Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

ظلال العقل العربي (ج4)ء
ظلال العقل العربي (ج4)ء
ظلال العقل العربي (ج4)ء
Ebook470 pages3 hours

ظلال العقل العربي (ج4)ء

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

يرى فقهاء الشريعة أن مسار الدولة الإسلامية قد تحوّل جذرياً بعد مرحلة الخلفاء الأربعة الأوَل وانتقال الخلافة إلى أيادٍ غير أمينة في الغالب سوى ما كان في عهد عمر عبد العزيز، فلُقب بخامس الخلفاء الراشدين، ولُقب الأربعة الأوائل بالخلفاء الراشدين. وهذا ما يعني أن المسار السياسي للإسلام انحرف عن منهجه فعلياً بنهاية عهد عليّ أبي طالبٍ، فهل انحرف الفقه كذلك أم سار معتدلاً برغم انحراف السياسة؟ وهل فعلاً أن عصر الخلفاء الأوائل كان عهداً راشداً أم لُقّب كذلك لمجرد كونهم من كبار الصحابة ولا يجرؤ أحد على تناول تاريخهم بالنقد ولو كان موضوعياً؟ فمن أكون أنا أو غيري لانتقد عمر وأبا بكرٍ الصديق وعليّ أو عثمان؟ فهم أعمدة الدعوة وأوتادها منذ فجرها. وهذا حق لا يشقه غبار، لكن هل كان تاريخهم أبيض بياضاً ناصعاً؟ يضعه في منصب النبوة؟ أم أن الأخطاء السياسية والتشريعية أو الفقهية التي وقعت في عصورهم أقل من أن تُذكر؟ قد تكون هذه حقيقة، لكن على كل حالٍ سنحاول تقييم عصر الخلفاء الراشدين قياساً على عصر النبي محمد عليه السلام لا قياساً على عصرنا، من حيث المفاهيم والممارسات والتطبيقات الفقهية والعملية في عصره وعصرهم، لربما تكون تلك الأخطاء الطفيفة التي وقعت في عصرهم قد استمرت في العصور التالية واستفحلت وتضخمت طوال عصور الانحراف والفساد السياسي الذي غص به تاريخ الدولة طوال عصورٍ مديدة، وفي سبيلنا لإجراء هذه المقارنة سنحاول ضبط خيط من الخيوط وتتبعه في عصر النبي عليه السلام وصولاً إلى عصر الصحابة لتبيان ما قد طرأ عليه من تغيرات أو تحوّلاتٍ أو انحرافٍ ولو بسيط، فليس من المنطق القول بداهة بالمساواة والتطابق بين عصر النبي عليه السلام وعصر الصحابة وإلا كان ذلك افتئاتاً على الله ورسوله؛ لأن الرسول في سياسته للمجتمع لم يكن شخصاً عادياً ولا حتى عبقرياً موهوباً، بل كان نبياً ورسولاً مُرسلا، أما الصحابة فهم بشرٌ عاديون قد اجتهدوا قدر طاقتهم في تلمُس طريق الحق والصواب، وربما وقعت منهم بعض الأخطاء واستفحلت بمرور التاريخ، ولذلك سنحاول إجراء مقارنة بين عصر النبي وعصور الصحابة من حيث التحليل الاجتماعي للمسلمين خلال عصره وبعده والتقاط خيوط فقهية مثل مسألة الجزية والعبودية والاسترقاق والسبي والحرب الهجومية في الإسلام وأساليب نشر الدعوة وفكرة الجهاد في سبيل الله وحرية العقيدة وحقوق الإنسان.
من حيث وجه المقارنة، سنحاول وضع الإصبع على ((التطبيقات العملية التي باشرها النبي خلال حياته)) في مواجهة ((التطبيقات العملية للمسلمين بعد وفاة النبي)) حيث سار عهد النبي في وئامٍ وانسجام بين كافة طوائف المجتمع، ما أدى إلى وصول المدينة في عهد النبي إلى حدود الأمن القومي لكل المسلمين في شبه الجزيرة العربية، وبعد وفاته، بدأت المعارك السياسية وتبعتها الفتوحات التي أسقطت ما يقارب 400 ألف إنسان خلال عامٍ واحد على يد خالد الوليد، ثم تبع ذلك انكماش مفاجئ لحركة الفتوحات واضطرابات وقلاقل وفتنٍ داخلية، ما أدى إلى وقوع ما يقارب المائة ألف قتيلٍ بين صفوف الصحابة أنفسهم، وهذا ما ينمّ عن تحوّلٍ جذري في العقلية العربية وتركها لمنهج الإسلام وعودتها إلى تراثها الجاهلي القائم على الصراعات القبلية والفروسية وأرض المنشأ الاجتماعي.
ومن الواضح أنه مع تزايد الانحراف السياسي تزايد الانحراف الفقهي بضخ مزيد من الأكاذيب والروايات الخرافية على تراث رسول الله عليه السلام وخصوصاً خلال فترة الصراعات السياسية، إذ حاول كل فريقٍ تلمُّس ما قد يؤيد جانبه فلجأ إلى اختراع أقاويل ونسبها إلى الرسول، وآخرون دخلوا من باب المجاملة أو النفاق السياسي لإضفاء اللمسة الدينية على الحكام، وغيرهم دخلوا من باب الخوف على الإسلام وتشديد عقوباته وإبراز حدوده، وغيرهم دخلوا من باب التأكيد على نبوة الرسول ولهذا ظهرت مؤلفاتٍ لا حصر لها تتناول معجزات الرسول وحديثه مع الجان والحيوان وغير ذلك من الخرافات، حتى تنبّه البعض إلى توثيق الحديث وعلى رأسهم الشيخين البخاري ومسلم وأقرانهم، لكن ذلك جاء بعدما تراكم التدليس وبلغ السيل الزبا، وتم التدوين على عجلٍ دون تمحيصٍ كافٍ، حتى أن الخرافات تم تدوينها ووصلت إلينا سالمة رغم مرور أكثر من ألفٍ وأربعمائة عام، وهذا يعني أن لها حظاً من الاهتمام والعناية ولها نصيب من الاعتقاد والتصديق وربما التطبيق العملي الذي استمر طوال الألفية السابقة. ولو تم إعدام هذه الخرافات مبدئياً لكان الفقه قد هجرها منذ البداية حتى انقرضت، لكن ما حدث كان عكس ذلك. ومن هنا بدأت مرحلة جديدة وهي مرحلة الانشطار الفقهي على خطٍ أُفقي بلا أي قيمة إبداعية أو سموّ في الفكر الديني، سار الفقه على ذات الوتيرة السياسية المتخبطة والاجتماعية المنهارة،

