Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

الفضاء في الخطاب النبوي
الفضاء في الخطاب النبوي
الفضاء في الخطاب النبوي
Ebook1,314 pages8 hours

الفضاء في الخطاب النبوي

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

سعى البحث إلى اكتشاف الخطاب النبوي من خلال مكون خطابي أساسي هو (الفضاء) باعتباره مفهوماً نقدياً، وذلك بالعناية بحضوره في سياقات مختلفة وثيقة الصلة بأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وقد أولى الباحث أهمية قصوى للوظيفة التداولية لخطاب فضائي صادر عن عن النبي صلى الله عليه وسلم –وهو الباث- إلى المسلمين والمؤمنين –وهم في مقام المتلقي- على قاعدة الثلاثية المتفاوتة الظهور: المقصد- البنية- رد الفعل المتلقي. ويتعلق الأمر في الواقع بإلقاء الضوء على مشهد تواصلي مكوناته في مستوى عال من الانسجام والتماسك: الشخصية الرمزية (المقاصد)، الخطاب (المظاهر الأسلوبية)، استجابة المتلقين (ردود الفعل). والبحث بأكمله قائم على تحليل فضائية الخطاب النبوي في ضوء مقاربة تداولية، أظهرت بجلاء الخصائص الرئيسة لفضاء دال في خطاب نبوي معجز.

Languageالعربية
Publishertevoi
Release dateJan 7, 2023
الفضاء في الخطاب النبوي

Related to الفضاء في الخطاب النبوي

Related ebooks

Reviews for الفضاء في الخطاب النبوي

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    الفضاء في الخطاب النبوي - محمد بن عادل السيد

    الـفَضـاء

    في الخطَاب النّبوي

    - مقاربة تداوليَّة -

    د. محمد بن عادل السَّيِّد

    في البلاغة الجديدة

    سلسلة علميّة يديرها الأستاذ الدّكتور أحمد الودرني

    تأليف

    د. محمد بن عادل السَّيِّد

    مدير النشر عماد العزّالي

    التصميم ناصر بن ناصر

    الترقيم الدولي للكتاب 978-9938-23-034-5

    جميع الحقوق محفوظة

    الطبعة الأولى

    1441 هـ / 2020 م

    العنوان: 5 شارع شطرانة 2073 برج الوزير أريانة - الجمهورية التونسية

    الهاتف: 58563568 +216

    الموقع الإلكتروني: www.tunisian-books.com

    البـريد الإلكتروني: medi.publishers@gnet.tn

    مادة هذا الكتاب في أصلها أطروحة دكتوراه، قدمها المؤلف في كلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، بتاريخ الأربعاء 3/9/1440هـ أمام لجنة علمية مؤلفة من: أ.د. عبد المحسن بن عبد العزيز العسكر مشرفا وأ.د أحمد الطيب الودرني وأ.د. إبراهيم بن منصور التركي مناقشيْن. وقد أجازت اللجنة الأطروحة بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى.

    إهداء

    إلى أرحَب فضاءٍ حَواني

    وأصدق قلب احتَواني!

    والديّ الفاضلَين

    غرسٌ سُقي بفُيوض دعائكما

    وتُوّج بمتعة حياتكما..

    ملخَّص البحث

    سعى هذا البحث إلى اكتشاف الخطاب النَّبوي من خلال مكونٍ خِطابي أساسي هو (الفَضَاء) باعتباره مفهومًا نقديًا، وذلك بالعناية بحضوره في سياقات مختلفة وثيقة الصِّلة بأحاديث الرسول . وقد أولى الباحث أهميَّة قصوى للوظيفة التّداوليَّة لخطابٍ فضائي صادر عن النبي -وهو الباثّ- إلى المسلمين والمؤمنين -وهم في مقام المتلقِّي- على قاعدةِ الثلاثيَّة المتفاوتة الظهور: المقصد/ البنية/ردّ فِعل المتلقِّي.

    ويتعلَّق الأمر في الواقع بإلقاء الضَّوء على مشهَدٍ تواصلي مكوناته في مستوى عالٍ من الانسجام والتَّماسك: الشخصية الرَّمزية (المقاصد)، الخطاب (المظاهر الأسلوبيَّة)، استجابة المتلقّين (ردود الفِعل).

    إنّ البحث بأكمله قائم على تحليل فضائيَّة الخطاب النَّبوي في ضوء مقاربة تداوليَّة دون أن يفوته -غير مرَّة- توظيف عدد من الأدوات والمفاهيم الموصولة بالمناهج والمدارس النقديَّة الحديثة، مثل البنيويَّة، والسِّيميائيَّة، والأسلوبيَّة، ونظريَّة التَّلقي... إلخ.

    ولما كان ذلك كذلك توصَّل البحث في النِّهاية إلى أن يُظهِر بجلاء الخصائص الرئيسة لفضاء دالٍّ في خطاب نبويّ معجز.

    * * *

    المُقدّمة

    الحمد للّه وحده، والصلاة والسلام على نبيِّه وعبده، وعلى آله وصحبه، ومن سار على سُنَّته ونهجه، أما بعد:

    فإنَّه من جليل نِعم الله تعالى على المسلمين كافة، وعلى العرب خاصَّة أن هيَّأ لهم رسالة تحمل الهدى والنُّور، وتجمع الجلال والجمَال، وجعلها بلسان عربيٍّ مُبين، وأفاض نور الوحي على حديث خاتم أنبيائه ورسله ﷺ، فأشرقت دلالاته مسطَّرة بجوامع كَلِمه، فكانت خطاباته ﷺ كالغيث المدرار يهمي على القلوب والعقول التي تُصغي إليها محبَّة واشتياقًا، فكُل من أصغى إلى كلام الله وكلام رسوله بعقله، وتدبَّره بقلبه، وجد فيه من الفهم والحلاوة والبركة والمنفعة ما لا يجده في شيء من الكلام، لا منظومه ولا منثوره(1).

    وقد أدرك السَّلف الصَّالح أنَّ علوم العربيَّة من مفاتيح العلم بالوحيَيْن، يقول الشَّاطبي: علوم اللِّسان هادية إلى الصَّواب في الكتاب والسُّنة، فحقيقتها إذًا أنها فقه التَّعبُّد بالألفاظ الشَّرعيَّة، الدَّالة على معانيها كيف تُؤخَذ وتُؤدَّى(2)، فتعاقب العلماء سَلفًا وخَلفًا يقرؤون الوَحي بصُحبَة علوم اللُّغة وفنونها، وأفاد كل جيل بما توافر لديه من معارف وأدوات، وكان نصيبهم من المعنى في حديثه ﷺ في كلِّ مرة؛ نصيبهم من عُمق التأمُّل، وحِدَّة الفِكر، حتى قال الرَّافعي: كلامُ النَّبي ﷺ كلَّما زِدتهُ فِكرًا زادَكَ معنى(3)، وهذا ما يفتح مجالات الدَّرس والبحث والتأمُّل في الحديث الشريف، فهو بحرٌ زاخر، كلُّ من خاض غماره وجد فيه طلبته، وهو ثروةٌ في عالم الأدب والعلم، تفخر بها الإنسانيَّة على مدى الزَّمن، وكان الحديث الـمِعوَل الذي قضى على وَحشِيّ الكلام، وسجع الكهَّان(4)!

