها من حياته المهنية الزاخرة على الساحة الدولية، حيث تولى العديد من المناصب بوزارة الخارجية المصرية، كما عمل مساعدًا أول لوزير الخارجية المصرية لشئون العرب والشرق الأوسط، وكان مندوبًا دائمًا لمصر في جامعة الدول العربية، والوكالة الدولية للطاقة الذرية. لذا هو يرصد لنا في كلمة صادقة وبموضوعية كاملة وعن قرب في هذا الكتاب مواقف شخصية ورؤى سياسية حول علاقة النظام السابق والرئيس مبارك تحديدا بالبرلمان وبمن حوله من السياسيين والشخصيات العامة والأزهر والكنيسة والسلطة القضائية والأحزاب والتيارات السياسية وإفريقيا والدول الخارجية ... وغيرها.
Languageالعربية
PublisherNahdet Misr
Release dateJan 1, 2022
ISBN9789771462033
سنوات الفرص الضائعة

Related to سنوات الفرص الضائعة

Related ebooks

Reviews for سنوات الفرص الضائعة

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    سنوات الفرص الضائعة - مصطفي الفقي

    Section000001.xhtmlSection000001.xhtml

    العنوان: سنوات الفرص الضائعة

    بقلم: د. مصطفى الفقي

    إشـراف عام: داليا محمد إبراهيم

    جميع الحقوق محفـوظـة © لـدار نهضـة مصـر للنشـر

    يحـظــر طـــبـــع أو نـشـــر أو تصــويـــر أو تخــزيــــن أي جـزء مـن هـذا الكتـاب بأيـة وسيلـة إلكترونية أو ميكانيكية أو بالتصويــر أو خـلاف ذلك إلا بإذن كتابي صـريـح من الناشـر.

    الترقيم الدولي: 978-977-14-6203-3

    رقـــم الإيــــداع: 19775 / 2022

    طبعــة: يناير 2023

    Section000002.xhtml

    21 شارع أحمد عرابي - المهندسين - الجيزة

    تليفـــــــون: 33466434 - 33472864 02

    فاكـــــــــس : 33462576 02

    خدمة العملاء: 16766

    Website: www.nahdetmisr.com

    E-mail: publishing@nahdetmisr.com

    مُقدمة

    في تاريخ الأمم وحياة الشعوب فترات تضيع فيها بعض الفرص، لا بسبب سوء النية بقدر ما هو بسبب نقص الخبرة وغياب القدرة على اقتناص الفرص واستثمار الأحداث، ولقد سجلت جزءًا من تجربتي مشاركًا من الداخل، ثم شاهدًا من الخارج على سنوات من فترة حكم الرئيس الراحل «مبارك»، وقد حاولت فيها جاهدًا أن أتحرَّى الصدق وألا تحكمني محبة إنسانية أو علاقة شخصية أو مرارة نفسية بقدر ما تكون الموضوعية هي القول الفصل في كل ما أكتب.

    ولقد كتبت كثيرًا - في ظل حكم الرئيس الراحل «مبارك» -أن التاريخ عندما يقيِّم الرؤساء الثلاثة «عبد الناصر» و«السادات» و«مبارك» سوف يقول: لقد نجح «عبد الناصر» في اختراق قضايا كبرى وأخفق في بعضها، وحقق «السادات» إنجازاتٍ مهمة ثم فشل في بعضها، بينما يكون الأمر عند تقييم الرئيس «مبارك» ليس بمعيار النجاح والفشل وحدهما، ولكن بمعدل الفرص التي لم يقتنصها وأفلتت من اليد المصرية؛ نتيجة الرغبة في استمرار حالة السكون والابتعاد عن صخب المواقف وقوة القرار.

    وسوف يجد القارئ في مستهل هذا الكتاب تفريغًا للرسالة التي كتبتها في السابع عشر من نوفمبر عام 1981، أي بعد أقل من خمسة أسابيع فقط من تولي الرئيس الراحل «مبارك» رئاسة الدولة المصرية بعد اغتيال الرئيس الراحل «السادات»، كما سيجد صورة (زنكوغرافية) للرسالة في ملحق الوثائق والصور بهذا الكتاب. وقد ضمنت تلك الرسالة التي وجهتها من «نيودلهي»، حيث كنت أعمل سكرتيرًا أول للسفارة المصرية هناك إلى السفير «د.أسامة الباز» الذي كان مديرًا لمكتب الرئيس الجديد، لقد ضمنتها رؤية شاب مصري لمستقبل الحكم، وضمنتها أيضًا توصيات ترتبط بوقتها وظروفها، وتمنيت على الرئيس الجديد أن يطلع عليها وأن يفكر فيها، وقد كان من أمانة «د.أسامة الباز» أن احتفظ بها وكتب على هوامشها ملخصًا لبعض نقاطها، وأظنه قد عرضها في حينها، إلى أن قام أحد تلاميذه النابهين السفير «هاني خلاف» - وهو زوج شقيقته في ذات الوقت - بإصدار كتاب عنه بعنوان (سيرة حياة) وضمنه رسالتي التي وجدها في الأرشيف الشخصي لراحلٍ عزيز هو من آباء الدبلوماسية المصرية.

    ولقد أرسلت إليَّ الأستاذة «نشوى الحوفي» الإعلامية والكاتبة الصحفية وممثلة دار نهضة مصر التي صدر عنها هذا الكتاب بنسخة من رسالتي الأصلية بخط يدي، رأيت أن أضعها أمام القارئ ليرى فيها أنني طالبت وقتها بتخلي الرئيس المصري عن رئاسة «الحزب الوطني» الأسبق، ودعوته إلى تعيين أكثر من نائبٍ له، وتمنيت عليه التخلص من «مراكز القوى» القديمة، والسعي إلى دعم مؤسسة «الأزهر الشريف» وتحقيق استقلالها، والإفراج عن بابا «الكنيسة القبطية» الذي كان منفيًّا في «الدير» خارج «القاهرة»، وضمنتها كذلك بعض المقترحات الإصلاحية والتي أراها صالحة في روحها لكي تكون رسالة يجري توجيهها لأي حاكم مصري جديد.

