Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه
أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه
أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه
Ebook1,089 pages9 hours

أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

عندما تقرأ هذا الكتاب تكتشف أن ما كنت تعرفه عن شخصية وطنية بقيمة وقامة أحمد عرابي هو مجرد شذرات من هنا وهناك ضاع معظمها بين صفحات كتب التاريخ التي زيفه البعض أحيانا كثيرة لتشويه بعض الشخصيات الوطنية،عرابي أحد هؤلاء, حتي جاء الأديب والمؤرخ الراحل محمود الخفيف بكتابه "أحمد عرابي.. الزعيم المفتري عليه" ليكشف جوانب خفية حول شخصية عرابي وحياته والثورة التي كان وقودها فلاحي مصر والتي تعرضت لانتقادات ومحاولات للتشويه والتقليل من شأنها في بعض كتب التاريخ. يقدِّم الكتاب رصداً علمياً لكافة الحقائق والأحداث التي وقعت في تلك الفترة التي شهدت إندلاع الثورة العرابية للرَّد على محاولات تشويه الثورة ومن قادها والتقليل من شأنهما ، والتي لم تكن قاصرة في تلك الفترة علي أنصار الملك وحلفاء الإنجليز فقط، بل أيضاً امتدَّت لبعض الوطنيين الذين قللوا من شأن هذا الحدث ،حيث وجهت تهم وشائعات وإتّهامات إلى عرابي استطاعت أن تسيطر علي رجل الشارع وقتها، ولقد استطاع محمود الخفيف في كتابه الرائع أن يفنِّد ما وُجِّه إلى عرابي ليقدم التاريخ كما كان وليس كما أراده البعض أن يكون. وقد بدأ الخفيف في كتابة هذا العمل خلال عمله في مجلة الرسالة بداية من العدد299 بتاريخ27 مارس1939 وتحدى بهذا الكتاب القصر والإنجليز اللذين تدخّلا بقوة في إيقاف مجلة الرسالة وتعرَّض الخفيف للاضطهاد والمطاردة.
Languageالعربية
PublisherRufoof
Release dateJan 1, 2017
ISBN9786351910908
أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه

Read more from محمود الخفيف

Related to أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه

Related ebooks

Reviews for أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه - محمود الخفيف

    الإهداء

    إلى الأشبال النواهض الميامين من شباب هذا الجيل، في وادينا المبارك، وفي الأقطار العربية الشقيقة أُهْدِي سيرة هذا الزعيم المصري الفلَّاح، الذي جاهد في سبيل الحق ومات على دين الحق، والذي آن أن يُنصفه التاريخ وأن يُحدد له مكانه بين قواد حركتنا القومية.

    محمود الخفيف

    مقدمة

    بقلم  محمود الخفيف

    كان المصريون إلى عهد قريب يذكرون اسم عرابي فلا يبتعث هذا الاسم — وا أسفاه — في أذهانهم إلا صور العنف والنَّزَق، وتراهم — وإن لم يقصدوا — يقرنون اسم عرابي بِمَعَاني الهزيمة والاحتلال والمذلَّة، كأنّ هذه المعاني من مرادفاته.

    وما أذكر مجلسًا تطرَّق الحديث فيه إلى عرابي إلا وسَرَتْ في الوجوه كآبة، وتسابقت الألسن إلى الهزء به وتعديد مساوئه وإبراز مثالبه، اللهم إلا قلة لا يُعجِبهم هذا الكلام، ولكنهم لا يعرفون كيف يَدفَعُون عنه هذا الظلم …

    وكنتُ أبدًا أحد المخالفين الذين يُحِسُّون في قرارة أنفسهم أن الرجل مظلوم وأنه مفترى عليه، وكنتُ أسألُ نفسي دائمًا: أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصريّ الفلّاح، وأن يحدِّد له مكانه بين قواد حركتنا القومية؟

    والحق أنه قلَّ أن نجد في رجالنا رجلًا ضاعت حسناته في سيئاته كما ضاعت حسنات عرابي فيما افتُرِيَ عليه من سيئات، كذلك قلَّ أن نجد في رجالنا رجلًا كرهه أكثر بني قومه مضلَّلِين، واستنكروا أعماله جاهلين، بقدر ما كره هؤلاء عرابيًّا، واستنكروا ما فعل وما أُسند إليه من الأعمال زورًا وإفكًا، وفي ذلك دليل قويٌّ على أن التاريخ قد يظلم عامدًا كما قد يخطئ غير عامد، وفيه كذلك دليل على أن الأمور كثيرًا ما تَجري فيه كما يشاء الحظ لا كما يكون العدل والقسطاس، فيكون نصيب بعض الرجال من التعظيم والتوقير بقدر ما يتوافَى لهم من حظ لا ندري كيف اتفق لهم دون غيرهم، بينما يجني على كثير من ذوي النفوس الصحيحة والعظمة الصادقة ما يَلْحَق بهم من سوء الطالع وما يحيط بهم من نَحْس الأيام …

    وما كان عرابي فيما أعتقد إلا طالبَ حقٍّ يلحق به في طلب الحق الخطأ والصواب كما يلحق بغيره، ولعلي استطعت أن أجلو ذلك في سيرته بقدر ما وصلت إليه من الأدلة في تلك السيرة التي بالغ كثير من ذوي الأغراض في تشويهها والحطِّ من قدر صاحبها.

    ومهما يكن من الأمر فما أحسب أن في الناقمين على عرابي من يستطيع أن يماري في أنه كان زعيم حركة وداعية فكرة وأنه — أخطأ أو أصاب — كان مخلصًا فيما يفعل أو يقول، وأنه قبل ذلك كله وفوق ذلك كله كان أول مصري فلاح في مصر الحديثة نجم من بين عامة الفلاحين في قرية من قرى مصر فاضطلع بقضية من القضايا الوطنية الكبرى، ونادى على رأس المنادين بمطالب مصر، وصار اسمه في ظرف هامّ من ظروف نهوضها علمًا على الجهاد ورمزًا للمقاومة ومثلًا للقومية حتى شاءت الأقدار فامتشق الحسام وسار على رأس جيش من بنيها الفلاحين يذود عن أراضيها ويقف غير طامع ولا هازل في وجه الغادرين الباطشين من أعدائها.

    بهذه الروح كتبتُ عن عرابي، وعلى هذا الأساس بَيَّنْتُ سيرته. فالإخلاص في الرجال هو عندي مقياس بطولتهم بل هو — فيما أرى — أصحُّ المقاييس وأهمها. أما الصواب والخطأ وما إليهما فأمور توجد في الأبطال وغير الأبطال، ولا فرق فيها في كثير ولا قليل بين هؤلاء وهؤلاء …

    وإني إذ كنتُ أكتب سيرة عرابي، كانت تقوم في ذهني المفتريات التي افتُريتْ عليه، ولكن ذلك لم يضعف قطُّ إحساسي بأنه كان شديدَ الإخلاص لقضيّته، متوقِّد الحمية في وطنيته، شديد الأنفة في قوميته. وليس بضائره بعد ذلك ما يرميه به المبطلون أو المغرِضون، ولو قد واتاه الحظ الأعمى كما واتى الآلاف غيره من الزعماء والقوَّاد فانتصر في معركة التل الكبير، أو لو أنه لم يحط به من الخيانة في أصرح صورها وأقبحها ما أحاط به وأبلى في تلك المعركة بعض البلاء أو قتل في غمرتها لرأينا اليوم له التماثيل في عواصمنا، ولزخرت الكتب بالثناء عليه.

    وعندي أنه من أكبر الظلم أن تُنْسَى حسناته وهي لعمر الحق كثيرة ولا تذكر إلّا أخطاؤه ما اقترفه وما افْتُري عليه منها، لتُسَاق أدلة على ما يشاء بعض المؤرخين نعتَه به …

    ولقد كان هذا الظلم الذي لقيه الرجل على أيدي فريق من بني قومه هو حافزي للكتابة، فأخذتُ أنشر سيرته تباعًا في مجلة الرسالة الغرَّاء، وما إن رأى بعض أبنائه المقال الرابع حتى تفضَّلوا بزيارتي بدار المجلة معبِّرين لي عن شكرانهم، ثم وضعوا بين يدي مذكّراته المخطوطة وبعض الكتب التي كانت تَرِدُ إليه في منفاه وغيرها من الوثائق والصور العظيمة القيمة، مما أثنى عليهم من أجله أعظم الثناء …

    ومما طبت له نفسًا ما أفضى إليَّ به أحدهم ومؤدّاه أن والده رحمه الله تنبأ بأن الذي سيدافع عنه هو شاب من شباب الجيل القادم الذي لم يفسده الاحتلال …

    وما زادتني هذه النبوءة إلا اهتمامًا بدراسة سيرته لعلِّي أكون هذا الشاب الذي يحسن أن يدافع عن عرابي. ولقد كنت قبل هذا — كما ذكرتُ — أُحسُّ أنه مظلوم وأن أعداءه بالغوا في الكيد له والزِّرَاية عليه، وآلمني من هذا الظلم فضلًا عما يلحق عرابيًّا منه أنه ينال كذلك من حركة مصر القومية على يديه، تلك الحركة الجليلة التي حاول المبطِلون تشويهها.