    وإن الدَّرس الحديث للخطاب النَّبوي الشَّريف يتلاءم ودلالات ديمومته وتجدُّده بامتداد العُصور، وتتابُع الأزمان؛ فالنَّص واحد، والأساس ثابت، بَيد أن التَّناول والتَّحليل متفاوت متجدِّد عبر الأزمان، وهو الأملُ الحَادِي إلى بعث الهمم وقوفًا عند أحاديثه ﷺ.

    والتَّجديد في طلب جماليات خطاباته ﷺ وعمق مقاصده، وتناسق بنائه، يتطلَّب تجديد موضوع البحث، وأداته المنهجيَّة، فأحاديثه ﷺ كالرَّوضة الغنَّاء، فيها من كلّ نبْتٍ كريم؛ ففيها أبلغ الحِكَم، وأجمعُ الكلِم، وأروع الأساليب، وأعظم الهدايات، وأسمى التَّشريعات، وكلُّ حديث من أحاديثه ﷺحافلٌ بالنِّكات النَّظميَّة، والصُّور البيانيَّة؛ لأنها جاءت مطابقة للحال(5)؛ فاستعنت باللّه، ثم وَجهتُ هَمِّي، وبعثتُ هِمَّتي طلبًا لذلك؛ لعلِّي أن أُدركَ شَرَف سُلوك الطَّريق وإن لم أَصِل!

    وقفتُ مليًّا أمام خطاباته ﷺ التي يُعبِّر فيها عن بلده مكَّة المكرمة، أو مُهاجره المدينة المنوَّرة؛ فرأيتها تحمل طابعًا خاصًا في تشكيل الدلالة، وبناء العبارة، فإذا ما أضفنا إلى تلك الفضاءات ما يحظى به الحديث الشَّريف من عناية خاصَّة بالحديث عن الجنَّة والنَّار، وعن السموات في عليائها، والأرض في امتدادها، وما تحمله الحياة من سفرٍ وهجرةٍ، وجهادٍ، وحج وغير ذلك؛ بدت لنا صورًا بديعة لفضاءات متقابلة يمكن أن تكون منفذًا لقراءة الحديث الشَّريف من خلالها، ودراسة المقاصد التَّداوليَّة المرتكزة عليها، بغية الإطلال من هذه الشُّرفة السَّامية على دلالات تتكشف من خلال بنية الأحاديث النَّبوية التي تحوي فضاءً أو أكثر، مع دراسة سياقاتها، وتتبُّع حركة تشكلها، فكان هذا البحث بعنوان:

    الفَضَـــاء في الخِطـاب النَّبوي: مقاربة تداوليَّة

    وتمثَّلت أهميَّة هذا الموضوع، وأسباب اختياره، من خلال أمور أهمها:

    1) كون الفَضاء من أكثر مكونات الحديث النَّبوي دلالة وثراء، وله وظائفه التداوليَّة، ومقاصده الحجاجيَّة، والتحفيزيَّة، والتوجيهيَّة، إضافة إلى ما يضفيه الفضاء من جماليَّات بنيويَّة تستحق التَّحليل والدِّراسة، حيث سينفتح البحث -بعون الله- على دراسة ما يرد من تلك الفضاءات في الصَّحيحين، كما أنه لن يتناول -في أساس البحث- أقوال الصحابة التي تحكي أحوال الرسول ﷺ.

    2) كثرة شواهد الفضاءات النَّبوية، وتنوعها، وتعدد سياقاتها الاستعماليَّة، وتعبيراتها التَّصويريَّة، فأحاديث الصَّحيحين التي تناولت الفضاء بصورة مباشرة قُرابة الخمسمئة حديث، وهذا الكم الكبير من الأحاديث يُشعر بأهمية الموضوع وما ينطوي تحته من معانٍ ودلالات، لا يمكن دراستها مفردة دون أن توضع في فضاءات سياقية تسفر عن قراءة ذات قيمة في الدَّرس البلاغي والنَّقدي الحديث، ومع تعدد الفضاءات وكثرتها، فإن المطالع للسيرة النَّبوية الشريفة بعامة يجد أن تدوينها قام على ترتيب الفضاءات المتصلة بالأحداث والمتفاعلة معها؛ فنجد (الفَضَاء المكِّي) يمثل المدة الزَّمنية للدَّعوة قبل الهجرة، ثم (الفَضَاء المدنيّ) الذي احتضن الدعوة وآزرها، ثم جاءت جزئيات المكان تشكل لوحة كل فضاء، فصوَّرت الشَّجر، والحَجر، والبُيوت، والمساجد، والمزارع، والأودية والشِّعاب، وكل ما تفاعل معها، إلى جانب فضاءات أخرى، كالحبشة، والفضاء المكي الثاني بعد فتح مكة، والفضاء المتعلق بالأماكن المقدسة الأخرى؛ كالمسجد الأقصى، والشام، يضاف إلى ذلك أرض الغزو والمعارك، وغيرها كثير.

    3) أن هذا الجانب من بلاغة الحديث الشَّريف لم يحظَ بعدُ بالاهتمام والعناية الكافية من الباحثين، فضلًا عن المنظرين والدَّارسين، مع ما يزخر به الحديث النَّبوي الشريف من فضاءات ذات دلالات وإيحاءات، شملت أجناس خطابه ﷺ كلها بلا استثناء؛ فقد انصبت جهود الباحثين في دراسة المكان والفضاء بعامة إلى السَّرديات الروائية والقصصية بالدَّرجة الأولى(6)، ثم إلى الشِّعر(7) والمسرح(8)، وأهملوا هذه المدونة الزَّاخرة، أو بحثوا في بعض جوانبها المحدودة(9)، وربما كان ذلك بسبب حداثة الإجراءات النظرية في تعاطيها مع النصوص، وكون أول ظهورها -بصورتها النَّظرية النقديَّة- لدى المدارس الغربية فكانت الرواية هي أخصب مجالات التَّطبيق والدراسة لديهم.

