Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

الحداثة والأخلاق
الحداثة والأخلاق
الحداثة والأخلاق
Ebook636 pages8 hours

الحداثة والأخلاق

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

لم تعد خلفنا كل المنجزات العظيمة للفكر الحديث, ولا يمكننا أن نحتمي بيقينيَّات ما قبل الحداثة, ولا أن نُسارع نحو هاويَّة ما بعد الحداثة, بالعكس يتوجَّب علينا القبول بأنَّ الحداثة تشكِّل أفقًا لازمًا لتفكيرنا الأخلاقي, ولكنَّنا يجب أن نعترف أيضًا بأنَّ ثمَّة مشكلات أخلاقية أساسيَّة تتَّصل بحداثتنا لم نقّدم لها حلولًا, ولا نراها بوضوحٍ بعد.
إنَّ الحداثة والأخلاق موضوع للنقاش المفتوح دائمًا, وهو ما يقترحه هذا الكتاب, وذلك ليس من أجل إنهائه
Languageالعربية
Release dateAug 9, 2022
ISBN9781545755440
الحداثة والأخلاق

Related to الحداثة والأخلاق

Related ebooks

Reviews for الحداثة والأخلاق

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    الحداثة والأخلاق - المؤلف تشارلز لارمور

    مدخل

    اعتقادات فلسفيَّة

    «من الواضح أن الإنسان بُرئ ليفكِّر. وفي هذا كل كرامته، وكل استحقاقه. وكل واجبه في أن يحسن التفكير». باسكال، خواطر، § (1)*620.

    أولًا: تعريف الفلسفة

    يعتبر المدخل إلى كتاب فلسفي بلا شك، المكان الأفضل للتعبير عن طبيعة الفلسفة. وهذا ما سأقوم به هنا، ولكن بطريقة مبتدعة. وسأشرح لماذا أرفض المطلب الدائم بتحديد الفلسفة. لست واثقًا من أنَّ الفلسفة شيء نفوز به أو نحصل عليه إذا ما نُظر إليها بوصفها موضوعًا لتفكيرها الخاص، وذلك راجع لسببين: يمكن أن يكون هنالك عنصر غير مفكَّر فيه، نوع من اللاَّمفكر (impensée)، يكون جوهريًّا بالنسبة للقوَّة المبدعة للفكر الفلسفي. فهل يمكننا أن نسلك وجهة دون أخرى إذا ما كنَّا على وعي بجميع الأوجه التي يمكن أن نفكِّرها، وكل الأسباب التي تدعِّم كل واحد من تلك الأوجه؟ ولعلَّه من الواجب أن تكون الحصافة مصحوبة بنقطة عمياء.

    ومع ذلك فإنَّ الشكوك التي أريد التحدُّث عنها هنا، لا تنطبق على هذه الأطروحة التأملية/النظرية جدًّا، والمتعلِّقة بالتأمُّل الفلسفي في الفلسفة. فلا يتعلَّق الأمر بالحدود، ولكن بفائدة التفكير. لست مقتنعًا أنَّ الفلسفة بتفكيرها في طبيعتها ستكون لها حظوظ أفضل لحلِّ المشكلات الخاصَّة بها. يبدو أنَّ الفلسفة لن تفوز بشيء في تساؤلها عن طريقة التفكير الخاصِّ بها، وذلك لسبب بسيط ألا وهو أنَّه لا وجود لأيَّة طريقة أو منهج. كما أنَّه ليس هنالك مجال لموضوعات تكون شأنًا محصورًا بالفلسفة، فلا وجود لمنهج (méthode) فلسفيٍّ خاصٍّ، ومتميِّز عن أشكال الفكر التي نجدها في العلوم وفي الحياة العاديَّة. وممَّا لا شك فيه إنَّ الفلاسفة يمارسون التفكير، ويعملون جاهدين على اكتشاف الصعوبات غير المنتظرة، وإدراك الروابط الجديدة. ولكن الفلسفة بهذا المعنى لا تتميَّز أساسًا لا من جهة التفكير الانعكاسي التأملي أو التفكُّري (réflexive) الذي ينتمي إلى العلوم الخاصَّة، ولا إلى الحياة الذكيَّة. يبدو لي إنَّ التحديد الوحيد والمطابق للفلسفة يكمن في إحصاء المشكلات (problèmes) التي هي تاريخيًّا عرضيَّة، ولأسباب متنوِّعة، صُنِّفت على أنَّها مشكلات «فلسفية». وقبل كل شيء، فإنَّ للفلسفة تاريخ طويل ومعقَّد، وعامر بالاكتشافات والإهمالات، وبتقاليد ديناميكيَّة ومتقلِّبة. وإنَّه لمن المعقول أن نفترض بالنتيجة إنَّها تشكِّل خليطًا غريبًا، أكثر من كونها فرعًا معرفيًّا موحَّدًا. إذًا، إنَّنا بتفكيرنا في طبيعة الفلسفة، فإنَّنا لن نجد إلّا قائمة من المشكلات الفلسفيَّة، ولن نكون أفضل من السابقين في حلِّها. و(لكنَّنا) سنكون، في أحسن الأحوال، قد فقدنا وهمًا. فبدلًا من البحث عن نمط فلسفيٍّ خاصٍّ، فإنَّه يجب أن نقبل بكل منهج يسمح بحلِّها على أنَّه منهج صحيح، بما أنَّ الأمر يتعلَّق بمشكلة فلسفيَّة، متَّبعين في ذلك الفطرة السليمة والحالة الآنيَّة للمعارف.

