Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

انتفاضة المطوَّقين
انتفاضة المطوَّقين
انتفاضة المطوَّقين
Ebook613 pages4 hours

انتفاضة المطوَّقين

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

المروءة : هي خلق جليل وأدب رفيع تميز بها الإنسان عن غيره من المخلوقات. المروءة خَلَّةٌ كريمة وخَصْلَةٌ شريفة وهي أدب نفساني تحمل الإنسان على الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات، وهي صدقٌ في اللسان، واحتمال للعثرات، وبذل للمعروف، وكف للأذى، وكمال في الرجولة، وصيانة للنفس، وطلاقة للوجه وهي أيضا من أخلاق العرب التي يقيسون بها الرجال ويزنون بها العقول. هي كلمة لها مدلولها الكبير الواسع، فهي تدخل في الأخلاق والعادات، والأحكام والعبادات. مما لا شك فيه أن الإسلام جاء بتحصيل كل فضيلة ونبذ كل رذيلة، ومن أهم ما جاء به الإسلام لتمييز شخصية المسلم عن غيره الأخلاق والآداب والعقائد والأحكام.
Languageالعربية
PublisherRufoof
Release dateJan 1, 2017
ISBN9786713164307
انتفاضة المطوَّقين
Author

فيصل حوراني

محمود عباس

Read more from فيصل حوراني

Related to انتفاضة المطوَّقين

Related ebooks

Reviews for انتفاضة المطوَّقين

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    انتفاضة المطوَّقين - فيصل حوراني

    الإهــــداء

    إلى ابنتي لمى وزوجها عدي الهندي وابنهما لؤي الذي حملته أمه وولدته في غزة في إبّان الانتفاضة المتجددة، إلى خليتي الأثيرة هذه التي هي عندي رمز لمئات ألوف الخلايا المماثلة المنزرعة في الوطن.

    هذا الكتاب

    بعد تقاسيم زمار الحيّ، يجيء كتابي هذا بوصفه الثاني بين كتبي الذي يضمّ مقالات مختارة، بعضها سبق نشره. غير أن في هذا الكتاب ما قد يميزه عن سابقه. فالمقالات التي اختيرت للنشر هنا خصصت لموضوع واحد. وقد تناولت هذه المقالات التطورات التي مهدت لتجدد الانتفاضة الفلسطينية في خريف العام 2000 وواكبت وقائع الانتفاضة وما يتصل بها في أبرز تجلياتها ومحطات تطورها. واستحضرت المقالات نقاط الجدل الذي أججته الانتفاضة، المتواتر من هذه النقاط والطارئ، وأحاطت بالآراء المتوافقة أو المخالفة في هذا الجدل.

    بكلمات أخرى، أظهرت المقالات التي يضمها هذا الكتاب حصيلة ما خبرته بنفسي كلما أتيح لي أن أكون في المعمعان وحصيلة ما استخلصته عبر التأمل وأنا معتزل. وإلى هذا وذاك، ضمت المقالات ثمار الحوارات التي أجريتها باضطراد داخل الأرض الفلسطينية المحتلة وخارجها، وهي حوارات أنهمك فيها عادة مع ناس من مختلف الأجيال والأطياف السياسية والمستويات الاجتماعية، مع محايدين وأصدقاء ومع خصوم.

    وهكذا، لئن صح أن المقالات هذه لم تكتب في الأساس بهدف جمعها في كتاب، فمن الصحيح أن ثمة ما سوّغ جمعها، أو إن هذا، في الأقل، هو ما انتهيت إلى الاقتناع به.

    وكما فعلت في سابقه، أدرجتُ المقالات في هذا الكتاب حسب تاريخ كتابتها، وذلك حتى يبقى للقارئ دلالة التطرق لشأن بعينه في وقت بعينه، إلى جانب دلالة محتوى المادة.

    أما عنوان الكتاب فمن الجليّ أن واقع الحال هو الذي أملاه.

    فيصل حوراني

    -1 - فكر الحركة الوطنية الفلسطينية

    النشأة والتطور

    تتوخى هذه الورقة رصد تطور الفكر السياسي الفلسطيني في القرن العشرين. والأمر ليس أمر تغطية فترة زمنية قصيرة أو طويلة بل أمر فترة عبرها هذا الفكر بين محطتين كبيرتين: محطة نشأته الأولى على قاعدة الرفض الكامل للمشروع الصهيوني، ومحطة قبوله بأهم نتائج هذا المشروع أو تسليمه بأن لا مناص من القبول بها وغلبة الحاجة إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من أرض الشعب الفلسطيني وحقوقه. وما دام من المتعذر استيفاء تطور له هذا الحجم في ورقة ذات حجم محدود، فمن الواضح أن الحديث سيتركز على أهم محطات التطور وأهم سماته، وليس عليها كلها، وأنه لن يوغل في أي تفاصيل. وهذا يعني أن نهمل محطات وسمات ربما كان كثير منها شديد الأهمية ونهمل أيضا التفاصيل الكثيرة التي ترسم لهذا التطور صورته الكاملة، إنها طبيعة الإيجاز ومخاطره، ولا مناص من المجازفة! وفي هذه الورقة ألخص محتوى ثلاثة كتب نشرتها في هذا الموضوع وعشرات المقالات إن لم يكن مئاتها تابعت فيها شؤون الحركة الوطنية الفلسطينية وبضمنها فكرها السياسي: وقد اعتمدت في ما كتبت على مراجع تعد بالعشرات، بضمنها مجموعات وثائق الحركة الوطنية الفلسطينية قبل 1948 وبعده. كما اعتمدت على استقصاءاتي الشخصية المباشرة ومعرفتي بالمفكرين والسياسيين وحواراتي المباشرة معهم منذ أواخر الخمسينات.