Languageالعربية
Release dateSep 12, 2019
ISBN9781393907237
ظلال العقل العربي (ج4)ء

Read more from Mohamed Mabrouk

Related to ظلال العقل العربي (ج4)ء

Related ebooks

Reviews for ظلال العقل العربي (ج4)ء

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    ظلال العقل العربي (ج4)ء - Mohamed Mabrouk

    المحتويات

    باب تمهيدي

    الإضاءة الأولى: مسقط رأسي على المجتمع العربي من منظور ديني

    الإضاءة الثانية: مسقط رأسي بين الفقه والفقهاء- المعيار الشخصي والمعيار الموضوعي

    - المعيار الشخصي والمعيار الموضوعي في الفقه

    - عبقرية قواعد الحكم على الحديث

    - عبقرية قواعد تدوين القرآن

    - إشكالية المعيار الشخصي

    - كذب الصحابة على رسول الله

    - ظاهرة الخنزير البري

    - فقه الوطء والركوب في الإسلام

    باب تمهيدي

    لا يمكن للعقل أن يتحرر أو يتحرك في ظل تقديسه للتاريخ العربي، فالتاريخ العربي صار جزءاً عقائدياً مُقدساً من الدين ما جعل المسلمين يؤمنون بأفكار وآراء وسلوكيات إجرامية وقعت خلال حقب التاريخ ويعتبرونها سلوكيات نموذجية بل وينبغي على المسلم الالتزام بها واحترامها باعتبارها شعيرة دينية، بينما هي في الواقع جريمة ضد الإنسانية.. مثال؛ أبي بكر الصديق في الواقع بدأ تأسيس دولته على بيت المال الحرام من عوائد السبي والنخاسة والسلب والنهب وخطف وبيع الأطفال، ولم يكن له مصدر دخل قومي من داخل بلاده، أي لم يكن له مصدر دخل وطني محلي قائم على العمل والبناء والإنتاج، لأن الصحابة العرب لا يدمنون سوى الإغارة، وحتى وإن كان مصدر الدخل القائم على عوائد السبي والنخاسة حلال، فهذا لن يصلح في عصرنا، وإن صلح في بلاد العرب فلن يصلح في إيجبت لأنها دولة مدنية تحترم الإنسان وتقدر قيمته ولا تقبل بيع أطفال الناس وبناتها في أسواق النخاسة كما كان يفعل العرب..

