Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

بلاغة الاختلاف
بلاغة الاختلاف
بلاغة الاختلاف
Ebook490 pages3 hours

بلاغة الاختلاف

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

يندرج هذا الكتاب ضمن الجهود التي تعنى بدراسة التراث العربي، وقراءته من جديد، من خلال استثمار النظريات الحديثة، وتوظيفها في استنطاق ذلك التراث. وخطاب التراث النقدي كغيره من الخطابات المختلفة، يتواصل المعنيون فيما بينهم لبيان آرائهم والتعبير عن مواقفهم؛ وهذا التواصل لا يخلو من حالين: إما حال اتفاق، وإما حال اختلاف. اختار هذا البحث حالة من حالات الاختلاف في النقد القديم، وهي قضية القديم والحديث التي تعد إحدى أبرز قضايا النقد العربي؛ فقد عاش النقد الأدبي في قرنه الرابع معارك نقدية كانت تدور حول شعراء يمثلون اتجاهات متباينة، وانقسم النقاد حولها، ففريق يفضل شاعرًا أو اتجاهًا وفريق ينتصر لآخرين، ونتجت عن تلك الخصومات مصنفات تنتصر لفريق دون الآخر، وثمة مؤلفات حاول مؤلفوها الحياد والإنصاف. وقد كان من أبرز ما نتج عن المعركة بين القديم والحديث، المعركة حول أبي تمام واتجاهه الشعري الحديث، في مقابل البحتري الذي يمثل الشاعر المقتفي سنن العرب في شعرهم، من حيث الحفاظ على عمود الشعر، وبناء القصيدة القديمة. وليست الغايةُ البحث في الخصومة حول الطائيين من حيث قضاياها النقدية، وآراء النقاد القدامى في الإبداع والاتباع؛ فالدراسات في هذا كثيرة1، وإنما الغاية تتمثل أساسًا في التركيز على التقنيات الحجاجية التي توخاها الناقد القديم، سواء أكان منتصرًا لأبي تمام أم للبحتري من أجل الدفاع عن وجهة نظره النقدية، ورغبة في أن تكون الدراسة شاملة فقد اخترت اتجاهين نقديين متعارضين: اتجاهًا ينتصر لأبي تمام مثّله بجلاء أبو بكر محمد بن يحيى الصولي (ت 335هـ) من خلال كتابيه: أخبار أبي تمام، وأخبار البحتري، واتجاهًا ينتصر للبحتري مثّله أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي (ت 370هـ) في كتابه الموازنة بين أبي تمام والبحتري.

Languageالعربية
Publishertevoi
Release dateJan 21, 2023
بلاغة الاختلاف

Related to بلاغة الاختلاف

Related ebooks

Reviews for بلاغة الاختلاف

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    بلاغة الاختلاف - بدر بن عبد الرحمن النفيسة

    د. بدر بن عبد الرحمن النفيسة

    بلاغة الاختلاف

    قراءة في تقنيات الحجاج في التراث النقدي

    في البلاغة الجديدة

    سلسلة علميّة يُديرُها الأستاذ الدّكتور أحمد الودرني

    تأليف

    د. بدر بن عبد الرحمن النفيسة

    مدير النشر عماد العزّالي

    التصميم ناصر بن ناصر

    الترقيم الدولي للكتاب 978-9938-23-035-2

    جميع الحقوق محفوظة

    الطبعة الأولى

    1441 هـ / 2020 م

    العنوان: 5 شارع شطرانة 2073 برج الوزير أريانة - الجمهورية التونسية

    الهاتف: 58563568 +216

    الموقع الإلكتروني: www.tunisian-books.com

    البـريد الإلكتروني: medi.publishers@gnet.tn

    مادة هذا الكتاب في أصلها أطروحة دكتوراه، بعنوان: الحجاج في النقد العربي القديم بين الصولي والآمدي، قدمها المؤلف في كلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، غرة محرم 1440هـ أمام لجنة علمية مؤلفة من:

    أ.د. أحمد الطيب الودرني مشرفًا، وأ.د. عبد الله بن محمد المفلح،

    وأ.د. مصطفى بن إبراهيم الضبع، مناقشين.

