Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

علم دلالة القرآن
علم دلالة القرآن
علم دلالة القرآن
Ebook401 pages3 hours

علم دلالة القرآن

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

الكتاب يتناول أهم ما يمكن أن يشغل الباحث في مجال الدراسات القرآنية خاصة وفي العلوم الإنسانية عامة، وهي العناية بجهات القراءة والتأويل والتجديد في منهجيات التعامل مع القرآن الكريم، حيث تزداد الأهمية حدة إذا انصرف الجهد صوب المفردات وعبرها إلى المفاهيم القرآنية الجامعة، تحليلا وتركيبا وتقعيدا للاصطلاحي منها، حيث يتطلب الأمر عدة علمية كبيرة؛ من علوم الآلة العربية، وعلم الأصول والمقاصد والفقه والكلام على مستوى التراث الإسلامي الزاخر..الخ، وتطلّبه عدة موازية على مستوى المناهج والمعارف المرتبطة بالعلوم الإنسانية المعاصرة. ولعل النزر القليل من المشاريع حول التأويل المبدع والتجديدي داخل منظومة الدراسات القرآنية، إلى جانب الدراسات النقدية التي وجهت للمدرسة التراثية في التفسير وعلوم القرآن عامة، هو ما دفع الباحث للانشغال بمبحث المفردات القرآنية، والاهتمام به من حيث إمكانات الإسهام المعقودة عليه في إعادة التأسيس لعلم يختص بفهم وتأويل القرآن ومعارفه وعلومه، سيكون لا محالة من العلوم الإسلامية المركزية، عبر قابليته الكبيرة للدمج بالعديد من العلوم المعاصرة واستثمارها وفق احترام ابستيمي لتداولياتها الثقافية والمعرفية.

Languageالعربية
Publishertevoi
Release dateAug 21, 2022
ISBN9789938230529
علم دلالة القرآن

Related to علم دلالة القرآن

Related ebooks

Related categories

Reviews for علم دلالة القرآن

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    علم دلالة القرآن - عبد الله هداري

    علم دلالة القرآن

    البنية المعرفية لنظام المفاهيم

    الدكتور عبدالله هداري

    تأليف

    د. عبد اللّه هداري

    مدير النشر عماد العزّالي

    التصميم ناصر بن ناصر

    الترقيم الدولي للكتاب 978-9938-23-052-9

    جميع الحقوق محفوظة

    الطبعة الأولى

    1442 هـ / 2021 م

    العنوان: 5 شارع شطرانة 2073 برج الوزير أريانة - الجمهورية التونسية

    الهاتف : 58563568 216

    الموقع الإلكتروني : www.lecteurtunisien.com

    البـريد الإلكتروني : medi.publishers@gnet.tn

    إهداء

    إلى روح والدي رحمه الله الذي أحب العلم والعلماء ومجالسهم.

    إلى أمي التي صبرت وصابرت وافرغتني من كل مشغل قد يعوق اكتمال هذا العمل.

    إلى أفراد عائلتي كبيرة وصغيرة، وإلى روح أخي الفاضل محمّد هداري رحمه الله.

    إلى أستاذي الفاضل الدكتور سعيد شبار قبس النور الذي نتتبع خيط مساره.

    إلى كل رفقاء المعرفة والفكر وكل من أسهم في إخراج هذا العمل إلى الوجود.

    وإلى روح ابراهيم أمغار رحمه الله.

    المقدمة

    في إشكالية البحث العامة

    من أهم ما يمكن أن يشغل الباحث في مجال الدراسات القرآنية خاصة وفي العلوم الإنسانية عامة، العناية بجهات القراءة والتأويل والتجديد في منهجيات التعامل مع القرآن الكريم، وتزداد الأهمية حدة إذا انصرف الجهد صوب المفردات وعبرها إلى المفاهيم القرآنية الجامعة، تحليلا وتركيبا وتقعيدا للاصطلاحي منها، حيث يتطلب الأمر عدة علمية كبيرة؛ من علوم الآلة العربية، وعلم الأصول والمقاصد والفقه والكلام على مستوى التراث الإسلامي الزاخر..الخ، وتطلّبه عدة موازية على مستوى المناهج والمعارف المرتبطة بالعلوم الإنسانية المعاصرة.