    4) ما يمتاز به الفضاء في الخطاب النَّبوي الشريف من تفاعل مع منشئه ﷺ ومتلقيه من الصحابة ، فمن أتى بعدهم، فالدِّراسة تكتسي أهمية قصوى؛ كونها تسعى لرصد التَّفاعل الحاصل بين الحال والمحل، والكائن والمكان، وهذا التَّفاعل لا يمكن التَّغاضي عنه؛ نظرًا للتلازم بين هذين العنصرين؛ إذ إن كل عنصر منهما يتأثر بفعل الآخر، يضاف إلى ذلك ما يتمخض من دلالات عميقة نستنتجها في سياق دراسة تشكل بنيات الفضاء الكلي والجزئي، وما يتفرع عنهما في الخطاب النَّبوي الشريف، في ظلِّ خصوصيَّته.

    وسعى البحث لتحقيق عددٍ من الأهداف، من أبرزها:

    1. تجديد الدَّرس البلاغي الحديث المتعلق بدراسة الخطاب النَّبوي الشَّريف، من خلال رؤية الفَضاء، وتحليل شواهده، بصورة تُظهر جماليات التعبير الفضائي، وتعالقه مع مباحث المقاصد، والبنية، والتَّلقِّي، وصولًا لنظرة شاملة تجلِّي سمو البيان النَّبوي، وعمق دلالاته، ولُطف إيحاءاته.

    2. تتبُّع البُعد التَّداولي المتعلق بالتَّعبير الفضائي في الخطاب النَّبوي، من خلال التركيز على المعطيات ذات التأثير في المواقف التَّواصُلية سواءً ما يتعلق بالـمُرسِل/ منشئ الخطاب، أو الرسالة، أو المرسَل إليه/ المتلقِّي، وهو ما يعيد قراءة الخطاب في صورة حيَّة للتفاعُل بين تلك الأطراف.

    3. الكشف عن الفضاءات النَّبوية وأَبعَادِها، وصولاً إلى البحث في المحتويات الفضائية الجزئية، ومدى ما تعكسه من إيحاءات ودلالات دينيَّة، وفنيَّة، وتعليميَّة، وتربويَّة، في ظلِّ المنهج التَّداولي المعني بدراسة اللغة في ظرف استعمالها.

    4. التَّحليل المقاصديّ للفضاءات الواردة في الخطاب النَّبوي الشَّريف بصورة عامة، ودراسة أساليب المتكلِّم في بثِّ مقاصده من خلال استثمار الفضاء في التأثير على المتلقِّين، وتشكيل الوعي لديهم، وصولًا إلى أهم المعاني التي استخدم فيها النبي ﷺ الفضاء.

    5. دراسة بنية الفضاء في الخطاب النَّبوي، استنادًا لمرجعيته المعجميَّة والصَّوتيَّة والدلاليَّة، والوقوف على أبرز الظواهر التركيبيَّة للفضاء، مع استثمار إجراءات تحليلية تجديديَّة وفق نظريات النقد الحديث التي تحدثت عن الفضاء تأصيلًا وتطبيقًا، مع العناية بالفضاء التَّصويري وقنوات إدراكه، في ظلِّ خصوصية الفضاء النَّبوي، وتفرُّده بسمات الواقعيَّة، والتَّأثير، والإبداع التَّصويري، وتميزه عن سائر النصوص النثرية الأدبيَّة.

    6. استجلاء علاقة الأحاديث المشتملة على الفضاء بالمخاطَب، وتلمُّس جوانب التأثير في المتلقين من خلال ما تحويه الفضاءات من أعمال قوليَّة، والتعرُّف على بعض جوانب التّفاعُل مع خطابات الفضاء في تجلياتها المتنوعة؛ كالتَّساؤلات، أو التأثر النَّفسي، وغيره.

    وبعد اطلاعي على الرسائل العلميَّة مطبوعة أو مخطوطة، والكتب المتخصِّصة، وعدد من محركات البحث على الشَّبكة العنكبوتيَّة عمومًا وفي فهارس المكتبات العلميَّة والجامعات خصوصًا، لم أعثُر على أيٍّ من الدراسات المباشرة التي تناولت (الفضَاء في الخطاب النَّبوي) وفقَ الأهداف المرسومة له، والخطَّة العلميَّة المقرَّرة، ووفقًا للمقاربة التداولية للفضاء، بيد أن هناك ما يتماسّ مع بحثي بصورة غير مباشرة، وفي جزئيات محصورة، سواءً فيما يتعلق بدراسات المكان أو الفضاء، أو ما يتعلَّق بالمنهج اللساني التَّداولي وتطبيقه على الخطابات النَّبوية الشريفة، وأفدت منها بحسب ما يتطلَّبه بحثي فمن ذلك:

    - بنية الزمان والمكان في قصص الحديث النَّبوي الشَّريف، إعداد الطالبة: سهام سديرة (10)، هذا البحث يقع في (150) صفحة، يتقاطع مع فكرتي في جانب واحد من جوانب الخطاب، هو القَصّ، حيث جاء حديث الباحثة في الفصل الثالث عن بنية الفضاء في قصص الحديث النَّبوي الشريف، ويقع الفصل في (24) صفحة فقط، كما أنها قد شُغلت بالتَّنظير عن استنباط دلالات الفضاء، وتحليل مكوناتها البلاغية في الأحاديث التي تناولتها، وإفادتي من هذا البحث محدودة جدًا.

    - رسائل علميَّة تناولت البيان النَّبوي من خلال مباحث المنهج التَّداولي، وقد أفدت منها فيما يتعلق ببعض الإجراءات المنهجيَّة، بيد أنها دراسات لم تتناول الفضَاء تنظيرًا أو تحليلًا، كما أنها كانت معنيَّة بالتَّنظير والتَّبويب لمباحث التَّداولية على حساب التَّطبيق والتَّحليل للخطاب(11)، إضافة لعدد من البحوث العلميَّة المحكمة، التي عُنيت بدراسة ظواهر أسلوبيَّة في الحديث النَّبوي من خلال المنهج التَّداولي، وتفاوتت في عنايتها بالتَّحليل(12).

    - كتب عُنيت بالدِّراسات اللسانيَّة التَّداوليَّة والحجاجيَّة والاجتماعيَّة، وهي كثيرة، من أبرز ما أفدت منه:

    1 - الحجاج في الحديث النَّبوي، دراسة تداوليَّة، للباحثة د.آمال يوسف المغامسي، وهو رسالة علميَّة مطبوعة(13)، ويمتاز هذا البحث بالجمع بين التَّطبيق والتَّنظير، والبعد عن الاستطراد غير المفيد، كما يجد القارئ حُسن التَّبويب والتَّفريع، وتقريب المعنى بالتَّحليل وإيجاز النتائج في صورة جداول، وقد أفدت من هـذا البحـث فـي التَّحليـل التَّداولـي للشواهد، وبعـض الجوانـب المتعلقــة بالعــرض والتَّرابُط.