    وقد أجازت اللجنة الأطروحة بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى.

    إهداء

    إلى سيدي الوالد المنهوك على سريره، الذي ما فتئ يمدني بالعزم والصبر والمثابرة..

    إلى النعيم المعجل أمي على سجادة صلاتها تدعو لي بالتوفيق والفلاح بكرة وعشيا..

    شكر وامتنان

    الشكر أولا وآخر لله ۵ الذي أعان وسدد ووفق ويسر.

    ثم أشكر أستاذي المعطاء الأستاذ الدكتور/أحمد الطيب الودرني، الذي دعم البحث مذ كان شطئًا، فآزره، حتى استوى على سوقه، أوضح كل مشكل، وحل كل معقد، دومًا ما كان يدلني الطريق، ويرشدني إلى الصواب بطيب نفس، وحسن خلق، ورحابة صدر، وسعة بال، فاللهم بارك له في علمه وجهده وعمره، واجزه عني وعن زملائي كل خير.

    المقدمة العامة

    يندرج هذا الكتاب ضمن الجهود التي تعنى بدراسة التراث العربي، وقراءته من جديد، من خلال استثمار النظريات الحديثة، وتوظيفها في استنطاق ذلك التراث.

    وخطاب التراث النقدي كغيره من الخطابات المختلفة، يتواصل المعنيون فيما بينهم لبيان آرائهم والتعبير عن مواقفهم؛ وهذا التواصل لا يخلو من حالين: إما حال اتفاق، وإما حال اختلاف.

    اختار هذا البحث حالة من حالات الاختلاف في النقد القديم، وهي قضية القديم والحديث التي تعد إحدى أبرز قضايا النقد العربي؛ فقد عاش النقد الأدبي في قرنه الرابع معارك نقدية كانت تدور حول شعراء يمثلون اتجاهات متباينة، وانقسم النقاد حولها، ففريق يفضل شاعرًا أو اتجاهًا وفريق ينتصر لآخرين، ونتجت عن تلك الخصومات مصنفات تنتصر لفريق دون الآخر، وثمة مؤلفات حاول مؤلفوها الحياد والإنصاف.

    وقد كان من أبرز ما نتج عن المعركة بين القديم والحديث، المعركة حول أبي تمام واتجاهه الشعري الحديث، في مقابل البحتري الذي يمثل الشاعر المقتفي سنن العرب في شعرهم، من حيث الحفاظ على عمود الشعر، وبناء القصيدة القديمة.

    وليست الغايةُ البحث في الخصومة حول الطائيين من حيث قضاياها النقدية، وآراء النقاد القدامى في الإبداع والاتباع؛ فالدراسات في هذا كثيرة1، وإنما الغاية تتمثل أساسًا في التركيز على التقنيات الحجاجية التي توخاها الناقد القديم، سواء أكان منتصرًا لأبي تمام أم للبحتري من أجل الدفاع عن وجهة نظره النقدية، ورغبة في أن تكون الدراسة شاملة فقد اخترت اتجاهين نقديين متعارضين: اتجاهًا ينتصر لأبي تمام مثّله بجلاء أبو بكر محمد بن يحيى الصولي (ت 335هـ) من خلال كتابيه: أخبار أبي تمام، وأخبار البحتري، واتجاهًا ينتصر للبحتري مثّله أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي (ت 370هـ) في كتابه الموازنة بين أبي تمام والبحتري.

    وقد دفعني لاختيار هذا الموضوع جملة من الأسباب، أهمها:

    - أهمية دراسة الحجاج أسلوبًا يفضي إلى معرفة الخطاب القائم على الإقناع بوجه عام.

    - محاولة استثمار النظريات النقدية الحديثة؛ لتوظيفها في خدمة التراث النقدي العربي، وإبراز تأثيره وسمو شأنه.

    - ارتباط الحجاج بخطاب الناقد، فقد كانت المفاضلة بين الشعراء وبين القصائد وبين المعاني من القضايا التي عني بها النقد العربي القديم، فكل ناقد في حقيقة عمله يسعى إلى الإقناع بوجهة نظره، حيال هذا الشاعر أو هذا المعنى أو تلك القصيدة.