    .. إنني لا أبتغي من هذه الصفحات - والتي كانت في الأصل حلقات تلفزيونية متتالية من عام 2012 إلى عام 2015؛ ولذلك ارتبطت درجة الإيقاع في كل منها بالأحداث الجارية والظروف المحيطة - إساءة لأحد أو تحسينًا لصورة أحد، بدليل أن اللوم قد جاءني من الجانبين معًا بما يعزز مصداقية ما قلت، ويؤكد حيادي الذي التزمت به، ويضعني في خانة الوطن دون سواه، ولا أبتغي من كل ذلك في النهاية إلا تعبيد الطريق نحو المستقبل والاتجاه إلى الأفضل لوطنٍ هو أغلى الأوطان.

    مصطفى الفقي

    فبراير 2015

    Section000003.xhtml

    نيودلهي في 17 نوفمبر 1981

    أخي الكبير د. أسامة ..

    تحياتي واحترامي وأطيب أمنياتي بالصحة والسعادة..

    رأيت أن أكتب لكم من وقت لآخر بعض تصوراتي في السياستين الداخلية والخارجية، وقلت لنفسي: إن تلك الخواطر إن لم تكن ذات فائدة لكم فلا أعتقد أنها ستكون ضارة، فهي قبل كل شيء نبضات مواطن مصري..

    أحب أولًا أن أسجل تفاؤلي ومعي ملايين من المصريين وغير المصريين من الانتماءات السياسية كافة بفترة حكم الرئيس مبارك، إذ تؤكد كل الشواهد جديته ونزاهته وليبراليته.. وتعن لي بعض الاقتراحات أكتبها لسيادتك باعتباري أحد تلاميذك وممن ارتبطوا بشخصك حبًّا وإعجابًا منذ سنوات.. وأبدأ بالشئون الداخلية فهي مركز اهتمامي كما تعرف..

    أولًا: الشئون الداخلية:

    أ - رئاسة الحزب الوطني:

    أعتقد أنه يجب أن يتخلى الرئيس عن هذا المنصب؛ لأنه رئيس الدولة وهو الحَكَم بين الأحزاب، ولا يجوز أن يكون طرفًا مباشرًا في الصراعات والانتقادات، ومثل هذه الخطوة تعطي الرئيس تقديرًا أكثر لدى الجميع، فهي تكريس حقيقي للديمقراطية وإشعار لكل المصريين - مهما كانت انتماءاتهم - أن الرئيس للجميع حكومة ومعارضة، يمينًا أو يسارًا.

    ب - نائبان لرئيس الجمهورية:

    أرى تعيين نائبين لرئيس الجمهورية بدلًا من نائب واحد مع تحديد أقدمية أحدهما على الآخر حتى لا يكون هناك مجال للتنازع أو الاستقطاب .. ويبقى السؤال: هل سيكون النائبان من العناصر المدنية أو العسكرية؟ وتتردد أسماء كثيرة مثل السادة: كمال حسن علي، الفريق أبو غزالة، د. عبد العزيز حجازي، د. مصطفى خليل، وأحيانًا أسماء مثل فكري مكرم عبيد، وممدوح سالم .. إلخ.

    ولا شك أن اختيار نائب رئيس الجمهورية الآن يعد مسألة صعبة، وسوف تكشف إلى حد كبير عن رؤى الرئيس الجديد للمستقبل ومدى مشاركة الجيش في السياسة المصرية.

    جـ - إعادة تنظيم مشيخة الأزهر:

    تسيطر عليَّ دائمًا فكرة ضرورة إعطاء الأزهر دورًا روحيًّا أكثر فعالية داخل مصر وخارجها، سوف يخدم على المدى الطويل سياسة مصر في العالمين الإسلامي والعربي، ويكون ذلك بإعطاء مشيخة الأزهر درجة أكبر من الاستقلالية عن سيطرة الدولة، بحيث يكون لها مركز أدبي ومكانة روحية أكبر، وأقترح أن يكون تعيين شيخ الأزهر بقرار جمهوري بعد انتخابه من مجمع البحوث الإسلامية (هيئة كبار العلماء سابقًا)؛ وذلك حتى يتمكن الأزهر ومشيخته من ممارسة دور أكثر فعالية في الدعوة الإسلامية الصحيحة والمؤثرة، بدلًا من أن يكون موظفًا في الدولة لا يستجيب الناس لدعواه باعتباره جزءًا من أي نظام قائم، كما أن إعطاء منصب شيخ الأزهر بعض الاحترام والمهابة، سوف يجعل للأزهر دورًا أكثر فعالية في الخارج، خصوصًا أن بعض الأسماء المصرية ذات مكانة عالية في الداخل والخارج وفي مقدمتها الإمام «محمد متولي الشعراوي» بشعبيته الروحية الذائعة.

    د - العناصر القيادية في الصحافة والجامعات:

    يبدو ملحوظًا في السنوات الأخيرة هبوط مستوى القيادات الصحفية وبروز أسماء لا رصيد لها من الموهبة أو الكفاءة، ربما بسبب هجرة القيادات الصحفية هجرة اختيارية إلى الخارج أو هجرة زمانية في الداخل، والأمر في ظني يستوجب ضرورة دفع عناصر جيِّدة إلى المقدمة والاهتمام بالدوريات والصحافة الثقافية والأدبية، فالفراغ الذي يدفع ببعض شبابنا إلى دائرة العنف والإرهاب مصدره خلو الساحة الفكرية من البدائل المقبولة.. كما أن الجامعات منارات للفكر ومراكز للتأثير في الجيل الجديد، ولا يعقل أن يتولى رئاسة أكبر وأقدم جامعة مصرية أستاذ يحفل تاريخه بإعطاء الدروس الخصوصية!! وبهذه المناسبة إعادة النظر في الاستثناءات الممنوحة لأبناء أعضاء هيئة التدريس والعاملين بالجامعات وغيرهم، إذ لا نظير لذلك في أي بلد آخر..