    2 - الفكر التَّداولي في الحديث النَّبوي، أ.د. عبد الله جاد الكريم(14)، وقد نجح الباحث في إثارة مواطن متعددة في الحديث الشريف تتلاقى مع الفكر التَّداولي، بيد أن البحث قصر عن التحليلات العميقة للشواهد، وعن الخروج بنتائج جديدة تتلاءم مع موضوعه، وقد أفدت مما قدَّمه من إجراءات تداوليَّة، وآراء حول البحث اللساني التداولي في الحديث النَّبوي الشريف.

    3 - الخطاب النَّبوي خريطة البيان العربي، دراسة في اللسانيَّات النَّفسية والاجتماعية، د.عريب محمد عيد(15)، أجادت الباحثة في حديثها عن الخطاب النَّبوي وعناصره، والحديث عن سياقاته الاجتماعيَّة والنَّفسية، وعملت على ربط الدَّرس اللِّساني الاجتماعيّ بخطابات النُّبوَّة مع استحضار خصوصيات الحديث الشريف، وفيه مداخل جديدة للنظر في الخطابات النَّبوية، لكن ربط تلك المداخل بالشواهد وتحليلها كان النَّفس فيه قصيرًا، وأفدت من مداخل الدراسة، وزوايا النَّظر التي عرضتها في أثناء البحث.

    وإضافة لما سبق، فقد أفدت من الكتب التي أصَّلت للفضاء أو ترجمت لمقولاته، أو الكتب التي حلَّلت النُّصوص السرديَّة أو الشعريَّة في ضوئه على نحو ما أثبته في مراجع البحث، ويتداخل معها الدراسات التي عُنيت بالبحث الجماليّ للمكان؛ إذ المكان ألصق المصطلحات بالفَضاء كما سيأتي بيان ذلك(16).

    وبالنَّظر لمنهج البحث، وما يتفرَّع عنه:

    فتأسيسًا على ما يتفرَّد به الحديث النَّبوي الشريف من كونه نصًا يجمع بين: الوحي الرباني لمعانيه السَّامية، وبلوغه أعلى مراتب البيان على لسان رسولنا الكريم ﷺ، وكونه خطاب تشريع وتوجيه لما يصلح للناس في المعاش والمعاد؛ لذا كان لزامًا أن يتَّسع منهج البحث في أدواته وإجراءاته في إطار من الانضباط وفق المحددات الآتية:

    1 - المنهج الأساس في البحث وتفريعاته هو المنهج التَّداولي(17) الذي يقع كأكثر الدروس حيوية في مفترق طرق الأبحاث الفلسفية واللسانية..(18)، وهو منهج عملي يضم مستويات متداخلة؛ كالبنية اللغوية، وقواعد التَّخاطب، والاستدلالات التداوليَّة، والعمليات الذهنيَّة المتحكمة في الإنتاج والفهم اللغويَيْن، وعلاقة البنية اللغوية بظروف الاستعمال(19)، والمنهج لديه القدرة على استدعاء جوانب غير لسانيَّة في عملية النقد والتَّحليل في الخطاب؛ مما يتلاءم مع ثراء اللفظ والدلالة في الخطاب النَّبوي الشريف. فسأتناول الفَضَاء غير معزول عن سياقات التاريخ والمجتمع والذَّات المنشئة؛ فالفَضَاء الذي تسعى الدراسة لتناوله وسبر أغواره في ظلال من البيان النَّبوي هو الفضاء الفاعل بعلاقته مع محيطه، والمؤثر في ذلك المحيط بما يحمله من دلالات في خطاباته المتنوعة، والمنهج يدرس اللغة أثناء التلفُّظ/ الاستعمال، ويعنى بمعرفة سياقات التكلُّم، ويحلل شروط نجاح العبارة والخطاب، ويدرس الأثر الناتج عن فعل التخاطب، ويسعى لتحديد المعاني والرسائل الضمنيَّة في الخطاب/ الرسائل غير المباشرة، ويهتم بظروف الكلام، ومقام الحال، وكل ما له صلة بالكلام من عوالم خارجيَّة أو تناسب حال من الأحوال، أو تنافره للحدث الكلامي، وتهتم بالسياقات اللغوية للمتكلمين حسب الواقع اللغوي، فتبحث في الكيفية الخطابية وتستنتج مقاصد المخاطب(20).

    والدَّرس اللساني التَّداولي أراه مدخلًا يتسق وطبيعة الخطاب النَّبوي في عالميته وقدسيته وخصوصيَّته السياقيَّة والعمليَّة، فهو منهج يرتبط بالحالة المقاميَّة، والموقف التَّواصُلي، ولا ينغلق على بنيويَّة النَّص أو تركيبه المجرد؛ إذ يجب علينا استخراج القِيم المقاميَّة من مقال الحديث، وبيان ملامح الحياة الاجتماعيَّة التي يتضمنها نصُّ الحديث، وما فيه من مواقف وما يستنبط من هذه المواقف من دلالات وقيم؛ فترسم صورة حيَّة ناطقة صادقة عن الحياة في عهد النبوُّة(21)، وأبرز المعطيات التَّداولية التي أستصحبها في الدراسة:

    - تحليل مقامات الخطاب ومقاصده.

    - التركيز على مستعملي اللُّغة والسِّياق.

    - الاهتمام بمظاهر التأويل بحسب السياقات.

    - دراسة معاني المنطوقات في علاقتها بالمتكلم.

    - دراسة العلاقة بين أفعال الكلام وسياقاتها غير اللغوية(22).

    2 - الإفادة من التُّراث البلاغي والنَّقدي وتفريعاته، بجانب إجراءات المناهج اللُّغوية في التَّعامل مع الخطاب النَّبوي، كالمنهج النَّصِّي لدراسة البنية، ونظرية التَّفاعل/ التَّلقي مع الخطاب؛ لتحليل تفاعل المتلقين للخطاب الفضائي؛ إذ إن دراسة ذلك يعد ركنًا من أركان التَّحليل التَّداولي المرتبط بالموقف التكلُّمي وظروف الاستعمال. كما ترتبط الدِّراسة بالسِّيمياء من جهة أن (الفَضاء) يمكن عدُّه في مصفوفة العلامات الدَّالة، وكذلك فإنَّ منهج البحث (التداوليَّة) كان في بداية الأمر أحد الفروع الثلاثة المكونة للسيميولوجيا، وهي: العلامات أو الرموز، ودلالاتها، وعمليات توصيلها؛ فكانت التَّداولية تُعنى بالقسم الأخير، فاهتمت بوصف العلاقة بين العلامات ومَن يستخدمونها(23).