    - أهمية المدونة المختارة في النقد العربي القديم؛ من حيث كونها تمثل الاحتجاج لمذهبين مختلفين؛ ناقد يحاجج لأبي تمام وطريقته، وآخر يحاجج للبحتري وطريقته، بالإضافة إلى قيمة المدونة التاريخية؛ فأخبار الصولي عن أبي تمام والبحتري، تعد مرجعًا أساسيًا، فجميع من أرخوا لهما، ولأدبهما، وتناولوا شعرهما اعتمدوا على هذه الأخبار وتناقلوها، وذلك لأن الصولي قريب عهد بأبي تمام وبعصره، كما أنه عاصر البحتري2، كما أن لموازنة الآمدي قيمتها النقدية العالية إذ تعد تحولاً في تاريخ النقد العربي، حيث الانتقال من النقد التأثري الانطباعي إلى النقد المعلل.

    ويسعى هذا البحث إلى تحقيق مجموعة من الأهداف، أبرزها:

    - إبراز الطاقة الحجاجية الكامنة في لغتنا العربية في إطار ما تنهض به من وظيفة تداولية، من خلال استنطاق الخطاب النقدي القديم القائم على المناظرات والفعل الحجاجي.

    - الكشف عن الكفاءة الحجاجية لدى الصولي والآمدي في خطابهما النقدي من حيث مدى القدرة على التأثير في المتلقين وإقناعهم واستمالتهم إلى موقف دون آخر.

    - البحث في المنطلقات التي ينطلق منها المحاجج في النقد العربي، وأسباب تفضيل الناقدين الصولي والآمدي أو أحدهما منطلقًا دون آخر.

    - البحث في وظيفة الحجاج في الخطاب النقدي، ومدى خدمتها للموضوعية: هل الناقد يحركه الإنصاف أم التحامل؟ ما الوظائف التي يتضمنها الخطاب الحجاجي؟

    - بيان الأنماط الحجاجية التي سلكها الناقد العربي في سبيل إقناعه بوجهة نظره نحو شاعر ما أو قصيدة ما.

    - الوقوف على تقنيات الحجاج في الخطاب النقدي العربي القديم واستراتيجياته من خلال هذه المدونة، فلكل حجاج آليات وتقنيات يستعملها المحاجج لإذعان الطرف الآخر وإقناعه، أو حمله على مزيد من الإذعان.

    - البحث في الغايات الكامنة خلف الحجاج في النقد العربي. ما الدوافع التي دعت الناقد إلى إنشاء هذا الخطاب الحجاجي؟

    - إبراز السمات الخاصة بالحجاج لدى الصولي والآمدي.

    وقد أفاد البحث بصفة رئيسة من آليات التداولية، لاسيما نظرية الأعمال الكلامية التي تعد جزءًا أساسيًا في التداولية3، حيث كان لها إسهامات جليلة في تطوير النظرية الحجاجية.

    كما أن البحث أفاد من مختلف نظريات الحجاج، فلم يرتهن بنظرية حجاجية واحدة، إذ إن التزام نظرية واحدة سيحول البحث إلى استخراج ما في المدونة مما يوافق قواعد هذه النظرية، إنما نظر في نظريات الحجاج مفيدًا منها في سبيل تحقيق أهداف البحث.

    وقد انتظم هذا الكتاب في مقدمة، وتمهيد، وثلاثة فصول، يعقبها خاتمة، وفهارس، جاءت على النحو الآتي:

    مدخل

    حول مفهوم الحجاج.

    الفصل الأول: المنطلقات والأنماط والوظائف:

    المبحث الأول: منطلقات الحجاج.

    المبحث الثاني: أنماط الحجاج.

    المبحث الثالث: وظائف الحجاج.

    الفصل الثاني: التقنيات الحجاجية:

    المبحث الأول: التقنيات الحجاجية شبه المنطقية.

    المبحث الثاني: التقنيات الحجاجية اللغوية.

    المبحث الثالث: التقنيات الحجاجية البلاغية.

    الفصل الثالث: غايات الحجاج وسماته:

    المبحث الأول: غايات الحجاج.