    بإعلاني لشكوكي التي اتخذت شكل أطروحات، فإنَّني انفصلت عن الفلاسفة الأنجلو-أمريكيين (anglo-américains)، كما انفصلت عن الفلاسفة القاريِّين (continentaux) لهذا القرن(2)*. ومن المستبعد أن تشكِّل الفلسفة التحليليَّة والفينومينولوجيا (في صورتها الهوسرليَّة والهيدغريَّة) كل فلسفة عصرنا، ولكنَّهما قامتا بدور غالب، ثم لأنَّهما يستلهمان الفكرة التي توجب على الفلسفة أن تتميَّز بموضوعها، وكذلك بمنهجها عن أشكال الفكر الأخرى، وخاصة عن العلوم التجريبيَّة، وإلّا فإنَّه لا سبب لوجودها. والفلسفة بهذا المعنى يجب أن تكرَّس لدراسة دلالة (signification/meaning) المفاهيم المفتاحية لفكرنا، أو لدراسة الظواهر (phénomènes) الأساسيَّة «الظواهر بما هي أشياء فقط وكما تتمثَّل للوعي» أو «كينونة الكائنات»، تاركين للتجربة أو للعلوم الخاصة دور تحديد أي موضوع تنطبق عليه هذه المفاهيم، أو وصف ما هي تلك الكائنات أو الأشياء «في حقيقتها (réalité)». يتناسب مع المجال الخاص للفلسفة منهج فلسفي خاص، يتمثَّل إمَّا في: «تحليل المفاهيم» أو في «الاختزالات أو الرد الفينومينولوجي الماهوي (eidétique)»(3)*. وممَّا لا شك فيه، إنَّ ثمَّة اختلافات كبيرة بين هذين التيَّارين الفلسفيَّين: يحتل الوعي مكانة مركزيَّة في المقاربة الفينومينولوجيَّة، في حين إنَّ اللغة تؤدِّي دورًا مماثلا في الفلسفة التحليلية(4). ولكن مع ذلك، يجب الإشارة أيضًا إلى توافقهما العميق. إنَّهما يتقاسمان الاعتقاد الذي مؤدَّاه إنَّ الفلسفة يجب أن تتحدَّد أولًا بمجالها الخاص، وبمنهجها الذي يجب أن يكون خاصًّا بها، مجال ومنهج يسمح للفلسفة أن تصدر عن التجربة مقدَّما، وأن تُعيِّن حدود العلوم التجريبيَّة. وأنَّه انطلاقًا من هذا التعيين فقط يمكننا القول، إذا كانت المشكلة المطروحة مشكلة «فلسفيَّة»، أم أنَّه يجب تركها للعلوم المتخصِّصة. وأنَّه من دون هذا التعيين، فإنَّه لا وجود للفلسفة(5). وأنَّها باهتمامها بكفاءاتها الخاصَّة، تستطيع الفلسفة أخيرًا أن تحقِّق أشكالًا من التقدُّم، وتصبح هي بذاتها علمًا.

    إنَّ ما اعترض عليه هو بالتحديد هذه الإرادة المتمثِّلة في التحديد القبلي (a priori) لكفاءة الفلسفة وجدارتها. وزد على ذلك، فلست الوحيد الذي يقف هذا الموقف. فثمة المثال الكبير المتمثل في كارل بوبر (Karl Popper)، الذي اعترض دائمًا على التحديدات، وخاصة التحديدات التحليليَّة للفلسفة. ولقد كتب يقول: إن سؤال: «ما هي الفلسفة ؟» ليس له فائدة فلسفيَّة. يجب بالأحرى الاعتراف بأولويَّة المشكلات الفلسفيَّة على طبيعة الفلسفة ذاتها(6). ثم إنَّه رأي يكتسب أرضيَّة في الفلسفة الأنجلو-أمريكيَّة عامَّة، ولكن لأسباب سأكشف عنها لاحقًا. وإذا ما قبلنا بهذا المنظور، فإنَّنا لن نقبل بضرورة الالتحاق بواحد من هذين التراثين الفلسفيَّين. وأنَّنا بالأحرى سنبحث أفكارًا في هذا التراث أو ذاك، وذلك بحسب المعيار الوحيد المتمثِّل في صلاحيَّته وفائدته للمشكلات الفلسفيَّة التي طرحناها.

    ومع ذلك، فإنَّني لا أعرض نزعة توافقية كونية (œcuménisme) لا حدود لها. لقد حقَّقت الفلسفة التحليليَّة نجاحين لا يمكن إنكارهما، ويكسبانها في رأيي تفوُّقًا مقارنة بالاتجاهات الفلسفيَّة الأخرى لقرننا. ويمكنني أن أذهب أبعد من ذلك لأقول، إنَّه بفضل هذين النجاحين، أصبحت الفلسفة التحليليَّة فضاء للانتقال الإلزامي للفكر الفلسفي. ويمكنني أن أقول، على الأقل، إنني لو لم أمرّ بهذه المدرسة، فإنَّه لن يكون لديَّ هذا التصور الذي أملكه عن الفلسفة.