    هـ - مقر دائم لرؤساء الجمهورية والوزارة:

    يجب أن نتخذ قرارًا جادًّا في هذه المسألة أسوة بكل الدول المتحضرة، بحيث يكون هناك مقر ثابت لرؤساء الجمهورية للإقامة، يظلون فيه مدة الرئاسة وينتقل إليه من يخلفهم، وكذلك الأمر بالنسبة لإقامة رؤساء الوزارات، فذلك أدعى للاحترام وتأكيد للتقاليد الشرفية، وليست هذه بدعة فهي موجودة في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا بل في بلد مثل الهند..

    و - تقليص نفوذ العناصر المرفوضة شعبيًّا:

    استقبل الناس خبر استقالة بعض السياسيين القدامى بارتياح شديد وهم يتطلعون إلى القضاء على أي نفوذ للثروة وتأثيرها على السلطة؛ لأن الارتباط بين السلطة والثروة من الأمور الاستفزازية للمواطن المصري عبر تاريخه الطويل، فضلًا عن أن «حاشية» أي حاكم هي التي تعد معيارًا لتحديد شعبيته لدى الجماهير ومدى تقييمهم له ..

    ز - الوحدة الوطنية:

    سوف تدخل مصر مرحلة من المصالحة الوطنية بين كل أبناء الوطن، وليكن عهد الرئيس مبارك تحت شعار «مصر لكل أبنائها»، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو العقائدية أو الطبقية .. وأقترح الإيعاز للبابا شنودة - بعد عدة شهور ـ بطلب مقابلة الرئيس وصدور قرار جمهوري بعد ذلك يلغي قرار عدم اعتراف الدولة بالبابا، فقد كان القرار الأخير عاريًا من الحكمة ومثيرًا للنقد خصوصًا لدى الغرب.. كما أن عودة شنودة - بشروط واضحة عليه - سوف تكون مؤشرًا للمصالحة والتسامح والوحدة الوطنية.

    ثانيًا: الشئون الخارجية:

    أ - تحديد شخصية الرئيس لدى العالم الخارجي:

    انطبقت لدى الأذهان خصوصًا في دول العالم الثالث صورة الرئيس الراحل أنور السادات باعتباره أكثر ارتباطًا بالغرب وأقل اهتمامًا بدور مصر في آسيا وإفريقيا والعالم الثالث وعدم الانحياز؛ لذلك أقترح أن تكون أول زيارة للرئيس مبارك خارج مصر لإحدى الدول الآسيوية أو الإفريقية أو دول عدم الانحياز (الهند/ يوغوسلافيا.. إلخ)؛ لأن ذلك يعطي الرئيس الجديد صورة مستقلة ومقبولة جدًّا لدى دول العالم الثالث.

    ب - العلاقات المصرية/ السوفيتية:

    يمكن إعادة السفير المصري إلى موسكو فذلك أمر طبيعي، ولا أتصور أن تسحب مصر سفيرها من عاصمة إحدى القوتين العظميين، مهما كانت ملاحظاتنا على تلك القوة، خصوصًا أن القوة الأخرى في الجانب الآخر لم تطلب ذلك ولم تسحب سفيرها من موسكو.

    جــ - العلاقات المصرية/ القبرصية:

    يمكن أيضًا إعادة العلاقات مع نظام «كبريانو»، خصوصًا أنهم هناك مستعدون لإطلاق اسم الشهيد يوسف السباعي على أحد الميادين الهامة في (نيقوسيا) كنوع من الاعتذار لمصر، ويجب ألا ننكر أن هناك سوء تقدير من جانبنا أيضًا في حادث (لارنكا)..

    هذه يا سيدي عجالة لبعض تصوراتي؛ لأن الحقيبة الدبلوماسية على وشك الإغلاق..

    أرجو أن تتقبل احترامي وتحياتي للعزيز باسل ووالدته.

    وآسف لأي إزعاج قد أكون قد سببته من خسارة وقتكم عبر هذه السطور...

    مصطفى الفقي

    17/11/ 1981

    مدخل

    لماذا أتحدث؟

    سنوات الفرص الضائعة هي أقرب ما يكون في التشبيه إلى فترة حكم الرئيس الراحل «حسني مبارك» التي امتدت لقرابة ثلاثين عامًا، وتكاد تكون - إن لم تكن - أطول فترات الحكم في التاريخ المصري الحديث، ربما بعد محمد علي مباشرة...

    أريد أن أقول هنا عددًا من الملاحظات كي أكون صادقًا.

    أولًا أنا ابن الدبلوماسية المصرية، بدأتُ من درجة ملحق بقرار من الرئيس جمال عبد الناصر عام 1966، وانتهت خدمتي الدبلوماسية في عام 2000، عندما عُينت في مجلس الشعب وكيلًا للجنة العلاقات الخارجية عندما كان رئيسها الراحل «ماهر أباظة» ... ثم أصبحت رئيسًا للجنة لسنوات تسع بعد ذلك.

    أقول ذلك لأن معظم عملي في تاريخي كان دبلوماسيًّا رغم أنني ضربت بسهمٍ في العمل البرلماني، والعمل الإعلامي.. في العمل الأكاديمي حصلت على درجة الدكتوراه من جامعة لندن عام 1977 في موضوع الأقباط في السياسة المصرية، والذي كان يعنيني إلى حد بعيد، ولا يزال أحد المؤشرات المهمة في نشاطي السياسي، على امتداد الثلاثين عامًا الماضية أو ما يزيد.