    إن التاريخ يكتبه المفتخرون به والمؤمنون بعظمته، وهو يعكس الجانب المضيء من حياتهم، من سياسة وحروب وانتصارات وحالة مجتمعية وسيرة رجال حكم تلك الحقبة. وربما يتسرب في كتاباتهم بعضاً من جوانبه المظلمة خلال محاولاتهم لتبرير الجوانب الأخرى لتبدو أكثر إشراقاً. وتاريخ العرب كتبه العرب من زاويتهم ورؤيتهم الذاتية ومجّدوه في أنفسهم ومدحوا أسلافهم باعتبارهم أصحاب الانتصارات والأمجاد والفتوحات وزادوا من تقديسهم فمنحوا تاريخهم مسحة دينية كي يقدسه أحفاد المسلمين عبر الزمن، لكن نظرة واقعية بداخل الذات تجعلنا نقف لحظات لقياس الأمور والأفعال على المبادئ الإسلامية لا على ما نراه محبباً إلى نفوسنا ومصرفاً لكروبنا ومصدراً لثقتنا بأنفسنا وفخرنا أمام الأمم، فخير موارد العدل القياس على النفس. ومنذ فجر التاريخ وكل شعبٍ يحتفظ بحضارته وتاريخه وقوميته المستقلة، فنحن المصريون دائماً ما نفتخر بحضارتنا الفرعونية، وهكذا كثير من شعوب الشرق الأوسط، العراق والشام وإيران واليمن وغيرها، ما عدا شبه الجزيرة العربية (أرض الحجاز)، فليس لها ماضٍ تفتخر به سوى بعثة النبي عليه السلام، وما بعده حيث اندمجت القوميات الشرق أوسطية في قومية عربية واحدة منذ انتشر الإسلام في شعوبها وحلّت اللغة العربية محل لغاتها المحلية.

    في الواقع، فقد بدأ تأسيس دولة العرب في عهد الخليفة الأول أبي بكر الصديق، واستمر في التأسيس على منهجه عمر الخطاب، ولم تبدأ دولة العرب في عهد الرسول لأن الرسول لم يكن حاكماً بالمعنى السياسي ولم يكن فارساً ولا إمبراطوراً، لم يؤسس دولة وإنما أسس مجتمع. يقول تعالى:  فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (22)/الغاشية؛ أي ليست لك عليهم سُلطة ولست مسلطاً عليهم، فلم يكن النبي مرخصاً له بممارسة أي سلطة على المجتمع سوى تنفيذ الأمر الإلهي، وحتى لا تختلط سلطته البشرية أو سلطته السياسية لو كان حاكماً بالمعنى السياسي وتندمج في التعاليم الدينية التي تتسم بطبيعة الديمومة. فالمجتمع لن يكون قادراً بعد ذلك على التفرقة بين ما كان سلطة دينية للرسول وما مارسه الرسول كسلطة سياسية حاكمة، ولذلك قال له الله لست عليهم بمصيطر، بل إن ذات الإشكالية حدثت فيما بعد حينما تولى أبو بكر منصب الأمير في المدينة، وتبعه عمر الخطاب كحاكم سياسي، لكن بدأ توسع واندماج السلطة الدينية في السلطة السياسية فحصل عمر الخطاب على لقب أمير المؤمنين (برغم أنه كان في الواقع أميراً للمؤمنين وغير المؤمنين) ثم استمر اللقب حتى معاوية كان أميراً للمؤمنين(مع أنه في هذا الوقت كان حاكماً لدولة أغلبها غير مؤمنين لكنه تمسح بالدين ظاهراً)، ثم بتضخم حجم الفساد السياسي في المجتمع العربي بدأ التحصين بالسلطة الدينية فظهر برز على السطح الخليفة ! باعتباره نائباً حل محل الرسول (وهذا خطأ). وبالتالي فإن المسار التاريخي لدولة العرب يبدأ عقب وفاة الرسول وانصراف نية العرب الجماعية إلى اختيار أمير حاكم لهم، هذا الأمير أدار شؤون دولة العرب وأسس جيشاً نظامياً وظفه بصورة دائمة وأسس ميزانية عامة بيت المال" لينفق منها على مصالح الدولة، ومن هنا بدأ يظهر رويداً رويداً مفهوم الدولة ونظام الحكم المركزي في العقل العربي للمرة الأولى في تاريخه، أما النبي فكانت مهمته دينية دعوية وليست سياسية إستراتيجية. فقيام دولة العرب (سياسياً واقتصادياً وعسكرياً) لا صلة له بالدين سوى في توحيد كلمة القبائل العربية في المدينة ومحيطها، كما لو خرج الناس من صلاة الجمعة ثم اتفقوا على فعل شيء ما بصورة جماعية، فالطبيعي أن ينفصل هذا الفعل عن الصلاة حتى وإن كانت الصلاة هي المناسبة التي جمعتهم.