    ليس موضوع المفردات القرآنية خلوا من سابق اشتغال علمي تراثي كما هو معلوم، فهو حقل ثري لا يزال يحبل بالكثير من المميزات والخصائص في الدراسة والتحليل اللغويين، وعلى مستوى اللغة واللسان العربي. ويحبل بمكنونات معرفية جمة يمكن تثويرها من داخل الوحي وعبر التفاعل المباشر معه.

    وقد جسد العلماء المسلمون هذه العناية بمفردات الوحي عبر إنتاجات معرفية مختلفة، من مثل كتب الغريب والمفردات أو معاني القرآن، والاشتقاق اللغوي، والمعاجم، والنحو وكتب الأصوليين، وعلماء الكلام..الخ. حيث تتوحد هذه التركة العلمية رغم تنوع مشاربها ومناهجها على مقصد جامع هو ضرورة بذل الوسع في التحقق والانفتاح في فهم الوحي وتفسيره وتأويله، لذا، سلكوا فيه طرقا قددا، يحدوهم شاغل استجلاب المعنى القرآني والاندماج معه.

    غير أن واقع العلاقة التفاعلية مع الوحي، أخذ في الانكماش والضمور لصالح نزعات التقليد المعاكسة لروح هذا التراث الفكري المبدع، فأوصدت أبواب التجديد والاجتهاد، وارتهن المسلمون لوقع التكرار والاقتيات على جهود فترة زمنية مباركة، دون أن يجعل من الوصل المنهجي مع روح هذا التراث العلمي الثري عنوانها. فتحول التفسير إلى نص مواز وليس محاولة قراءة وتأويل متلبسة بروح مسلميها في فترة من فتراتهم التاريخية حسب سقف علومهم ومعارفهم الممكنة آنذاك، كما استقر الرأي على الاهتمام بتاريخ هذه العلوم أكثر من العلوم نفسها، ما جعلنا في دوران دائم حول ما ظللنا نلوكه من معارف دون اهتمام باستئناف النظر والبناء المعرفي.

    لا ننفي رغم كل ما ذكر توارد العديد من المحاولات بين الفينة والأخرى، لاستئناف النظر والتجديد فهما وتفسيرا وتحليلا وبيانا، عبر مشاريع معرفية تقوم من حيث المآل على التحقق والتدقيق والتجديد في تأويل الوحي وفهمه، وهي مشاريع في جملتها تروم تأكيد المشروعية الحقة لكل أمة في التفاعل المباشر مع الوحي فهما وتنزيلا1.

    ولعل هذا النزر القليل من المشاريع المهجوسة بروح التأويل المبدع والتجديدي داخل منظومة الدراسات القرآنية، إلى جانب الدراسات النقدية التي وجهت للمدرسة التراثية في التفسير وعلوم القرآن عامة، هو ما دفع بنا للانشغال بمبحث المفردات القرآنية، والاهتمام به من حيث إمكانات الإسهام المعقودة عليه في إعادة التأسيس لعلم يختص بفهم وتأويل القرآن ومعارفه وعلومه، سيكون لا محالة من العلوم الإسلامية المركزية، عبر قابليته الكبيرة للدمج بالعديد من العلوم المعاصرة واستثمارها وفق احترام ابستيمي لتداولياتها الثقافية والمعرفية.

    في منهجية البحث

    يقتضي الالتزام بمنهجية علمية دقيقة جرد الأساسات المفهومية وتعريفها، أو وضع حدود مصطلحية لها، حتى يستيبن الباحث سبيل الإجرائية والتنزيل بوضوح يبلغ نسبا من الكفاية العلمية المحترمة.