    •••

    وبعد فهذا كتابي أقدمه للقراء، فإن كنتُ وفقتُ إلى ما أحببتُ فحسبي جزاءً على ما بذلت من جهد أني أنصفتُ مظلومًا قَضَى نَحْبه ولم يُنصفه أحد، وأني بسطت سيرة الحركة القومية ولعل في هذا البسط عبرة وذكرى لهذا الجيل الذي يتوثَّب ويتطلع إلى المجد، وإن كنت قصرت عما أردت فعذري أن هذا جهد ما استطعت، ولتكن هذه خطوة متواضعة يسرّني أن أشهد بعدها خطوات يخطوها غيري من الكرام الكاتبين في سبيل هذا الوطن الذي نخلص له الحب والولاء.

    وفَّقَنا الله للعمل لمصر، وهيأ لمصر المكان المرجوّ من العزة والسؤدُد والحرية.

    الصبي القروي

    يَجِدُ كُتَّاب التراجم الذين يتناولون سير العظماء، طائفةً من الأنباء التي تجلو حياة هؤلاء إبَّان طفولتهم فيستعرضونها مستخرجين منها ما يعدُّونه من أمارات النجابة ومن بشائر النبوغ والتبريز، أو ما يرون أنه من الشواهد على قوة الشخصية وبُعد الهمَّة ومَضَاء العزيمة وما إليها مما تقوم عليه العظمة.

    ونحن إذ نتكلم عن أحمد عرابي تعوزنا المصادر التي يمكن أن نعلم منها الكثير عن سيرته وخلاله في طفولته، وقصارانا أن نقول إنه ولد في شهر مارس سنة ١٨٤١ في هرية رزنة، وهي قرية بالشرقية تقع غير بعيد من مدينة الزقازيق …

    ونشأ الصبي القروي كما ينشأ الآلاف مثله في قرى مصر على نمط من العيش لا نحسبه يختلف كثيرًا أو قليلًا في قرية عنه في أخرى من هاتيك القُرى التي نبتت منذ الأزل على ماء النيل.

    نشأ في هذه القرية الصغيرة ذلك الصبي الذي قُدِّر له أن يجري اسمه يومًا ما على كل لسان في مصر، والذي صارت حياته فيما بعد فصلًا من تاريخ وطنه، والذي تداولت اسمه ألسن الساسة في إنجلترا وفرنسا دهرًا طويلًا، والذي أجبر الخديو على النزول إليه حيث وقف على رأس الجيش يوم عابدين ليُسمعه كلمة الأمة، والذي يحتل جهادُه أبرزَ مكان في كل كتاب تناول ما تعارف المؤرخون على تسميته المسألة المصرية …

    ودرج الصبي القرويّ بين لداته في هرية رزنة عُرضة للأوبئة المختلفة، يحيط به في قريته الجهل والفقر والمرض أينما اتّجه، ولا يجد حوله من مظاهر الحياة والعمران مثل ما يجده من ينشأ في مدينة كبيرة أو يتلقَّى العلم في مدرسة منظمة.

    وكان أبوه محمد عرابي شيخ هرية رزنة، أو على الأصح أحد «مشايخها» على حد الاصطلاح الإداري، فكانت تقسم القرى في تلك الأيام أقسامًا يُسمَّى الواحد منها «حصة»، ويعين على كل حصة شيخ يختار لبروز شخصيته إما بالثراء أو بالقوة أو بالاستنارة بشيء من التعليم أو بها جميعًا، ولم تكن وظيفة العمدة على النحو القائم في القرى الآن قد عُرِفَتْ بعدُ.

    ويذكر عرابي عن أبيه في مذكراته١ أنه كان «شيخًا جليلًا رئيسًا على عشيرته عالمًا ورعًا تقيًّا نقيًّا موصوفًا بالعفة والأمانة»، ونراه عند ذكر نسبه يعدّد آباءه حتى يصل إلى السيد صالح البلاسي، فيذكر أنه ينسب إلى بلاس، وهي كما يقول قرية صغيرة ببطائح العراق، كما يذكر أنه أول من هبط مصر من أجداده، وأنه تزوج بالسيدة صفية شقيقة السيد أحمد الرفاعي الصيادي، وما يزال عرابي يرتقي بنسبه إذ يذكر آباءه بعد البلاسي هذا حتى يصله بالإمام موسى الكاظم بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمد الباقر بن الإمام عليّ الزاهر زين العابدين بن الإمام الحسين (رضي الله عنه).

    ويذكر عرابي كذلك فيما يذكره من أنباءٍ والده قوله: «وكان قد أمر والدي بترتيب درس فقه في المسجد الذي جدَّده للعامة بعد عصر كل يوم وبعد صلاة العشاء فتفقّه عامة أهل البلد في دينهم، وصحت عبادتهم، وحسن حالهم بفضل قيام المرحوم والدي على تعليم قومه وأهل بلده.»

    وأدخله أبوه مكتب القرية وهو كما يقول من منشآته فيها، وفي هذا المكتب فُتحت عينا الصبي على نور العلم، فحفظ شيئًا من القرآن الكريم وتعلَّم مبادئ القراءة والكتابة …

    •••

    ويمكننا أن نتصور حال هذا الصبي في أول عهده بالتعليم قياسًا على ما نعرف من حال أمثاله من أبناء المكاتب في كل قرية، وهي حال تكاد أن تكون في القرى جميعًا واحدة، فلا فرق بين مكتب ومكتب إلا بقدر ما يكون من فرق بين قرية وقرية.

    فهذا صبي في جلباب طويل من القطن أو التِّيل وفوق رأسه قلنسوة، يخطر بين صِبْية مثله إلى المكتب وتحت إبطه لوح من الصفيح وبيده مِحبرة فيها الأقلام الغاب خزانة، أو هي محبرة ذات «مقلمة» كما يقول أبناء المكتب. وهو لا يمتاز عن بقية الصبية في شيء إلا بما عسى أن يكون في قدميه من نعل؛ لأنه ابن شيخ البلد، وأكثرُهم حفاة، وما يحضر في جيبه من فطائر يأكلها متى جاع، أو يدفعها إلى «الفقيه» على جوعه، في حين لا يوجد في جيوب لِدَاتِهِ إلا الخبز اليابس …

    وفي المكتب يجلس الصبيّ على الأرض بين أقرانه، ولعل العريف يرفعه درجة فيجلسه على حصير أو على دكّة من الخشب ثم يكتب له بعض كلمات في لوحه ليكتب مثلها، أو بعض أرقام الحساب ليقلِّد رسمها، فلا يضع لوحه إلا حين يتلو العريف على الصبية بعض سور القرآن الصغيرة جملةً فجملةً، فيرددون ما يتلو في نغمة مثل نغمته، ويردد الصبي كما يفعلون، ولكنه أفصح منهم لسانًا وأسرع حفظًا، فالفصاحة هي أول ما يظهر من صفات ذلك الصبي وبها يتحدث العريف إلى أبيه!

    وتعهده صرّاف القرية كذلك ميخائيل غطّاس فعلمه مبادئ الحساب، وكان تعلُّم الحساب يحدث عادة على يد هؤلاء الصيارفة، وبخاصة لأبناء المشايخ الذين يتّصل بهم هؤلاء ويحرصون على مودَّتهم ورضائهم.

    •••

    ومات أبوه وهو في الثامنة من عمره، ولكن يُتْمه لم يَحُلْ بينه وبين أن ينال قسطًا من التعليم في الأزهر، فقد أرسله أخوه الأكبر محمد عرابي إلى هناك عسى أن يكون عالمًا من علمائه، ولكن الصبي لم يلبث بالأزهر إلا أربع سنوات تعلم فيها على طريقة الأزهر يومئذ شيئًا من الفقه والتفسير والنحو، وحفظ الصبيُّ القرآن بالضرورة كما يفعل من يلتحقون بهذا الجامع العتيد.

    وعاد الصبي إلى قريته ولسنا نعلم ما الذي حمله على العودة، أكان ذلك نفورًا من التعليم وركونًا إلى البطالة، أم كان لرغبة منه في أن يسلك في الحياة سبيلًا غير سبيل الأزهر؟ ذلك ما لا نستطيع أن نتبيَّنه على وجه اليقين. وكان من الممكن أن يعيش هذا الصبي القروي بقية عمره في تلك القرية زارعًا ثم يموت فيها كما يعيش ويموت سواه من الفلاحين.