    ثانيًا: رفض «القبلي» التحليلي

    يتمثَّل النجاح الأول للفلسفة التحليليَّة -وهو نجاح مفارق للغاية- في إثباتها أن تعريفها للفلسفة لا يمكن الدفاع عنه في نهاية التحليل. فلا وجود لتمييز مبدئي بين الحقائق المفهوميَّة بالنسبة لمجال معيَّن (بمعنى القضايا المسماة قضايا «تحليليَّة» التي تكون حقيقتها متعلِّقة فقط بدلالة المفاهيم)، وبين الحقائق التابعة لموضوعات هذا المجال (الحقائق المعبَّر عنها بالقضايا المسماة قضايا «تركيبيَّة»)(7)*. وهذه هي خلاصة ما انتهى إليه المقال المشهور للفيلسوف الأمريكي ويلار فان أورمان كواين: عقيدتان في المذهب التجريبي (Two Dogmas of Empiricism)، المنشور في عام (8)1951*. وفي اختباره للمحاولات الأكثر صوغًا لشرح تصوُّر (notion) القضيَّة التحليليَّة -القضيَّة التي تكون صحيحة أو خاطئة بناء على دلالة المفاهيم (concepts) المكوِّنة لها والتي تمثِّل بالتالي نوع النتيجة التي تبحث عنها الفلسفة التحليليَّة- بيَّن كواين أنَّه لا وجود لتوضيح إخباري أو إعلامي (informative) لهذا التصوُّر. بمعنى آخر، لقد لاحظ أنَّ فكرة معرفة قبلية (a priori)، في التصوُّر التحليلي ليس في الحقيقة إلّا نوعًا من التناسخ، لا يمكن أن يصمد في وجه تاريخ العلوم، بما أنَّ المعارف التي يقال عنها قبليَّة (مثل القضيَّة القائلة: المكان أقليدي (euclidien)، أو لكل شيء وضعيَّة محدَّدة) قد تبيَّن، منذ قرن، ليست فقط كونها معرفة تجريبيَّة، وإنَّما هي خاطئة في الغالب.

    إذًا، إنَّ التمييز المبدئي بين القضايا التحليليَّة والقضايا التركيبيَّة هو مجرَّد عقيدة غير مسوَّغة. وعندما يُستبعد هذا المعتقد، فإنَّه يجب بحسب كواين، الاعتراف بأنَّ كل معتقداتنا، سواء تلك المرتبطة بالعالم نفسه، أو تلك المرتبطة بدلالة المفاهيم التي نستعملها في وصف العالم، تشكِّل مجموعة متصلة (continuum). وكلُّها قابلة للتعديل، بناء على التجربة، مع أنّ بعضها يكون تجريبيًّا بشكل مباشر أكثر من غيره. إنَّ القضايا المسمَّاة (تحليليَّة) ترتبط بدلالة المفاهيم، ولا تعبِّر في الحقيقة إلّا عن اعتقادات تجريبيَّة لا نميل كثيرًا إلى تعديلها. وإنَّ دلالة مفهوم هي اعتقاد حازم جدًّا، ولكنها قابلة للتغير فيما يتعلَّق بموضوعها. فلا وجود لمجال قبلي، ولا لفكر يسبق سلفًا التجربة، ويكون خاصًّا بالفلسفة.

    لقد اعتبرت دائمًا مقالة كواين، ومعها مقالات قريبة منها نُشرت في الفترة نفسها من قبل نيلسون غودمان (Nelson Goodman)، ومورتن وايت (Morton White)، بمثابة إعلان عن نهاية التصوُّر التحليلي للفلسفة(9). إنَّ نقد التصوُّر التحليلي الذي طوَّره كواين لا يتضمَّن بالتأكيد أنَّ تصوُّر الدلالة نفسه مرفوض (مع أنَّه في مكان آخر قد أظهر نوعًا من الريبة تجاه هذا التصوُّر). كما لا يتضمَّن القول أيضًا أنَّ مهمَّة الفلسفة هي صوغ نظرية في الدلالة. إنَّ ما يؤسِّسه هو أنَّه ليس لنا الحق أن نُماهي الفلسفة بمثل هذا المشروع، وذلك بأن نستبعد المشكلات التي لا يمكن اختزالها أو ردُّها إلى التحليل الدلالي للمفاهيم، وأن نعتبرها ليست فلسفية (non philosophique). يجب الكف عن التساؤل إن كانت المشكلة مشكلة (فلسفيَّة حقّةً).