    أقول إنني كنت ابن الدبلوماسية المصرية، خدمت في بريطانيا.. وخدمت في الهند في فترة أعتز بها كثيرًا، ثم كنت سفيرًا في النمسا.. وكنت مندوبًا دائمًا للوكالة الدولية للطاقة الذرية.. ثم عدت إلى مصر ووصلت إلى مساعد أول وزير الخارجية، وقت أن كان السيد عمرو موسى وزيرًا للخارجية. وكنت مندوبًا دائمًا لمصر لدى جامعة الدول العربية.. كما قمت موازيًا لذلك بعمل أكاديمي هو التدريس في الجامعة الأمريكية بمصر لفترة امتدت من عام 1979 إلى 1993.. لم يقطعها إلا فترة عملي في الهند التي امتدت ثلاث أو أربع سنوات في مطلع الثمانينيات.

    أقول هذا لكي أوضح أن الأقدار هي التي قذفت بي إلى المشهد السياسي في مصر مطلع الثمانينيات، قضيت فترة شاهدًا قريبًا مباشرًا، ثم أصبحت شاهدًا مُراقبًا ومتابعًا على مدى السنوات التي تلت ذلك.

    عندما كان الناس يقرءون خبرًا عن مؤسسة الرئاسة أو عن موقف سياسي معين كانت قراءتي له تختلف؛ لأنني كنت في يوم من الأيام قريبًا من المطبخ.. أعرف الأشخاص.. وأعرف المواقف.. وأعي التوجهات والتطلعات والطموحات والأخطاء والمزايا.. فكانت قراءتي مختلفة.

    لذلك أرجو أن تكون شهادتي أقرب ما تكون إلى الموضوعية، ولا أدَّعي أنها سوف تكون موضوعية كاملة.. فهذا جهدٌ يفوق مشاعر البشر وتركيبتهم النفسية.. لأنهم يحبون ويكرهون.. عانوا من البعض.. واستفادوا من البعض الآخر.. فلا بد أن تشوب شهادتهم دائمًا بعض التحيزات.. ولكنني سوف أكون - بضمير وطني يقظ يتناسب مع هذه اللحظة العظيمة في تاريخ مصر بعد ثورة 25 يناير 2011 - رقيبًا على نفسي، حتى ما يُدينني شخصيًّا، سوف أتحدث عنه قدر ما أستطيع.. لأنني أريد أن تكون شهادتي شهادة حق للأجيال القادمة.

    أسمع الآن نقدًا للمرحلة الماضية، معظمه صحيح ولكن بعضه يحتاج إلى تصحيح.. فهناك أبعاد وقضايا لا بد أن نُلم بها؛ حتى نخرج برؤية أمينة وصادقة وواضحة لتلك الفترة التي عاشتها مصر من 1981 حتى 2011..

    فترة تمتد لثلاثين عامًا فيها من الأخطاء والخطايا.. وفيها أيضًا بعض النقاط الإيجابية.. لأنه لا يوجد شيء في الدنيا يبدو سوادًا كله.. كما لا يوجد ثوب ناصع كله بياض.

    سوف أسجل شهادتي بكل موضوعية وأمانة، ولا أقول الآن ذلك بعد أفول نجم نظام مبارك، مثلما قد يذهب البعض؛ لأنني تحدثت بالنقد في ظل وجود النظام ذاته، وفي أوج قوته، ولي مواقف موثقة دفعتُ ثمنها.. لقد كان من اليسير أن أكون وزيرًا، ومر من تحت يدي عشرات الوزراء.. وكان يمكن أن أكون عضوًا في الأمانة العامة للحزب، وكان يمكن أن أكون عضوًا في المكتب السياسي، وكان يمكن أن أكون في عشرات المواقع.. ولكن كان النظام يعرف جيدًا وخصوصًا الرئيس الراحل حسني مبارك أن ولائي ليس كاملًا، وأن ولائي للحق والحقيقة هو الذي يغلب عليَّ.. حتى لو عايشت موقفًا لفترة فإنني عند لحظة معينة أتوقف وأراجع وأنسحب أو أعترض أو أسيء للآخرين.. هذه حقيقة يجب أن أعترف بها في البداية.

    والأمر الذي يجب أن ألفت إليه النظر أيضًا هو أن معظم شهود ما سوف أتحدث عنه أحياء يرزقون، فليس أمامي حتى بالمنطق النفعي البحت إلا أن أكون صادقًا. هناك من يتحدثون عن فترات مضت منذ سنوات طويلة وربما يكون معظم الشهود في ذمة الله، أما أنا فأتناول أحداثًا معظم شهودها أحياء.. ولذلك أستطيع أن أكون طرفًا في جدال لمن يريد أن يجادل.. وسوف أكون متوازنًا قدر الإمكان.. أعطي لكل ذي حقٍّ حقه.. بغض النظر عن ردود الفعل.

    وأقول منذ البداية إنني لن أستطيع أن أرضي الكل.. سوف ينتقدني كل المتعايشين والمتعاطفين مع نظام مبارك.. وسوف ينتقدني أيضًا الثوار من أبناء 25 يناير 2011 لأن الحقيقة دائمًا هي طرف بين نقيضين.. ولست مستعدًّا لأن أتحمل وزر الاندفاع في نقيض مُعين على حساب الحقيقة ذاتها.

    وبما أنني كنت مُتابعًا لمُجريات الأمور عن قرب في فترة معينة.. فإنني أحتفظ بالجزء الخاص بالأمن القومي المصري والمصلحة الوطنية العليا.. لأن ذلك هو ضمير أي وطني مصري يريد أن يحتفظ ببعض الحقائق التي لا يخل عدم ذكرها بالسياق العام للأحداث.. ولكن التطرق إليها يبدو نوعًا من الدنية على حساب المصالح العليا للوطن.. خصوصًا إذا كانت لا تمس أشخاصًا بأعينهم؛ ولكنها تمس الأمن القومي تحديدًا.