    ولأن هذا البحث يروم تفعيل آلية علم الدلالة النظرية في تحليل بنية القرآن الدلالية ونظامها، تحديدا، حسب تصور الباحث الياباني أيزوتسو توشيهيكو لعلم الدلالة، وحسب المعاني التي حمّلها إياه، مما شكل على المجمل مفهوما لهذا العلم يختص بهذا الأخير؛ جعل منه أساس تحليله الدلالي وأساس الرؤية التي تشكل نظرة القرآن للعالم. فقد كان ولابد أن تحدد المنهجية المقصودة فيما استعرناه من الباحث في كتاباته، وأن تحدد كذلك الحديات المعرفية الخاصة بكل مفهوم؛ حيث تتقاطع المفاهيم المقترحة منهجيا فيما بينها، مشكلة تكاملا معرفيا، يقتضي أوليا تبيين وجوه التقاطع والاختلاف، ويقتضي ثانيا تجسير إمكانات إعمالها في فهم البنية الدلالية لنظام المفاهيم القرآني.

    أما ما يخص علم الدلالة حسب رؤية الباحث التي استعرناها، فقد ارتضينا تركيبها وفق تحديده الإجرائي في دقته، ودون أن يعني ذلك الالتزام التام بجميع نهاياته المعرفية الفلسفية والتقعيدية أيضا، لهذا تمت مراعاة الالتزام بوصف منهج هذا الأخير وتتبع جذوره المعرفية، وتركيب كل ذلك في خرائطية معرفية نقترحها نموذجا للتحليل.

    لذا، سيلاحظ في تحديدنا للمفاهيم أو المقصود بعلم الدلالة، أو علم دلالة القرآن والرؤية للعالم، ذلك التراكب المعرفي في التحليل والوصف، المرتشح من حقول معرفية مختلفة سواء لسانيات أو انتروبولوجيا أو فلسفة أو تاريخ..الخ، حتى نبلغ بالمنهج المقترح في القراءة غاياته الممكنة.

    لتجنب مثالب انعدام الكفاية المعرفية والمنهجية، عمدنا إلى الاستفادة مما قدمته الدراسات في الجانب اللساني، وتحديدا في البحث الدلالي، لهذا، كانت كتب كل من أحمد العلوي، ومحمد غاليم، وأبوبكر العزاوي، ومحمد مفتاح، ومحمد الأوراغي، وعبدالقادر الفاسي الفهري، ومصطفى غلفان، وعبدالمجيد جحفة، ذات أثر منهجي ومعرفي بالغ في ترشيد اشتغالنا الدلالي، وفهم مسالك هذا التخصص العلمي الدقيق والحديث في آن، دون أن نغفل أسماء أخرى لم تحضر في الهوامش المرتبطة بالبحث، لكنها مما يعتبر ثاويا عبر التحاليل اللغوية المقدمة، ونخص منهم أعمال أحمد المتوكل في النحو الوظيفي، وإدريس السغروشني في الصواتيات. إلى جانب الاعتماد على مشاريع باحثين آخرين يكملون هذا الجهد اللغوي البارز من أمثال عبدالقادر المهيري، وحمادي صمود، وعبدالله صولة، وعبدالسلام المسدي، وألفة يوسف.. الخ.

    رغم كل ما ذكر، تبقى المهمة عسيرة حسب وصف الباحث إيزوتسو، تستحق المحاولة بمنطق يقبل القيام بعملية كاملة الانفتاح على التجربة والخطأ، دون توجس من النتائج، وإنما في انفتاح على كل الأمثلة المتوفرة، بتقليب النماذج على أوجه عديدة مفترضة، إلى حين اختبار المنهجية المتبعة والنتائج المحصلة، والوصول لحلول أنسب تتوفر على قدر من المعقولية المقنعة2.