    ولا يجب علينا أن نقول حتى -مع أن مايكل دوميت (Michael Dummett) قد أثبت ذلك مؤخَّرًا باقتدار- أنَّ نظريَّة الدلالة تشكل الأساس، إن لم يكن الأساس الكلي في الفلسفة التحليليَّة(10). وبحسب دمت، فإن الميراث التحليلي قد وُلد من الفكرة المضادَّة للديكارتيَّة (anticartésienne)التي قال بها غوتلوب فريجة (Gotlib Frege)، والمتمثِّلة في استبدال الابستمولوجيا (épistémologie) بنظريَّة في الدلالة بوصفها قاعدة للفلسفة كلِّها، أو لكل أجزاء الفلسفة وأقسامها. وكان يكفيه أن يحدِّد خارجية أو برانية (extériorité) المعنى أو الدلالة بالنسبة للحالات النفسيَّة للفرد، ليس في عالم أفلاطونيٍّ، كما هو الحال عند فريجه نفسه، وإنَّما في مؤسَّسة اجتماعيَّة ألا وهي اللغة، كما فعل ذلك أسلافه (من التحليليِّين)، وذلك حتى تولد الفلسفة التحليليَّة بوصفها فلسفة أولى (philosophie premiere). وهنا يتلخَّص بالتدقيق الطموح التحليلي. ولكن الأمر يتعلَّق ببرنامج قد فقد مسوِّغه. فإذا كانت القضايا (التحليليَّة) في الواقع تصف دلالة المفاهيم، قضايا تعبِّر عن معارف العالم التي لنا الحقُّ في تعديلها والتي نستخدمها إذًا لإنجاز أبحاث تجريبية بشكل مباشر أكثر، فإنَّ الابستمولوجيا بعيدة عن أن تفقد مكانة مركزيَّة في صرح الفلسفة. وإنَّ مهمة الابستمولوجيا تكمن تحديدًا في أن تُفسِّر: لماذا بعض المعارف يجب معالجتها بوصفها أكثر صلابة من المعارف الأخرى؟ وإجمالًا، فإنَّه يجب الاعتراف إنَّ التصوُّر التحليلي للفلسفة (مثله في ذلك مثل أي تصوُّر للفلسفة) يقوم على عدد من الأطروحات الفلسفيَّة. يأتي في المحل الأول الأطروحة التي تقول إنَّه من الممكن أن نحدِّد دلالة المفاهيم الأساسيَّة للفكر من دون العودة أو استدعاء المعارف التجريبيَّة. ولقد تبيَّن أن هذه الأطروحة غير مسوَّغة.

    وفي رأيي، وبالنسبة لعملي الخاص، فإنَّ حجة كواين قد تأكَّدت أهمِّيتها بشكل خاص في مجال الأخلاق، حتى وإن كان كواين نفسه لم يبد أي اهتمام كبير بهذا المجال. ففي الحقبة التي كان فيه التصوُّر التحليلي للفلسفة مهيمنًا، فإنَّنا كنَّا نحدِّد الأخلاق بتحليل المفاهيم المفتاحيَّة مثل مفهوم الواجب (le devoir)، والخير (le bien). وكأي تحليل دلالي، فإنَّ هذا البحث المابعد-أخلاقي (meta-éthique) يجري بعيدًا، وفي استقلال عن كل القضايا التركيبيَّة، وبالتالي عن كل افتراض قد يبدو أخلاقيًّا قابلًا للمناقشة. يتَّجه مثل هذا المنظور بيسر إلى أن ينفي عن الأسئلة الأخلاقيَّة الجوهريَّة إمكانيَّة أن تتلقى إجابة عقلية (بما أنَّه لا وجود لعلم خاص يمكن للفلسفة أن تعالجه، ثم تستبعده)، اللَّهم إلّا إذا اعتقدنا، وهو أمر غير معقول كثيرا- ولكن هذه هي حالة ر.م. هار(R. M. Hare)، وهو أحد الوجوه المهمَّة جدًّا لهذا التيار الفكري- أن يكون تحليلًا دلاليًّا كهذا يكفي بذاته أن يسوغ نظريَّة خاصَّة (وهي النظريَّة النفعيَّة بحسب هار) تكون قادرة على حل المشكلات الجوهريَّة(11). ولقد غطَّى أيضا البرنامج المابعد-أخلاقي واقعة أنَّ الدلالة المشتركة بين المفاهيم الجوهرية في الأخلاق تفترض بشكل واسع مواقف ونظريَّات أخلاقيَّة عرضيَّة وسجاليَّة تاريخيًّا. إذًا، إنَّ التصوُّر التحليلي كانت له نتائج مؤسفة بالنسبة لفلسفة الأخلاق. وإنَّ التخلص منه، سواء بشكل ظاهر أو مضمر، قد أسهم منذ أكثر من عشرين عامًا في جعل هذا المجال أحد المجالات الأكثر حيويَّة في الفلسفة الأنجلو-أمريكيَّة(12). لقد مدَّدنا الحجة الفلسفية إلى أبعد ممَّا يمكن أن يُستخلص من التحليل الخالص للدلالات. وأصبحنا أكثر وعيًا بتاريخيَّة المفاهيم الأخلاقيَّة. والدراسات المجمَّعة في هذا المجلد، كانت مدفوعة بهذين الاهتمامين.

    وإذا ما تساءلنا عن أي تصوُّر فلسفي عام تؤدِّي إليه حجَّة كواين، فإنَّ الجواب يبدو من الوهلة الأولى بسيطًا. ولقد لاحظ ذلك كواين نفسه، لأنَّ الأمر يتعلَّق بالعودة إلى البراغماتيِّة الأمريكية (pragmatisme américain) عند شارل سندرس بيرس (C.S. Pierce)، ووليام جيمس (W. James)، وجون ديوي (J. Dewey). وإذا ما بسَّطنا الأمر قليلًا، فإنَّه يمكننا أن ننظر إلى موقف كواين باعتباره جهدًا من أجل البحث عن أفق خاصٍّ، وذلك من خلال تلقِّي أجنبي (ألماني بشكل أساسي -فريجه، فيتجنشتاين(Wittgenstein)، كارناب(Carnap)، ولكن بريطاني كذلك) والذي كان، وقبل كل شيء آخر، يتمثَّل في الفلسفة التحليليَّة(13). ولكن ما هذه البراغماتية تحديدًا، والتي يجب إثباتها، بلا شك، بطريقة جديدة وقادرة على استيعاب تجارب المرحلة التحليليَّة؟