    إنني أفتح الباب أمام من يريد أن يحاور أو يرد أو ينتقد.. بشرط أن نرتفع جميعًا إلى مستوى المسئولية.. مسئولية وطن في لحظة فارقة من تاريخه الطويل.. هذا الوطن العريق العجوز والذي يعتبر المُعلم والمُلهم.. يمر حاليًّا بفترة نسميها «فترة انتقالية».. ولكنها تشهد حالات من التصفية.. وحالات من الإقصاء والاستبعاد.. وتشهد أيضًا نوعًا من السيولة الإعلامية بحيث يتعذر على المشاهد الموضوعي أن ينتزع الحقيقة من ركام ما يقال.. فالكل الآن يتحدث لأنه لا يوجد رقيب على أحد.

    ليست الشجاعة أن نتحدث الآن.. ولكن الشجاعة الحقيقية، حتى ولو كانت نصف ما يُقال الآن، هي أن تكون قد ذُكرت تحت مظلة النظام الأسبق حتى لو تم ذلك بطرق مختلفة.

    لا أدَّعي أنني كنت «عنتر شايل سيفه.. وواقف طول النهار أهاجم النظام» لا.. لقد تعايشت معه في لحظات كثيرة؛ لأنني كنت مؤمنًا - وما زلت - أن التغيير من الداخل أجدى وأسرع، حتى ولو تم بمعدل 10 أو 20 بالمائة، وأما أن نجلس على الجانب الآخر من النهر، وننتقد ونلوك الشعارات والأفكار دون أن نستطيع أن نحدث تغييرًا فتلك وجهة نظر أخرى.. ولكلٍّ ما ارتآه في حياته.

    فالشهادة ليست شجاعة بأثر رجعي.. ولكن الشهادة هي قضية موضوعية يجب أن نُلح عليها، وأن نتقدم نحوها بكل وضوح حتى لو كان فيها إيذاء لنا أو إيذاء لبعض أصدقائنا.. فالوطن أكبر وأعظم من كل هؤلاء.. دعني أكون أمينًا في شهادتي للحق والحقيقة والتاريخ.. وأريد أن أقول إنني لست هنا في موقع سلطة الادعاء بحيث أوجه الإدانة للبعض على حساب البعض الآخر.. إنني أوجه الإدانة للحدث، أوجه الإدانة للموقف وأرتفع بعيدًا عن مستوى الأشخاص.

    وإن كنت أعلم أننا لا يمكن أن نفصل بين الشخص والحقيقة.. بين الشخص والفعل.. بين الشخص والموقف.. ولكن دعنا نحاول.. أريد أن أذكر أنني قلت كلمتي في مراحل كثيرة جدًّا.

    معي هنا بعض النصوص التي تؤكد ذلك:

    قلت في مقال شهير في صحيفة الأهرام في عام 2002:

    «إن الزواج غير الشرعي بين السلطة والثروة قد أدى إلى شيوع الفساد السياسي والاقتصادي والإداري». وكان ذلك في فترة قوة النظام، وبداية التغيرات في الحزب الوطني.

    وقلت أيضًا في محاضرة مكتوبة ومنشورة بالصحف:

    «إن ضرب الكفاءات وتهميش العقليات هو سمة هذا العهد».

    وكان ذلك صحيحًا.. حيث رأيت كيف تستبعد الكفاءات وتُقصَى؛ نتيجة أن النظام جعل نفسه حبيسًا في إطار ضيق لا يختار إلا منه ولا يفكر إلا معه.

    قلت أيضًا وبوضوح في محاضرة عامة لي في مدينة الإسكندرية: «إننا نعيش عصر الفرص الضائعة، أين ملفات مياه النيل، وألغام الصحراء الغربية، وتعمير سيناء؟ وما هو مستقبل ملف الوحدة الوطنية؟».

    كل هذه الكتابات موثقة وموجودة في الصحف اليومية، ولم يكن يمر شيء منها بغير عقاب في أي شكل من الأشكال: مكالمات تليفونية للتأنيب، ورسائل للتكدير والتحذير، واستبعاد في كثيرٍ من المواقف التي تحتاج إلى شيء من الثقة.

    وقلت في مقال آخر: «إن قيادة الأوطان تختلف عن إدارة الشركات».. لأنني اكتشفت أنه لا توجد رؤية سياسية، وإنما يتعامل النظام بالحسابات الرقمية.

    ولما جاءت مجموعة الشباب الجديد المحيطة بالسيد جمال مبارك.. أدركت أننا أمام عصر لا يدرك معنى تاريخ مصر.. ولا يفهم أن مصر وطنٌ كبيرٌ.. فيه العشوائيات وفيه المناطق الأثرية.. فيه المسجد والكنيسة.. فيه النقابة والجامعة.. فيه الحزب والتجمع البشري السياسي في كل مكان.. مصر هي التاريخ والحضارة والثقافة.. والغنى والفقر.. والنيل والهرم.. ملفات ضخمة جدًّا ومصر ليست بلدًا هيِّنًا.. فالبعض يتصور أن مصر تعاني الفقر وهذا صحيح.. ولكن مواردها ليست قليلة.. هي تعاني من ندرة الكفاءات في بعض المواقع، رغم أن الله قد منحها كفاءات بغير حدود تتفوق بها في أي مكان في العالم.

    لا أعرف لماذا لا نستطيع أن نوظف أفضل ما لدينا من كفاءات معينة؟! والسبب هو غياب الرؤية.. وكتبت كتابًا في مطلع التسعينيات كان عنوانه «الرؤية الغائبة»؛ لأنني اكتشفت أن كل شيء يتم بلا رؤية سياسية.

