Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

الميديولوجيا لدى ريجيس دوبريه
الميديولوجيا لدى ريجيس دوبريه
الميديولوجيا لدى ريجيس دوبريه
Ebook361 pages2 hours

الميديولوجيا لدى ريجيس دوبريه

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

كتاب (الميديولوجيا لدى ريجيس دوبريه) يعد كتاب (الميديولوجيا لدى ريجيس دوبريه: فلسفة الإنسان المبلّغ)، أول كتاب أكاديمي بحثي متعدد الأبعاد في اللغة العربية، يعتني بفكر ريجيس دوبريه الفيلسوف والمناضل اليساري رفيق تشي قيفارا وفيدال كاسترو وصاحب كتاب "ثورة في ثورةRégis Debray، وقد اجتهد مؤلفه عبد السلام الزبيدي، الباحث في الفلسفة بالجامعة التونسيّة، في فصول الكتاب التسعة في عرض الميديولوجيا لدى دوبريه وأكد أن فلسفته تكشف عن "الثابت الذي لا يتغيّر في الإنسان وفي العقل وفي السياسة، أي زمان اللاّوعي الدّيني والإنسان المشروط بوسائله التقنيّة التي تصنعه وتغيره وتتحكّم فيه في الوقت الذي يخال أنّه قد زوّدها بما يشاء، والحديث هنا يمتدّ من الصحيفة إلى القنبلة الذريّة".

Languageالعربية
Publishertevoi
Release dateAug 15, 2022
ISBN9789938230253
الميديولوجيا لدى ريجيس دوبريه

Related to الميديولوجيا لدى ريجيس دوبريه

Related ebooks

Reviews for الميديولوجيا لدى ريجيس دوبريه

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    الميديولوجيا لدى ريجيس دوبريه - عبد السلام الزبيدي

    الميديولوجيا

    لدى ريجيس دوبريه

    فلسفة الإنسان المبلغ

    عبد السلام الزبيدي

    الميديولوجيا

    لدى ريجيس دوبريه

    فلسفة الإنسان المبلغ

    تأليف:

    عبد السلام الزبيدي

    تقديم الدكتور: نور الدين النيفر

    مدير النشر: عماد العزّالي

    التصميم: ناصر بن ناصر

    الترقيم الدولي للكتاب: 978-9938-23-025-3

    جميع الحقوق محفوظة

    الطبعة الأولى

    1440 هـ / 2019 م

    العنوان: 5 شارع شطرانة 2073 برج الوزير أريانة - الجمهورية التونسية

    الهاتف: 58563568 +216

    الموقع الإلكتروني: www.mediterraneanpub.com

    البـريد الإلكتروني: medi.publishers@gnet.tn

    شـــكـــــر

    أشكر مؤسّسة فتحت بابا أوصد عقدين ...

    أساتذة جدّدوا لذّة التعلّم

    مشرفا الدكتور نورالدين النيفر

    يدفع إمكانات الذات إلى أقصاها

    إهـــــــــــــــداء

    أمّي فاطمة الزهراء من بها أكون رغما عن الغياب ...

    حبيبتي مديحة بعض منّي وبعض من أمّي ...

    قرّتا العين عزالدين وشهد ...

    تقـــديـم

    هذا الكتاب هو عمل أكاديميّ بحثيّ متعدّد الأبعاد. فهو أوّل كتاب في اللغة العربيّة يعتني بفكر الفيلسوف والمناضل اليساري الذي راجع كلّ قناعاته التي كرّسها في ستينات وسبعينات القرن الماضي: ريجيس دوبريه Régis Debray.

    ومن جهة أخرى يعدّ هذا الكتاب مدخلا لمبحث الميديولوجيا في زحام النظريات المتعلّقة بطبيعة المعرفة ووسائطها ووظائفها في زمن ثورة تكنولوجيات المعلومات.

    ومن أبعاد هذا الكتاب تحليل المفاهيم الأساسية للمفكّر ريجيس دوبريه بما يشكل مدخلا للمتخصّصين في الإعلام والخطاب السياسي والمحلّلين لبنيان الفكر في القرن الواحد والعشرين.