    لقد أصبحت المسألة أكثر استعجالًا في السنوات الأخيرة، ودويُ صداها أبعد من المجال الأنجلو-أمريكي، مع ريتشارد رورتي (Richard Rorty) الذي دعا إلى ذرائعيَّة جديدة، انطلاقًا من تأمُّلات مماثلة. ومع ذلك، فإنَّه يبدو لي، أن ذرائعيَّته، كارثيَّة على أكثر من صعيد. قدَّم رورتي في كتابه: الفلسفة ومرآة الطبيعة (Philosophy and the Mirror of Nature) لوحة عن الطموح التحليلي العظيم في الغالب، وعن هدمه الذاتي المتدرِّج. ولكن تصوُّره لما بقيَّ من الفلسفة يجعل الكثيرين لا يرغبون فيها. لدينا انطباع وكأنَّه بالنسبة لـ: رورتي لا وجود لمشكلات فلسفيَّة. وأنَّه حيثما وُجدت مشكلة، فإنَّ ثمَّة دواعيَ خارجيَّة، يتوجَّب على الفكر أن يجيب عليها. وأمَّا المشكلة التي ابتدعناها فإنَّها ليست مشكلة حقيقيَّة. وعليه فإنَّ مفهوم المشكلة لا ينفصل عن مفهوم الحقيقة المستقلَّة عن إرادتنا. والحال، وبحسب رورتي، فإنَّ الفلسفة تُفهم قبل كل شيء، ليس بوصفها بحثًا (ابستمولوجيا) عن الحقيقة، وإنَّما بوصفها بحثا تأويليًّا (herméneutique) للصيَّغ والأشكال الجديدة المهمَّة والمنتجة للكلام(14). لا ينجم عن هذا التصوُّر أبدًا التخلِّي عن المثال التحليلي، وعن رفض التحديد الفلسفي قبليًّا. إنَّه بالأحرى، علامة على عدم القدرة عن التخلص من هذا التحديد، كما لو أن القبلي يقدِّم الأمل الوحيد لمعرفة فلسفيَّة حقيقيَّة. ثم إنَّه ليس هنالك ما هو أبعد عن الفكر البراغماتي من استعمال الثنائيَّات (dichotomie)(15) التي نشرها مؤخرًا رورتي والقائمة بين التضامن (solidarité) الذي يتبنَّاه، والموضوعيَّة (objectivité) التي يرفضها، وحيث يأمل الفكر أن يرتبط بحقيقة مستقلة، وغير إنسانيَّة(16). كما لو أنَّنا لا نشكِّل جزءًا من تقاليد في البحث الذي ننمِّي حظوظه في الكشف عن حقائق كونيَّة وموضوعيَّة! وكما لو أنّ بعض تقاليد الفكر لا تجعل من هذا هدفًا لها على وجه التحديد! (حول مناقشة هذا الموضوع، انظر الفصل المعنون: « أبعد من الدين والتنوير» في هذا الكتاب). لا ينكر البراغماتي الحقيقي أن ثمَّة مشكلات فلسفيَّة، ولا ينكر أن يكون هدفه هو البحث عن الحقيقة. إن ما ينكره هو أن تتميَّز الفلسفة بمنهج ومجال يسبق كل تجربة ممكنة، ويرسم لها الحدود.

    ثالثًا: رفض «القبلي» الفينومينولوجي

    وفي رأيي، فإنَّ أول نجاح للفلسفة التحليليَّة هو أنَّها قد أدَّت، رغمًا عنها، إلى هذه البراغماتيَّة. وأنَّ هذا النقد الذاتي يمكن أن يكون أفضل وسيلة للاعتراف بأنَّ أي تحديد للفلسفة بوصفها علمًا قبليًّا غير مقبول. ولأنَّني لا أعتقد أن التصور الفينومينولوجي للفلسفة، على الرغم من الملاحظات النقديَّة التي قدَّمها فلاسفة أمثال أرنست توغندهات (Ernst Tugendhat) وجاك دريدا (Jacques Derrida) (وكذلك النقد الذي قدَّمه هيدغر (Heidegger) بنفسه)، قد عرفت هدمًا داخليًّا ومؤكَّدًا كذلك(17)، وذلك ليس لأنَّ هذا التصور لا يزال مقنعًا. بل بالعكس، إنّ البرنامج الفينومينولوجي لم يبلغ الوضوح والدقَّة الضروريَّة في مقدِّماته، والتي تسمح بمعرفة الشروط التي نكون ملزمين بالتخلِّي عنها. وفي الواقع، فإنَّ الخطأ الأساسي للفينومينولوجيا هو الخطأ نفسه الذي يعيق التصوُّر التحليلي والمتمثِّل في الفكرة القائلة بوجود مجال من الحقائق القبليَّة، يحدِّد أشكال كل التجارب الممكنة، وأنَّ بحثه يعدُّ مهمَّة الفلسفة. ولكن النقد الأكثر نفاذًا، والأكثر إقناعًا حول هذا الخطأ المشترك نجده في النقد الذاتي للفلسفة التحليليَّة.