    في موضوعات البحث

    توزعت فصول هذا البحث إلى ستة، اختص الأول منها بتوضيح المداخل النظرية الضرورية، حيث تم فيها تبيين المقصود من المفاهيم المركزية المؤطرة للبحث (المفهوم، البنية، النظام)، وتبيين المقصود بتكامل المعرفة الإسلامية، وختم بمجموعة من الخلاصات المعرفية التي ستستند إليها باقي خلاصات الفصول والأبواب الأخرى لتتكامل وتتعاضد.

    أما الفصل الثاني فخصص لتعريف علم الدلالة، وتحديد العديد من المفاهيم والمنهجيات العلمية المؤطرة له، وقد تتبعنا فيه أصول هذه المدرسة اللسانية قصد استيفاء المنهج الذي نعمله غايته الكفائية، ونكون بذلك على بينة مما وجه إليه من نقود تقوم اعوجاجه المنهجي والمعرفي. وضمّنا كذلك التعريف بمنهجية الباحث الياباني إيزوتسو توشيهيكو؛ الذي رسم لنفسه منهجا خاصا به داخل تفرعات علم الدلالة الكثيرة، فكان لزاما علينا توضيح تصوره لهذا العلم وكيفيات تنزيله له على القرآن، باعتبارنا قد استفدنا منه في ذلك التصور والتنزيل، بل والتزمنا بمنهجيته لما نعتقده فيها من كفاية علمية ومنهجية بالغة، وكان الختام بخلاصات لهذا الفصل كسابقه نؤسس بها لما سيأتي.

    أما بقية الفصول، فيمكن عدها مباحث تنزيلية لمنهج علم الدلالة، وتفعيلا ممكنا له في قراءة القرآن الكريم، وفهم رؤيته للعالم، حيث تناولنا في الفصل الثالث على وجه الدقة مفهوم الله والتمثلات التي شكلها حوله الأعرابي/العربي، والمغايرة التي أحدثها القرآن حول هذا التمثل قرآنيا، وتم أيضا تناول متعلقات هذا المفهوم ضمن حقله الدلالي المقترح، من قبيل مفردة الرب و الحق، وختم الفصل بخلاصات تركيبية.

    أما الفصل الرابع، فتناولنا فيه مفهوم الإنسان قرآنيا، وعلاقته بالرؤية القرآنية للعالم، إلى جانب التفصيل في التمثلات التي كانت للأعرابي/العربي حول الإنسان، والمغايرة التي أحدثها القرآن داخل ذلك التمثل، ثم الرؤية الخاصة بالقرآن حول الإنسان، وكان لزاما علينا من الناحية المنهجية أن نعرج على العديد من وجوه الاشتغال الانثروبولجي اللساني لإستيعاب التمثل العربي للإنسان؛ في علاقته بالتجارة في شبه الجزيرة العربية، وعلاقته بالثقافة والدين وبنية العلوم كما في نموذج مفهوم المثل والعلم ثم مفهومي عالمي الغيب والشهادة. ومن ثم خلصنا إلى بعض النتائج التركيبية حول الصورة القرآنية المقدمة حول الإنسان.

    أما الفصل الخامس، فكان استمرارا في التنزيل وتفعيل علم الدلالة، حيث تم فيه التركيب بين الخلاصات المتحصلة حول مفهوم الله ومفهوم الإنسان، والتركيب الكلي لها من داخل الرؤية القرآنية للعالم، قصد تحديد أوجه العلاقة المفترضة بينهما، وقد ركزنا فيه على العلاقة الأخلاقية بين الطرفين المشكلين لأس المفاهيم المركزية قرآنيا (الله - الإنسان) وأس الرؤية القرآنية للعالم، باعتبارها محددا قيميا لشكل التعاقد المفترض بين الله والإنسان داخل الرؤية القرآنية للعالم.

    كما تم تناول طبيعة الخلق الجاهلي العربي وعلاقته بالبنية الأخلاقية قرآنيا، وتحليل المقصود ببنية ثنائية الأخلاق البسيطة - التي أوعز إليها إيزوتسو - داخل القرآن (إيجابي/سلبي) والقصدية المتأتية منها، وفي ختام الفصل تم تقديم خلاصات تركيبية.