    يجمع هذا الكتاب ريادة في تحليل خطاب ريجيس دوبريه، وفي ريادة عمل جدّي بالمعايير الجامعيّة لمفكّر من قامات الفكر النقدي والإلمام الموسوعي.

    وأخيرا لا يمكنني إلاّ أن أثني على جهود أستاذ مقتدر وباحث في حماس وتواضع في ثنايا دروب استيعاب العلم، والذي أفتخر أنني وجّهت بحثه في الماجستير (موضوع هذا الكتاب) وما أزال أوجّه بحثه لنيل الدكتوراه في الفلسفة التي تعد بأنّها ستكون مشرّفة للسيد عبدالسلام الزبيدي.

    أ. د. نورالدين النيفر

    عميد/ مدير المعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس

    جامعة المنار

    تونس في 02 أكتوبر 2018

    مقدّمــة

    كيف تصبح الفكرة قوّة؟ سؤال طرحه من يعتبر أنّ الفكر لا وجود له، وأنّ العظم l’os قبل اللوغوس logos، وأنّ إنتاج العقل للفكر ليس أكثر من وهم، وأنّ من يعتقد بأنّ الأفكار تخرج من الرأس كما أخرج زوس Zeus أثينا من جمجمته إنما هو إلى سجلّ الجنون أقرب.

    سؤال طرحه من يبحث عن تحديد «إقليمه المعرفي» المستحدث بسؤال، ويعضده بسيل من الإستفهامات من قبيل: كيف تنشأ العقائد وتنتشر وتنتهي؟ وكيف وبأيّة إستراتيجيات وتحت أيّة إكراهات تبلّغ الإنسانية المعتقدات والعقائد التي تنتجها؟ وماذا تخفي عملية الإنتشار من جوهري؟ ومن أين يأتي إشعاعها؟ وكيف نفسّر أنّ بعض الأقوال تلهب العالم؟ وبأيّة وسائط يمكن للكلام أن يصبح حدثا وللروح أن يتخذ جسدا؟

    إنّه ريجيس دوبريـه Régis Debray الموصـوف بـ«المتعدّد»، وإنّهـا الميديولوجيـا Mèdiologie التي سنبحث في تحديد هويّتها هل هي مبحث علمي أم علم أو فلسفة، أو ربّما شيء آخر: فنّ ليبرالي بالمعنى القديم للكلمة أو حقل تفكير أو ورشة نقدية؟ ولم لا نمط مستجدّ أفقي وعابر للمعارف والتخصّصات؟

    لنبدأ برجيس دوبريه Régis Debray المثقّف الفرنسي الثائر منظّر البؤر الثورية le foquisme في ستّينات القرن العشرين المقرّب من الزعيم الكوبي فيدال كاسترو، ومؤلف كتاب ثورة في الثورة 1Révolution dans la révolution وحامل السلاح مع الثائر الأممي تشي غيفارا ليكون شاهدا على المرحلة الأخيرة من حياته.

    سجين كاميري Camiri ببوليفيا يغدو وهو البرجوازي الصغير بين نارين وأربعة حيطان لم ينقذ منها إلاّ بعد حملة ديبلوماسية دولية قادها رأس الحكم في فرنسا وألهبها جان بول سارتر. وكان الخروج من الحيطان الأربعة بفضل عفو أغلق قوس حكم قضائي بـ30 سنة، لكنّه لم يغلق اتهّمات وفي الحدّ الأدنى شبهات بالتورّط في الكشف عن مخبإ الثائر الأرجنتيني، ولم يمح من ذاكرة دوبريه حسرة على التخلّف القسري عن حدث فارق في تاريخ فرنسا المعاصر «ماي 68»2.

    من التنظير لثورة يكون فيها الفعل الثوري سابقا على النظرية، واحتلال الأرض وخلق بؤرة foco, foyer مقدّما على دعاية البيانات وخطب مدارج الجامعات وتجمّعات الأحزاب والتنظيمات، إلى نقد الأسلحة La Critique des armes والمسار الثوري أوّلا وللماركسيّة ذاتها في النهاية... مرحلة مهّد لها السجن ومطالعاته التي غلبت عليها المؤلفات التاريخية والدينية. وقد تعدّدت في مرحلة «المراجعة والنقد الذاتي» الكتابات، وكان بعضها أدبيا أهمّه رواية الثلج يشتعل La neige brûle الحاصلة على جائزة فيمينا Femina سنة 1977.