    لا أظن أن هذا قد حدث صدفة. فإذا كانت الفلسفة التحليليَّة قد تفوَّقت على الفينومينولوجيا في الوضوح، وكذلك في القدرة على النقد الذاتي، فإنَّ ذلك يرجع في جزء كبير إلى كونها قد جعلت اللغة، وليس الوعي، في مركز بحثها عن القبلي. ولا أريد أن أقول بهذا أن الفينومينولوجيا لم تعرف حقيقة أنَّ الوعي لا يوجد إلّا في استعمال اللغة، وذلك لأنَّني لست متأكِّدًا من أنَّ هذه الأطروحة صحيحة. ولا أريد أن أقول أيضًا إنَّ مطلب الوضوح يتضمَّن الفكرة العزيزة على الفكر التحليلي، والنابعة من التمييز الرئيسي بين القضايا التحليليَّة والتركيبيَّة، ومن أنَّ تحليل الدلالات اللسانيَّة تكوِّن المنهج المفضَّل في الفلسفة. إن الإسهام الأكبر للفلسفة التحليليَّة هنا لا يكمن (وذلك عكس ما نقوله غالبًا) في ما يعرف بـ: المنعطف اللغوي (linguistic turn) باعتباره كذلك(18)*. ما أريد قوله هو أنَّ المقاربة التحليليَّة، والاهتمام الخاص بالعبارة اللسانيَّة للظواهر ذات الصبغة الإشكالية فلسفيًّا، كانت وسيلة، وإن لم تكن وحدها، لتشجيع الاهتمام بالوضوح والذي لا وجود لما يعادله في الفينومينولوجيا. وزد على ذلك، فإنَّ اهتمامًا بمثل هذا الوضوح يبدو غير محتمل جدًّا.

    لننظر في ممارسة الفينومينولوجي. ففي محاولته لوصف البُنى الضروريَّة للوعي، فإنَّه يعتمد على الاستبطان (introspection). لذلك، فإنَّ رضاه يلعب دورًا كبيرا في تصديق تحليلاته. وليس ثمَّة سبب لأن يهتم كثيرًا إن كانت نتائجه تتفق مع الآراء العامَّة المقبولة. إنَّه يصف ما يرى، أو ما يستطيع أن يراه، وليس ما يفكِّر فيه الآخرون. إنَّ هدفه الرئيسي، وبلغة الفينومينولوجيا، هو بداهة حدسه. ويجري الفيلسوف التحليلي منهجه بطريقة مغايرة ومعارضة. ففي تحليله لـ(مفهوم) ما، فإنَّه يأخذ لذلك كمثال الطريقة أو الكيفيَّة التي يعبِّر بها المفهوم في ما نقوله عادة. إذًا، إن حدوسه الخاصَّة يجب أن تخضع لمراقبة المعايير العامَّة (critères publics)، ولاعتبارات لا تقلُّ ارتباطًا بالآخرين، وتستعمل بوصفها اختبارًا حقيقيًّا لتحليلاته. ولا يتعلَّق الأمر أبدًا بالخضوع المطلق للرأي المشترك (opinion commune). وبحسب الجملة المشهورة لـ: ج. ل. أوستين (J. L. Austin)، فإنّ «ما نقوله» ليس هو الكلمة الأخيرة، ولكنَّه بالتأكيد هو الكلمة الأولى(19). لا يحقُّ للفيلسوف أن يرفض الرأي المشترك من دون أن يختبره بدقة. إذًا، يجب أن يكون تحليله واضحًا، و أن يحدِّد ملامح الرأي المشترك التي يحاول اختبارها، والملامح التي يرفضها، وأن يكون بذلك منفتحًا على النقد، ومبدئيًّا لكل واحد له وسائل التحقُّق إن كان تحليله ناجحًا أو ليس ناجحًا. إنَّ هذه الميزة العموميَّة ليست ميزة أساسية في عمل الفينومينولوجي المصمَّم كعمل فردي منعزل. لا أريد بهذا أن أقول إن الفينومينولوجيا هي نوع من الأنانة (solipsisme)(20)*. وأنَّها غير قادر على التعرف على الواقع المستقل عن أشكال الوعي الأخرى، وأن تختبر دلالته. ولكن عندما يعالج الفينومينولوجي في الواقع مواضيع (thèmes) مثل موضوع البينذاتية (l’intersubjectivité) (وهو ما قام به هوسرل في التأمل الديكارتي الخامس المعروف)، فإنَّ مقاربته (approche)، بدلًا من أن تتموضع بالنسبة للرأي المشترك، فإنَّها تبقى مركَّزة على ما يُقدَّم للحدس.