    المبحث الثاني: سمات الحجاج.

    الخاتمة العامة.

    الفهارس.

    الإنسان بطبعه ميّال إلى التواصل مع الآخرين، فهو مدني بطبعه4، وهو في حاجة مستمرة إلى الآخر، يتفق معه تارة ويختلف معه أخرى.

    ويعد الحجاج من أهم مظاهر التواصل مع الآخر، يعبر عن ذلك فيليب بروتون بقوله: «متى مارس الإنسان الحجاج؟ منذ أن تواصل أو بالأحرى منذ أن كانت له آراء ومعتقدات وقيم يحاول أن يتقاسمها مع الآخر»5. فهو أمر ضروري وحتمي على الإنسان أيا كان دوره وأيا كانت مكانته.

    لذلك كانت العملية التواصلية بين البشر وما ينتج عنها من تدافع فكري ومذهبي، أو سياسي، أو أدبي، أو صراع حول مصالح ما، قاسمًا مشتركًا بين الثقافات المختلفة، والاتجاهات المتنوعة6.

    وإذا كان من أهمية الحجاج، -أن يكون القرآن الكريم وهو الخطاب الإسلامي الأعلى والأسنى والأسمى مملوءًا به،–حسب تعبير ابن القيم7-، لاسيما في قضايا التوحيد والمعاد، وكان أيضًا أداة معرفية استعملها الفكر الإسلامي لتثبيت آرائه وأفكاره وترسيخها، والدفاع عنها، ومناقشة الآراء المطروحة سواء في معارضتها، أو تأييدها، وكان في أصوله في الثقافة الغربية سبيلاً قضائيًّا يسلكه الناس لاستعادة أملاكهم كما سيأتي8، وعده بعض الدارسين أهم وظيفة في استعمال اللغة9، بل إنّ بعض النظريات الحجاجية الحديثة في بعض مراحلها جعلت الوظيفة الحجاجية هي الوظيفة الأساس للغة10-، فإنه اليوم قد اكتسب قيمة تداولية، حيث غدا ضرورة حياتية نمارسها في حواراتنا اليومية بمختلف ألوانها، ومن هنا بلغ الحجاج الذروة في الأهمية، فلم يعد خطابًا نخبويًّا مكانه القضاء، وقاعات التعليم فحسب، بل امتد استعماله، ليحضر بشكل كلي أو جزئي في مجالات مختلفة، حيث اقتحم خطابات الدعاية والإشهار، والسياسة، والصحافة، والعوام في تواصلهم، فالأب يسعى إلى إقناع ابنه، والزوجة تحاول إقناع زوجها، والبائع يستميل زبائنه...إلخ، فهو «حاضر حضورًا قويًّا في مجالات التواصل الإنساني»11. وإذا كان بعض هذا الحضور قد وجد من قبل فإنه اليوم حظي بتسليط الضوء عليه دراسة وتأويلاً. وقد دعا هذا الذيوع والانتشار بعض الباحثين ليصف عصرنا بأنه «عصر الحجاج»12. يترتب على ما سبق أنّ الحجاج لم يعد منحصرًا في مجالات خطابية معينة، وإنما يمكن استثماره في كافة الخطابات13.

    وقبل ذكر مفهوم الحجاج الذي ينطلق منه هذا البحث، هذه إشارة إلى الدلالات اللغوية لمصطلح الحجاج.

    تعريف الحجاج لغةً

    يدل الجذر اللغوي (ح ج ج) على جملة من الدلالات اللغوية المتنوعة، وفق ما جاء في معاجم اللغة:

    1. دلالة التخاصم والتنازع: «والتحاج: التخاصم14. وحاجّه محاجّة وحجاجًا: نازعه الحجة...»15.

    2. دلالة القصد: «الحجّ: القصد... وحجّه يحجه حجًّا: قصده. وحججت فلانًا واعتمدته: أي قصدته»16.

    3. دلالة البرهان والدليل والجدل: «والحجة البرهان»17. «والمحجاج: الجَدِل» 18. والحجة: «الدليل والبرهان»19.