    ـــــــــــــــــــــــــــــ

    ورقة قّدمت إلى الندوة الفكرية السياسية: خبرات الحركة الوطنية الفلسطينية في القرن العشرين التي انعقدت في غزة، من 2 إلى 4 حزيران/يونيو 2000.

    نشأة الفكر السياسي الفلسطيني:

    اختلف دارسو قضية فلسطين على أمور كثيرة، اختلفت زوايا النظر وكذلك الاستخلاصات. وكانت موضوعة الفكر السياسي بين ما اختلف عليه الدارسون. هل هناك فكر سياسي فلسطيني مستقل حقاً، أو أن ما يوصف بهذه الصفة ليس إلا جزء من الفكر السياسي العربي المتصل بقضية فلسطين؟ متى تمايز الفلسطيني الخاص عن العربي العام، وما هي درجة تمايزه؟ من هم منتجو هذا الفكر، هل يقتصر التحديد على الفلسطينيين وحدهم، وأين ندرج إذاً أولئك العرب الذين أدلوا بدلاء كثيرة في الشأن الفلسطيني؟ هل يصح الحديث عن تمايز ثابت ومستمر يجعل الشأن الفلسطيني مستقلاً حقاً عن الشأن العربي؟ وأين ندرج ما أنتجه فلسطينيون تناولوا هذا أو ذاك من شؤون العرب الآخرين حتى تلك منها التي ليس لها صلة مباشرة بالفلسطيني الخاص؟

    في هذه الورقة، سأتجنب الخوض في اختلافات الدارسين هذه وسأنطلق مباشرة من تحديدين اثنين:

    التحديد الأول، أن للشأن الفلسطيني خصوصية تم الاعتراف بها بدرجة أو أخرى. وقد اعترف بهذه الخصوصية حتى أشد العرب القوميين تشبثاً بوحدة القضية العربية وأكثرهم إصرارا على القول بان قضية فلسطين ليست سوى جزء من القضية الواحدة.

    التحديد الثاني، هذا الذي تفرضه أساسا الحاجة إلى الإيجاز، يتصل بحدود الفكر السياسي الفلسطيني وميدانه وانتماء منتجيه. ومن المهم التأكيد هنا على أن الحديث في هذه الورقة يتناول فكر الحركة الوطنية الفلسطينية بموجاتها المتعاقبة وما أنتجه ناس هذه الحركة. وغني عن البيان أن هذا التحديد لا ينطوي على أي استهانة بالآراء التي جاءت من مصادر أخرى وناس آخرين.

    في ضوء هذين التحديدين، يمكن تحديد النشأة. ومما لاشك فيه أن الفكر المتصل بقضية فلسطين لم يبدأ فلسطينياً صرفاً، بل بدأ في حضن حركة عربية واسعة واحدة وفكر سياسي عربي توخى أن يصير موحداً في الدعوة إلى استقلال البلاد العربية المشرقية عن الدولة العثمانية. ولئن شغلت قضية فلسطين جزء من ساحة الفكر العربي الواسع قبل الحرب العالمية الأولى، فإن هذا الجزء لم يكن آنذاك هو أهم الأجزاء ولا كان واحداً من أجزائها الهامة. لقد انشغل الذهن العربي قبل الحرب العالمية الأولى بالمشروع الصهيوني، لكن هذا الانشغال لم يكن كبيراً ولا كان عاماً، وذلك لأن حضور هذا المشروع في ساحة اهتمامات النخبة العربية المنهمكة في مشروع الاستقلال العربي عن الإمبراطورية العثمانية كان ضئيلاً. وقد انقسم ناس الحركة العربية الواحدة، وبضمنهم ناس الصف الأول، في الموقف من المشروع الصهيوني بحجمه الذي كان مرئياً آنذاك من قبلهم. فوجد بين هؤلاء من عارض الحركة التي تستهدف توطين اليهود في فلسطين كما وجد من أيدها.