    إن هذا الاعتراض على الممارسة الفينومينولوجية لا يؤدِّي إلى رفض كل ما يقوم به الفينومينولوجيون. بالعكس، إنَّ هوسرل، وهيدغر، وسارتر، وميرلو-بونتي -إذا اكتفيت بذكر أساتذة هذه الحركة بلا منازع- يعتبرون في رأيي من أكبر فلاسفة هذا القرن. ولقد غيَّروا بشكل نهائي الطريقة التي ننظر فيها إلى المشكلات التقليديَّة، وأدخلوا آفاقًا فلسفيَّة جديدة بعيدة عن أن تستنفذ. ولكن نجاحهم لا يعود إلى المنهج الفينومينولوجي، وإنَّما جاء على الرغم من هذا المنهج. على سبيل المثال، كان لـ «هوسرل» الفضل الأكبر في الجزء الأول من كتابه: بحوث منطقية (Recherches logiques) (1900)، وفي: الفلسفة بوصفها علمًا صارمًا (La philosophie comme science rigoureuse) (1911)، أن يُبيِّن أن التصور الطبيعي للعالم، مهما كانت الإجابة عليه، تتناقض، وأن الحقائق الفيزيائيَّة والنفسانيَّة ليست هي كل شيء، وأنَّه يجب أن تكون هنالك أيضًا حقائق معياريَّة، متعلِّقة بالطريقة التي يجب أن نفكِّر بها أو نعمل بها. (من أجل معرفة مثل هذه الحجج، انظر الفصل الخاص بـ: «في المعرفة الأخلاقيَّة» في هذا الكتاب. بالرغم من أنَّ هذه الأطروحة مستقلَّة عن منهجه الخاص، وأكثر من هذا، فإنَّ جعل حقائق معياريَّة موضوعًا خاصًّا للفلسفة، وخاصَّة تصميمها على أنَّها محايثة حدسيًّا للوعي، وهو ما يشترطه الاختزال الفينومينولوجي (la réduction phénoménologique)، بوصفه المنهج الخاص بالفلسفة، فإنَّ هوسرل يخاطر كثيرًا بخلط من جديد الحقائق المعياريَّة والحقائق النفسانيَّة. خطر لم يتمكَّن من الانفلات منه إلّا بواسطة تمييز صعب التحديد بين وعي «خالص (pure)» (المجال المعياري) وبين الوعي«الإمبريقي (empirique)» أو النفساني. وبدلًا من الحديث الغامض عن وعي غير نفسي، فإنَّه يجب الاعتراف بأنَّ الحقائق المعياريَّة هي كذلك مستقلة عن الوعي الذي يمكن أن يكتشفها أكثر من الأنواع الأخرى من الحقائق. وقبل كل شيء، فإنَّ هوسرل لم يجعل من محايثة الوعي الفضاء الفلسفي إلّا بدافع الاهتمام بضمان اليقين المطلق القبلي للنتائج الفلسفيَّة. وعليه، فإنَّ البحث الفينومينولوجي للقبلي قد تعرض للخيَّانة، أو في أحسن الأحوال، فإنَّه يجعل النقد القوي للنزعة الطبيعيَّة نقدًا محجوبًا وغامضًا.

    رابعًا: أخلاق للفكر

    ينفصل الاهتمام بالوضوح الذي أتحدَّث عنه، عن المذهب التحليلي في القبلي. وحتى عندما نعترف أنَّ تحليل مفهوم ما لا يهتم بالمعتقدات قبليًّا، ومن أنَّ التحليل يختبر في الحقيقة بنية ونطاق المعتقدات، ولكنَّها جامدة نسبيًّا، فإنَّه لا يقل صحة أو صوابًا إلّا بقيَّاسه أو مقارنته مع معتقدات مشتركة، وباقتراح نتائج محايثة ومنفتحة على النقد. ولا يجب أيضًا أن نفترض أنَّ مثل هذه الاعتقادات المشتركة يتقدَّمها حسٌّ مشترك (sens commun) ثابت، وخاصَّة عندما لا تكون عبارة عن معتقدات تافهة كلِّيَّة، ولكن معتقدات تقود التحليل في وجهة مهمَّة، ومن أنَّ الآراء المشتركة التي نستدعيها هي في أغلب الاحتمالات التاريخية عرضيَّة، وقد تكون مشكَّلة من قبل فلاسفة سابقين. إنَّ الوضوح يكون مضمونًا كلَّما جعلناه منفتحًا على النقد، وكلَّما عرضنا ما هو مندمج فيه وما هو مستبعد فيه من المعتقدات المشتركة.

    و لكن وحتى إذا ثبت أنَّ مطلب الوضوح هذا مستقلٌّ عن الأطروحة المركزيَّة للفلسفة التحليليَّة، فإنَّ أكبر إنجاز لهذه الحركة هو أنَّها قد شجَّعته. واعتبر أنَّ نجاحها الثاني يتمثَّل في هذا الإسهام الرئيسي في أخلاق الفكر (éthique de la pensée) في الفلسفة. ولا يجب أن تفاجئنا فكرة أخلاق الفكر، ذلك لأنَّه لا يوجد فقط معايير عمليَّة متعلِّقة بكيف يجب أن نعمل، وإنَّما هنالك معايير معرفية متعلِّقة بكيف يجب أن نفكِّر. وفي المحصلة فإنَّ ثمَّة فضائل فكريَّة مثلما إنَّ ثمة فضائل أخلاقيَّة، بما أنَّه يجب أن نعمل دائمًا باتباع أفضل المعارف، وهو ما يجعلنا نذهب إلى القول إن أخلاق الفكر تشكِّل جوهر وقلب الأخلاق عامَّة، ومثلما عبَّر عن ذلك باسكال (Pascal)،فإنَّ كل واجبنا هو أن نفكِّر كما يجب. والحال فإنَّ الفضائل الفكريَّة لا تقتضي إتقان مناهج خاصَّة، وإنَّما، وبشكل عام، في أن نكون على استعداد لأن نكون عقلاء ومنطقيِّين (وهو ما يقود اختيار مثل هذه المناهج). وممَّا لا شكّ فيه، فإنَّ فكرة أن نكون عقلاء ومنطقيين يمكنها أن تكون مثار جدل وخلاف، ولكنَّها، ومن وجهة نظري، فأنْ نكون عقلاء ومنطقيِّين هو أن نُظهر بشكل خاص شكَّا صارمًا تجاه الجمل والعبارات المنمَّقة، وتجاه كل الحيَّل التي تؤدِّي بنا إلى أن نفترض أنَّه من السهل التفكير. إنَّ هذه الحيل قد سمحت لها الفلسفة بالحركة والتنقل الحر. ويكمن في قلب ما اعتبره أخلاقًا فكريَّة، في الفلسفة مثلما هو الحال في بقية المجالات، هو الأمانة الفكريَّة التي تعترف باحتماليَّة الخطأ، وتحمُّله من خلال البحث عن الوضوح. وكما يقول فوفنارغ (Vauvenargues): «الوضوح هو النيَّة الحسنة للفلاسفة»(21).