    4. دلالة الغلبة والظفر: يقال: «حاججت فلانًا فحججته أي غلبته بالحجة، وذلك الظفر يكون عند الخصومة، والجمع حجج، والمصدر الحجاج»20. ويقال: «حاججته أحاجه حجاجا ومحاجة حتى حججته أي غلبته بالحجج التي أدليت بها»21. «الحجة الوجه الذي يكون به الظفر عند الخصومة»22.

    وحين التأمل نلحظ أن لهذه الدلالات اللغوية كلها صلة بالمعنى الاصطلاحي للحجاج -كما سيأتي-، فالحجاج ناشئ عن اختلاف يولد أحيانًا خصامًا ونزاعًا، لأنه لا حجاج دون خلاف كما يقول بلانتان23، بالإضافة إلى أنه لابد من قصد وغاية، حيث يهدف الحجاج بشكل رئيس إلى إقناع المخاطب، من خلال ما يستدعيه المتخاصمان من الحجج والأدلة التي تقود في النهاية إلى غلبة أحد الطرفين الآخر، بحيث يتمكن من إقناع الطرف الآخر أو استمالته.

    تعريف الحجاج اصطلاحًا

    يعد مفهوم الحجاج من المفاهيم المثيرة للالتباس للباحث عن ضبطه وتدقيقه، ويعود ذلك إلى عدة عوامل، أهمها:

    - تعدد أنماط الحجاج وتنوعها (الحجاج الصريح، الحجاج الضمني...إلخ).

    - تعدد استعمالات الحجاج، وتباين مرجعياتها: الخطابة، الخطاب، القضاء، السياسة، الفلسفة، المنطق، التعليم...إلخ24.

    ومن أسباب الالتباس أيضًا «استمرار هذه النظرية في التأسيس والتشكل ..فهي نظرية لم تنغلق بعد، ولم تدخل كنظريات كثيرة حيز الماضي؛ ماضي النشأة والاكتمال لا ماضي الفعل والتأثير.. بل نراها تشهد كل يوم ظهور مؤلفات جديدة تغني هذه النظرية، وتثريها»25، الأمر الذي جعل من الحجاج موطن اختلاف، حيث تحول الحجاج من وسيلة لحل الاختلافات إلى قضية تستدعي الخلاف26.

    ومع كل ذلك، فإننا نجد كل حجاج يستمد معناه وحدوده ووظائفه من مرجعية خطابية محددة، ومن خصوصية الحقل التداولي الذي يندمج في استراتيجياته الفردية والجماعية. فلا غرابة إذن أن يكون لدينا حجاج خطابي بلاغي، وآخر قضائي، وسياسي، وفلسفي27.

    وقبل ذكر التعريف المقترح لهذا البحث، تجدر الإشارة إلى بيان الفروق بين الحجاج من جهة وبين بعض المصطلحات المقترنة به من جهة أخرى. ومن أكثر المصطلحات اقترانًا بالحجاج، البرهان والجدل، لكن هناك فروقًا بين الحجاج وبينها، ولنبدأ أولاً بإيراد الفروق بين الحجاج والبرهان، نوجزها في النقاط الآتية:

    1. إذا كان البرهان يعتمد اللغة الصورية الاصطناعية، فإنّ الحجاج يتأسس على اللغة الطبيعية، هذه الأخيرة تتميز بالالتباس والغموض وتقبل التأويل؛ لأنها متعددة المعاني28.

    2. يتشابه البرهان والحجاج في الصورة العامة من حيث إنهما يقومان بحركة انتقال ضرورية من المقدمات إلى النتائج «غير أنّ صفة الضرورة في البرهان تقع في مستويين اثنين في الصورة والمادة، أي في علاقة المقدمتين بالنتيجة من ناحية، وفي المقدمتين والنتيجة من ناحية ثانية. أما الحجاج فصفة الضرورة فيه لا تكون إلا في الصورة؛ لذلك كان البرهان ضروريًّا في صورته، اضطراريًّا في نتيجته، وكان الحجاج ضروريًّا في صورته، مبدئيًّا غير اضطراري في نتيجته، وعدم الاضطرار هذا هو المشرع لقيام حجاجات مضادة»29.