    ويمكن أن نستحضر مثلاً على التأييد موقف عبد الحميد الزهراوي رئيس المؤتمر العربي العام الأول الذي انعقد في باريس في العام 1913 وكرس اتجاه الحركة العربية الواحدة إلى الاستقلال. ففي تصريحات نشرتها جون ترك وأعادت الأهرام نشرها في 26 تموز/ يوليو 1913، حبذ الزهراوي استيطان اليهود في فلسطين، ووصف العرب، مسلمين ومسيحيين، بأنهم مفعمون بالعواطف الطيبة تجاه الإسرائيليين، واعتبر اليهود مواطنين اضطروا في سابق العصر إلى مغادرة بلادهم ولكن قلبهم يدق في إيقاع واحد مع قلبنا. وأوجز العربي الذي له هذا الوزن دوافع محبّذي المشروع الصهيوني حين قال: نحن على ثقة من أن إخواننا الإسرائيليين في العالم أجمع سوف يمدون لنا يد المساعدة لنصرة قضيتنا بنفس القدر الذي يساعدوننا به لرقي بلدنا المشترك مادياً ومعنوياً. هذه الدوافع وغيرها كانت في خلفية الاتفاق الذي عقده الأمير (الملك فيما بعد) فيصل بن الحسين مع الزعيم الصهيوني د. حاييم وايزمن، الاتفاق الشهير.

    أما التنبه إلى حجم الخطر الصهيوني فلم يبدأ على نطاق واسع إلا بعد وقوع فلسطين تحت الهيمنة البريطانية، الاحتلال ثم الانتداب، وجهر بريطانيا بتأييدها إنشاء الوطن القومي اليهودي. وإذ اقترن الاحتلال البريطاني لفلسطين بعد العراق بنظيره الفرنسي لسورية بعد لبنان وتمزقت الحركة العربية الواحدة، فقد توجب على الفلسطينيين أن يواجهوا بأنفسهم الخطر الحال ببلدهم. ولعلنا لا نجانب الصواب، إذاً، إذا أرجعنا بداية نشأة الحركة الوطنية الفلسطينية إلى العام 1918 وإذا أرجعنا إلى هذا العام بداية تمايز الفكر السياسي الفلسطيني عن محيطه العربي العام.

    هنا، ينبغي التحذير من التبسيط الذي قد يدفع إليه هذا الإيجاز. ذلك أن الحديث عن التمايز لا يعني الحديث عن قطيعة بين فكرين. فقد واصلت الحركة الوطنية الفلسطينية حتى بعد أن تشكلت لها أطر خاصة بث أطروحات الفكر الذي انبثق فكرها منه، فأعلنت تشبثها بالدعوة إلى الوحدة العربية والقضية العربية الواحدة، وخصوصاً الوحدة السورية. وفي المقابل، واصلت الأجزاء الأخرى بث اهتمامها بقضية فلسطين.

    انهيار الإمبراطورية العثمانية التي عارض سلاطينها التوجه الصهيوني إلى تهويد فلسطين، وتجزئة مصائر البلدان العربية، والشروع في تأسيس الوطن القومي اليهودي في فلسطين، وتوطد الوجود البريطاني المؤيد للمشروع، هذه كلها، وغيرها، هي العوامل التي ميزت قضية فلسطين عن القضية العربية الواحدة وأنشأت الظروف التي أوجدت بداية التمايز الفلسطيني.

    ولم ينطو الأمر على تمايز المصائر وحده، بل انطوى، أيضا، على تمايز في طبيعة الاهتمام وهو تمايز نجم من الاختلاف في طبيعة الخطر الذي هدد كل جزء. وإذا كانت البلدان العربية بمعظمها قد خضعت للاحتلال الأجنبي وواجهت خطر الاستعمار التقليدي، فقد تميز الوضع الفلسطيني وحده بمواجهة خطر مزدوج: الاستعمار التقليدي والاستيطان الإحلالي (الذي يستهدف إحلال جماعات وافدة محل شعب البلاد). وبهذا حمل الفكر السياسي الفلسطيني سمات منشئه العربي الأول، كما حمل سمات الوضع الناشئ إزاء الاستعمار التقليدي، فتماثل، بهذا وذاك، مع ما يحيط به في البلدان العربية. لكن هذا الفكر تميز بما تميز به وضع فلسطين، فحمل السمات الخاصة، الفريدة في واقع الأمر، التي أوجبتها مواجهة الخطر المزدوج. بكلمات أخرى، لئن توجب على الفكر السياسي في أي بلد عربي البحث عن سبل تحرير الوطن وتحقيق استقلاله، فان الفكر السياسي الفلسطيني كان مطالباً، إلى هذا، منذ نشأته، بالبحث عن سبل الدفاع عن وجود الشعب ذاته على أرض وطنه. وقد بقيت هذه السمة الفريدة تفعل فعلها بعد ذلك في كل مراحل التطور، ذلك أن وجود الشعب الفلسطيني بقي مهدداً بشتى نذر الإبادة، وما زال.