    أما الفصل السادس فتناولنا فيه مجموعة من المفاهيم الأخلاقية المركزية، دون التقرير بانحصارها فيما ذكر، باعتبارها نماذج للدراسة فحسب، من مثل مفهوم النفاق والشكر والتوبة، وتم تبيين أوجه التكاملية الأخلاقية الحاصل بينها داخل الرؤية القرآنية للعالم. وختم الفصل بخلاصات تكريبية كسابقيه.

    وعلى الجملة، كان ختام الكتاب خلاصة تركّبت فيها مفاصله المعرفية، ومراميه العلمية التي تم التوصل إليها.

    صعوبات البحث

    واجه البحث صعوبات ذات بعدين، تصوري ومنهجي؛ تختص كلاهما على وجه التحديد بعلم الدلالة والمعرفة اللغوية/اللسانية، حيث لابد من تحقيق كفاية معرفية بعلم الدلالة ومدارسه وتاريخه وتطوراته، وهو مجال علمي جد دقيق يحتاج تفرغا ووسعا معرفيا وزمنيا كبيرا، أما البعد الثاني (المنهجي)، فواجهتنا فيه صعوبة التنزيل لمتحصلات الاشتغال النظري، فكانت الأطروحة التي اعتمدناها لإيزوتسو وفق تصوره الخاص، مدللا للعقبات الممكن توقعها أثناء عملية التنزيل، ورغم هذه المعونة المنهجية، فقد بقي مجال التجريب مفتوحا علـى كـل الامكانـات من النجـاح والإخفاق.

    وقبل أن نختم نود التصريح بأننا قد ألزمنا أنفسنا من الناحية العلمية عند تتبع المفاهم قرآنيا، أن نتقصى عنها داخل القرآن في كل المواطن التي ذكرت فيها، ونقوم بجردها أولا، ثم نقوم بتحديد دلالتها القرآنية قبل المعجمية من خلال محاولتنا فهم سياق السورة كاملة، لهذا لم نتجرأ قط على أي مفردة قبل أن نجول في سياق السورة كاملة من أولها إلى آخرها، وهو السياق الأصغر، وبعد استجماع الدلالات الخاصة بالمفردات داخل السياقات القرآنية (السور)، قمنا بتركيبها داخل الصورة الأكبر وهي السياق القرآني الجامع والرابط بين جميع السور. ولذا فعند تقديم دلالة ما، لمفردة ما، داخل هذا البحث، فإنها عزيزي القارئ خلاصة لهذا التجوال الصعب الذي جعلنا نقرأ المصحف عشرات المرات، ونتتبع الآي والمفردات فيه بتؤدة وروية. ثم في المرحلة المنهجية الثانية، كان لابد من طواف بالمعاجم اللغوية ثم وغيرها من المصادر الموثّقة المتنوعة، لعلّ ذلك يساعدنا على الترجيح بين الدلالات التي استجمعناها قبلا.

    ولا يفوتنا كذلك أن نلفت انتباه القارئ الكريم بأن معاودة الاشتغال على بعض من المفاهيم التي سبق لإيزوتسو الاشتغال عليها، ليس من باب التكرار أو الاجترار، أو قلة الحيلة أمام منتج هذا الرجل، وإنما إيمانا معرفيا منا بأهمية المراكمة العلمية، إلى جانب الرغبة في تقليب وافتحاص مخرجات تحاليله الدلالية على أوجه عديدة قد تمنحها آفاقا أخرى، أو تضعها في خدمة أهداف أكبر من التي قد صاغها صاحبنا لها. دون أن نغمط جهدنا حقه في الحرص على المراجعة والاجتهاد والنظر في القرآن بعين تبتغي تأويل النص واكتشاف مكنوناته المعرفية الجمة، ولعل عين القارئ الحصيف خير حكم على ما عملنا على دمجه داخل هذا العمل البحثي المتواضع دون توجس من النقد والاختلاف، واستكمال عملية المراكمة العلمية التي ينبغي لحقل الدراسات القرآنية العمل عليها، وتحويلها تقليدا علميا دارجا، يمكّننا من الاستفادة في نهاية المطاف من الإنتاج المعرفي الهام الذي ميز حقل الدراسات القرآنية في عالمنا المعاصر.