    وطبيعة المجتمعات لا تسير على خطٍ أفقي مستقيمٍ من حيث العادات والأعراف والتقاليد والثقافة الشعبية، ومن حيث مستويات التحضّر والرقي الاجتماعي والتقدم العلمي كذلك. فلو تتبعنا شعباً من الشعوب على مدار التاريخ سنجد منحنيات رأسية في تاريخه، بما يعني أن صوت الحكمة يعلوا ويهبط أحياناً كثيرة، فلا يوجد شعب في التاريخ بدأ حياته متقدماً متحضراً واستمر على تقدمه وحضارته، ولا يوجد شعب في العالم بدأ متأخر وظل على تأخره، بل إن الشعوب تصعد بحضاراتها قمماً وتهبط قيعان متتالية بمرور الزمن، وهذه طبيعة العقل البشري أنه متموِّج لا يسير في خطٍ مستقيمٍ أبداً.

    فما حدث في شبه الجزيرة العربية عند بعثة الرسول كان حدثاً مفاجئاً للمجتمع من الناحية الإنسانية، لكن بمجرد وفاته تغيرت الحال، وأصبح دور المجتمع المسلم هو السطو على الشعوب المجاورة وقتل المخالفين في الدين والعقيدة، فقد توهموا أوامر من الله بقتل المخالفين لهم مرضاة لله!، حتى أن خالد الوليد قتل سبعين ألف أسير كي يبر يمينه أمام الله لأنه عقد نذراً على نفسه وقطع وعداً لله بذبحهم جميعاً إذا نصره الله عليهم! كانت هذه عقيدة الفاتح الأكبر في التاريخ العربي! وعلى هذا الأساس انتشرت حركات التوسع الجغرافي باحتلال الشعوب ونهب ثرواتها وقتل واغتصاب نسائها، والكارثة أن هذه الممارسات غير الإنسانية ترسخت في العقلية العربية وأصبحت هي التراث الديني. أصبح واجباً على كل مسلم أن يقتل كافراً كي يرضى عنه الله!

    وليس دورنا توجيه أصابع الاتهام لمن كانوا حول رسول الله عليه السلام وأتباعه أو تحديد المخطئ من المصلح أو الإساءة إلى الصحابة الذين قاموا على رأس السلطة ومصدر القرار بعد رحيله، إنما الأمر يتعلق بمسألة عامة وهي الفصل بين (الدين والتاريخ) بداية من نشأة فلسفة الحرب الهجومية بعد وفاته عليه السلام، هذه الفلسفة تربعت في عقول المجتمع بأغلبيته دون أن ينتبه أحدهم إلى الفارق بين فلسفة الحرب في عقل الرسول وغايتها التي تمحورت جميعها حول حق الدفاع الشرعي، فتسربت هذه الفلسفة الرديئة المتعصبة تجاه غير المسلم دون وعيٍ وتدبرٍ لحقوق الإنسان التي كفلها الإسلام بوجهٍ عام قبل الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، ربما عادت وسادت طبيعة العربي في الفروسية والحرب والسطو والهجوم قل الإسلام عادت مرة أخرى، ومن هنا جاءت القناعة نفسية اجتماعية اعتماداً على الخلفية الثقافية والبيئة المنشأ وليس المنهج، فكان في نفوس العرب ما يزال طيف اغتراب بين المنهج والمنشأ لم يستطيعوا التخلص منه كلياً، ومن هنا تسربت (أعراف المجتمع العربي وفلسفته المنشأ) أفكار التعصب والتشدد والنرجسية والحربية والفروسية إلى الفقه بذات الوتيرة لتبرير ما اقترفه الجيش العربي بحجج متنوعة، ربما من بينها " إزالة العقبات من طريق نشر الدعوة، مع أن هذا لا يحتاج إلى حصد الشعوب المجاورة بسلسلة من الحروب المتواصلة والمتصلة زماناً ومكاناً كما الحصّادة الدموية الأقرب فالأقرب، مع اقتران السيطرة السياسية والعسكرية والاقتصادية على هذه الشعوب، لأن تلاميذ المسيح عيسى عليه السلام انتشروا في بقاع الأرض ونشروا دينهم دون عقبات ودون جيوش، وربما تظهر حجج أخرى مثل تخليص الشعوب من ظلم حكامهم !