    ولأن الخطر كبير فضلاً عن أنه مداهم، فقد تشبث الفلسطينيون بدعوة الوحدة العربية، وحفلت أدبيات الحركة الوطنية الناشئة بهذه الدعوة. لم يكن هذا استبقاء لأمل قديم لا يقر أصحابه بأنه انطفأ، بل كان سلاحاً مأمولاً للدفاع عن النفس. عاين الفلسطينيون حجم الخطر بشقيه المتحالفين، الصهيوني، والبريطاني، وأدركوا أنهم لا يستطيعون مواجهته وحدهم، ووجدوا أن بلدهم مدفوع إلى مصير ينطوي على نفي وجودهم فيه، فنشأت في ظل هذا كله سمة أخرى من سمات الفكر السياسي الفلسطيني هي الانطلاق من القول بأن قضية فلسطين والدفاع عن عروبتها، أي عن وجود أهلها فيها، هي قضية العرب جميعهم في بلدانهم جميعها. وقد ولد هذا القول قولاً آخر من طينته: قضية فلسطين هي قضية العرب الأولى. وفي هدي الحاجة إلى سلاح الوحدة العربية، يكمن في رأيي السبب الذي أبقى الفلسطينيين على مدى عقود متصلة اشد العرب تطلعاً إلى الوحدة العربية وأكثرهم حماساً لها. هنا، يقع الدارس على وجه آخر للمسألة، ذلك أن معاداة الوحدة العربية، أياً ما كان عليه المسمى الذي تحمله المعاداة، برزت أكثر ما برزت في التاريخ الفلسطيني مع بروز الدعوات والظواهر الاستسلامية وحدها تقريباً. وقد اشتدت الدعوة إلى الوحدة العربية أكثر ما اشتدت كلما انتعشت الأجواء الكفاحية وازدهر حال الحركة الوطنية.

    منذ البداية، تحت وطأة الاضطراب الذي مزق صف الحركة العربية الواحدة نتيجة غدر بريطانيا بحلفائها العرب قادة هذه الحركة، تشبث الفلسطينيون بسرج الوحدة العربية وتقدموا صفوف الذين التفوا حول الدولة العربية التي أعلن عن قيامها في دمشق في تشرين الأول/أكتوبر 1918. وقد صوت المندوبون الفلسطينيون إلى المؤتمر السوري العام بحماس شديد لقيام المملكة العربية وتعيين الأمير فيصل بن الحسين ملكاً عليها. وكان مما له مغزى ساطع الدلالة أن فلسطينياً من أعضاء المؤتمر هو الذي تلا على الجمهور بيان إعلان هذه الدولة. وفي الشهور التي عاشتها الدولة الوليدة، كان الفلسطينيون هم أكثر العرب تشبثاً ببقائها، ولم يفت في عضدهم أن ملك الدولة ذاته لم يجرؤ على احتساب فلسطين في عداد البلدان التي تشملها سلطته. ثم لم يلبث أن اتضح أن السرج الذي استند إليه الفلسطينيون كان واهناً من وجوه عدة، فالدولة التي علقوا عليها الآمال انهارت بسرعة، والملك الذي بايعوه فر من دمشق، ثم ظهر في أوروبا ولم يلبث أن عين ملكاً على عرش العراق.

    وجد الفلسطينيون أنفسهم في مواجهة مصير منفصل ليس لأنهم أرادوا ذلك، بل لأن ظروفاً أقوى من قدراتهم فرضت عليهم الانفصال، ولكن دعوة مفكريهم إلى الوحدة العربية لم تفقد لا دافعها الذي تحدثنا عنه ولا دلالتها. وعندما تبلور الفكر السياسي المتمايز، بقي لهذه الدعوة حضورها في طياته.

    وأيا ما كان عليه الأمر، فهذا الفكر نشأ في حرارة التجربة وتكون تحت مطارقها القاسية، وخصوصاً تلك المطارق التي تمثلت في خيبات الآمال وهواجس الخوف على المصير والوجود. ولئن احتفظ الفكر المتمايز بكثير من سمات مصدره الأول، فقد أخذ يكتسي بسمات أخرى جديدة. وارتبط هذا الفكر بحاجات الحركة الوطنية وتطورات مواقفها ومواقف الآخرين إزاءها. وبهذا، صار طبيعياً أن يتسم الفكر بما اتسم به السلوك، أي بالتجريبية، حتى وهو يتشبث بالثوابت. كما صار طبيعياً أيضا أن تتعذر قراءة معطيات هذا الفكر قراءة سديدة ما لم تتم مضاهاتها بقراءة معطيات السلوك. وبكلمات أخرى: لقد ندر أن نقع في ساحة الفكر على عطاء مستقل عن مجرى النشاط السياسي العملي. ولم تعرف هذه الساحة ظاهرة المفكر المنصرف إلى التأمل والتحليل والتأليف. ولا تستوعب معلوماتي مفكراً سياسياً واحداً عمل بمعزل عن النشاط العام العملي أو انصرف إلى التفكير الذهني وإنتاج النظريات. فإذا جاز القول بأن هذا الحال وفر للفكر حيوية من أي نوع، فمن الجائز القول أيضا بأن هذا الفكر كثيراً ما افتقر إلى التنظير المتأني والتأمل الهادئ. وتطور الفكر السياسي الفلسطيني لم يعرف أي فيلسوف منصرف إلى استنباط النظريات وتمحيصها. وهذه واحدة أخرى من السمات التي يمكن إيرادها، بصرف النظر عما إذا كانت هذه السمة إيجابية أو سلبية.