    ومن النقد الذاتي ولج دوبريه بوّابة نقد العقل السياسي ذاته، وفتح في ذات الحين ملف المثّقف ووضعه، لتنفتح أمامه أبواب الإستشارة في مؤسسة الرئاسة الفرنسية في عهد فرانسوا ميتيران الذي كلّفه بملف العلاقات الخارجية مع أمريكا اللاتينية التي خبرها بالفكر والسلاح والزواج. ورغم مغادرته مهمة الإستشارة بالإستقالة فإنّه لم يغادر دائرة التكليفات الرسمية ذات البعد الإستشاري في قضايا الدين والتعليم وتمثيل فرنسا ثقافيّا.

    أمّا آخر المراحل والممتدّة إلى اليوم، فهي المرحلة المبحوث فيها من خلال عملنا ألا وهي الميديولوجيا. مرحلة ميزتها غزارة الإنتاج وتنوّعه. الخيط الناظم ميديولوجيّ بالأساس، وتتخلّله مؤلفات صبغتها الفلسفية غير محجوبة عن المتأمّل، واهتمام بالشأن السياسي الفرنسي والدولي ومجمل قضايا العصر، مع مساهمات عديدة في الإعلام كاتبا وضيفا على المكتوب والمسموع والمرئي.

    ريجيس دوبريه المتعدّد3... صيغة استنجد بها معاصروه عموما خروجا من مأزق التصنيف، بين من يصفه بـ«فيلسوف العصر بامتياز» كما سنرى لاحقا وبين من يعتبره مجرّد كاتب محاولات، بين من يراه مؤسسا لعلم الإعلام والإتصّال على وجه الحقيقة ومن يراه متطفّلا على المجال متسلّلا من الباب الخلفي، بين من يفتح أمامه أبواب الجامعة ومن يمارس عليه «الإرهاب الفكري» (والعبارة له) موصدا مداخلها حتّى يحرمه من المصادقة الأكاديمية والإعتماد الإبستيمولوجي لـ «علمه» الجديد.

    فالمتعدّد صيغة مخاتلة للقول بأنّ صاحبنا غير قابل للتصنيف inclassable، وتلك أولى صعوبات البحث.

    فلنترك «الشخص» ونقتحم عالم دوبريه ومدوّنته ذات الصلة بما أسماه بـ«الصرح الميديولوجي».

    أول مؤلّف كان محاضرات في الميديولوجيا العامة الصادر سنة 1991 والذي سنرمز إليه بـالمحاضرات، وهو كتاب إعلان الولادة والتعميد والتأسيس. وقد جاء في شكل 12 درسا ألقاها خلال السنة الجامعية 1988-1989 في جامعة ستاندال بغرونوبل ضمن رصيد التأهيل والبحث في علوم الإتّصال، واستعادها مع دانيال بونيو في حلقة دراسات حول الميديولوجيا في المعهد الدولي للفلسفة بفرنسا 1989-1990.

    حياة الصورة وموتها، تاريخ النظر في الغرب الصادر سنة 1994 كان ثاني الكتب الميديولوجية في شكل تقاطع بين الفلسفة والميديولوجيا التطبيقية الذي سنرمز إليه بـالحياة. وصدر في نفس السنة بيانات ميديولوجية وهو نصّ أطروحة دوبريه في الفلسفة لنيل شهادة التأهيل لإدارة البحوث. رسالة قدّمها بالسربون يوم 8 جانفي 1994 أمام لجنة مكوّنة من دانيال بونيو، وبرنار بورجوا، وروجي شارتي، وفرانسوا داغونييه، وجاك لوغوف، وميشال سار.