    قلت عبارة فتحت عليَّ أبواب الجحيم، وكانت إشارة مُباشرة لملف التوريث.. ففي عام 2009 - 2010 قلت: «هناك من يرى أن رئيس مصر القادم يجب أن يحظى برضاء أمريكي وقبول إسرائيلي».. لأنني كنت أشعر أن الهرولة تجاه واشنطن وأن استرضاء إسرائيل هما مقدمتان طبيعيتان لنوع من الانبطاح السياسي لصالح الملف القادم. وقامت الدنيا ولم تقعد.. وهاجمني السياسي اللامع الذكي الكاتب الكبير، الذي أكنُّ له تقديرًا طوال حياتي، الأستاذ «محمد حسنين هيكل» والذي أرى فيه ظاهرة عصرية تستحق الاحترام.. إذ جعلني كرة من نار ألقاها على النظام.. وقال: «شهد شاهد من أهله».

    وأضاف: إن مصطفى الفقي عندما يقول ذلك فإن لديه ما يدفعه لأن يقول ما قاله.. وبالمناسبة مُنعت من الكتابة في صحيفة الأهرام، وأعيدت إليَّ مقالاتي في عام 2008 كله.. لأنني امتدحت الأستاذ هيكل وأعطيته قدره في أحد المقالات؛ لأن هذه كانت قناعتي.

    وفي العدد التالي له كتبت عن الفريق «سعد الدين الشاذلي» وقيمته.. فجاءتني الرسالة: «إنك لا ترتدع.. وتمضي في طريقك مناوئًا للنظام ولا تتوقف».

    على كل حال.. عبارة «رئيس مصر القادم» كانت فرصة فتح النظام عليَّ فيها أبواق إعلامه؛ إذ إن صحيفة الحزب قد أفردت صفحتين كاملتين لزملاء لي في الحزب يسبونني وإشارات وغمز ولمز لا مبرر لها.

    كما كتبت إحدى الصحف المسائية في صفحتها الأولى، بل عددها بالكامل، تهجمًا عليَّ ويمس شخصي إلى حد دفعني إلى أن أتقدم ببلاغ للنائب العام ما زال موجودًا حتى الآن!! ولم أسحبه رغم الضغوط التي مورست عليَّ في ذلك الوقت لسحب ذلك البلاغ.. صحيح أنه جُمد ولكنه ما زال قائمًا.. لأن المقال كان ينطق بكل أنواع البذاءة والإسفاف.

    قلت مرة في محاضرة في «روتاري»:

    «إن مبارك لا يهتم بدور مصر الإقليمي».. ونسيت أنني قلت ذلك وانصرفت - كل محاضرة لي كان يعقبها تأنيب أو تكدير - اتصل بي الصديق العزيز السفير «نبيل فهمي» سفيرنا القدير الذي كان في واشنطن، ووزير الخارجية الأسبق، وهو الآن عميد لإحدى الكليات المرموقة في الجامعة الأمريكية.. وقال لي: «اقرأ صحيفة البديل عنوانها الرئيسي، وأعتقد أنه سوف يفتح عليك أبوابًا من المصاعب في المرحلة القادمة».

    اشتريت «البديل» التي كان صاحبها ورئيس تحريرها الراحل الصديق العزيز الدكتور «محمد السيد سعيد» - رحمه الله - فوجدت أن العنوان «مصطفى الفقي يقول: مبارك لا يهتم بدور مصر الإقليمي». وكنت ذاهبًا إلى «دمشق»؛ لحضور مؤتمر للبرلمان العربي الذي كنت نائبًا لرئيسه.

    وجاءني اتصال من الدكتور «زكريا عزمي»، رئيس الديوان، يقول لي: «الرئيس منزعج تمامًا من مثل هذه الأقوال غير المسئولة، واعتبر هذا تحذيرًا».

    قلت له: إنني تلقيت اتصالًا أيضًا من السفير «سليمان عواد» بنفس المعنى.. ولكن طبعًا سليمان عواد صديق عزيز ورجل مُهذب بطبيعته وقد قالها لي ربما في أسلوب أكثر تغليفًا ورقة.

    وأذكر هنا أن الكاتب المعروف «عادل حمودة» وقف معي مواقف طيبة كثيرة، ولا بد أن أعترف بها عندما أبعدت من الرئاسة وكان الكل يبتعد عني كأن بي «برص» حتى حملة الأبخرة وأصدقاء الصباح والمساء كانوا ينفضُّون، وتوقف جرس التليفون.

    كتب عني «عادل حمودة» في الصفحة الأخيرة في «روز اليوسف».. عندما كان رئيسًا لتحريرها.. ووضعني في مكاني الطبيعي.. وتحدث عني منذ أن كنت طالبًا قياديًّا في الجامعة.. وعن تأثره هو وعدد من الزملاء بي في ذلك الوقت.. لأنه يأتي بعدي بعدة سنوات دراسية.

    حضر عادل حمودة تلك المحاضرة كصحفي كبير متمرس.. وتحدثت فيها نحو نافذة للتعبير عن التيارات الإسلامية في الحياة السياسية المصرية وكانت في «معرض القاهرة الدولي للكتاب».

    وقدمني الراحل الدكتور سمير سرحان يومها.. وقلت: إن مخزون الحضارة العربية الإسلامية يمكن أن نستلهم منه حزبًا سياسيًّا بشرط ألا يكون حزبًا دينيًّا.. ولكن أن يكون حزبًا سياسيًّا..

    قلت ذلك في عام 1993 وبعد عام من خروجي من العمل في رئاسة الجمهورية.. ومضى الأمر.. (مع ملاحظة أن هناك الكثيرين لا يقرءون.. وإن قرءوا لا يفهمون العبارات المواربة التي لا يلتقطها إلا الصحفي المتمرس والكاتب الذكي السياسي النابغ.. فقد كنت أتعمد شيئًا من التقية فيما أقول أحيانًا).

    قلت مرة: «إن فقر النظام السياسي قد أفرز قيادات هزيلة» كنت أتكلم عن عدم وجود مرشحين للحياة السياسية.