    نسأله سبحانه أن يثيب على صادق النية في هذا العمل، ويجعل ثمرته فاتحة إضافية لتجديد العلوم الإسلامية فيما تعلق منها بعلم التفسير والدراسات القرآنية المعاصرة، إنه القادر والمجيب.

    والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات

    الصويرة/ دجنبر م.

    1 تغاضينا في هذه المقدمة عن ذكر أي من هذه المشاريع، حتى لا نستفيض في نقاشها، أو نكون بذكر بعضها دون البعض الآخر، ننحاز لجهة من جهات القراءة أو التأويل، أو مدرسة من المدارس، ونعتقد أن البحث كفيل بأن يبين سقف هذا الكتاب وافقه.

    2 توشيهيكو إيزوتسو. المفهومات الاخلاقية-الدينية في القرآن. ت، عيسى علي العاكوب. ط1. دار الملتقى، حلب، سوريا. 2008م. ص63.

    الفصل الأوّل

    علم الدلالة القرآني، مفاهيم مركزية

    وأسس نظرية

    - أولا. المفاهيم المرجعية والمنهجية

    1. المفهوم

    يعلل الباحث بناصر البعزاتي الاختلاف الحاصل بين البناءات المفهومية وما تبديه من احتمال احتوائها لمفارقات بقوله: أن جل المضامين التي تحتويها، انتقلت إليها من الإرث السابق، بينما تعيد تركيب عناصرها بشكل يجعل منها بناء جديدا. ولذا، فكل نسق مفهومي قديم وجديد في نفس الوقت، لأنه يندرج في استمرارية مع الماضي، ويقدم تأليفا فكريا منفصلا عن الماضي، أو يقدم اقتراحات أولية لتأليف جديد على الأقل. لهذا نجد في كل الأنساق، كانت عقدية أو فلسفية أو علمية، عناصر تقليدية وأخرى تجديدية"1.

    ولهذا فليس غريبا أن توصف محاولة التحديد الدقيق للمفهوم بالمعاكسة لطبيعة تكون المفهوم وانبثاقه؛ فهو رغم الصبغة الحادة في التوصيف، ورغم المعيرة الصارمة التي حاولت المنطقية الوضعية إلباسه إياها، إلى جانب اختزالها دوره في إلباس المفردات اللغوية لباسا دلاليا محايدا مترجما للوقائع المادية2 بعيدا عن تدخل عوامل خارجية عنه. بقي رغم كل ذلك وفيا لخصوصيته التي تأبى الانعزال كما هو متصور، إذ يعتبر المفهوم جزءا من النشاط الذي يتداول فيه، بل إنه يندرج ضمن سلسلة من الممارسات المفهومية التي تنبني ضمن حلقة ذات سيرورة أوسع، فلا وجود لمفهوم مفرد، و إنما يتوقف كل مفهوم على آخر؛ وتكون المفاهيم أنساقا مترابطة قليلا أو كثيرا، متفاعلة في سياق أنسجة ثقافية أوسع3.

    وعليه يمكننا القول إن المفهوم حين يمارس سلطة على متلقيه والمتبنين له، فإنه بدوره يقع ضمن دائرة ثقافية ومعرفية واجتماعية تشكل بدورها سلطة تفوقه، دائرة تعود أصولها لبدايات لا يمكن التكهن بها4. إذن، فمفاهيمنا ليست كما نعتقد ذات تحدد خالص صرف حسب المجال الذي تتداول فيه، بل تتقاطع ومجالات كثيرة، كما أن توظيفها قد يعرف تقاطعات هو الآخر. ولهذا فالمعيارية التي تستولي على كيان المفاهيم تلعب دورا أساسيا في تحديد دوائر التعقل، وتعيين الممكن من المستحيل، وتحكمها في اختيارات المتداولين5، بعبارة أخرى فإن المفاهيم لا تعكس وقائع ذات وجود موضوعي مطلق مستقل تمام الاستقلال عن الفهمنة6.