    شيء آخر مهم يقع عليه الدارس. إذ لما كان الخطر أكبر من قدرة أهل البلاد على النجاة منه، ولما كانت النتائج اشد فتكاً من أن يقروا بها أو بأي منها ولو من باب الاعتراف بالواقع، فقد صار التشبث بالمنطلقات الأولى، أي بما عرف باسم الثوابت، هو السلاح المتبقي للإعلان عن التشبث بالحق، حتى حين يصعب الدفاع عن هذا الحق. كما صار الإمعان في إنكار الواقع وظلمه هو سلاح المظلومين للإعلان عن استمرار وجودهم، وذلك بصرف النظر عن شدة مواجهتهم للظلم أو وهنها وعن قوة أملهم في الظفر في المواجهة أو ضعفه. وهنا يكمن جذر الظاهرة التي اصطلح على تسميتها باسم الرفض، ومن هنا نشأت بداية الانفصام بين ما هو واقع يتعذر تخطيه وما هو مرغوب. وقد صار رفض الإقرار بالواقع المتحقق حتى حين يتعذر نفيه حاجة تخفف ثقل الإحساس بهذا الواقع وتتوهم الصدقية اللازمة للاستمرار في التشبث بالأمل المرغوب. وبهذا نشأت أيضا بداية الانفصام بين ما قد يبثه الفكر وبين ما تتبعه الممارسة، بين الشعار بما هو في الأغلب نتاج فكر رغبي وبين المعادل الواقعي وكذلك القيمي لهذا الشعار في مضمون الفكر ذاته. وبهذا، لم يعد الهام هو توفر القناعة بصواب الشعار، بل صار الهام، أو الأهم، هو وجود الحاجة إلى التشبث به بما هو تعويض عن قسوة الواقع وإعلان عن رفضه في آن واحد. وبكلمات أخرى، نشأت بداية الانفصام بين إظهار أشد العزم وبين العجز عن توفير الوسائل اللازمة لإنفاذه. ولو استخدمنا تعبيراً أبسط، لجاز أن نقول إن الوضع الذي نشأ استتبع الانفصام بين الفكر الذي تصوغه الرغبات وبين مقتضيات واقع الحال. هذا الانفصام لم يكن في البداية حاسماً كما سينتهي إليه أمره بمضي السنين، لكنه، كما ينبغي تكرار ذلك، لم يغب عن البداية. أضرب مثلاً قد يكون هو الأشهر، وهو على أي حال الأبرز. فأدبيات الحركة الوطنية طفحت منذ بداية الاحتلال البريطاني لفلسطين بالدعوة إلى رفض الانتداب، تماماً كما طفحت برفض مشروع الوطن القومي اليهودي المقترن تحقيقه بوجود هذا الانتداب. إلا أن سلوك الحركة الوطنية انطوى خلال سنوات مديدة، سنوات العشرينات على الأقل، على استعداد قيادة الحركة الوطنية للقبول بالانتداب إذا كفت الدولة المنتدبة عن العمل لإقامة الوطن القومي اليهودي. وقد نشطت القيادة في هذا الاتجاه وحاولت إقناع بريطانيا بمزايا تعاونها مع العرب دون اليهود وتأمين مصالحها عبر هذا التعاون. وكان أعضاء القيادة التي تقدم هذا العرض هم أنفسهم الذين يكتبون بيانات رفض الانتداب أو يصدرون التوجيهات إلى من يكتبها. ولم يكن هذا مجرد عرض لمساومة، عرض خاطئ أو مصيب، بل كان في جوهره تعبيراً عن الحاجة إلى الاتكاء على دولة عظمى، حاجة استشعرتها قيادة الحركة الوطنية وهي تعكس طموح النخبة ولا تجد وسيلة أنجع من الاتكاء على المحتلين.

    سمات التطور حتى 1948:

    في تفسير ذلك، وحتى نستقرئ سمات التطور اللاحق حتى عام النكبة، سنكتفي بالقول إن بنية البلاد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وضمور دور الفكر العصري فيها وضآلة حصة فلسطين من مكتسبات حركة التنوير العربية ما كان لها أن تأذن بأن تعطي الحركة الوطنية، لا على صعيد الفكر ولا على صعيد الممارسة، أنجع بكثير مما أعطت في عقد العشرينات وأوهامه وتجريبيته الساذجة. وما دام هذا هو العقد الذي أرسى فيه الاحتلال البريطاني أسس وجوده وأرسيت فيه أسس نمو الييشوف، أو الكيان الاستيطاني اليهودي، فقد ضاعت سنوات كثيرة دون أن ينوب الفلسطينيين في مواجهتهم لنمو الييشوف طائل يعتد به.