    ولكن الأقدار تخرجه بعد قليل من القرية ليغدو فيما بعد رجلًا من رجال مصر، بل ليكون أول مصري فلّاح ينطق بحق مصر وتتمثّل في حركته الروح القومية لمصر وقد استيقظتْ من سُبات طويل، وأخذت تنفض عنها غبار القرون، أجل أخرجت الأقدار هذا الفلّاح من قريته ليقف وجهًا لوجه تلقاء خديو مصر يعلن إليه في بسالة وفي غير طيشٍ أن «أهل مصر ليسوا عبيدًا، وأنهم لن يورَّثوا بعد اليوم»، ويفتتح بهذه الوقفة وبهذه الكلمة فصلًا جديدًا في تاريخ هذه البلاد، فيكون فضله فضل الرواد يخطون الخطوة الأولى فيظل لهم الفضل ويظل لهم الحمد وإن اتَّسَعَت بعدهم الخطوات وتوالت الوثبات. وما نحسب خطوة عرابي في طريق الحرية والقومية كانت أقلَّ خطرًا من وثبة سعد، ذلك الفلاح الذي نهض من بعده والذي غضب مثل غضبته ووثب مثل وثبته واتجه نفس وجهته، ولكنه لم يكن من رجال السيف فلم يشهر إلا القلم سلاحًا، ولم يمتط إلا أعواد المنابر مجاهَدَةً وكفاحًا.

    •••

    ونحب أن نقف عند أمرين في نشأته كان لهما أثر بعيد في تكوين خلقه وخلق شخصيته؛ أما أولهما فهو أن أباه كان شيخًا في القرية، وأما الثاني فهو أنه في التحدُّث عن نسبه يصل أجداده بالحسين عليه السلام.

    كان يجد أبناء الحكام في القرى حتى وإن لم يكن حظّ آبائهم من الثراء كبيرًا أنهم في موضع يصغر دونه موضع أبناء الزُّرّاع، ففيهم على لداتهم شيء من الترفُّع وفي نفوسهم شيء من الكِبْر على من حولهم من الناس، إذ يجد الصبي منهم أباه محاطًا بالتوقير مخوف الجانب يتقدّم الناس إذا سار ويفسَح له صدر المجلس إذا جلس، وتبدو عليه إذا كان ذا مال آثار النعمة في مظهره وملبسه كما تبدو تلك الآثار في مسكنه وفيما يقتني من دوابّ وفيما يقوم على خدمته من خَدَمٍ أو يلوذ به من أتباع أو يحيط به من بِطانة، لذلك كان إذا خرج هؤلاء الأبناء من القرية إلى مجال أوسع منها خرجوا وفي أنفسهم ذلك الاعتزاز الذي أَلِفوه في بيئتهم الأولى فما يحبّون أن يسمعوا كلمة نابية، بل إنهم ليكرهون أن يجدوا عدم الاكتراث لهم بله التطاول عليهم. ولقد يُوحِي إلى الصبي منهم ما غرس في نفسه منذ صغره أن يَثُور على الوضع الجديد إما بإظهار القوة البدنية على من كانوا في مثل سنه، أو بالتفاخر عليهم بالمال والنسب، وإما بالعناد والشغب على من لهم عليه حق الطاعة من المربين والرؤساء. ولقد يسرف هؤلاء فيتوهّمون المذلة فيما ليس فيه مذلة، أو يفسِّرون بالإهانة ما لم يُقصد به أية إهانة فيُبْدون لذلك كثيرًا من الإباء ويغالون فيه حتى ينقلب إباؤهم شراسة أو حتى يحسبه الناس شَراسَةً.

    •••

    ونحس من سيرة عرابي أنه كان أحد هؤلاء، فلما قدر له أن يخالط قومًا كانوا ينظرون إلى المصريين جميعًا نظرة الاحتقار، ويجعلون نعتهم بالفلاحين مَسَبَّةً لهم، ثارت في نفسه الحَمِيَّة، ثم عصفت في رأسه النخوة، فكان صوته أولَ صوت مصريّ مَثَّلَ القوميةَ المصريةَ، وإن كان بذلك يفصح عن شعور غيره ممن أحسوا مثل إحساسه ولكن لم يكن لهم مثل جرأته وقوة شخصيته.

    وزاد الحمية تسعُّرًا في نفس عرابي ثاني الأمرين اللذين أشرنا إليهما، وذلك وصله أجداده بالحسين بن علي رضي الله عنهما، فسواء أصحت هذه الصلة أم لم تصح فقد كان بها مؤمنًا، وكان إيمانه بها كفيلًا أن يملأه أَنَفَةً وعزةً، فمن كان مثله كما يزعم شريفًا عربيًّا ينتمي إلى الحسين عَزَّ عليه أن يستذلّ، وبخاصة بأيدي قوم يرى أنهم مهما علوا فهم دونه علوًّا وشرفًا، وإنك لتلمح اعتزازه بنسبه في تمثُّله ببيت الفرزدق «أولئك آبائي.» في خاتمة كلامه عن نسبه في مذكراته.

    بقي الصبي في قريته لا يعلم ماذا يكون من أمره في غده، ولا يخالط إلا الفلاحين من أبناء القرية. أما الشراكسة المترفعون الذين يمقتون الفلاحين فلم يكُ يعلم من أمرهم شيئًا، ولا كان يسمع يومئذٍ بوجودهم، وأنَّى له ذلك في قريته، ولكن الأقدار عما قريب سترمي به إلى حيث يجد نفسه — كما يجد بني قومه — موضعَ ازدراء هؤلاء، فلا يطيق هذا الفلاح المصري ترفُّعَهم وكبرياءهم والتمتع بأكبر المناصب في الجيش، وإذ ذاك يناضل عن قوميته ويغضب لكرامته، ويكون في هذه الدائرة الضيقة — وإن لم يقصد — مُمَثِّلًا مصر كلها التي كرهت الأجانب يومئذ وقد استيقظت فيها روح القومية، تلك الروح التي تتمثل فيما امتلأت به نفس ذلك الفتى القروي القادم من قرية مصرية.

    ١ كشف الستار عن سر الأسرار في النهضة المصرية المشهورة بالثورة العرابية.

    في صفوف الجيش

    لم يطل بالصبي المقام بالأزهر، ولم يطل به كذلك المقام في قريته؛ فإن القدر الذي لم يشأ له أن يكون شيخًا من أشياخ الأزهر، ولا فلاحًا من فلاحي القرية، قد شاء له أن يكون جنديًّا في صفوف الجيش.

    أراد سعيد باشا أن ينهض بالجيش المصري، فأمر أن يكون في صفوفه أبناء المشايخ والأعيان، كيلا يُحتقر الجندي في نظر الناس، إذ كانوا لا يرون إلا المستضعفين والفقراء يُحشَدون ويُساقون إلى الجيش ليكونوا عسكره، أما ضباطه وقواده فكان أكثرهم من الشركس.

    وكان بين من أُلحق بالجيش من أبناء الأعيان هذا الفتى الأزهري القروي، وكان يومئذ في الرابعة عشرة من عمره، وبالتحاقه بالجيش تبدأ مرحلة جديدة في حياته، ثم تنتهي من ناحية أخرى مرحلة تعليمه، ومن ذلك ترى أن كل ما ناله هذا الفتى من المعرفة لم يعد ما تلقاه في المكتب ثم في الأزهر حتى سن اليفاعة، اللهم إلا ما كان من مطالعاته فيما بعد، وهي أمر لا نستطيع تحديده …

    انتظم عرابي في سلك الجيش جنديًّا صغيرًا، ولكن حظه من القراءة والكتابة على قِلَّته، وإلمامه بشيء من علم الحساب قد أجدى عليه من أول الأمر؛ فعُيِّن في عمل من أعمال الكتابة بالأورطة الرابعة من آلاي المشاة الأول.١

    وما لبث أن رُقِّي عرابي بعد سنتين إلى رتبة ملازم ثانٍ، ثم إلى رتبة ملازم أول، فيوزباشي في نفس السنة، وكان يومئذ في السابعة عشرة، ولم يمرَّ عامان بعد ذلك حتى وصل إلى رتبة قائمقام، وكان عرابي أول مصري وصل إلى هذه الرتبة كما يقول في مذكراته.

    وصل هذا الجندي من رتبة الجاويش إلى رتبة قائمقام في أقل من أربع سنوات، وما كان ذلك عن حظوة له عند أحد، وإنما كان سلاحه ذلك القَدْر من العلم الذي أشرنا إليه، فبه تمكّن عرابي أن يدرس القوانين العسكرية ويجتاز بها الامتحان متفوقًا، ويدلُّنا ذلك على نُدرة المتعلِّمين في ذلك الجيش، ولا شك في أن هذا الترقي السريع قد بَثَّ في نفس الفتى القروي كثيرًا من الطموح والإقدام …

    على أنه كان طموحًا بطبعه، جريئًا في عصر كثيرًا ما كانت تُعَدُّ الجرأة فيه ضربًا من العصيان والتمرد كما سيأتي بيانه، ولسوف نرى من مواقفه في ذلك العصر ما يزيد معنى بسالته وضوحًا، ويظهرها مضاعفة.