    وقد ذهبت يومًا إلى الرئيس مبارك أرشح عددًا من الأسماء التي لا أعرفها.. ولكنني أعرف تاريخها وأسمع عنها، في وقت كان يشكو فيه من عدم وجود قيادات وكفاءات، وأنه محصور في الاختيارات في دائرة معينة، انزعج من ذلك تمامًا ولم يعجبه هذا الحديث؛ لأنه رأى في وقتها أن فيه تدخلًا فيما لا ينبغي أن أتدخل فيه.

    وقلت عبارة شهيرة تُرجمت إلى الفارسية وتحولت إلى شعارات في بعض شوارع إيران: «إن الشعب المصري سني المذهب شيعي الهوى».

    كنت من أشد المؤيدين وما زلت وقبل غيري ممن تحدثوا عن ذلك فيما بعد لـ «ضرورة عودة العلاقات المصرية الإيرانية».. فأنا لا أفهم على الإطلاق أن تكون هناك دولتان بحجم مصر وإيران في الشرق الأوسط، وليس بينهما علاقات دبلوماسية كاملة على مستوى السفراء، لا أريد أن تكون علاقة عشق أو غرام أو حتى انسجام سياسي كامل، ولكن التواصل يجب أن يكون مباشرًا.

    وتحدثت عن الشعب المصري بالذات، والذي ليس لديه قضية سني أو شيعي.. إطلاقًا.. فنحن المصريين سنيو المذهب.. ولكننا أخذنا من الشيعة بعض طقوس الحياة: مزارات أهل البيت الذين لجئوا إلى مصر في القرن الأول الهجري.. وأيضًا أخذنا الاحتفال بعاشوراء.. الاحتفال المُبهر بشهر رمضان.. المناسبات الدينية المختلفة.. إذًا ليس هناك من يزايد علينا في هذا الشأن على الإطلاق.

    وكانت هذه العبارة محل تقدير إقليمي ودولي؛ لأنني كنت وما زلت من الداعين لذلك..

    وبالفعل استشهدت بعدد من زملائي الذين حضروا المحاضرة، وذهبت في معية السفير «شكري فؤاد ميخائيل»، رحمه الله، وهو بمثابة أخي الكبير ومن السفراء المخضرمين في الخارجية إلى عمرو موسى، وجلسنا نشرح للسيد عمرو موسى أنني ذكرت ذلك في سياق الحرص على السياسة الخارجية المصرية وقيمتها وليس تجريحًا في النظام كما يتصور.. ثم عدت إلى موقعي حينذاك في العاصمة «فيينا».

    الشيخ «سلطان بن محمد القاسمي» سلطان الشارقة وهو عزيز عليَّ.. وهو أحد المشايخ في منطقة الخليج الذين يحبون مصر، وأنتم تعلمون مبادرته التي عرضها كريمة - سواء قبلت أم لم تقبل - بإعادة بناء المجمع العلمي المصري، وتبرعه بهذا الكم الهائل من الكتب القيمة لديه لتعويض مكتبة المجمع عما فقدته في ذلك الحريق غير المسئول في ذلك اليوم من أيام ما بعد الثورة.

    الشيخ سلطان أيضًا هو الذي بنى المقر الحالي للجمعية المصرية التاريخية وغيرها من المباني.. وقد درس في القاهرة بكلية الزراعة، زميلًا لعادل إمام وصلاح السعدني وذلك الجيل الذي لا يزال يتواصل معهم.. لأنه مُحب لهذا البلد وعاشق له.

    دعاني بعد الثورة لمحاضرة في معرض الشارقة للكتاب.. ووقف الرجل يقول بالنص: «إن الدكتور الفقي كان يعبر دائمًا عن موقفه المعارض للنظام الأسبق بكل صدق وشفافية.. بينما كان العديد يتساقطون الواحد تلو الآخر».. ونشرت حديثه صحيفة الخليج في 19 نوفمبر عام 2011.. حتى الأصدقاء من خارج مصر كانوا يعلمون بمدى المـُعاناة التي أشعر بها.

    وقمت بحركة خبيثة فأصدرت كتابًا في أواخر التسعينيات مبنيًّا على مقال عنوانه «الرهان على الحصان».. إذ اكتشفت أن النظام إذا كان أمامه نموذجان لمنصب معين.. أحدهما نموذج الحصان والثاني نموذج الحمار.. فإنه سوف يلجأ إلى النموذج الثاني ويستثني نموذج الحصان!!

    الحصان لا يستطيع أحد ركوبه؛ لأنه لو شعر أن راكبه ليس فارسه الذي اعتاد عليه يمكن أن يقلبه في كبوة سريعة.. وإذا جرى في سباق عظيم فيجب أن تعطيه قطعة سكر كنوع من التحية والتقدير لأنه حيوان رشيق وذكي.. أما الحمار فنمطي يفعل ما تعود عليه أيًّا كان دون أن يكون له رأي، ولا يعرف من يمتطيه، ويمضي إلى طريقه بنفس النمط.

    أصدرت كتابي هذا وتناولت فيه قضية الاختيار للوظائف المهمة والمواقع المؤثرة في النظام الأسبق بتفادي نموذج الحصان والتركيز على نموذج الحمار.. وهو ما أدى إلى تدهور واضح في كل من الحكم والإدارة.

    كان يحدث أن يظل المسئول في موقعه 25 عامًا أو أكثر.. هل يحدث ذلك في أي بلد في العالم؟! (لو عملت في مكان لمدة خمس سنوات فسيصيبني الملل منه، أحتاج إلى تجديد وتغيير). هذا ما كان يحدث وهذا ما قلته بكل شجاعة وبكل قوة، لست في موقع الدفاع عن النفس ولكنني أريد أن أعطي خلفية لما أريد أن أتحدث فيه.