    3. في البرهان يكفي الدليل الواحد للإثبات أو النفي، لأنّ المقدمات منطقية يقينية، تقتضي بالضرورة نتائج محددة. بخلاف الحجاج الذي يشكل فيه تراكم الحجج وتكاثرها قوة وميزة؛ لأنه قائم على الظن والاحتمال، فــــ «غاية ما تقوم به الحجج هو أنها تزيد من الدرجة الاحتمالية للنتيجة، وتقوي مقبوليتها لدى المخاطبين، وترفع درجة الميل إليها في نفوسهم، وهو ما يفترض أنه يمثل الغرض الأصلي للمحاجج من وراء حجاجه»30.

    4. ولأنّ الحجاج قائم على الظنّ والاحتمال، فهو قابل للدحض والتفنيد والاعتراض، بخلاف البرهان الذي يكون ملزمًا وفق ما تقتضيه طبيعته الضرورية اليقينة.

    5. يتميز البرهان باستقلاله عن الذات الإنسانية، وما يتعلق بها، فالأصل في البناء البرهاني أنه جملة من العلاقات الموضوعية المستقلة، بخلاف الحجاج الذي لا يكون له أي معنى دون تفاعل الذوات الإنسانية بعضها مع بعض31.

    6. يتميز الحجاج عن البرهان بأنه يمكن وروده في صورة ضمنية، أما البرهان فيلزم التصريح بكل مكوناته، ويعد الإضمار في الحجاج ميزة أحيانًا ، بحيث يصبح «أبلغ أثرًا في تحقيق الهدف الأساس من العملية الحجاجية، وهو الإقناع، بالإضافة إلى فائدة الإضمار في أمور أخرى تتصل بالطبيعة الاجتماعية للتواصل اللغوي عمومًا»32.

    أما الجدل فهو أقرب للحجاج من البرهان، بل يرد أحيانًا عند بعض المدارس والتيارات بوصفه مرادفًا للحجاج، -كما في التراث الإسلامي مثلاً- إلا أنّ هناك ما يميزهما عن بعضهما، فالاستدلال الجدلي غايته الحقيقة، فهو يراهن على إحداث التأثير في الذهن، ويميل إلى اعتماد الأدلة العقلية، بينما غاية الحجاج عملية، فهو يقصد توجيه المتلقي نحو فعل شيء ما، أو تركه33.

    وحتى نخلص إلى التعريف المقترح لهذا البحث يحسن إيراد جملة من التعريفات الاصطلاحية للحجاج:

    - فقد عرفه بيرلمان وتيتيكا بأنه «تقنيات الخطاب التي من شأنها أن تؤدي بالأذهان إلى التسليم بما يعرض عليها من أطروحات، أو أن تزيد في درجة ذلك التسليم»34.

    ويتضح من التعريف عنايته بجملة من الأمور، الأول: تقنيات الحجاج وآلياته. والثاني: الغاية والهدف من الحجاج، المتمثلة في الاقتناع والإذعان. الثالث: أن الاقتناع درجات، فقد يكون المخاطب غير مقتنع تمامًا، أو أنه مقتنع إلى حد ما، بحيث تزيد الحجج في درجة اقتناعه.

    - وأما ديكرو وأنسكومبر فحدّا الحجاج بقولهما: «إنّ المتكلم إذ يحاجّ، إنما يقدم قولاً أولاً (ق1)، أو مجموعة أقوال تقود إلى الإذعان والتسليم بقول آخر (ق2)، أو مجموعة من الأقوال الأخرى»35.

    وهذا التعريف فيه إشارة إلى ما يلي: أن الحجاج متضمّن في الأقوال أي في اللغة نفسها. ثانيًا: الغاية من الحجاج وهي الإذعان والتسليم. كما أنّ فيها إشارة إلى تراتب الحجج قوة وضعفًا. ثالثًا: أنّ الحجاج قائم على الاستنتاج، بحيث يكون القول الثاني نتيجة للقول الأول.

    والحجاج عند مايير هو «بذل الجهد لغاية الإقناع»36.

    وهذا التعريف عام جدًا، أشار فيه للغاية من الحجاج دون أي أركان أخرى.