    3 - إضافة لما سبق، فقد وقعت إجراءات البحث، وطريقة التَّحليل ضمن محددات فرعيَّة، أبرزها:

    - عزو الآيات القرآنية الكريمة إلى سُورها وأرقامها بعد ذكر الآية مباشرة؛ لخصوصيَّتها.

    - تخريج الأحاديث النَّبوية الشريفة من الصَّحيحيْن، وإثبات رقم الحديث، مع شرح بعض المفردات الغريبة بحسب الحاجة لذلك، عند وروده للمرة الأولى، هذا إذا كان الحديث من ضمن أحاديث الدراسة، وإذا وقع الاستشهاد بأحاديث أخرى، فأخرجها من الصَّحيحين إذا كان الحديث فيهما أو في أحدهما؛ لأن العزو إليهما معلم بالصحة، وإذا كان الحديث خارج الصَّحيحين خرجته من مصادره، ذاكرًا الحكم عليه منقولًا عن الأئمة من أهل الحديث.

    - ذكر تفاصيل المرجع ومحل الطباعة، وتاريخها، عند إيراد المرجع للمرة الأولى، ثم الاقتصار على ذكر العنوان والصفحة عند تكرار الرجوع إليه، وفي حال الرجوع للمرجع أكثر من مرة بصورة متتالية في صفحة واحدة أُحيل إليه دون تكرار اسمه، فأقول: المرجع السابق.

    - الحرص على وضع تفريعات جزئيَّة في المباحث من خلال الشَّواهد المتاحة في مدونة البحث، مع الاجتهاد في جعلها مترابطة متناسقة.

    - وضع مداخل عامة لكل فصل، ومداخل خاصة لكل مبحث، وخَتْم كل فصل بخاتمة تظهر صورة الفصل ونتائجه إجمالًا، وتعمل على ربط كل فصل بالذي يليه.

    - الحرص على تحليل الشواهد في تبصُّر من فَهم السَّلف الصالح للأحاديث النَّبوية، ومن خلال شروح الصحيحين وغيرها؛ لضمان صحَّة التَّحليل واستقامته.

    - العناية بتحليل الشَّواهد الفضائيَّة، وإظهار الجوانب التَّداوليَّة والجماليَّة ما أمكنني، لإظهار جماليات الفضاء من خلال المنهج التَّداولي؛ ولأني رأيت أن أغلب دارسي (التَّداوليَّة) في الخطاب النَّبوي يعنون بالدَّرس التَّنظيري، أو بسرد الشواهد غُفلاً دون تحليل لعناصره بما يتطلَّبه البحث.

    - الحرص على تنويع الشَّواهد من الأبواب المتنوعة في الصَّحيحين، والتركيز على المتَّفق عليه.

    - إدراج جداول توضيحيَّة في ختام عدد من المباحث؛ لإجمال أبرز النتائج المتعلقة بالشَّواهد محل الدراسة، وربط تلك الشواهد بالجوانب التداوليَّة.

    - استخدام الرسومات والأشكال التَّوضيحيَّة لتصوير الفضاءات بحسب الحاجة لذلك.

    - تعريف أبرز المفاهيم المصطلحيَّة عند ورودها لأول مرة في الهامش.

    وبعد أن بيَّنت طبيعة المنهج البحثي؛ فإنه قد يَرِد اعتراض على دراسة الخطاب النَّبوي في ضوء اللِّسانيات والمناهج الغربيَّة الحديثة، ظنًّا أن هذا التَّناول ينال من قُدسيَّة الحديث النَّبوي الشَّريف ومكانته، أو أنه يحرف مدلولاته ومعانيه المقصودة بحسب معطيات اللغة، ولا يصح ذلك اللهم إلا عند مَن ينظر إلى مدونة الحديث الشريف على أنها نصوص أدبيَّة مجرَّدة قابلة لإخضاعها لمذاهب النَّقد اللِّساني ومناهجه، وتطبيق جميع المعايير والإجراءات على تلك النصوص، وتفكيكها بعيدًا عن خصوصية الحديث الشريف، ولا يقول ذلك مسلم.

    فلا مانع -إذن- من الانتفاع بتلك المناهج، مع ضرورة استحضار ما يشوبها من قصور وخلل في عدد من جوانبها، وأرى أن الإفادة من تلك المناهج وإجراءاتها المتنوعة -خصوصًا الأقرب إلى بلاغتنا العربيَّة- وتطبيقها على خطابات النبوَّة، مع مراعاة خصوصية تلك الخطابات وسياقاتها، ومقاصدها، ورساليتها؛ أرى أن ذلك مما يزيد الدَّرس اللُّغوي ثراءً، وينقل الدرس اللِّساني من تطبيقات أدبية على نصوص الشعر والسَّرد إلى نمط آخر باهر في لفظه، جليل في قَصدِه، بليغ في بنائه وتركيبه، فهو ما يزيد من تمسكنا بتراثنا وبلاغته، لا أنه يبهرنا بوسائط دراسته، أو منهج تحليله، فإن ذلك المنهج لا يعدو أن يكون نافذة جديدة نُطلّ من خلالها على واحة مُزهرة، وروضة غناء، لا أن نقف عند حدود الانبهار بجمال النافذة وروعة الوسيلة! يقول د. أحمد ياسوف في خاتمة سِفره المميَّز الصُّورة الفنيَّة في الحديث النَّبوي الشَّريف: ولا ندَّعي خضوع الفنّ النَّبوي للنقد المعاصر معاذ الله! بل إن البحث الموضوعي قد أثبت بالدِّراسة الجادة الدقيقة موافقة هذا النقد والنظريات الفنية الصحيحة لأسس الفن النَّبوي، فكانت هذه المعطيات الفنيَّة مفاتيح للدراسة تؤكِّد سمو البلاغة النَّبوية(24).

    وأرى أنَّ الخطاب النَّبوي الشريف ميدان فسيح للنظر فيه من زوايا جديدة بلاغيَّة ونقديَّة؛ إذ يحمل خصائص الدَّيمومة، وجلال المعنى، وجمال البناء، فأي نظريَّة ناضجة في إجراءاتها يمكن لنا أن نعتمدها وسيلة للكشف عن جماليات ذلك الخطاب إذا ما اصطحبنا خصوصيتة الخطاب، وعُلوه فوق كل منهج وإجراء، وهذا ما يجعلني أُعيد النَّظر في رأي د.عبد الهادي الشِّهري في عدم الاستشهاد بنصوص الوحيين في مُقارباته اللغوية للخطاب؛ تحاشيًا لإخضاعهما للتَّنظير البشري، وخوفًا من الزَّلل أو الوقوع في مغبَّة الاجتهاد غير الموفق بحسب تعبيره(25)؛ ذلك أن كل أداة بلاغية أو نقديَّة هي من التَّنظير البشري! كما أنَّه ليس بالضرورة لتطبيق نظرية ما جلب كل إجراءاتها وإخضاع الخطاب لها؛ فيكفي أن نأخذ منها ما يجعلنا ننظر بعدسة مختلفة ومن ثمَّ نصل إلى نتائج مختلفة، وشواهد ذلك لمن يتأمل كثيرة، من ذلك (نظريَّة الحِجَاج) دَرَسها د.عبد الله صُولة في القرآن الكريم(26)، ودرستها د.آمال المغامسي في الحديث الشريف(27).