    ونشر دوبريه سنة 1997 كتاب الإبلاغ Transmettre حيث فصل القول في الفروق بين الإتصّال والإبلاغ، ليصدر سنة 1999 مقدّمة للميديولوجيا عرض فيه تعريفات هذا المبحث العلمي وأركانه، ويمكن إعتباره إعلانا ثانيا للتأسيس. علما وأنّنا سنرمز إليه بـالمقدّمة وللكتاب السابق بالإبلاغ، في حين سنرمز لكتاب قطريّات ميديولوجيّة الصادر سنة 2001 الذي كان تجميعا لسلسلة من المحاضرات ألقاها بالمكتبة الوطنية الفرنسية بالقطريّات.

    وبالرغم من أنّ نقد العقل السياسي أو اللاوعي الديني سابق على المدوّنة الميديولوجية بعقد من الزمن، فإنّ دوبريه ما فتئ يشدّد في كتاباته على إلحاقه بها بإعتبارها جزءا من الصرح «قبل الأوان». فقد استعمل في كتاب النقد جهازا مفاهيميّا ظلّ وفيّا له في المحاضرات والمقدمة وحياة الصورة وغيرها، ومن بين هذه المفاهيم: العقل السياسي واللاوعي الديني ومسلمة عدم الإكتمال والثابت التفسيري.

    وقد ذكرت الكلمة «ميديولوجيا» لأوّل مرّة في السلطة الفكرية في فرنسا سنة 1979، وكانت ثاني إشارة في الكاتب Le Scribe سنة 1980، وثالث الإشارات بأنّه سيؤسس هذا المبحث العلمي كانت في نقد العقل السياسي، أمّا الإيفاء والتجسيد فكان بعد عشر سنين.

    ويمتدّ الصرح الميديولوجي إلى مجلّتين أسّسهما دوبريه وهما كرّاسات ميديولوجية والميديوم، التجديد للإبداع إضافة إلى مؤلفات تمتزج فيها الميديولوجيا بالتاريخ والدين والأسطورة على غرار الإله مسار، مادّيات التاريخ الأبدي في الغرب والنار المقدّسة، وظائف الديني. كما نلمس «زاوية النظر» الميديولوجية في عدد من المؤلفات الأخرى ذات الصبغة السياسية والثقافية مثل مدح الحدود وما يحجبه الحجاب. وأثرى دوبريه إنتاجاته بالمحاضرات واللقاءات الإعلامية المكتوبة والسمعية والبصرية الموثّقة في مختلف وسائط النشر من بينها حوارات مع كبار المفكرين والفلاسفة على غرار جاك ديريدا.

    النقد والمحاضرات والبيانات، عبارات إستعملها دوبريه في عناوين مدوّنته الميديولوجية لتذكّرنا بسلسلة النقد عند إيمانويل كانط، ومحاضرات فاردينان دي سوسير، وبيان ماركس وانجلز ... قدم دوبريه تقع على أقدام المؤسسين، إنّه هاجس التأسيس.

    غزارة في المدوّنة التأسيسية تكتسي صعوبة مضاعفة. الأولى هي الغزارة ذاتها التي تتطلّب الإحاطة وتتبّع المفاهيم في نشأتها وتطوّرها، إن وجد تطوّر. والصعوبة الثانية تتعلّق بطبيعة التأسيس ذاته ومقتضياته من تحديد الموضوع أو الإقليم والمنهج والمهمّات حسب عبارة دوبريه. هذه الصعوبة المزدوجة رافقتنا من البدايات إلى النهايات، مع التأكيد على أنّ هذه النهايات مؤقتة، فهي ستكون بدايات أخرى ...

    سؤال التأسيس شغل ريجيس دوبريه، لكن تأسيس ماذا؟ أولى الإجابات كانت تأسيس علم وفي الحدّ الأدنى مبحث علمي يحظى بالإستجابة للشروط والمقتضيات الإبستيمولوجية بغضّ النظر عن الإعتماد الأكاديمي الجامعي، في حين أنّه يرتقي بهذا المطلوب تأسيسه إلى مرتبة العلم الإجتماعي للمستقبل الذي يتجدّد شبابه كلّما مرّ الزمن. ليعلن في مواطن أخرى بأنّه لاطموحات شمولية لهذا المبحث أو الحقل الذي لن تكون له خاصية التوقع من حيث هي إحدى خصائص القانون العلمي، ولن يكون ترياقا فغايته لا علاقة لها بالإصلاح أو الخلاص.