    المفهمة أو مفهمة العالم هذه، تحدد تصورنا للعالم وأشكال هذه الصورنة، كما ترسم حدود قراءتنا، إن لم نقل تشدنا دوما للمواقف التقليدية، أو تعضد الإتجاهات المألوفة عندنا، ومن ثم، فالوعي بسلطة المفهوم وطبيعة تشكله وبنائه، تسهم لا محالة في تشكل رؤية أكثر تركيبية وانفتاحا في توسيع دائرة الأفق المعرفي للمفهوم، ما يعني توسع وانفتاح تصوراتنا للعالم على أسئلة وانشغالات وتصورات جديدة، في اشتراك بين مجالات متعددة ومتقاطعة فيما بينها، إلى جانب الانتحاء نحو تشكيل خصوصية لكل مجال.

    لا يعني الفهم العلمي لبنية ما، إلغاء الوعي العفوي لهذه البنية، إذ يمكننا تعديل دوره وآثاره وعده من مركبات البنية ذاتها، لكن دون إلغائه7، إن كان الالغاء متمكنا منه في الأصل، وإلا فإنه ينسحب في أشكال قد نصورها في أعلى مراتب العلمية أو الفوضوية، وهي تحمل في دواخلها منطقها ورؤاها وتصوراتها ومفهمتها للواقع.

    إننا من خلال عملية المفهمة نحاول الترسيم لحدود التعقل وتشكيل نموذجنا الإرشادي8 المؤقت، الذي سيكون معيارا لتحديد المشكلات التي يمكن افتراض حلول لها - ليس على المستوى العلمي القياسي فقط -، كما سيشكل في المقابل بنية لن تعرف تخاصمها مع قواعدها إلا حين روز كفايات تحقق هذه القواعد وعلاقاتها بتصوراتنا عن الواقع9.

    ما ذكر آنفا، هو ما حاول تقريره ألان شالمرز، حينما وصف عملية التحديد الدقيقة للمفهوم بالمتعذرة، قد تحتمل درجات في الدقة والبساطة، لكنها لا تقبل التحدد النهائي والدقيق؛ فالمفهوم يتخذ صيغا أكثر دقة ووضوحا حسب الوظيفة والدور الذي يلعبه داخل النظرية، وهنا نلاحظ ربط شالمرز بين تحدد المفهوم وبنية النظرية، ومن ثم فتماسك بنية النظرية يؤدي لتحدد المفهوم بأشكال تختلف حسب بناء النظرية أو تشكلها، لذلك، وحسب هذا الأخير فـإن المفاهيم لا يمكن لها أن تعرّف إلا بواسطة الحدود المعبرة عن مفاهيم أخرى10 وهو ما يمنح قيمة لفرضيات التأسيس الجديد لنسق المفاهيم، التي تحاول دوما تجواز الأنساق المفاهيمية القديمة11، بعد بلوغها مرحلة الأزمة، وضرورة التفكير في حلول جديدة لها.

    يشترك في هذه الخلاصة ويقرها كذلك الباحث محمد مفتاح، إذ يعتبر هو الآخر أن التحديد الجامع المانع للمفهوم شيء عسير الوجود، بينما المتيسر هو ذلك التحديد القائم على العلائق والوظائف12. حيث تتدخل في عملية التحديد هذه عناصر من قبيل طبيعة الشيء المراد تحديده، إلى جانب الذات المحددة، والتي كما تعلن، فإنها تستبطن في المقابل خلفيات لقراءة وتأمل ذلك الشيء وتمثله وإعادة استرجاعه، لتعيد تصنيفه في محمولات جديدة13.

    يمكننا القول أن المفهوم - كما قرر عمر كوش

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1