    وصحيح أنَّ جُلَّ أصول تلك النَّظريات النَّقدية الحديثة -ومنها منهجي البحثي (التَّداوليَّة)- له أصوله في تراثنا وثقافتنا العربيَّة(28)، إلا أن المبالغة في إثبات إجراءات تلك النَّظريَّات وتفريعاتها للأصول العربيَّة، أو الادِّعاء بأن ما توصَّل إليه المنظِّرون والنقَّاد المحدثون قد سُبقوا إليه؛ يُعدُّ اختزالًا للمعرفة، وانشغالًا عما هو أهم كتطوير تلك المناهج وتنقيتها، وتجديد نماذجها التَّطبيقيَّة، كما أنَّ نسبة تلك النَّظريَّات إلى أصحابها ثم استثمارها لخدمة لغتنا وثقافتنا لا يُضير، ولا يطعن فيما نَصِل إليه من نتائج في البحث والتَّحليل، ولا أتَّفق مع مقولة بعض الباحثين من مثل د.عبد اللّه جاد الكريم في إشارته إلى أن كثيرًا مما تنادي به التَّداولية مؤخَّرًا جاء جليًا في حديثه ﷺ قبل أكثر من ألف عام، وعليه فمن المنصف أن يعترف التَّداوليون بأسبقيَّة النبي الكريم في تطبيق معظم أفكار التداوليَّة(29)، وأقول: إن في هذا خلطًا بين مدونة الحديث النَّبوي الشَّريف التي جاءت في قمة البيان والبلاغة والأداء، وبين تقنيات التَّحليل، وأساليب الدَّرس، وزوايا النظر والتأمُّل، ذلك أن (التداوليَّة) من حيث هي منهج لساني تواصُلي له إجراءاته الخاصة لم يكن وليد نصّ يحكم له بالتميُّز دون نَصٍّ آخر، إنما كان نتيجة طبيعيَّة لعمليات التَّطور التي تجري على المذاهب والاتجاهات النَّقدية، بل كانت التداولية -كما يرى النقَّاد- ردة فعل على مناهج رسفت في قيود النَّصيَّة البنيويَّة ولم تُولِ عناصر التواصل والسياق أية أهميَّة؛ لذا فإن من الإنصاف ألا نقارن منهجًا نقديًا بلاغيًا بنصوص من أي نوع؛ سواء أكانت نصوصًا قدسية (الكتاب والسنَّة)، أم نصوصًا أدبية (الشَّعر والسَّرد)، وإن نجاح تطبيق الإجراءات التداولية على الخطاب النَّبوي -مثلًا- لا يعني ضرورة الإقرار بأسبقيته التداوليَّة، بل إن ذلك يُعدُّ تميزًا للمنهج التَّداولي في جملته، وصحة منطلقاته وإجراءاته -في أغلبها- لأن المنهج استطاع أن يجد له طريقًا في تحليل نصّ قدسي عظيم هو الخطاب النَّبوي!

    ومن جميل القول ما أشار إليه الباحث د.يسري نوفل في هذا الصَّدد، فقال بعد أن ساق بعضًا من الإشارات للمباحث اللسانية لدى أسلافنا العرب: وهذا قليلٌ من كثير، نفخر به ونجتهد أن نضمّ إلى فخرنا به مواكبة العصر، ونكمل درب أسلافنا الذين قطعوا أشواطًا كثيرة، ولا نقتصر أن نتشدَّق بمآثرهم فحسب!(30)، فليس المهم أن نُثبت لكل جديد أصوله لدى العرب فحسب؛ بل الأهم هو الشُّروع في تطوير تلك المناهج ومحاولة وضع إجراءاتها في تبصُّرٍ من تراثنا، بأدواتنا البلاغية والنَّقدية، وإذا ما وجدتنا ضالتنا لدى الشَّرق أو الغرب فنحن أحقُّ بها؛ فلنأخذ منها ما يناسبنا، وندع ما يُخالف أعراف لغتنا، ثم نستكمل البناء، وهكذا.

    كما أنه ينبغي الإقرار بأن عدم نجاح منهج ما في تطبيقه على الخطاب النَّبوي لا يعني قُصور ذلك الخطاب، بل يعني أن في ذلك المنهج خللاً في تصوراته الكليَّة امتدت إلى إجراءاته التطبيقيَّة فتعذر تطبيقه على نصوص الحديث الشريف؛ لذلك كان انطلاقي في بحثي من مسلَّمة مفادها: أنَّ الخطابَ النَّبوي حاكمٌ على أي منهج نتناوله به، ولا أجعل من المنهج مقياسًا يَروزُ نجاح ذلك الخطاب أو عدمه؛ فنجاح الخطاب النَّبوي وحيويته، وتأثيره عبر العقود والقرون لا ينكره إلا جاحد!

    وقد قام البحث على خُطَّة تشكَّلت من خلال المنهج التَّداولي، من مقدِّمة، وتمهيد، وأربعةِ فصول، وخاتمة عامة، وفهارس عامَّة، وذلك على النحو الآتي:

    • المقدّمة، وتتضمَّن العناصر الآتية:

    * أهمية البحث وأسباب اختياره.

    * أهداف البحث.

    * الدراسات السابقة.

    * منهج البحث.

    * خطة البحث.

    • التَّمهيد، وفيه مطلَبان:

    1.مفهوم الفَضاء.

    2.أبعاد الفَضاء في الخطاب النَّبوي.

    • الفصل الأول: مقاصد المتكلِّم، وفيه ثلاثة مباحث، على النحو الآتي:

    - المبحث الأول: المقاصد الشَّرعيَّة.

    - المبحث الثاني: المقاصد التحفيزيَّة.

    - المبحث الثالث: المقاصد السَّرديَّة.

    • الفصل الثاني: ِبِنيَة الفَضَاء، وفيه ثلاثة مباحث، على النحو الآتي:

    - المبحث الأول: فضائيَّة المفردة.

    - المبحث الثاني: فضائيَّة الترَّكيب.

    - المبحث الثالث: فضائيَّة الصُّورة.

    • الفصل الثالث: تلقي الفَضاء: وفيه ثلاثة مباحث، على النحو الآتي:

    - المبحث الأول: الأعمال القوليَّة.

    - المبحث الثاني: السُّؤال والتَّعليق.