    أما باتريك شارودو فعرف الحجاج بأنه «حاصل نصي عن توليف بين مكونات مختلفة تتعلق بمقام ذي هدف إقناعي»37.

    ويلحظ في تعريف باتريك التركيز على غائية الحجاج، فالحجاج يهدف إلى الإقناع بدرجة أولى.

    - وحدّ الحجاج عند طه عبدالرحمن، أنه «كل منطوق به موجه إلى الغير؛ لإفهامه دعوى مخصوصة يحق له الاعتراض عليها»38.

    ويبدو التركيز في التعريف على القصدية في الحجاج، فهو خطاب غائي، وكذلك أهمية التفاعل في الحجاج بين أطراف الحجاج، بالإضافة إلى قابلية الحجاج للاعتراض والدحض.

    أما حمادي صمود فقد عرفه بأنه «علاقة بين طرفين –أو عدة أطراف- تتأسس على اللغة والخطاب، يحاول أحد الطرفين فيها أن يؤثر في المقابل جنسًا من التأثير يوجّه به فعله، أو يثبت لديه اعتقادًا، أو يميله عنه أو يصنعه له صنعًا»39.

    يعتمد هذا التعريف على ثلاث ركائز: الأولى: التفاعل بين الأطراف. الثانية: مركزية اللغة، واستناد الحجاج إليها. الثالثة: الغاية من الحجاج المتمثلة في الإقناع الموجه إلى فعل أمر أو تركه.

    وبعد عرض هذه التعريفات للحجاج واطلاع البحث على غيرها، فإنها تكاد تتفق على غائية الإقناع، ويمكننا الآن اقتراح التعريف الآتي للحجاج:

    ممارسة لغوية طبيعية، تقوم بين طرفين -أو عدة أطراف-، يسعى كل طرف فيها إلى إثبات دعوى ما أو نفيها، أو استمالة مخاطَب وإقناعه، مستعينًا بجملة من الوسائل اللغوية والبلاغية وشبه المنطقية.

    الفصل الأول

    المنطلقات والأنماط والوظائف

    مدخل

    مما لا شك فيه أنّه لا يمكن لحجاج أن يقوم دون أن يوجد خلاف بين أطرافه المتحاججين، تختلف درجات هذا الخلاف من حجاج لآخر، من حيث قرب أطراف الحجاج من الاتفاق أو بعدهم، لكن الأمر الذي لا بد منه حتى يؤتي الحجاج أكله، وحتى ينتظم ويسير بشكل ناجح هو كون أطراف الحجاج متفقين على بعض المنطلقات التي ينطلقون منها في حجاجهم، أيًّا كان نوع هذه المنطلقات.

    وتطلق المنطلقات الحجاجية ويراد بها في هذا البحث «جملة التصورات والمقدمات، التي ينسج فيها المحاجِج خطيبًا كان أو كاتبًا خططه البرهانية، فبهذه المقدمات يستمال المعنيون، كما أن لهم الحق في رفضها إذا لم تنسجم مع تصوراتهم»40، إذن فالانطلاق من مقدمات متفق عليها بين أطراف الحجاج يعد تمهيدًا ومدخلًا لابد منه؛ لذلك غالبًا ما كان الفشل مصير تلك الحجاجات التي لا يؤمن أطرافها بمنطلقات محددة.

    يمكننا القول بأنّ الانطلاق من مقدمات متفق عليها سلفًا بين أطراف الحجاج يعد شرطًا لنجاعة الحجاج، وركيزة من ركائزه، فلا يمكن للحجج أن تقوم في خطاب ما دون اتفاق مسبق بين أطراف الحجاج، فـ«البحث عن اتفاق مسبق يتحقق بتحديد نقطة (ارتكاز)؛ انطلاقًا من موضع مقبول من المتلقي سلفًا، والملاحظ أن (المتلقي الكوني) نادر، فنحن نحاول دائمًا إقناع متلق محدد، سواء تعلق الأمر بشخص أم بمجموعة من الأشخاصمر بشخص أ مبمجموعة من الأشخاص، فالاتفاق المسبق لا يخص إذن أمر»41.