    مع أن هذه الحجج والمبررات الواهية لم تعد تنطلي على العقول التي انفتحت على العالم وطالعت صفحات التاريخ لكل الشعوب والحضارات وأخذت الدرس مبكراً. فهي ذات الحجج المطعونة التي ساقها تحالف الغزو الأنجلو أمريكي على العراق عام 2003 بزعمهم تخليص الشعب العراقي من ديكتاتورية وغطرسة صدام حسين، فاستبدلوا هذا الحاكم الوطني الظالم باحتلال بلاده ونهب ثرواته وقتل ما يزيد عن ثلاثة ملايين إنسان ونهب القصور والمتاحف والكنوز.. وهو ما فعله خالد الوليد والصحابة رضوان الله عليهم عند فتح فارس وأرسلوا بالبشرى والمنهوبات والأسلاب والخُمس من الغنيمة إلى الخليفة أبي بكر الصديق! حتى متعلقات الملك الشخصية ومعها فيل جلبوه من هذا البلد، فرفض أبو بكر هذه الأفعال ورفض نهب قصور كسرى ورد الفيل إلى أهله.. (ابن كثير)ثم يأتي العرب ليقنعونا بأن أجدادهم الصحابة حاربوا واستشهدوا في سبيل الله ولنشر دينه! فليس للسعوديين اليوم أن يتفاخروا ويتباهوا على شعوب الأرض بأنهم من سلالة الصحابة، أو أنهم جاهدوا في سبيل الله، لأن هذا التاريخ يمثلهم هم وأجدادهم ولا يمثل الإسلام في شيء، فلهم أن يتفاخروا في حدود قوميتهم وتاريخهم وإرثهم الثقافي دون المساس بأصول الدين ومبادئه، ودون خلط بين تاريخهم وديننا، فالدين ليس من ثقافتهم ولا نتاج حضارتهم وإنما جاء من عند الله موجهاً لهم ولغيرهم.

    إن أكثر شخصٍ مكروه عند الناس هو الذي يقول الحقيقة، مع أن مواجهة الحقيقة، رغم فداحة وصعوبة الأمر، أفضل من الهروب منها؛ لأن الهروب يعني استمرارٌ التيه والضياع. فمواجهة الواقع بالحقيقة هو القرار الأصعب في حياتنا من ناحية والأكثر وطأة على نفوسنا من ناحية أخرى، وفي ذات الوقت هو الأهم من الناحية الموضوعية، فأحيانا لا يميل الناس إلى معرفة الحقيقة، حفاظاً على مشاعرهم، وذلك لأنهم لا يرغبون برؤية أيقوناتهم التي رسموها  وآمنوا بها وطافوا حولها مئات السنين تتحطم في لحظة أمام أعينهم! من جراء مقالة أو من خلال ندوة في ملتقىً فكريّ، وكأن الأمر كمن يُفقد المرء ثيابه ليتركه عارياً فجأة، ولكن أن تبقى عارياً مدهوشاً لدقائق أفضل من أن تبقى أعمى طول العمر. وأصعب شيء علي الإنسان هو اختيار طريق خاطئ وقرار الاستمرار فيه؛ لأنه يصبح بذلك مضطراً لأن يدافع عن هذا الاختيار طول الوقت وبكل الطرق فتاوى واجتهادات وتبريرات" حتى لو كانت عن غير قناعة، ليكتشف بعد فوات الأوان أنه أخطأ في حق نفسه بعجرفته وكبريائه الزائد.. خالف ضميره خوفاً من أن يظهر للآخرين بموقف ضعفٍ فعالج خطأه بكارثة.. هي استمرار هذا الخطأ.

    وليس الغاية من هذه المقدمة المؤلمة نبش الجروح أو جلد الذات باعتبار انتمائنا للقومية العربية واندماجنا فيها، بل فقط للوقوف على أرضٍ صلبة، فأول طريق النجاح هو الاعتراف بالفشل ومصالحة الذات، ولن يُجْد استمرار الفخر والاحتفاء بأمجاد ماضٍ فارغ من كل معاني الإنسانية، وليس من المقنع أبداً وقف التساؤل حول ممارسات المسلمين الأوائل أو النبش في خلافاتهم وقتلهم بعضهم البعض، ثم في ذات الوقت اعتبار منهجهم وأفعالهم تطبيقاً نموذجياً للإسلام رغم ما بها من أخطاء فادحة؛ كل ذلك فقط من أجل تقديس مروياتهم التاريخية وتحصين نسبتها لرسول الله ! لأن ذلك يعد افتئاتاً على الله ورسوله وتقويلٌ بما لم يقل به.