    وأول ما عرف عنه في الجندية كراهته للعنصر الشركسي، فكان لا يفتأ يقارن بين نصيب هذا العنصر ونصيب المصريين من المناصب، فلا تزيده المقارنة إلا غضبًا وكراهية لهؤلاء الأجانب …

    أليست هذه النزعة فيه هي نزعته الوطنية في الجيش يوم تبدأ الحركة العسكرية؟ ثم ألسنا نجد فيها جانبًا من الوطنية ونحسّ معنًى من معانيها؟

    ولكن بعض المؤرخين لا يفهم هذا من جانب عرابي إلا على أنه ضرب من الأنانية والجشع، بل لقد يسرف بعضهم فيرمونه بالتبجّح قائلين: ما لهذا الفلاح وعُلْيا المراتب في غير جدارة؟ وإنهم في الحق ليمتدحونه بذلك من حيث لا يشعرون، ولئن كان الطموح بالنفس والشعور بالقومية تبجحًا، فماذا نسمي التقاعد والتخاذل والاستخذاء أمام الأجنبي؟ ألا ليت كل تبجح يكون كتبجُّح عرابي هذا، فما أجدره بالإعجاب والثناء!

    وكيف يستطيع رجل في مثل موقفه أن يقنع المكابرين أن نزعته كانت قومية يقصد بها بني قومه جميعًا؟ وأي عيب في أن يبدأ بنفسه فيرقى بها؟ أليس مصريًّا؟ وهل كان يعتزُّ إلا بمصريته إذ اعتزَّ بنفسه؟ على أنه لو أراد بالرقي نفسه فحسب دون أي اعتبار قومي فما وجه العيب في ذلك؟ أيكون من العيب أن يتطلع الإنسان إلى المعالي، ولا يكون من العيب أن يرضى بتقدُّم غيره عليه في غير حق، حتى ولو كان ذلك الغير أجنبيًّا؟

    كره عرابي الأجانب في الجيش كرهًا شديدًا، وبخاصة هؤلاء الشراكسة المتعصبون لأنفسهم المترفعون على المصريين، واستقر هذا الكره في أعماق نفسه، ولسوف يجرُّ عليه عنتًا كثيرًا وضيقًا، ولكنه لن يأبه لذلك، ولسوف يظل على عناده وإصراره حتى يصبح الأمر أمر الوطنيين جميعًا في الجيش لا أمر أحمد عرابي فحسب.

    وظل عرابي في مرحلته الأولى في الجندية ساخطًا على هؤلاء الأتراك والشركس لا يفتُر سخطه ولا ينقطع عليهم شغبه، يكيدون له ويكيد لهم، وإنا لنلمس في هذا سببًا قويًّا من أسباب زعامته للحركة العسكرية فيما بعد، فلسوف يلتقي في دار هذا المتبرّم الساخط رؤوس الساخطين الحانقين من رجال الجندية يوم يُزْمِعون أن يشتكوا إلى الحكومة في أوائل عهد توفيق مما يلحق بهم من أذى من جرَّاء سياسة وزير الجهادية الشركسي عثمان رفقي …

    ويذكر عرابي في مذكراته ما كان بينه وبين سعيد باشا من حسن الصلة حتى لقد اختاره ياورًا له في زيارته المدينة المنورة، فكان على مقربة منه أثناء هذه الرحلة، وقد أهدى إليه هذا الوالي كما يذكر تاريخ نابليون مترجمًا إلى العربية، ولقد قرأ عرابي هذا التاريخ كله في ليلة، كما قال في مذكراته عن نفسه التي كتبها لمستر بلنت والتي أثبتها هذا في آخر كتابه، وقد ذكر فيها عرابي أن سعيدًا ألقى بالكتاب مغضبًا على الأرض إذ رأى أن نابليون استطاع أن يفتح مصر بثلاثين ألف جندي، وتناول عرابي الكتاب فلم يَنَمْ حتى أتمَّه، وجاء إلى سعيد ينبئه أن نابليون استطاع ذلك بالجيش المدرَّب، وأن سعيدًا يستطيع أن يجعل لمصر جيشًا مدربًا على نمط جيش نابليون، ولست أستطيع أن أتبيَّن على وجه اليقين ما تركته قراءة مثل هذا التاريخ من أثر في نفسه، فلم يُعلِّق هو على ذلك إلا بقوله: «ولما طالعت ذلك الكتاب شعرت بحاجة بلادنا إلى حكومة شورية دستورية، فكان ذلك سببًا لمطالعتي كثيرًا من التواريخ العربية.»٢

    ولست أدري كيف توحي قراءة تاريخ نابليون بحاجة مصر إلى حكومة شورية دستورية؟ على أن قراءة سيرة ذلك الجندي المغامر الفذّ الذي وصل إلى قمة المجد الحربي، وبلغ أَوْجَ الشهرة والجاه، توحي إلى كل من يقرؤها معاني الإقدام والبطولة، وتملأ النفس تطلُّعًا وحماسة، وعلى هذا فلا يصعب أن نتصور ما عسى تلقيه تلك السيرة من المعاني في نفس كنفس عرابي الجندي المتطلع المتوثِّب …

    ويشير عرابي في مذكراته إلى أن سعيدًا كان يميل إلى المصريين في الجيش، ويريد أن يرفع عنهم ما لحقهم من غَبْن على يد الشركس، كما يشير إلى أنه كانت لسعيد نزعة وطنية تتجلى في محبته لمصر وللمصريين، وفي رغبته أن ينالوا قسطهم الحق من الترقِّي في الجيش.

    وما يعنينا من ذكر هذه العلاقة بين سعيد وعرابي إلا ما فيها من إقبال عرابي على كل من يحب المصريين، فهذا الإقبال دليل على أن النزعة الوطنية القومية كانت منبعثة من أعماق نفسه، وعلى أن شغبه على الشركس والترك لم يكُ بدافع الأثرة كما يحلو لبعض الناس أن يرموه …

    ويقول عرابي: إن ميول سعيد الوطنية قد تبيَّنتْ في خطبة ألقاها في حفلٍ جَمَعَ كثيرًا من عِلْيَة القوم، وقد أثبت عرابي في مذكراته بضعة أسطر تحت عنوان: خطبة المرحوم سعيد باشا، وبدأها بقوله: قال مرتجلًا.

    فهل أثبت عرابي خطبة الباشا وهو يلقيها؟ إذا صح ذلك كان لكلام سعيد الذي يورده عرابي أهميته في الدلالة على اتجاه هذا الوالي يومئذ، وإذا كان عرابي يذكر ما وعته ذاكرته فحسب، فإن في هذا الذي يذكره عن سعيد ما هو كافٍ لأنْ يكشف عن نزعته. وقد جاء في هذه الخطبة قول سعيد حسبما أثبت عرابي: «وحيث إني أعتبر نفسي مصريًّا فوجب عليَّ أن أربِّي أبناء هذا الشعب وأهذِّبه تهذيبًا حتى أجعله صالحًا لأن يخدم بلاده خدمة صحيحة نافعة، ويستغني بنفسه عن الأجانب، وقد وطَّدت نفسي على إبراز هذا الرأي من الفكر إلى العمل.»

    يقول عرابي: «فلما انتهت الخطبة خرج المدعوون من الأمراء والعظماء غاضبين حانقين مدهوشين مما سمعوا، وأما المصريون فخرجوا ووجوههم تتهلَّل فرحًا واستبشارًا. وأما أنا فاعتبرت هذه الخطبة أول حجر في أساس نظام مصر للمصريين. وعلى هذا يكون المرحوم سعيد باشا هو واضعَ أساس هذه النهضة الوطنية الشريفة في قلوب الأمة المصرية الكريمة.»

    ولقد كتب عرابي هذه الآراء بعد الثورة، ولعل في ذلك ما يدعو إلى ضعف الثقة في قيمتها عند بعض المؤرخين، كما هو الحال مثلًا في مذكرات نابليون التي كتبها في منفاه في سانت هيلانة، فلقد أخذها بعض المؤرخين على أنها دفاع من جانب نابليون عن أعماله بعد أن خلا إلى نفسه فنظر وتدبَّر.

    ولكن أعمال عرابي التي لا ينكرها المؤرخون، حتى المغرضون منهم، لا تتناقض مع كثير مما جاء في مذكراته، وعلى الأقل في هذا الجانب الذي نتلمس فيه الدليل على ما نحسه من أن عرابيًّا قد اتَّجَه منذ نشأته اتجاهًا وطنيًّا قوميًّا، وهذا أمر نراه على جانب عظيم من الأهمية، ففي هذه النزعة القومية نرى عرابيًّا الحقيقي. أما عرابي الذي صوره خيال المغرضين من المؤرِّخين والمدافعين عن الاحتلال من كُتَّاب الإنجليز فما أبعده عن هذا! وهل كان يحلو لهؤلاء الذين استغلُّوا حركة عرابي أقبح استغلال إلا أن يصوروه أقبح صورة، فلا يكون عندهم إلا جنديًّا جاهلًا مغرورًا، واتته الظروف فراح يخبط في حماقته لا يلوي على شيء، وما زال في جنونه يلوِّح بسيفه حتى اضطرّ آخر الأمر إلى أن يسلمه صاغرًا إلى قائد جيش الاحتلال الإنجليزي …

    ما كانت حركة عرابي عسكرية بحتة كما يتصوّر البعض، وما كان هو بالأحمق ولا بالمجنون، وإنما كان لابد أن تلتقي الحركة العسكرية — وهي لا تخلو من الصفة الوطنية — بالحركة الوطنية العامة، ولقد تم هذا الالتقاء في شخص عرابي، وكان النجاح حليفه فيما طلب باسم الأمة يوم عابدين، ولا لوم عليه بعد ذلك ولا جناح أن تُحاك الدسائس وتُوقد نارُ الفتنة تنفيذًا لسياسة مرسومة سوف نميط اللِّثام عنها بكل ما وسعنا من حجة.