    وما دمنا نتوخى أشد الإيجاز ولا نرصد إلا أهم السمات فمن الجائز القول إن الفكر السياسي الفلسطيني في تطوره حتى العام 1948 استند على الأسس الرئيسية التالية:

    أول الأسس هو مما سبقت الإشارة إليه، وقد تجسد في استمرار الإيمان بأهمية الوحدة العربية حتى بعد أن غيبت الأحداث فرصة تحقيقها. هذا الإيمان الذي أسسته عوامل تمتد جذورها في التاريخ القديم والوسيط والحديث انضاف إلى مقوماته إدراك الفلسطينيين حاجتهم إلى وجود محيط كبير يحميهم. من هنا، اتسمت الأدبيات السياسية الفلسطينية على العموم بالتأكيد على حق شعب فلسطين في الحصول على مساندة العرب له. وقلما جرى الانتباه إلى العكس، أي إلى واجبات تترتب على الفلسطينيين تجاه العرب الآخرين. شيء آخر اتسم به التصور الفلسطيني للدور العربي هو المبالغة في تقدير المتوقع منه. إنه التفكير الرغبي وقد فعل فعله في هذا المجال أيضا واشتط فيه، أو هي عادة تقديم بدائل لفظية لقسوة واقع الحال. وما ينطبق على الأمل بتحقيق الوحدة العربية والمساندة المأمولة من المحيط العربي انطبق، بدرجة أو بغيرها، على الأمل بتحقيق الوحدة الإسلامية والتعويل على مساندة المحيط الإسلامي. في هذا المجال الأخير، لم تحقق الدعوة الإسلامية الرواج الذي تحقق للدعوة العربية، ولم تنشأ في فلسطين قبل العام 1948 منظمات إسلامية سياسية ذات شأن يعتد به. والإخوان المسلمون الذين نشأ تنظيمهم في مصر وامتد خارجها أسسوا منظمة في فلسطين في أواخر العشرينات لم تحظ بانتشار واسع ولم تعمر طويلاً ولم يظهر لها دور يعتد به في حياة البلاد السياسية.

    ثاني الأسس وهو، أيضا، مما سبقت الإشارة إليه، تجسد في تناقض الحركة الوطنية وفكرها بين الرفض البات للمشروع الصهيوني وبين السعي إلى التعاون مع بريطانيا راعية المشروع. وفي الأدبيات السياسية كلام كثير أجهد أصحابه أنفسهم ليقنعوا بريطانيا العظمى بان مصالحها تتحقق من خلال تعاون العرب معها وليس اليهود. وقد انطوى هذا على منهج في الفكر والممارسة أدى إلى تبديد الوقت والقوى في ما لا طائل وراءه وتضييع الفرص. واتضح هنا، أكثر مما في أي مجال آخر، التأثير الضار للبنية التي حددتها أطر إقطاعية وريفية متخلفة وأطر مدينية ما قبل رأسمالية أو رأسمالية ضعيفة ومشوهة. فهذه البنية أفرزت في فلسطين حركة وطنية محتاجة للتعاون مع بريطانيا بوجود مشروع صهيوني وبدونه. إنها الحاجة ذاتها التي كانت في صلب توجه الحركة العربية الواحدة وزعيمها الحسين بن علي إلى نشدان التعاون مع بريطانيا. وقد حجبت هذه الحاجة عن عيون الوطنيين الفلسطينيين الأوائل رؤية الصلة بين مصلحة بريطانيا وبين المشروع الصهيوني. وكم كان مؤسياً التأخر في إدراك الحقيقة حول هذه الصلة. والواقع أن أدبيات الحركة الوطنية الأولى تطفح بالحديث عن الثقة بعدالة بريطانيا والأمل في الظفر بتفهمها لمطالب العرب وتنسب تأييد بريطانيا للصهيونيين إلى نقص في معلومات الساسة البريطانيين أو خلل في رؤيتهم لمصالح بلدهم وتتجند لإيراد الحجج التي تتوخى مساعدتهم على الاقتناع. وكم كان بطيئاً توجه الفكر السياسي الفلسطيني إلى إدراك الحقيقة في هذا الشأن. وإذا استثنينا الشيوعيين، وهم الذين كانوا آنذاك مجرد أفراد قلائل، فقد وقع الوطنيون في هذا القصور في الإدراك بدرجة أو بأخرى واستمر الأمر حتى الثلاثينات. والشيوعيون أنفسهم، على تقدم وعيهم على السائد، وقعوا في خطأ الفهم الميكانيكي للمجتمع الذي نشأوا فيه فساووا بين عرب البلاد ويهودها وحرضوا الجمهور العربي واليهودي ضد المستغلين من الجانبين وضد بريطانيا التي تستغل الجميع. وبهذا، احتجب التمييز الأكثر ضرورة بين خصم طبقي واقف في صف المعتدين وآخر موجود في صف المعتدى عليهم. وبغياب الرؤية السديدة للمسألة، قلص الشيوعيون تأثيرهم حتى في المجال الذي كانوا سباقين فيه وهو مجال التوعية على الاقتران بين مصالح بريطانيا والصهيونيين.