    - المبحث الثالث: التَّأثُّر النَّفسي.

    • الفصل الرابع: خصائص الفَضَاء: وفيه مبحثان، على النحو الآتي:

    - المبحث الأول: الخصائص المضمونيَّة.

    - المبحث الثاني: الخصائص الفنيَّة.

    • الخاتمة العامَّة، وتشمل نتائج البحث وتوصياته.

    • مَسرد المصطلحات.

    • الفهارس العامَّة، وتشمل الفهارس الآتية:

    - فهرس أطراف الأحاديث النَّبوية الشَّريفة.

    - ثبت المصادر والمراجع.

    - الفهرس التَّفصيلي.

    - الفهرس العام.

    وما من شكٍّ بأنَّ دروب البحث محفوفة بالصِّعاب، لكن عون اللّه ۵ وتيسيره هو الزَّاد لإتمام العمل، فله الفضل والمنَّة على عطاياه السَّابغة، وتمثلت صعوبات البحث هذا في كونه يتناول موضوعًا نقديًا حديثًا لم أجد من دَرَسة دراسة تطبيقيَّة على خطابات النَّبي الكريم ﷺ، فكانت المراجع شحيحةً، إضافة إلى أن منهج البحث (التَّداوليَّة) من المناهج اللِّسانية الحديثة أيضًا، فكان عليَّ أن أستوعب منه ما يُمكّنني من تطبيقه في دراسة الفَضاء وتحليل جوانبه المختلفة، مع استصحاب خصوصيَّة الحديث الشريف، وحسبي أن خُضت غمار درس جديد في رؤية البيان النَّبوي وتحليله، ولعلي بذلك أن أسهم في فتح مجالات أخرى للباحثين في دروب البلاغة السَّامقة، وتجديد نوافذ البحث فيها.

    وختامًا؛ فإني أحمد الله تعالى وأشكره وأثني عليه الخير كلَّه أن وفَّقني لبلوغ تمام هذا البحث، وفتح لي من أبواب الفَهم والتوفيق، وأدعوه أن يجزي والديَّ الكريمين خير الجزاء، وأن يمتعهما بالصحَّة والعافية وطول العمر في طاعته ۵، فقد كان دعاؤهما خير سبيل في المضي والتقدُّم في مسيرتي العلميَّة، ولقيت منهما حُسن التَّوجيه والدَّعم المتواصلين.

    كما يمتدُّ شكري وعرفاني إلى المشرف على هذا البحث، سعادة الأستاذ الدكتور: عبد المحسن بن عبد العزيز العسكر، فقد كان نِعم الموجِّه والنَّاصح، ونهلت من جميل خُلقِه وعلمه فجزاه الله خيرًا، ونفع به، وأثني بالشُّكر لمن دعمني علميًا في مسيرة التَّخطيط لهذا البحث وزوَّدني بعدد من مراجعه، وأرشدني في منهجه، سعادة الأستاذ الدكتور: أحمد بن الطيب الودرني، وفقه الله، وشكرٌ يمتد لكل مَن قدَّم لي يدًا من عون في مسيرتي البحثيَّة، وشاركني بعلمه ونُصحه، وتشجيعه، ومنحني من خالص دعائه، أو سامحني في تقصيري وانشغالي عنه ببحثي، من زوجة كريمة، وفلذات أكباد، وإخوة وأخوات، وزملاء، فاللهم جازِهم عنِّي خيرًا، وأكرمهم، وامنحهم سعادة الدَّارين.

    وبعدُ؛ فقد كانت تلك رؤيتي البحثيَّة، ووجهتي الدراسيَّة، وعُدَّتي المنهجيَّة، وقبل ذلك استعانتي باللّه ۵، استصحبت ذلك في رحلة ماتعة مع خطاباته ﷺ، اجتهدت في طرح مداخل للدراسة، وطرائق في التحليل والعرض، قاصدًا تقديم لبنةٍ على طريق العلم بسنته ﷺ ومقاصد خطابه، وجميل لغته، ونمير تصويره، وبديع نظمه، فما حققت فيه صوابًا فهو بما أفاء عليَّ ربي، وما أخطأت فيه فلعله يُجبر بصحَّة الهدف، وبذل الوسع، واللّه من وراء القصد، أسأله أن يفتح علينا جميعًا فتوح العارفين، ويرزقنا علمًا نافعًا، وعملًا صالحًا، وأن يكتب لهذا العمل بركة وقبولًا، وهو وحده نعم المولى ونعم النَّصير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    محمد بن عادل السَّيِّد

    قُرطُبة الرِّياض العامرة

    جمادى الأولى 1440هـ

    masayed31@gmail.com

    (1)

    (1)

    اقتضاء الصراط المستقيم: 2/ 748، شيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: ناصر العقل، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الثانية، 1411هـ.

    (2)

    (2)

    الاعتصام: 1/52، إبراهيم بن موسى الغرناطي الشهير بالشاطبي، تحقيق: سليم بن عيد الهلالي، دار ابن عفان، السعودية، الطبعة الأولى، 1412هـ/ 1992م.

    (3)

    (1)

    وحي القلم: 3/6، مصطفى صادق الرافعي، دار الكتاب العربي، بيروت، (د.ط.ت).

    (4)

    (2)

    أدب الحديث النَّبوي: 104، د. بكري شيخ أمين، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1382هـ.

    (5)

    (3)

    معالم البيان في الحديث النَّبوي: 70، د.عبد المحسن بن عبد العزيز العسكر، مكتبة دار المنهاج للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الأولى، 1435هـ.

    (6)

    (1)

    ومن أمثلة ذلك: الفضاء الروائي في الغربة: الإطار والدلالة، منيب محمد البوريمي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1983م. فضاء النَّص الروائي: مقارنة بنيوية تكوينيّة في أدب نبيل سليمان، محمد عزَّام، دار الحوار للنشر والتوزيع، سوريا، الطبعة الأولى، 1996م. شعرية الفضاء السردي: المتخيَّل والهوية في الرواية العربية، د.حسن نجمي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2000م.شعرية الفضاء الروائي، جوزيف.إ.كيسنر، ترجمة: لحسن حمامة، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2003م. شعرية الفضاء الروائي عند جمال الغيطاني، عزوز علي إسماعيل، دار العين للنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1431هـ/ 2010م. فضاء الصحراء في الرواية العربية: المجوس لإبراهيم الكوني أنموذجًا، أمينة محمد برانين، دار غيداء للنشر والتوزيع، الأردن، الطبعة الأولى، 1432هـ/ 2011م. الفضاء في الرواية العربية الجديدة: مخلوقات الأشواق الطائرة لإدوارد الخراط نموذجًا، حورية الظل، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، الطبعة الأولى، 1432هـ/ 2011م. الفضاء الروائي مفاهيم وإشكاليَّات، د.إبراهيم جنداري، تموز للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، الطبعة الأولى، 2013م.