    هذه المدوّنة الميديولوجية جعلت من إبلاغ العقائد والأساطير والإيديولوجيات والمذاهب ووسائط نقلها موضوعها المميّز. موضوع يفترض خلفيّة أنتروبولوجية هي «الإنسان المبلّغ» بما هو الكائن الحيواني الوحيد القادر على نقل الثقافة والتكيّف مع البيئة لتعويض ضمور الجهاز الدماغي. سرّ التكيّف أنّه الكائن الوحيد - مرّة أخرى- الذي تسكنه الأموات ويحمل داخله كلّ العصور، أمّا سرّ التعويض فهو المادة أو التقنية التي تغيّرنا بل تصنعنا. فالأجهزة المادية تتحكم في الإنسان، وإحدى مهام الميديولوجيا البحث في سيرورة هذه العملية ومسارها الذي تتشكل خلاله رؤيتنا للعالم ونظرتنا للأشياء وللإنسان نفسه العاجز عن تجاوز «وضعه الميديولوجي».

    إنشغالات وأسئلة ذات طبيعة فلسفية، لكنّ دوبريه يتبرّأ من هذا «الإتّهام». فالحقيقة لا تهمّ الميديولوجي إلاّ كما تهمّ العواطف طبيب القلب، والميديولوجي- من وجهة نظر فلسفية-عامل حضيرة في الحيّ الفلسفي أشياؤه في منزلة اللاأشياء الفلسفية، وعندما يشير الفيلسوف إلى القمر فإنّ الميديولوجي ينظر إلى الإصبع بل إلى مادون ذلك أي إلى قمامة الفكر. وتلك القمامة هي الموضوع المفضّل لهذا المبحث الجديد، قمامة جوهرها تفكير في لا مفكّر l’impensé الفلسفة ذاتها...

    «إتّهام» آخر برّأ دوبريه تخصّصه المعرفي منه، والتهمة قوامها أنّ الميديولوجيا علم لوسائل الإعلام والإتصال في حين أنّ إهتمامه بالوسائط الإعلامية ليس أكثر من إهتمام سيغموند فرويد بالزلاّت، ووسائل الإعلام في الميديولوجيا وتحديدا من زاوية الإبلاغ ميديوم لها ركيزة قد تكون صحيفة أو تلفازا أو متحفا أو منبرا أو مدرسة أو كنيسة، لتكون وسائل الإعلام بهذا المعنى صديقا موهوما بل مدرسة مضّادة.

    أمّا الإتّصال فهو دين مضاد وإيديولوجيا العصر الحديث وفلسفته إستهلاكية وأفقه إجتماعي محدّد بالفضاء، بينما الإبلاغ بما هو موضوع الميديولوجيا ذو أفق حضاري ونقل في المكان والزمان، إنّه بحث في الزمان الذي لا يمرّ...

    تبحث ميديولوجيا دوبريه عن أرض لم تطأها العقول من قبل بالرغم من أنّ «الجيران» درسوا الإنسان العاقل والمتكلّم والراغب والحاكم والمحكوم وشيّدوا بنايات ثقيلة مثل التاريخ والسيميولوجيا والسوسيولوجيا. هذه الأرض سيكتفي دوبريـه بوضـع مقعـد tabouret فيها يتميّز بأنّه غير مريح ودون سند ليفكّـر لامفكّـر هـذه التخصصـات المعرفيـة.

    تموقع يكشف صعوبة أخرى لدوبريه ولبحثنا أيضا، وهي صعوبة التصنيف. وقد حاولنا فكّ شفرات هذه الإشكالية برصد مسار تطوّر عملية التأسيس وتفسير ما قد يراه البعض تناقضا في وصف مدوّنة دوبريه لطبيعة الميديولوجيا ذاتها وتصنيفها.