    غير أن الفلسفة الكلاسيكية لفقهاء الدين بوجه عام والتي تقوم على حظر التساؤل حول أمورٍ دينية مُعينة، فهذا غير منطقي لأن الله تكفل بالرد على كل تساؤلٍ صحيح قد يخطر على عقول البشر الأسوياء ولم يترك ثغرة في القرآن، أما امتداد فلسفة الصمت هذه إلى العصور التاريخية لتحصين المسلمين الأوائل من الأخطاء فهو افتئات على الله، لأن الله شرع منهجه في القرآن وليس في سلوك الصحابة، وأرسل رسوله هادياً ومنبراً ومنفذاً عملياً لمبادئ القرآن، وطالما اختلفت سلوكيات الصحابة والمسلمين الأوائل عن سلوكيات النبي ومبادئ القرآن فلا يجب تذكيتها على الله بأي حال. فما علينا إلا الرجوع للأرض الصلبة وهي عصر النبي وحده لضبط مسارنا ومنهجنا حتى لا نسئ إلى الإسلام من باب مجاملة العرب واحترام تاريخهم. لأن مجرد وجود أشخاص حول رسول الله لا يعصمهم طول العمر من الابتلاء والتغيرات النفسية.

    إنّ العمل على تقويم مجتمعاتنا ينبغي أن يبدأ من حاضرنا لا من تاريخنا، لأن الشعوب التي تفتخر بماضيها لن ترتقي بأي حالٍ أكثر مما ارتقى ماضيها إذا كان قد ارتقى أصلاً، وينبغي التفرقة بدقة بين مفاهيم النقض والنقد أو الهجوم على ثقافةٍ أو فترة حضارية ما، لأنه لا قيمة للنقد دون الخروج بنتائج تساهم في بناء حاضرنا، ولا قيمة من النقض إلا إذا أدى إلى هدم موروثٍ خاطئ ترسب في عقولنا وما زال يعوق حركة التقدم، إنما موروث خطأ لا يعوق حركة التقدم فلا فائدة من نقضه أو نقده بل هو محض شهوة تعييب الآخرين.. فينبغي أن نعيد ترتيب التربية الثقافية في هذا الجيل والأجيال القادمة ونذكرهم أن هذه المهمة ما هي إلا تكليف سوف يوضع أصحابه على منصة المساءلة أمام مجتمعاتهم، ولا ينبغي أن يتوقف الصراع الفكري بين المحافظين والحداثيين في العالم الإسلامي عند حدود النقد والتجريح في التراث، بل فقط النقد البنّاء الذي يهدف إلى تقويم المسار دون تجريح.

    فهناك منعطف كبير حدث في مسار التاريخ، هذا المنعطف الخطير وقع عقب وفاة النبي عليه السلام، فكلما عاودتُ قراءة التاريخ السالف للدولة الإسلامية اكتشفت أن وقائعه تتنافى تماماً مع ما دعا إليه رسولنا الكريم عليه السلام، وكلما بعدتُ عن عصره وجدت انحرافاً أشد وتناقضاً  فجاً مع مبادئه الإسلامية الصحيحة، فعلى ما يبدو أن التاريخ الفقهي لأحكام الشريعة الإسلامية أخذ مساراً منحرفاً عقب وفاة النبي عليه السلام واستمر هذا الانحراف في التزايد شيئاً فشيئاً على مدار ألف وأربعمائة عام.

    سنتتبع مجرى التاريخ ونرصد التحوّلات الفقهية الفادحة في المفاهيم والقيم والمعايير، هذه التحوّلات جاءت متزامنة مع تحوّلات نفسية عميقة في طبيعة العقل الجمعي للمجتمعات والشعوب المسلمة، فدوام الحال من المحال، وثبات العقل مستحيل، فحتى وإن كانت الحقائق غير قابلة للتغيير فالعقل ذاته تتغير نظرته للحقائق بمرور الوقت، ومن ثم تتغير الغايات وتنحرف الأهداف التي يسعى إليها. وهذا ما جعل الخلف يقيدون عقولهم عن الفكر استناداً إلى ما بذله السلف، برغم علمهم بطبيعة الاجتهاد البشري القابلة للانحراف، ولكن بمرور الوقت تبين انحراف السلف عن صحيح المنهج في مواطن كثيرة، ومن ثم وجب استبعاد الشوائب التي حلّت في عصورهم والعودة إلى عصر النبي عليه السلام لاستقاء الغايات والمبادئ من جديد. فعصر النبي عليه السلام هو المحور الرئيس الذي تدور حوله كل العصور، وقد ينحرف عصر يميناً فلزمه العودة إلى المحور الأصلي لتصحيح مساره، وقد ينحرف عصر آخر يساراً فيلزمه العودة إلى عصر النبي لتصحيح مساره واستقاء صحيح الدين وأهدافه وغاياته المثلى، لكن مسألة اعتبار عصر السلف هو عصر نموذجي للإسلام فهذا ليس صحيحاً على أي حال، فقد يكونوا قد انحرفوا يميناً وربما إذا اجتهدنا للعودة إلى منهج النبي عليه السلام نقع في انحرافٍ آخر يسار، فهذا وارد، لكنه على كل حال لن يختلف عن انحراف السلف إلى اليمين مثلاً، بل إنه من الوارد أن نعود نحن إلى طريق الصواب دون انحراف، وهذا أفضل من انحرافنا المستمر في اتجاه السلف. 