    هذه النزعة الوطنية القومية في نفس هذا المصري الفلّاح مع ما توافر له من صفات الغيرة والبسالة هي التي جعلت إليه قيادة الحركتين يوم التقتا، وما نشير إليها الآن هذه الإشارة في غير موضعها من سيرته إلا لنبيِّن هنا أنها نزعة أصيلة فيه جاشت بها نفسه منذ شبّ، وكانت الثورة التي نشير إليها هي مظهرها فيما بعد. كتب في ذلك مستر بلنت، وكان من أصدقاء عرابي، يقول في علاقة عرابي بسعيد: «وقد حظى عرابي، وكان شابًا حسن الطلعة، بعطفه، حتى لقد اختاره أركان حرب له ورافقه إلى المدينة في السنة التي سبقت وفاته، وقد كوَّن عرابي آراءه السياسية الأولى أثناء هذه الصلة القريبة بسعيد، وهذه الآراء هي المساواة بين طبقات الأمة، وما يجب للفلاح من احترام باعتباره العنصر الغالب في القومية المصرية، وهذا الدفاع عن حقوق الفلاح هو الذي جعل لعرابي ميزة بين مُصلِحي ذلك العصر. فقد كانت حركة الأزهر ترمي إلى إصلاح حال المسلمين عامة بغير تمييز، بينما كانت حركة عرابي في جوهرها قوامها الجنسية، وهذا جعلها أوضح في معنى القومية ومن ثَمَّ قدِّر لها أن تكون أكثر شهرة وذيوعًا.»

    ولقد كان لصلة عرابي بسعيد على هذا النحو أثرها في حنق عرابي على إسماعيل، فلم يكن في قلب هذا الوالي شيء مما كان في قلب سلفه من الميل إلى المصريين، بل لعل ميلَه كان إلى الشراكسة، وقد أدى ذلك منه إلى ازدياد كراهية عرابي لهؤلاء واضطغانه عليهم، إذ يرى أن كل حظوة لهم عند الوالي إنما هي على حساب الوطنيين.

    وقويت في نفسه النزعة الوطنية، وزادها قوةً اتصالُه بتلك الحركة الوليدة التي أخذت تدبُّ في جسم الأمة وقد كرثتها الكوارث من وراء سياسة إسماعيل وديون إسماعيل.

    وازدادت كذلك في نفسه نزعة التمرد والسخط، وتجلت في مواقف له كان من أهمها ما كان بينه وبين خسرو باشا الذي ما زال يكيد له ويسعى بالوشاية به عند أولي الأمر حتى رفت من الجندية.

    وكان خسرو هذا شركسيًّا، وقد رقِّي حتى أصبح في مرتبة اللواء، وصار رئيسًا لعرابي الذي كان يومئذٍ قائمقامًا للآلاي السادس. ويذكر عرابي أنه رقِّي «لا بعلمه ومعارفه، بل لكونه شركسيًّا ومن الخارجين على الدولة العلية مع إبراهيم باشا بن محمد علي باشا في تلك الفتنة الدهماء التي دكدكت سياج الإسلام وكسرت شوكة الدولة العليَّة الحامية لجميع الموحدين».

    ويعزو عرابي سبب رفته إلى أن خسرو قد سار بالوقيعة بينه وبين وزير الجهادية متهمًا إياه بأنه «صلب الرأي شرس الأخلاق لا ينقاد لأوامره ولا يحفل بما يصدر منها عن ديوان الجهادية»، ثم يقول عرابي معقِّبًا على ذلك: «وما بي واللهِ من شراسة، ولكني جُبِلْتُ على حب العدل والإنصاف وبغض الظلم والإجحاف.»

    ويذكر عرابي سببين للخلاف بينه وبين خسرو، أولهما أنه لم يشايعه فيما ذهب إليه من رغبة في ترقية أحد الضباط ممن كان عرابي من ممتحنيهم، وكان في نظر عرابي لا يستحق الترقية، بينما كان خسرو شديد الرغبة في ترقيته، هذا في الوقت الذي أبعد فيه خسرو عن الترقية ضابطًا آخر يستحقها، وأوعز خسرو إلى أحد الضباط فدبَّر مكيدة لعرابي، فاتُّهم بإساءة استعمال سلطته، وحُكِم عليه بالحبس واحدًا وعشرين يومًا، ولكنه رفع ظلامة إلى المجلس العسكري الأعلى فقضى ببراءته.

    أما السبب الثاني، ولعله فيما أحسّ أقوى السببين، فهو أن خسرو سعى سعيه حتى حرم عرابي من أرض أنعم عليه بها الخديو إسماعيل فيمن أنعم عليهم من رجال الجيش، وذلك عقب حفلة سُرَّ فيها الخديو من حسن نظام الجند.

    وما زال خسرو يكيد له حتى رُفِتَ من الجندية كما أسلفنا، ولنا أن نتصوَّر مبلغ ما وقع في نفسه من السخط والثورة على خسرو وعلى الشراكسة جميعًا في شخص خسرو.

    والذي يعنينا مما كان بينه وبين خسرو أنه يصوِّر لنا شدة الخلاف بين عرابي ورؤسائه في الجيش مهما كانت أسباب ذلك الخلاف.

    كذلك يكشف لنا ما علَّق به عرابي على هذه القصة عن ناحية من نواحي عقله، فلقد راح يذكر ما حل بمن آذوه من مصائب معددًا أسماءهم مُبَيِّنًا ما لحق بكل منهم، مُورِدًا ذلك على أنه انتقام له من الله … وفي هذا نوع من السذاجة في رأي من ينظرون إلى مثل هذه العقائد نظرة يقولون: إنها حرة، ونوع من الإيمان في نظر آخرين لا يعرفون هذه النظرة التي يصفها أصحابها هذا الوصف، كما أن فيه دليلًا على ما كان للدين من سلطان على عقل عرابي وقلبه.

    على أن خصومه قد استغلُّوا هذه الناحية الدينية من حياته استغلالًا مرذولًا؛ إذ يحاولون أن يسوقوها دليلًا على أنه كان رجلًا لا يختلف كثيرًا عن عامة الناس في جميع أفكاره ونزعاته، وليتهم يشعرون أنهم بهذا التعميم الذي لا مبرر له إنما ينالون من عقولهم، وأنهم يسيئون إلى أنفسهم ولا يسيئون إليه.

    كان للدين سلطان على عرابي ما في ذلك شكّ، ولكن تلك كانت نزعة العصر، على أننا نسأل: ماذا يضيره من ذلك؟ وكيف يُساق هذا على أنه من مساوئه وخليق به أن يُعَدَّ من حسناته؟ وهل عاب أحد هذا العيب على كرمول، وهو جندي مثله، في تزمُّته وتقشّفه وصرامته في دينه؟ وهب أن عرابيًّا كان يغلو أحيانًا فيخلط بين ما يتصل بالدين وما يتصل بالسياسة، فهل مال به ذلك عن منهاجه السياسي أو صرفه عن وجهته التي عمل على بلوغها؟ وهل يستطيع أحد من خصومه أن يقيم الدليل على أنه اتَّخَذ يومًا من الدين سلاحًا في غير موضعه؟ أو أنه استغنى بالدعوة الدينية عن الجهاد والقتال حتى النهاية حين عملت خيانة بني قومه ودسائس أعدائه على انتزاع النصر من بين فكيه؟

    ظل عرابي ثلاث سنوات مُبْعَدًا عن وظيفته إلى أن عفا عنه الخديو بعد أن ظلت ظلامته لديه هذه السنوات الثلاث مهملة لغير سبب ظاهر، ولقد تأصَّل في نفسه كره الاستبداد في كافة صوره كما استقر في قلبه حب الانتقام من هؤلاء الشراكسة الذين يراهم أَذًى ونقمة على العنصر الوطني.