    ثالث الأسس تجسد في استمرار الحركة الوطنية على نهج محاولة إقناع بريطانيا إقناعا حتى بعد أن أظهرت هذه إصرارها على بناء الوطن القومي اليهودي وانحيازها للصهيونيين. فحتى أوائل الثلاثينات، حتى بعد انقضاء خمس عشرة سنة على وقوع الاحتلال، بقيت غالبية الحركة الوطنية أسيرة هذا النهج. وانطوى هذا على احتساب الصهيونيين في مرتبة العدو الأول وتجنب احتساب بريطانيا بين الأعداء أو تجنب احتسابها عدواً أول. أما القناعة بأن بريطانيا هي أصل الداء ورأس البلاء فقد روجت لها قلة قليلة من النخبة التي تشكل قيادة الحركة الوطنية، إنها القلة التي تركزت في حزب الاستقلال قصير العمر، ولم تتأثر قناعات هذه القيادة وسلوكها بها إلا في وقت متأخر.

    رابع الأسس تجسد في عجز الحركة الوطنية عن إدراك أهمية تصديها لتمثيل البلاد بأسرها، بعربها ويهودها، وإحجام الوطنيين الفلسطينيين عن القيام بأي بادرة للاتصال بأي فئة من فئات اليهود، حتى المعادين للصهيونية. وعلينا هنا أن ننتبه إلى أن الحركة الوطنية الفلسطينية أقرت بوجود يهود لهم حق المواطنة الفلسطينية، وقد تحدثت الأدبيات السياسية عن المساواة بين هؤلاء وبين العرب في الحقوق والواجبات: لهم ما لنا وعليهم ما علينا، لكن القطيعة شملت هؤلاء أيضا، وكان الفكر في هذا المجال مغلقاً تماماً على ما يبدو. وظل الاتصال باليهود، أي يهود، حراما. وفي سياق التحريم، أبت قيادة الحركة الوطنية أن يتواجد عرب ويهود في مؤسسات مشتركة تمثل عموم البلاد، ومضت في بناء مؤسسات عربية صرفة في مقابل المؤسسات التي بناها اليهود.

    هذا الرفض أدى، مع أسباب أخرى بالطبع، إلى تمكين الصهيونية، وليس أي جهة أخرى، من السيطرة على الجمهور اليهودي والمؤسسات اليهودية في فلسطين، وأوهن فرص وجود معارضة فعالة ضد الصهيونيين في الوسط اليهودي. وفي المحصلة، ظهرت الصهيونية بوصفها قائدة وممثلة للجانب اليهودي كله، فيما مثلت الحركة الوطنية الفلسطينية الجانب العربي وقصرت عن أن تصير ممثلة للبلاد كلها. وتعمق العداء بين الجانبين وكذلك الانفصال بينهما. ومن هنا، فان دعوة الجانب العربي إلى دولة واحدة لعرب فلسطين ويهودها، هذه الدعوة التي كانت في جوهرها صحيحة، فقدت فعاليتها وصدقيتها ولم تجد من يستجيب لها على الطرف اليهودي. وكان في هذا مثل صارخ آخر على الانفصال بين الفكر والسلوك، بين الشعار والممارسة.

    خامس الأسس، وهو من طينة سابقه، تمثل في قصور الوعي عن إدراك أهمية عقد تحالفات مع التيارات اليهودية المناوئة للصهيونية خارج البلاد أو الماضية في مسارات لا يجمعها جامع بالمشروع الصهيوني. هنا، أيضا، بدا القصور صارخاً والفكر مقفلاً، خصوصاً حين انسحب الأمر على التحالفات اللازمة مع القوى الديمقراطية التي تعارض الصهيونية. ويقدم الموقف من الحركة الشيوعية العالمية والاتحاد السوفياتي مثلاً صارخ الدلالة في هذا المجال. والواقع أن أضرار هذا القصور لم تنته عند تضييع فرص تحالفات مفيدة، بل امتدت فتمثلت في نهاية المطاف في عقد التحالفات الضارة، والعلاقة التي أنشأتها قيادة الحركة الوطنية مع إيطاليا الفاشية وألمانيا النازية تقدم أسطع مثل في هذا المجال.