    سيساعدنا ذلك في دراسة الآثار التي امتدت من المجتمع العربي إلى المنهج الإسلامي، فالمنهج لم يعد في أيدينا كما تركه النبي محمد عليه السلام، بل تأثر كثيراً بطبائع المجتمع العربي واندست الكثير من المرويات وحصلت على صك القدسية بما جعلها من ثوابت الدين بينما هي محض عادت وأعراف المجتمع العربي قديماً. سنحاول قدر الجهد الغوص في طبيعة التكوين النفسي للمجتمع العربي لنعرف مدى رقي أو انحطاط العقلي العربية كي ندرك الأثر التاريخي الذي امتد من المجتمع العربي إلى المنهج الديني. ولم يكن ذلك ممكناً دون دراسة طبيعة الشخصية العربية ذاتها بعمقٍ شديد، والتعرف على طريقة التفكير منذ البداية وطريقة الصعود الحضاري وحجم النتاج العلمي والإبداع الحضاري الذي وصله العرب خلال مرحلة الحضارة التي سادوا فيها على العالم من حولهم، وذلك بمقارنة حضارة المجتمع العربي بالحضارات السابقة عليها وليس المعاصرة لها أو اللاحقة.

    وفي هذا الكتاب أيضاً سنلقي نظرة من مسقط رأسي على المجتمع العربي للمقارنة بين حالة المجتمع وثقافته الدينية وأعرافه وتقاليده في ثلاث عصور متتابعة ومتقاربة (قبل الإسلام – عصر النبي محمد- عصر ما بعد وفاة النبي) لنتبين بدقة حالة المجتمع من حيث الثقافة الدينية قبل الإسلام، وكيف تأثر المجتمع بنزول الوحي على الرسول، ومدى الأثر الذي تركه الإسلام على المجتمع العربي والذي تجلى بوضوح في عصر الخلفاء الراشدين وما بعدهم، ونتبين هل عاد المجتمع إلى حالته الأولى أم بقي على حالته الثانية أم دمج بينهما، ثم في نهاية هذا المسقط الرأسي نقف على مدى تأثر المجتمع العربي بعاداته وأعرافه وتكوينه النفسي على التراث الدين والذي تمثل في الثقافة الدينية المنقولة شفوياً من جيل لآخر بما حملت من (أقوال مأثورة عن النبي محمد- إدخالات بعض المتحدثين بالدين – عادات المجتمع – الاندماج والدمج الثقافي بين أعراف المجتمع العربي وتعاليم الدين الإسلامي) بما أخرج لنا في النهاية كتب الحديث الستة والتي يميل بعضها لأن يكون أقرب إلى ما ورثه العرب عن الرسول الكريم، بينما البعض الآخر يميل إلى كونه ثقافة المجتمع العربي وأعرافه وتقاليده وثقافته الشفوية وحالته النفسية بعد عهد الرسول.

    كل ذلك في محاولة لدراسة أثر المجتمع العربي على المنهج الإسلامي وتحديداً الفقه. فهناك من تاريخ العرب وعاداتهم القديمة ما أصبح ديناً للناس لمجرد أن أعجب به الفقهاء ووجدوا فيه العزة والسيادة ومصدر الفخر، بينما هذا التاريخ في الواقع لا يصلح أن يكون سلوكاً اجتماعياً لشعب من الشعوب المتوسطة في الحضارة الإنسانية. ولا ينبغي أن يؤخذ سياق الفكر على أنه إنكار لسُنّة النبي محمد عليه السلام، بل فقط إسقاط دائرة الضوء على ما نُسب إليه ظلماً من تراث العرب، وربما أدى إلى انحرافاتٍ فقهية أساءت إلى النبي وإلى منهجه الشريف.