    تلك أهمّ الصعوبات التي عملنا على تذليلها لتقديم الميديولوجيا لدى ريجيس دوبريه للباحث العربي أوّلا وللقارئ ثانيا، نظرا لإقتصار المدوّنة العربية في هذا المبحث العلمي والفلسفي كذلك على بعض الأطروحات والدراسات والمقالات ذات البعد التطبيقي، في حين لم نجد مؤلّفا منشورا خاصا بالميديولوجيا عموما فضلا عن الميديولوجيا لدى دوبريه. وذلك جوهر الداعي الأوّل لهذا العمل.

    أمّا ثاني الدواعي فكان موضوع الميديولوجيا ذاتها أي الإبلاغ بما هو أحد مميّزات الكائن البشري، إبلاغ الأفكار والعقائد والمذاهب والإيديولوجيات من خلال الوسائط والمحدّدات الماديّة والتقنيّة التي تحوّل الأفكار وتغيّر الإنسان ذاته وتتحكّم، إبلاغ تحمل فيه الفكرة على الظهر قبل أن تسكن العقل، إبلاغ يرصد مسار تحوّل الفكرة إلى قوة والقول إلى لهيب يشعل العالم، إبلاغ يتتبّع إخفاق فكرة لها مقومات الإنتشار لكنها تفشل بسبب الميديوم والمدار الميديولوجي...

    صحيح أنّ دوبريه اتخذ من الغرب المسيحي مجالا ومرجعا ونموذجا، لكنّ إشاراته ومقاراناته مع اليهودية والإسلام دينا وحضارة تفتح «النظر» بالمعنى الميديولوجي على المحجوب. وهو ما مثّل أحد دوافع البحث، لذلك أحسب أنّه سيكون له ما بعده.

    ويمكن وصف ثالث الدواعي بالذاتي. فقد وجدت في مسيرة ريجيس دوبريه، دارس الفلسفة والثائر فكرا وممارسة والناقد في مرحلة ثانية لذات الفكر والممارسة إضافة إلى إضطلاعه بمهام الإستشارة4 في مؤسسات السلطة التنفيذية ومساهماته الإعلامية كاتبا وضيفا، بعض التقاطعات مع ما عشته بل مع ما أعيشه كذلك: تأثّر بالعامل الديني كمحدّد للرؤية الفكرية والسياسية، ودراسة للفلسفة، واحتراف العمل في مجالي الإعلام والإتّصال، وولوج عالم السياسة من باب العمل على التغيير من خارج السلطة ثم من باب الإستشارة الحكومية... تشابه تحوّل صداه إلى داع رئيس.

    إحصاؤنا لصعوبات البحث ودواعيه كشف بالضرورة عن موضوعه، ألا وهو تقديم عرض تفسيري منهجي وبيداغوجي للميديولوجيا لدى الفرنسي المعاصر ريجيس دوبريه.

    أمّا الإشكالية فهي: لماذا ريجيس دوبريه الذي جعل من إقتفاء آثار الأساطير والعقائد والأفكار والإيديولوجيات ومسارات إنتشارها وإنتهائها موضوعا لـمبحثه أو علمه أو ورشته أو فلسفته «عجز» عن تقديم تصنيف علمي أو فلسفي واضح ودقيق لمدوّنته وحقل بحثه؟

    الإجابة عن هذا السؤال المركزي سيكون محلّه الخاتمة، في حين توزّع العمل على ثلاثة أبواب، في كل باب ثلاثة فصول مقسّمة بدورها على ثلاثة عناصر يختلف كلّ عنصر عن الآخر من حيث التقسيمات الفرعيّة.

    الباب الأوّل «ما الميديولوجيا؟» مقصده البحث عن تحديد هويّة الميديولوجيا بتعريفها من خلال المبشّرين السابقين (الفصل الأوّل)، ثمّ بالسلب أو بعبارات دوبريه «من خلال ما ليس هو» (الفصل الثاني). ليكون الفصل الثالث مخصّصا للتعريفات الموجبة وتحديد الإقليم أو الموضوع أو زاوية النظر في القسم الأوّل (تكنولوجيا العقائد، التوسّط، الإنسان المبلّغ)، وأحصينا في القسم الثاني عددا من التعريفات الموزّعة في الصرح الميديولوجي، أمّا في القسم الثالث فتطرّقنا إلى صعوبات تصنيف هذا المبحث أو

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1