    سادس الأسس تجسد في المبالغة في تصور حجم الاهتمام العربي أو الإسلامي بفلسطين وشعبها. وهذه مبالغة نجمت منها تصورات واهمة حول حجوم المساندة التي يمكن للعرب والمسلمين أن يقدموها لشعب فلسطين في كفاحه ضد الغزو الصهيوني. لقد غالى الفكر كثيراً في رسم التصورات المهولة وترويج الآمال. ويجد دارس الأدبيات الفلسطينية أن جزء كبيراً من محتوياتها انصب على هذه النقطة بالذات حتى جعل للأوهام في هذا الشأن منزلة الثوابت. خطورة الأمر أن المغالاة في هذا المجال أفضت، مع عوامل أخرى بالطبع، إلى تكبير الدور العربي ناهيك بالإسلامي في الشأن الفلسطيني دون أن تكبر به المساندة العربية أو الإسلامية لكفاح الفلسطينيين. ومن الذي لا يتذكر كيف أوقف التدخل العربي الاندفاعة الأولى لثورة 1936، كيف استجابت القيادة الفلسطينية لهذا التدخل وكيف قنع الجمهور به، ثم كيف لم يقترن هذا كله بعون عربي ذي فعالية لتحقيق مطالب الشعب الفلسطيني، ناهيك، أيضا بالتدخل الإسلامي.

    سابع الأسس تجسد في غلبة روح التهيب من استخدام العنف وسيلة لتحقيق المطالب الوطنية. هل نجم التهيب هذا من الرغبة في التفاهم مع بريطانيا أو من ضعف بنية الحركة الوطنية وتهيبها ممارسة العنف بسبب ذلك؟ أدبيات العشرينات تشي بأن العامل الأول كان له تأثير كبير. لكن هذا لا ينفي تأثير العامل الثاني. وقد أشارت إلى هذا التأثير على كل حال أدبيات قوى صغيرة ضاقت بتهيب القيادة اللجوء إلى العنف وإمعانها في نهج التفاوض وحدة. وفي كل مرة دعت فيها قيادة الحركة الوطنية إلى نشاط عام، حرصت على التأكيد على الطبيعة القانونية لهذا النشاط واستبعاد العنف واستنكاره. أما عندما فرض تطور المزاج الشعبي اللجوء إلى السلاح فرضاً في العام 1936 واستجابت القيادة لما فرضه مزاج الجمهور، فقد كان الييشوف، أو الكيان اليهودي الاستيطاني، قد تأسس على أسس راسخة ونما وصار بفعل مساندة الدولة المنتدبة قوياً. وهكذا صار من شأن الثورة المسلحة المتأخرة عن وقتها هذه أن تكرس الانفصال بين عرب البلاد واليهود زيادة على ما كرسته الصهيونية من جانبها، وأن تعجز بعد ذلك عن اقتلاع جذور الييشوف أو حمل بريطانيا على التخلي عنه. وهكذا، كان المنطقي، إذاً، أن تبرز مقترحات تقسيم البلاد مع ثورة 1936 وفي إبانها فتصير المقدمة التي تحول الييشوف بعدها من كيان إلى دولة.

    ثامن الأسس تجسد في الحرص على نخبوية مؤسسات الحركة الوطنية، نخبوية مؤسساتها العامة ونخبوية القوى والأحزاب المنضوية تحت لوائها. بدأ الأمر مع الجمعيات الإسلامية المسيحية التي بدأت الحركة الوطنية الفلسطينية بها وبقيت هي قاعدة هذه الحركة طيلة العشرينات. فهذه الجمعيات كانت كلها جمعيات للنخب، وقد ضمت النخب المدينية على وجه الخصوص. ثم إن الأحزاب الوطنية التي تواتر تأسيسها منذ أوائل الثلاثينات كانت هي الأخرى كلها أحزاب نخب مدينية، وإن استقطب بعضها بعض نخب الريف. أما الجمهور وغالبيته ريفية فقد نظر إليه بما هو مصدر ولاء للقادة وليس أكثر من ذلك. ومع أن الفكر، بما فيه فكر الأحزاب، روج لشتى أشكال الديمقراطية وسخى في الحديث عنها، فقد بقيت مؤسسات النخب هذه، كلها بغير استثناء، أدنى من أي مستوى يرضى عنه أي ديمقراطي. مرة أخرى، كان هذا نتاج البنية الاجتماعية الاقتصادية التي أشرنا إليها. وفي هذه البنية لا تكون الدعوة إلى الديمقراطية إلا طرقاً على حديد غير حام.

    تاسع الأسس تجسد في الاهتمام بالدعوة الوطنية وإغفال مرتكزات لا تحقق الدعوة أهدافها بدونها. لقد أفرزت الدعوة أول ما أفرزت الجهد الذي استهدف إقناع بريطانيا بالتخلي عن وعد بلفور، ثم الضغط عليها للتخلي عنه، والأعمال المتفرقة التي استهدفت بعض مواقع الييشوف أو بعض امتيازاته، ثم الثورة المسلحة.. الخ. لكن، في غضون ذلك كله، لم يول الفكر أهمية كبيرة لمسألة وجود سلطة وطنية. لا يشار هنا إلى قصور في المناداة بوجود سلطة، بل إلى القصور في إنشائها وممارستها في ظروف الواقع القائم. وقد غاب عن الفكر ما يمكن أن يلعبه وجود سلطة وطنية، ولو من نوع السلطة القائمة داخل الييشوف، في تحقيق المطالب. ومما لا شك فيه أن الفرص المعروضة كانت ضئيلة، غير أن القصور في الاستفادة

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1