    يرى فقهاء الشريعة أن مسار الدولة الإسلامية قد تحوّل جذرياً بعد مرحلة الخلفاء الأربعة الأوَل وانتقال الخلافة إلى أيادٍ غير أمينة في الغالب سوى ما كان في عهد عمر عبد العزيز، فلُقب بخامس الخلفاء الراشدين، ولُقب الأربعة الأوائل بالخلفاء الراشدين. وهذا ما يعني أن المسار السياسي للإسلام انحرف عن منهجه فعلياً بنهاية عهد عليّ أبي طالبٍ، فهل انحرف الفقه كذلك أم سار معتدلاً برغم انحراف السياسة؟ وهل فعلاً أن عصر الخلفاء الأوائل كان عهداً راشداً أم لُقّب كذلك لمجرد كونهم من كبار الصحابة ولا يجرؤ أحد على تناول تاريخهم بالنقد ولو كان موضوعياً؟ فمن أكون أنا أو غيري  لانتقد عمر وأبا بكرٍ الصديق وعليّ أو عثمان؟ فهم أعمدة الدعوة وأوتادها منذ فجرها. وهذا حق لا يشقه غبار، لكن هل كان تاريخهم أبيض بياضاً ناصعاً؟ يضعه في منصب النبوة؟ أم أن الأخطاء السياسية والتشريعية أو الفقهية التي وقعت في عصورهم أقل من أن تُذكر؟ قد تكون هذه حقيقة، لكن على كل حالٍ سنحاول تقييم عصر الخلفاء الراشدين قياساً على عصر النبي محمد عليه السلام  لا قياساً على عصرنا، من حيث المفاهيم والممارسات والتطبيقات الفقهية والعملية في عصره وعصرهم، لربما تكون تلك الأخطاء الطفيفة التي وقعت في عصرهم قد استمرت في العصور التالية واستفحلت وتضخمت طوال عصور الانحراف والفساد السياسي الذي غص به تاريخ الدولة طوال عصورٍ مديدة، وفي سبيلنا لإجراء هذه المقارنة سنحاول ضبط خيط من الخيوط وتتبعه في عصر النبي عليه السلام وصولاً إلى عصر الصحابة لتبيان ما قد طرأ عليه من تغيرات أو تحوّلاتٍ أو انحرافٍ ولو بسيط، فليس من المنطق القول بداهة بالمساواة والتطابق بين عصر النبي عليه السلام وعصر الصحابة وإلا كان ذلك افتئاتاً على الله ورسوله؛ لأن الرسول في سياسته للمجتمع لم يكن شخصاً عادياً ولا حتى عبقرياً موهوباً، بل كان نبياً ورسولاً مُرسلا، أما الصحابة فهم بشرٌ عاديون قد اجتهدوا قدر طاقتهم في تلمُس طريق الحق والصواب، وربما وقعت منهم بعض الأخطاء واستفحلت بمرور التاريخ، ولذلك سنحاول إجراء مقارنة بين عصر النبي وعصور الصحابة من حيث التحليل الاجتماعي للمسلمين خلال عصره وبعده والتقاط خيوط فقهية مثل مسألة الجزية والعبودية والاسترقاق والسبي والحرب الهجومية في الإسلام وأساليب نشر الدعوة وفكرة الجهاد في سبيل الله وحرية العقيدة وحقوق الإنسان.

    من حيث وجه المقارنة، سنحاول وضع الإصبع على ((التطبيقات العملية التي باشرها النبي خلال حياته)) في مواجهة ((التطبيقات العملية للمسلمين بعد وفاة النبي)) حيث سار عهد النبي في وئامٍ وانسجام بين كافة طوائف المجتمع، ما أدى إلى وصول المدينة في عهد النبي إلى حدود الأمن القومي لكل المسلمين في شبه الجزيرة العربية، وبعد وفاته، بدأت المعارك السياسية وتبعتها الفتوحات التي أسقطت ما يقارب 400 ألف إنسان خلال عامٍ واحد على يد خالد الوليد، ثم تبع ذلك انكماش مفاجئ لحركة الفتوحات واضطرابات وقلاقل وفتنٍ داخلية، ما أدى إلى وقوع ما يقارب المائة ألف قتيلٍ بين صفوف الصحابة أنفسهم، وهذا ما ينمّ عن تحوّلٍ جذري في العقلية العربية وتركها لمنهج الإسلام وعودتها إلى تراثها الجاهلي القائم على الصراعات القبلية والفروسية وأرض المنشأ الاجتماعي.

    ومن الواضح أنه مع تزايد الانحراف السياسي تزايد الانحراف الفقهي بضخ مزيد من الأكاذيب والروايات الخرافية على تراث رسول الله عليه السلام وخصوصاً خلال فترة الصراعات السياسية، إذ حاول كل فريقٍ تلمُّس ما قد يؤيد جانبه فلجأ إلى اختراع أقاويل ونسبها إلى الرسول، وآخرون دخلوا من باب المجاملة أو النفاق

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1