    وطلب عرابي أن يحال على الأعمال المدنية ليبعد عن دسائس أعدائه كما يقول في مذكراته، وإنه ليذكر أنه بذل في تلك الأعمال جهدًا عظيمًا ووفّر في أحدها للخزانة مبلغًا كبيرًا كان — لولا نشاطه — ذاهبًا لا محالة إلى خزانة إحدى الشركات الأجنبية، ولكنه رأى غيره يُكافَأ مكافآت مالية. أما هو فكان جزاؤه كما يقول: «وكوفئت أنا على تلك الأعمال الشاقّة الجليلة بالتقاعد والراحة من غير معاش لحين ظهور خدمة أخرى، فيالله ما أَمَرَّ وأصعبَ تلك المكافآت المقلوبة على النفوس الحساسة الشريفة! وما أكثر العجائب في الحكومات المطلقة المستبدة الظالمة!»

    على أن بلنت يذكر في كتابه أن تكليف عرابي بتلك الأعمال كان على غير رغبته، وأن ذلك كان سببًا من أسباب نِقمته على العهد القائم يومئذ ومن دوافع انضمامه إلى الساخطين والمتذمِّرين.

    ولم يلبث عرابي أن أعيد إلى صفوف الجيش، وكانت الحكومة تستعدُّ للحملة الحبشية فَرَقَّتْ بعض رجال الجيش إلى مناصب أعلى مما كانوا فيها، ولم يُرَقَّ عرابي، وكان قد جعل على ديوان الحربية في ذلك الوقت الأمير حسين كامل بن إسماعيل باشا. ويقول عرابي في مذكراته: «وبعد اختيار المختارين للفرقة الثانية من الذين ترقَّوْا بحضرة الأمير المشار إليه قال للذين تأخروا عن الترقي: اجتهدوا أيها الضباط في التعليم والتمرين حتى تُدركوا ما وصل إليه إخوانكم الذين ترقَّوْا، والله يشهد وفطاحل الجهادية أن المتأخرين في الترقي هم أساتذة الذين ترقَّوْا في العلوم الحربية وهم أرقى أخلاقًا وأدبًا … ولكن الغرض يُعمي ويُصِمّ … ثم التفت الأمير إليَّ وقال بلهجة الأسف: إني طلبت من أفندينا ترقيتك إلى رتبة الميرالاي، فقال: إنك من بتوع سعيد باشا، فقاطعته الكلام، وقلت: إني لست بتاع أحد، بل خادم الحكومة والوطن وبلدي هرية رزنة بمديرية الشرقية، ولكن بتاع سعيد باشا هو راتب باشا لأنه ملكه، فقال: لا تفترْ همتك في تأدية واجباتك وإني سأبذل جهدي في ترقيتك عند ترتيب الفرقة الثالثة، فشكرت له وخرجت وأنا شاعر بأني لا أنال خيرًا في عهد والده لأني متحقق من أن خسرو باشا، وراتب باشا ورؤساء الشراكسة يعارضون في ترقيتي بكل ما في قدرتهم. وقد سمعت من أحد أمرائهم وهو رجل معتدل غير متعصب لبني جنسه على ما فيه من غلظة أنه حضر مجلسًا لأولئك الشراكسة حيث تذاكروا في اختيار الذين يريدون ترقيتهم إلى الفرقة الثالثة فعَرَض عليهم ترقيتي إلى رتبة الأميرالاي مراعاة للحق والإنصاف فأبَوْا عليه ذلك، فقال لهم: ربما تَرَقَّى قهرًا عنكم يومًا ما إذا لم يرتقِ برضائكم واختياركم وأنتم تعلمون أنه أقدم القائمقامات وأعلمهم، وفيكم من كان تحت إمرته، فالأَوْلى بكم ألا تُعَرِّضُوا أنفسكم للانتقاد، ولكنهم لم يزدادوا إلا عتوًّا ونفورًا، ولما ترتبت الفرقة الثانية والثالثة وتمَّ ترقّي الضباط، لم يقدِرْ ناظر الجهادية الأمير حسين كامل باشا على الوفاء بوعده لإصرار السردار راتب باشا على رفض ترقيتي، ومن الغريب أن الآلاي الذي تحت إدارتي ظل خاليًا من ضابط من رتبة الأميرالاي مدة ثمانية أعوام، وكنت أنا القائم بوظفية الأميرالاي بأحسن نظام وأكمل تربية وأدق تعليم وأحسن هيئة عسكرية، فما أوضح هذا الظلم المبين!»

    هذا كلام عرابي، ومهما يكن من أمره فإن حرمانه من الترقية سواء أكان مردّه إلى دسائس الشراكسة أم إلى أي سبب آخر كان خليقًا أن يحمله على الثورة والسخط، وأن يميل به إلى اعتناق مبادئ الحركة الوطنية التي أخذت تشيع في نفوس الساخطين على حكم إسماعيل.

    وألحق عرابي بالحملة الحبشية، ولكن عمله في هذه الحملة لم يكن عمل الجندي المحارب، فقد كان يعمل في منصب «مأمور مهمات» بمصوع، ولقد حنق عرابي على تلك الحملة، فهو ما يفتأ يندد بها في مذكراته ويصف ما حل فيها بالجيش من كوارث في غير موجب، وقد اتهم لورنج القائد الأمريكي الجنس فيها بالخيانة، إذ كان يتصل عن طريق أحد القساوسة بالأحباش ويطلعهم على كل شيء …

    •••

    ويقول بلنت في كتابه: «إنه قد عاد من الحملة ساخطًا كما سخط العائدون على ما كان فيها من الفوضى، وإليها يرجع اتِّجاه نفسه نحو السياسة، وازدياد بغضه وغضبه، ذلك الغضب الذي كان في ذلك الحين مُتَّجهًا أكثر ما يتجه إلى الخديو.»

    وفي شهر فبراير عام ١٨٧٨ وقعت مظاهرة الضبّاط الخطيرة، تلك المظاهرة التي نلمح فيها بوادر الثورة العسكرية، ويتلخص هذا الحادث في أن عددًا من الضباط بزعامة البكباشي لطيف سليم قد توجَّهوا إلى وزارة المالية يطالبون بمرتباتهم المتأخرة، فلما حضر نوبار باشا رئيس الوزراء وكان معه السير ريفرز ولسن وزير المالية هجم هؤلاء الضباط عليهما وأشبعوا نوبار لطمًا ولكمًا، وراحوا يجرونه من شاربيه، وامتدت أيديهم كذلك إلى وزير المالية، وكاد يتفاقم الحادث لولا أن خفَّ إلى هناك الخديو بنفسه في فرقة من حرسه حينما نمى إليه ذلك النبأ، وأمر الخديو بإطلاق النار إرهابًا، فأطلقت رصاصات في الهواء وفَرَّ المتظاهرون.

    ولكن تهمة القيام بهذه المظاهرة وتدبيرها قد وجّهت إلى عرابي واثنين آخرين من الضباط، وعقد لهم مجلس عسكري يحاكمهم، وأصدر المجلس حكمه بتوبيخهم وفصل كل منهم عن آلايه إلى جهة بعيدة، وكان الإسكندرية من نصيب عرابي، وفيها اتصل بكثير من الأوروبيين.

    ويدفع عرابي التهمة عن نفسه مقرِّرًا أنه لم يكن له بد فيها قط، إذ كان في رشيد وقت وقوع الحادث، ذكر ذلك في مذكراته، وذكره كذلك في التاريخ الذي كتبه لمستر بلنت بناءً على طلبه عام ١٩٠٣ بعد عودته من منفاه. ولقد أطلع مستر بلنت الشيخَ محمد عبده على ما كتب عرابي، فوافق على براءته من هذا الحادث.

    •••

    ولقد أدَّى اتهام عرابي على هذا النحو إلى ازدياد كراهته لإسماعيل وعهد إسماعيل، ولسوف يكون ذلك من أهم الدوافع التي توجِّهه إلى الاتصال بالوطنيين بغية معاونتهم والاستعانة بهم على تنفيذ ما كانوا يأملونه من وجوه الإصلاح. قال عرابي في ذلك التاريخ الذي كتبه لصديقه بلنت، والذي أثبته هذا في آخر كتابه: «ولكن قبل أن نفترق اجتمعنا فاقترحت أن نتَّحد ونخلع إسماعيل، ولو أننا فعلنا ذلك لكان خير حل للقضية؛ لأنه كان يسُرّ القناصل أن يتخلصوا من إسماعيل على أية صورة، ثم إنه كان يوفّر على البلاد ما حدث بعد ذلك من تعقد في الأمور، كما كان يوفر تلك الملايين الخمسة عشر التي حملها إسماعيل معه عندما خُلِع، ولكنه لم يكن هناك يومئذ من يقود هذه الحركة، ولذلك فإن مقترحي لم ينفَّذ وإن حاز القبول، وقد ألقى خلع إسماعيل بعد ذلك عبئًا ثقيلًا عن كواهلنا وعَمَّ الفرح، ولكن لو أنا فعلنا ذلك بأنفسنا لكان أفضل؛ إذ إننا كنا نستطيع أن نتخلَّص من أُسْرة محمد علي كلها، فإنه لم يكن فيها حاكم صالح إلا سعيد، وكنا نستطيع أن نعلن إقامة جمهورية، وقد اقترح الشيخ جمال الدين على الشيخ محمد عبده أن يقتل إسماعيل عند كوبري قصر النيل ووافقه محمد عبده على ذلك.»