    لقد اتصل بي الصديق أحمد أبو الغيط، آخر وزير خارجية في عصر الرئيس مبارك، وقد يختلف الناس معه أو يتفقون، لكن دعوني أقل لكم إنه من أفضل الناس خلقًا في التعامل مع زملائه.

    كان حريصًا على أرباب المعاشات من أمثالي في وزارة الخارجية.. إذ رفع من شأنهم ماديًّا ومعنويًّا.. كان دمث الخلق، حسن المعشر في العلاقات الإنسانية مع الناس.. في حالتي المرض والعلاج.. وغيرهما، وأدى دوره في مرحلته بقدر ما استطاع.

    قال لي إنه ذهب إلى الرئيس الأسبق في أحد أيام عام 2010 وقال له: يا سيادة الرئيس إن منصب أمين عام جامعة الدول العربية سوف يخلو بعد عدة شهور.. والسيد عمرو موسى عبر عن رأيه القاطع بأنه لا يريد أن يترشح.. فقال له: أتريد المنصب يا أحمد؟ فقال له: لا.. ليس لي اهتمام.. وهناك عبارة شهيرة يقولها أحمد أبو الغيط دائمًا: «لن أخدم إلا تحت علم مصر.. ولا علم غيره».

    فقال له: ماذا تريد؟ فقال: إنني أرى أن شخصًا مثل مصطفى الفقي له قبول عربي عام.. وله اهتمامات بالقضايا القومية وله كتابه الشهير بعنوان «تجديد الفكر القومي» والعرب يحبونه.. لماذا لا ترى يا سيادة الرئيس أن ترفع من قدره بالتعيين في منصب وزاري شكلي ولو وزير دولة حتى يكون على المستوى الذي يريده العرب لهذا المنصب، ونرشحه في عام 2011.. تساءل الرئيس: مصطفى الفقي؟! إنه ليس له ولاء لنا على الإطلاق، ويلعب مراجيح الهواء بيننا وبين المعارضة.

    هذا صحيح، كان وضعي غريبًا للغاية، المعارضة تحسبني على النظام.. والنظام يحسبني على المعارضة!! والسبب أنني كنت محسوبًا بينهما على مصر وحدها.

    حدث في كثير من المراحل أن صحف المعارضة كانت تنتقدني.. وصحف الحزب تهاجمني في نفس التوقيت! علامَ كان يدل ذلك؟ يدل على أنني كنت أقف على الأرضية الوطنية بقدر ما أستطيع.

    إذًا كان لديَّ أسباب كثيرة واسألوا صديقي وزميل دراستي وعمري «منير فخري عبد النور» وزير السياحة الأسبق.. وكان وفديًّا طبعًا وكان سكرتيرًا عامًّا للوفد وسليل عائلة سياسية عريقة.. كنت أبث إليه هواجسي على امتداد السنوات الأخيرة، وأشكو من النظام وسوءاته والمخاوف القادمة وتحدثت عن ثورة الجياع، كما تحدثت عن انتفاضة العشوائيات، كنت أشعر بأن القادم خطير.

    قابلت الدكتور علي الغتيت، أستاذ القانون الدولي المشهور مرة وهو ليس ابن النظام.. قابلته بعد عزاء أحد الأشخاص فقال لي: كيف ترى المستقبل؟ قلت له: البلية التي تُرمى تسير آخر خمس دقائق بقوة الدفع الذاتية.. فنحن في هذه المرحلة.. النظام أكمل عمره الافتراضي.. واستنفد أغراضه تمامًا.. وهم أحياء يرزقون.

    كان الأستاذ «هيكل» كلما التقى بي في أوج وجود النظام أتحدث معه قدر الإمكان، وأبث الآلام التي أشعر بها، والمخاوف التي أدركها عن الوطن.. وهو رجل مثقف، ولديه معلومات كثيرة من مصادره المتعددة. وكان يستمع لي، ويدلي بالنصيحة، وسوف نأتي إلى ذلك فيما بعد عند الحديث عن علاقة النظام بهيكل مثلما نتناول علاقة النظام بالإخوان المسلمين، والمثقفين، واليسار، والأزهر وغيرهم، مثلما نطل على علاقته بالولايات المتحدة الأمريكية، والحكام العرب.

    كما كنت أتحدث مع الدكتور «كمال أبو المجد» رحمه الله في كثير من المراحل عما كنا نشعر به من مخاوف، وكان يوافقني ويكتب رسائل مغلقة للرئيس يبعث بها إليه من خلال ديوان رئاسة الجمهورية.. يقترح فيها ما يشاء ويتحدث فيها عما يجب أن يحدث.. ولكن النظام كان لديه قدر كبير جدًّا من الاستعلاء.. ولا أريد أن أقول الصلف، وعدم الاعتقاد بوجود أخطاء أو أمور تحتاج إلى إصلاح، وأظن أن مأساة الـ 18 يومًا أيام الثورة خير دليل على ذلك.

    وأستأذن القارئ العزيز في أن أبدأ نوعًا من البانوراما العكسية.. أي أنني سأبدأ من حيث نحن وأعود إلى الوراء، أي إلى سنوات عملي في رئاسة الجمهورية.. ثم مشاهداتي وملاحظاتي.. وسوف أجعل لي مرجعية فيما أقول من عصري «عبد الناصر والسادات» لأني شاهدٌ عليهما أيضًا.

    فلقد كنت في عهد الرئيس عبد الناصر شابًّا في منظمة الشباب الاشتراكي، ورئيسًا لاتحاد الطلاب في كليتي، وعُينت في رئاسة الجمهورية فور تخرجي في عهد الرئيس عبد الناصر، ثم ضُممت إلى مجموعة عُينت من منظمة الشباب بقرار جمهوري في وزارة الخارجية في عام 1966.

    أقول ذلك لكي أوضح أننا نريد أن يكون لدينا رؤية متكاملة لكل ما سنتحدث عنه.. لن نجتزئ المواقف.. وإذا استدعى الحديث

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1