    إذن غالب الحجاجات هي حجاجات موجهة لمجموعة معينة أو أشخاص معينين، وهذا يفترض وجود مقدمات مشتركة يؤمن بها المخاطَبون، تكون منطلقًا للحجاج. فلا يستقيم مثلاً أن يقوم حجاج ما حول شاعرين؛ أيهما أشعر، إذا كان أحد أطراف الحجاج لا يؤمن بشاعرية أحدهما.

    هذه المنطلقات والتي أطلق عليها فيليب بروتون مصطلح (الاتفاق المسبق)، في غاية الأهمية، ولا تقف أهميتها عند كونها مهادًا للحجاج فحسب، بل هي من جانب آخر داعمة للحجج التي يستدعيها المحاجِج أثناء حجاجه، يقول بروتون: «الفعل الحجاجي لا يتمثل في تشكيل الرأي وصياغته في قالب حجاجي فقط، ولكنه يتمثل بصفة خاصة بدعم هذا القالب الحجاجي بعنصر مقبول سابقًا من المتلقي»42. وهي هنا تقوم بعمل شبيه بالعدوى كما عبر بيرلمان في تعليقه على عملية نقل الاعتناق الحاصل من المقدمات إلى النتائج، يقول: «إنه نوع من نقل عدوى القبول الذي تتمتع به المقدمات إلى النتائج»43.

    وقد أشار بيرلمان إلى أهمية المقدمات الحجاجية وأثرها في نجاعة الحجاج، وأكد على أن القاعدة العامة والمبدأ الأساس للتأثير، هو تكيف المحاجِج مع مخاطَبه، فالوسيلة الرئيسة لتحقيق هذا التكيف هي الانطلاق من مقدمات حجاجية مقبولة ومسلّم بها من قبل المخاطَبين44.

    وجاءت هذه المنطلقات عند بيرلمان في ستة أنواع، هي كالآتي:

    1. الوقائع: وتمثل ما هو مشترك بين عدة أشخاص، وهي لا تكون عرضة للدحض أو الشكّ، وتنقسم إلى وقائع مشاهدة معاينة، ووقائع مفترضة.

    2. الحقائق: وهي متصلة بالوقائع، ومدارها على حقائق دينية، أو نظريات علمية، وكثيرًا ما يتم الربط بينها وبين الوقائع.

    3. الافتراضات: وهي شأنها شأن الوقائع والحقائق تحظى بالموافقة العامة، وهي ترتبط عمومًا بما يحدث عادةً، فما يحدث عادة هو نزاهة القاضي، لكن هناك لائحة طويلة بالقضاة المرتشين.

    4. القيم: وعليها مدار الحجاج بكل ضروبه، وهي نوعان: مجردة، ومحسوسة، فالمجردة من قبيل العدل، والمحسوسة من قبيل الوطن.

    5. الهرميات: وهي تتعلق بالقيم، فالقيم تخضع لتراتبية ما، فالجميل درجات، وكذلك النافع، وهكذا. إنّ هرمية القيم هامة جدًّا، فالقيم وإن كانت تسلم بها جماهير سامعين عدة، فإنّ درجة تسليمها بها تكون مختلفة من جمهور لآخر.

    6. المعاني أو المواضع: وهي مواضع متفق عليها أشبه ما تكون بمخازن للحجج، وهي نوعان: مواضع مشتركة: مثل موضع الأقل والأكثر، والكم والكيف، وغيرها تشترك فيها حقول معرفية مختلفة، ومواضع خاصة بالخطابة والحجاج45.

    إنّ الوظيفة الأهم للمنطلقات كونها تشكل أرضية مشتركة تسع المتخالفين لينطلقوا منها في حجاجهم، والمحاجِج حين يستخدم هذه المنطلقات فهو يسعى إلى بناء أول جسور التواصل بينه وبين مخاطبيه الذين يرغب في تسليمهم بتلك المنطلقات.

    وثمة وظيفة أخرى تقوم بها المنطلقات تتعلق بالتهيئة النفسية، فالمنطلقات إذا ما أحسن اختيارها وعرضها جعلت «المخاطبين متهيئين عقلًا ووجدانًا لما سيلقى عليهم من مضامين حجاجية، عليها يكون مدار التصديق، ومن

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1