    •••

    ومن هذا الذي ذكره عرابي يتبيَّن مَبْلَغ حنقه على إسماعيل، ولولا أن سعيدًا كان يعطف على المصريين حقًا وأن إسماعيل لم يكن يبدو منه ما كان يبدو من سعيد من مظاهر هذا العطف، لجاز أن يتّهم عرابي بأنه يحب سعيدًا ويُبغض إسماعيل متأثرًا بدوافع شخصية.

    أما عن اتهام عرابي وزميليه في هذا الحادث، فإن عرابيًّا يُورد له سببًا، فهو يتهم إسماعيل بأنه كان المحرض على هذه الفتنة ليتخلص من الوزارة الأوروبية، ولكي ينفي عن نفسه الشبهة، فإنه اتَّهم هؤلاء الضباط الثلاثة بأنهم مدبرو الحركة.

    ١ ويذكر عرابي في تاريخ حياته الذي كتبه لمستر بلنت وألحقه هذا بكتابه، أنه كره أن يعمل هذا العمل الكتابي لأنه لا مجال فيه للترقي. وبما أنه كان يطمع أن يكون ذا شخصية كمدير الإقليم، فقد ألحَّ على رئيسه أن يلحقه بصفوف الجيش، ولكن رئيسه أفهمه أنه يخسر بذلك، لأن أجره في وظيفته هذه ستون قرشًا في الشهر وأجر الجندي خمسة عشر فحسب، وما زال عرابي بهذا الرئيس حتى ألحقه بالجيش في مرتبة جاويش.

    ٢ كشف الستار عن سر الأسرار.

    يقظة ونهوض

    أخذت إنجلترا وفرنسا تتنافسان في بسط نفوذهما في مصر منذ حملة بونابرت على هذه البلاد، ولكنهما وجدتا في محمد علي رجلًا يمدُّ سلطانه ولا يفقد ذلك السلطان، فاكتفت أولاهما بالعمل على تحطيمه، وفرحت الثانية بمصادقته …

    وساقت الأقدار ولاية العهد لإسماعيل قبل موت سعيد، فاستبشر الناس وارتقبوا الخير في عهد هذا الأمير الذي ذاع من صفاته فيهم ما حبَّبه إليهم، وكانوا قد علموا أنه من ذوي النباهة والحزم، وبخاصة في شؤون المال، ولم يطل ترقب الناس فقد آل إليه الأمر عام ١٧٦٣.

    وراحت مصر تستقبل طورًا من أطوار تاريخها. نحار أشد الحيرة ماذا نسميه وبأي الصفات ننعته … طورًا كان غريبًا حقًّا، تترك غرابته العقول في دهشة، وتكلف من يريد الإنصاف في درسه عسرًا شديدًا.

    ما برحت فرنسا وإنجلترا تراقبان سير الحوادث في وادي النيل، أما فرنسا فكانت لا تني تعمل على أن تزيد نفوذها في مصر، ذلك النفوذ الذي وضعت أساسه حملتها على هذه البلاد، والذي ما فتئ يعظم ويتزايد في عهد محمد علي، وها هو ذا في عهد إسماعيل قد بلغ مبلغًا عظيمًا حينما اتصل البحران واستطاع دي لسبس أن يُجري بينهما القناة التي سوف تغيِّر مجرى تاريخ هذا الوادي … وأما إنجلترا فكانت دائبة على سياستها تحول دون ظهور قوة في مصر، وقد استراحت من محمد علي، وراحت اليوم تقف في وجه حفيده، وتحرص على أن يظل خاضعًا للخليفة، ولما التقى البحران أصبح همُّها متجهًا إلى السيطرة على مصر لتسيطر على القناة.

    ونصبت كل من الدولتين شباكها وعولت كل منهما على أن تتدخل في شؤون مصر من طريق المال أولًا ثم من طريق السياسة بعد ذلك.

    شهدت مصر في هذا العهد جلائل الأعمال ومظاهر الاستقلال، كما شهدت عوامل البِلى وعناصر الانحلال، شهدت يدَ التعمير تبعث الحياة والنشاط والقوة في العاصمة وعلى صفحة الوادي، وشهدت يد التخريب تهوي بمعولها في غير رحمة أو هوادة فتزلزل البنيان وتقوِّض الأركان، شهدت العظمة الشامخة والثروة الباذخة وشهدت الذلة المستخذية والفقر المستكين، شهدت دوافع الحرية وشهدت نوازع الاستبداد، شهدت مواقف البطولة والصدق وشهدت مخازي الدسّ والبهتان … شهدت مصر ذلك كله وشهدت زيادة عليه ما تشهده الفريسة تجمَّعَتْ عليها الذئاب وأوهنها طول الدفاع والجلاد …

    أراد إسماعيل أن يسبق عصره فيما يطلب من أوجه الكمال، فلن يجمل بمصر وهو واليها أن تكون قطعة من أفريقيا ولا أن تكون جزءًا من تركيا، ولن يهدأ له بال حتى تنتسب مصر إلى أوربا، وحتى تحطِّم الأصفاد وتطرح من عنقها نير الاستعباد …

    ولم يمض من عهد هذا الأسير الفذ اثنا عشر عامًا حتى غمر مصر فيض من الإصلاح، وتهيأ لها من أسباب الرقيّ ما لم يكن يتهيأ مثله في أقل من قرن إذا سارت الأمور سيرها العادي … ففي تلك الفترة القصيرة وَصَلَ بين البحرين، وشُقَّتِ الترع الطويلة تحمل إلى أنحاء الوادي من مياه النيل وغرينه ما يدرأ عنه رمال الصحراء، ومدَّتْ سكك الحديد وأسلاك البرق، ونُظِّم البريد ومُهِّدَت السبل، وأُقيمت الجسور، وأُصلحت الموانئ، وشُيِّدت المنائر، وبُنيت المصانع، وافتُتحت دور العلم للبنين والبنات على نحو يُذكر بالحمد والإعجاب.

    وفي تلك الفترة تقلَّص نفوذ السلطان، وأحاطت بوالي مصر مظاهر السيادة فلقب بالخديو ونظمت ولاية العهد، وسمح للوالي بمنح الألقاب، وأطلقت يده فأصلح القضاء وأدخل على النظام الإداري كثيرًا من الإصلاح …

    وفي تلك الفترة سارت القاهرة تستبدل حياة بحياة، ومظهرًا بمظهر، فتتخلص ما وسعها الجهد من أفريقيا ولا تني تقترب من أوربا، وراح الخديو العظيم ينشر فيها من مظاهر همته ما جعل أعماله في هذا المضمار من عجائب القرن التاسع عشر، وما برحت القاهرة طول عهده غاصَّة «بالمونة والأحجار» تلك التي كانت هوية الخديو ومسرّة فؤاده …

    ولكن إسماعيل وا أسفاه أنفق في سبيل ذلك المجدِ ما زاد على خمسين مليونًا من الجنيهات لم يكن لديه منها شيء يذكر، ولذلك لم يلبث أن رأى مصر التي أراد أن تكون قطعة من أوربا تساق على رغمه لتكون ملكًا لأوربا! فمِن أوربا استدانت تلك الملايين، ولما عجزت عن دفع دينها كانت رهينة لهذا الدَّيْن!

    ولما أرادت مصر أن تجد لمشكلتها المالية حلًّا سنحت الفرصة لإنجلترا فراحت تتنكَّر لمصر وتتربَّص بها الدوائر، وكان لابد للمسألة المالية أن تنتهي إلى ما انتهت إليه من تغلغل الإنجليز والفرنسيين في صميم شؤون مصر.

    على أن هذا التدخُّل لم يك شرًّا كله كما اعتاد المؤرخون أن يصوِّروه، وحسبنا مما انطوى عليه من عناصر الخير أن قد استيقظت على صخبه وضجيجه مصر، فانبعثت القومية المصرية ومضت مصر تنفض عن كاهلها غبار القرون على صورة أروع وأقوى مما بدا في ثورتها على نابليون ثم على كليبر، ومما ظهر من آمالها وروحها ومشيئتها يوم ذهب أبناؤها وعلى رأسهم عمر مكرم والشرقاوي يُلبسون محمد علي الكرك والقفطان دون أن يَرجِعوا في ذلك إلى السلطان …

    وتراكمت الديون على مصر حتى إنها لم تك تقلُّ عن تسعين ألف ألف من الجنيهات في عام ١٨٧٥، فمن ديون سائرة كانت في ذاتها أبلغ ما نال الخديو من معاني الغبن، إلى ديون ثابتة فيها أوضح معاني الشره وأقبحها من جانب الدائنين، إلى قروض داخلية لجأ إليها «المفتش»، ذلك الذي قام على شؤون مصر المالية، فكان في ذاته عبئًا فوق ما أثقلها من عبء، ومن تلك القروض الدالة على الارتباك والخلل دَيْنا المقابلة والرزنامة …

    عندئذ تحركت إنجلترا نحو هدفها، وكانت أولى حركاتها في هذا المضمار شراء نصيب مصر من أسهم القناة، اشتراه دزرائيلي رئيس وزرائها يومئذ بثمن بخس، ولم يردَّه عن ذلك عطلة البرلمان في تلك الأثناء، وكيف يفوت ذلك الداهيةَ أمرٌ كهذا الأمر يجعل مقام بلاده في القناة كمقام فرنسا أو أعظم، ويصحح خطأً وقعت فيه إنجلترا ألا وهو استهانتها بالمشروع أول الأمر ظنًّا منها أنه لن يتمَّ، ثم تراخيها في شراء الأسهم بعد ذلك رغبة في إحباطه؟

    ولكن مصر بعد بيع أسهمها لا تزال في حاجة إلى المال لتدفع به بعض ما جرّه عليها المال من وبال، وأنَّى لها المال بعد هذا كله؟ وأية دولة تمدّ إليها يدها؟ إذًا فلتفكر مصر في الإصلاح، ولتفكر إنجلترا في اصطياد الفريسة.