    وبما أنَّ كلمة (الوضوح) قد تعني أشياء كثيرة، فإنَّه يجب أن نسجِّل شكل الوضوح الذي شجَّعته من حسن الحظ الفلسفة التحليليَّة والذي أُسنده إلى أخلاق الفكر. فلا يتعلَّق الأمر بالوضوح كما ذهب إليه ديكارت في مفهومه للأفكار «الواضحة والمتميزة». ولا يعادل الوضوح حيويَّة تصوُّر في حضوره في الفكر (والذي كثيرًا ما يكون ذاتيًّا، وغالبًا ما يكون مُضلِّلًا). وليس الوضوح أيضا مثل التدقيق (precision). فإذا فهمنا من تدقيق مفهوم ما، ما ذهب إليه فريجه ألَا وهو أن يكون لدينا تعريف «يحدِّد من غير لبس لكل موضوع إن كان يقع أو لا يقع تحت المفهوم»، فإنَّ التدقيق لا يمكن بلوغه بلا شك؛ لأنَّ كل مفهوم، سواء في حالة الحياة العاديَّة أو في حالة العلوم، يتضمَّن ملامح واسعة، ولأنَّه لا وجود لقاعدة تحدِّد شروطها الذاتيَّة للتطبيق، مثل القاعدة التي تستعمل لتعيين أو تحديد مفهوم ما، وإن كان يمكن لقواعد فرعية أن تكمل ذلك، ولكن تطبيق هذه القواعد يجب في النهاية أن يتأسَّس ليس على قواعد، وإنَّما على نوع من المهارة. وأكثر من هذا فإنَّ البحث في التدقيق من أجل التدقيق، يمكنه أن يهدم الوضوح. وإن الجهد المبذول من أجل استبعاد كلّ لبس وغموض ممكن يميل، في زحمة تعدُّد التدقيق، إلى تضييع بعض الفروق الأساسيَّة لحل المشكلة المطروحة. إنَّ الوضوح الذي يجب البحث عنه هو، في نهاية التحليل، ذلك الوضوح الذي تتطلَّبه طبيعة المشكلة التي طرحناها. ولهذا السبب، فإنَّني أفضِّل أن أربط مطلب الوضوح بإرادة جعل الفكر قابلًا للنقد. ويكون الموقف الفلسفي واضحًا كلَّما حدَّدنا الشروط التي من خلالها نتخلَّى عنه. وتكون هذه المهمة أكثر قابليَّة للتحقيق عندمانُموضع موقفنا تجاه الآراء المشتركة حول الموضوع. وعليه فإنَّ نوعًا من التضامن (solidarité)، كما سنرى ذلك، سيكون أساسيًّا بالنسبة للوضوح.

    ترتبط كل أخلاق فكريَّة بافتراضات متعلِّقة بطبيعة الفكر. والاهتمام بالوضوح ليس أمرًا استثنائيًّا. إنَّه يبدي نوعًا من النزعة الشكيَّة (scepticisme) تجاه المفكِّر المنعزل، الذي يعتبر آراء معاصريه مجرَّد أحكام مسبقة، يجب عليه أن يتجاوزها في نظرته الخاصَّة لحقيقة لا تصدَّق. كما يعبِّر أيضا عن وعي حادٍّ لواقعة أنَّ من السهل الوقوع في الخطأ، وأنَّ ما هو رائع أو مذهل ليس بالضرورة حقيقي. إنَّ هذا المنظور لا تتقاسمه كل تصوُّرات الفلسفة. لقد كان بلا شك غائبًا عن الفلسفات التي سادت في ألمانيا وفرنسا منذ قرن. إنَّ عزلة الفيلسوف تجاه معاصريه، قد شجعته الفينومينولوجيا، وتفاقم مع الحركات اللاَّحقة عنها، بما في ذلك تلك التي كانت في بعض الأحيان مناهضة للفينومينولوجيا مثل الفكر الأنطولوجي لـ: هيدغر، والنظرية النقديَّة لمدرسة فرانكفورت قبل هابرماس، والفكر النيتشوي الجديد لـ: ميشيل فوكو (Michel Foucault) وجاك دريدا. ولقد ساد في هذه الاتجاهات التصوُّر الطلائعي للفلسفة المتمثِّل في أن المهمَّ هو الاختلاف مع كل ما يعتبر فكرًا عاديًّا(22). وغالبًا ما يبدي مثل هؤلاء الفلاسفة احتقارًا حقيقيًّا للآراء المشتركة، ويتحدَّثون وكأن الوقوع في الخطأ سهل بالنسبة للآخرين (لأن الآخرين فريسة سهلة لـ»نسيان الوجود»، و»الإيديولوجيا»، و»الممارسات الانضباطيَّة» و»فكر الحضور»)(23)، ولكن ليس بالنسبة لهم هم أنفسهم، فإنَّهم لا يبذلون أي جهد لتعيين الشروط أو بطلان تشخيصاتهم عن الآخرين، ونظرتهم الخاصة التي يمكن تحديدها. إنَّهم يستحضرون بكل سرور صعوبة التفكير، ولكن عادة ما يشيرون بذلك، ليس إلى إمكانيَّة أن

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1