    طلب الخديو موظفًا إنجليزيًّا يدرس لمصر شؤون مالها، ويصلح ما يراه من أوجه الخلل، فتلكّأت إنجلترا أول الأمر لأنها عن دهاء وجشع تحبّ أن تتدخل ولكنها لا تحب أن تفتح أعين غيرها …

    وجاء الموظف ولكنّه كان مزوّدًا من قبل حكومته بأوامر، فعليه أن يدرس وعليه فوق ذلك أن يحقق ويدقّق ثم يرفع إلى حكومته تقريرًا عما رأى! وما لهذا أراده إسماعيل، فما كان يريد والي مصر إلا أن يكون هذا الموظف مُعِينًا له على إصلاح مالية البلاد.

    ورفع «كيف» التقرير إلى حكومته! وجاد دور دزرائيلي فأعلن في البرلمان الإنجليزي في غير تردد ولا استحياء أنه يرغب عن نشر التقرير لأن الخديو رجا منه ألا يفعل، ولعمر الحق ما رجا الخديو منه شيئًا ولا أشار إلى ذلك من قريب ولا من بعيد …

    ذعر الدائنون، وهبطت قيمة أسهم مصر كما يقول رجال المال، وتلقَّى الخديو الصدمة العنيفة ممن أمَّل على أيديهم الإصلاح، وقال في مرارة وغيظ: «لقد احتفروا لي قبري.» وهي كلمة موجعة جامعة، فبعد هذا التصريح من جانب دزرائيلي سيكون الطوفان …

    وما كان في تقرير «كيف» إلا أن مصر «تشكو مما ينتشر في الشرق من أمراض، منها الجهل والإسراف والاختلاس والإهمال والتبذير، وأنها تشكو من كثرة النفقات التي سببتها محاولة إدخال مدنية الغرب، والتي تترتب على مشروعات لا تجدي نفعًا وعلى مشروعات نافعة ولكنها تنطوي على الخطأ»، بل لقد ذكر «كيف» في عبارة صريحة: «أن مصر تستطيع أن تدفع ما عليها من الديون إذا أحسنت إدارة البلاد»، ولكنّ للسياسة مطامعها وأغراضها، ولها من أجل ذلك أساليبها التي كثيرًا ما تسخر مما تواضع عليه أغرار الناس من قواعد الخُلُق والاستقامة.

    لم تستطع مصر أن تفلت من دائنيها، فكان لابد من إذعانها لمراقبة مندوبيهم، وأقيم في مصر «صندوق الدين العام»، فكان حكومةً صغيرةً من الأجانب داخل حكومتها، ثم وافق الخديو مكرهًا على تعيين مراقبين أجنبيين: أحدهما إنجليزي للدخل، والآخر فرنسي للصرف، وعيَّن لهذين موظفين من الأجانب بأجور ضخمة، وعني الخديو حقًا بإصلاح الحال يومئذ، ولكنَّ يد الغدر كانت من ورائه تبعث الارتباك وتنصب الشباك.

    وقَبِل الخديو فيما قَبِل على رغمه تأليف لجنة من الأجانب سُمِّيت «لجنة التحقيق العامة» جعل على راسها دي لسبس، ومنحت سلطة واسعة غير محدودة، فما كادت تعمل حتى اصطدمت، وكان اصطدامها في بدء عهدها لسوء حظها، برجل من رجال مصر كان يتحفَّز ويتحيّن الفرصة ليثب، وكان هذا الرجل هو محمد شريف باشا …

    استدعت اللجنة شريفًا ليمثُل أمامها لتستفهمه فتعاظمه الأمر فأبَى، فأصرَّت اللجنة وقد خشيت على هيبتها ونفوذها، ولكنه خشي هو أيضًا على كرامته وكرامة منصبه فأصرَّ كما أصرت … أيمثُل شريف أمام لجنة من الأجانب؟ ولمَ لا تنتقل إليه اللجنة وهو العزيز بنزاهته واستقامته، الكبير بشخصه ومنصبه، العظيم بوطنيته وكرامته؟ إذن فليطلق شريف المنصب غير آسف، وقد كان ما أراد فاستقال، وهزت البلاد استقالتُه بما تنطوي عليه يومئذ من المعاني؛ فلقد كانت وثبة منه في حينها كأنما جاءت على قَدَرٍ من الأيام، ففي مصر يتوثَّب مثله رجال وتخفق بالوطنية قلوب وتضيق من تدخُّل الأجانب صدور، وقُدّر لشريف أن يكون في تاريخ وطنه من أولئك الأماثل الذين توحي مواقفهم البطولة وتخلق الأبطال!

    كان في استقالة شريف معنى الغضب، ولكنه لم يكن غضب فرد لشخصه فحسب، وإلا لما كان له ما كان يومئذ من خطر، كان غضب رجل لشخصه ولقوميته معًا أمام لجنة من الأجانب تريد أن تَظهر بمظهر السيادة، وتحرص أشدَّ الحرص على ذلك المظهر، ولذلك كان هذا الغضب ثورة، وما لبثت تلك الثورة أن بعثت في كل نفس من نفوس الأحرار ثورة مثلها، وبذلك تهيأت البلاد لأن تثبت للأجانب وجودها، واغتدى شريف بما فعل أول رجالها ورأس أبطالها.

    ورب قائل يقول: وماذا كان في ذلك الموقف من معاني البطولة؟ هذا رجل اعتزل منصبه فكيف يكون الاعتزال رجولة؟ ولكن الذين يعلمون مبلغ نفوذ الأجانب ومبلغ ما مني به المصريون يومئذ من خور وما عرف عنهم إذ ذاك من الحرص على المناصب والألقاب يدركون ما ينطوي عليه موقف شريف من عزة وتضحية، هذا إلى ما سبق استقالته من تحدٍّ منه للجنة وسلطانها، ولو أن الخديو آزر شريفًا لما ترك منصبه وكان بذلك يدع اللجنة في أحرج المواقف كما أمعن في عصيانه وترفعه … ولكن الخديو على جلال قدره طلب إلى اللجنة فيما يشبه الرجاء أن تكتفي من شريف بأن يرد على أسئلتها كتابة، ولما رفضت اللجنة ذلك لم يردّ الخديو عليها بعمل أو قول يكون فيه معنى التأييد لرجله والاستنكار لفعل الأجانب، ومعنى ذلك أنه لم يبق أمام شريف إلا أن يتخذ من استقالته مظهرًا من مظاهر الاحتجاج على تدخُّل الأجانب في شئون البلاد، فكان ذلك المظهر أول إنذار بالثورة.

    أخذت لجنة التحقيق العامة تدرس الحالة، ولقد جعلت اللجنة هدفها بالضرورة العمل لصالح الدائنين، ولذلك لم تألُ جهدًا في أن ترجع بكل المساوئ إلى الخديو وحكومة الخديو متناسية ما فعله الدائنون من مخاطراتهم بأموالهم ابتغاء الربح الوفير وما جرَّه جشعهم على البلاد من دمار، وما انطوى عليه مكرهم من غَدْر وبهتان وزور واختلاس.

    تعامت اللجنة عما كان يقاسيه الفلَّاحون يومئذ من شقاء، ولم تراعِ في تقريرها بؤس أولئك الذين أثقلتهم الضرائب وهدَّهم الجوع، أولئك المساكين الذين كانوا كثيرًا ما يفرُّون من أراضيهم لكثرة ما كان يطلب منهم، أولئك الذين غمرهم في سنة من تلك السنين السود سيلٌ جارف لم يكن أقلَّ هولًا عليهم من طالبي الضرائب، ألا وهو فيضان النهر على قراهم وأراضيهم، أولئك الذين أحاط بهم الربويون والأمراض معًا، وباتوا يتمنَّون الموت من قبل أن يلقوه!

    وتغافلت اللجنة عن أولئك الأجانب الذين كانوا يهربون بضائعهم وينجون

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1