    (7)

    (2)

    ومن ذلك: فلسفة المكان في الشعر العربي: قراءة موضوعاتية جمالية، د. حبيب مونسي، دراسة من منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2001م. شعرية المكان المقدس دراسات في الشعر السعودي، د. حافظ المغربي، مطبوعات النادي الأدبي بالرياض، ط 1427هـ. شعرية الفضاء عند شعراء المعلقات: فضاء الأطلال نموذجًا، حفيظة زعتر، أطروحة دكتوراه في الأدب العربي القديم، إشراف الدكتور/ عبد الملك مرتاض، (مخطوطة) جامعة الجزائر، 2007م. توظيف المكان في الشعر الفلسطيني المعاصر، د. خالد راضي خليفة، دار النابغة للنشر والتوزيع، مصر، الطبعة الأولى، 1435هـ/ 2014م.

    (8)

    (3)

    من تلك الدراسات: المكان في النص المسرحي، منصور نعمان نجم الدليمي، دار الكندري للنشر والتوزيع، إربد، ط1، 1999م، الفضاء المسرحي دراسة سيميائيَّة، أكرم اليوسف، دار مشرق- مغرب، دمشق، (د.ط)، 2000م.

    (9)

    (4)

    كما في تناول المكان في دراسة: بنية الزمان والمكان في قصص الحديث النبوي الشريف، مذكرة مقدمة لنيل شهادة الماجستير في الأدب العربي، إعداد الطالبة: سهام سديرة، إشراف أ.د. رابح دوب، كلية الآداب واللغات، جامعة منتوري قسنطينة، الجمهورية الجزائرية الديموقراطية الشعبية، السنة الجامعية 2005- 2006م.

    (10)

    (1)

    مذكرة مقدمة لنيل شهادة الماجستير في الأدب العربي، إعداد الطالبة: سهام سديرة، إشراف أ.د. رابح دوب، كلية الآداب واللغات، جامعة منتوري قسنطينة، الجمهورية الجزائرية الديموقراطية الشعبية، السنة الجامعية 2005- 2006م.

    (11)

    (2)

    من تلك الرسائل: الأمثال في صحيح البخاري (دراسة تداوليَّة لأفعال الكلام)، (رسالة ماجستير)، إعداد: وهيبة غضابي، إشراف أ.د. عمار شلواي، كلية الآداب واللغات بجامعة محمد خيضر بسكرة، الجزائر، العام 1433-1434هـ/ 2012-2013م. الأفعال الكلاميَّة في القصَّة النَّبوية: نماذج مختارة من الحديث النبوي الشريف، مذكرة ضمن متطلبات شهادة الماستر في الآداب واللغات، إعداد الطالبة: ونيسي عائشة، إشراف: الساكر مسعودة، جامعة حمة لخضر بالوادي، كلية الآداب واللغات، الجزائر، السنة الجامعية: 1435-1436هـ/ 2014-2015م.

    (12)

    (3)

    من تلك البحوث: ظاهرة الأفعال الكلاميَّة في الخطاب النَّبوي: مقاربة تداولية لخطبة حجة الوداع، حبيب بوزوادة، مجلة جذور، النادي الأدبي الثقافي بجدَّة، العدد 35، محرم 1435هـ/ نوفمبر 2014م. الاستفهام في الحديث النَّبوي من منظور مباحث التداولية، عيدة ناغش، مجلة اللغة، العدد الرابع، يوليو- سبتمبر 2015م، الجزائر.

    (13)

    (1)

    طبعتها: الدار المتوسطية للنشر، تونس، الطبعة الأولى، 1437هـ/ 2016م، وأصلها رسالة علمية بعنوان: بلاغة الحِجَاج النَّبويّ في الصَّحيحين، بحث مقدم لنيل درجة العالمية العالية (الدكتوراه) في البلاغة والنقد، بقسم البلاغة والنقد ومنهج الأدب الإسلامي، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة، بإشراف: أ.د.أحمد الودرني، العام الجامعي 1435-1436هـ/ 2014-2015م.

    (14)

    (2)

    طبعته: دار النابغة للنشر والتوزيع، طنطا- مصر، الطبعة الأولى، 1439هـ/ 2018م.

    (15)

    (3)

    طبعته: دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمَّان- الأردن، الطبعة الأولى، 1436هـ/ 2015م.

    (16)

    (1)

    ينظر: الفضَاء والمكان، ص 31 وما بعدها.

    (17)

    (2)

    أصل المصطلح في المعاجم العربية يرجع إلى جذر (دَوَل)، ويدور حول معاني: التَّحول والتَّبدل، وفي (اللِّسان): تداولنا الأمر أخذناه بالدول، وقالوا دواليك أي: مداولة على الأمر، ودالت الأيام: دارت، واللّه يداولها بين الناس، وتداولته الأيدي أي: أخذته مرة بعد مرة. ينظر: لسان العرب: مادة (الدَّول). وهكذا يتماهى المعنى اللُّغوي مع المفهوم اللِّساني؛ إذ يدل على أطراف تتعاون وتتشارك في انتقال المعنى.

    (18)

    (3)

    المقاربة التداولية: 7، فرانسواز أرمينكو، ترجمة: د. سعيد علوش، مركز الإنماء القومي، الرباط، 1986م.

    (19)

    (4)

    يُنظر: التداولية عند العلماء العرب: دراسة تداولية لظاهرة الأفعال الكلامية في التراث اللساني العربي: 16، د.مسعود صحراوي، الطبعة الأولى، بيروت، دار الطليعة، 2005م.

    (20)

    (1)

    مبادئ في اللسانيات: 185، خولة طالب الإبراهيمي، دار القصبة للنشر، الجزائر، الطبعة الأولى، 2000م.

    (21)

    (2)

    الفكر التَّداولي في الحديث النَّبوي: 214، أ.د. عبد اللّه جاد الكريم، دار النابغة للنشر والتوزيع، طنطا- مصر، الطبعة الأولى، 1439هـ/ 2018م.

    (22)

    (3)

    يُنظر: التداوليات علم استعمال اللغة: 2-3، مجموعة باحثين، إعداد وتقديم د. حافظ علوي، عالم الكتب الحديث، الأردن، الطبعة الأولى، 2011م.

    (23)

    (1)

    ينظر: بلاغة الخطاب وعلم النص: 25، د. صلاح فضل، الشركة المصرية العالمية للنشر، لونجمان، القاهرة، 1996م.

    (24)

    (1)

    الصورة الفنيَّة في الحديث النَبوي الشريف: 788، د. أحمد زكريا ياسوف، دار المكتبي، سورية- دمشق، الطبعة الثانية، 1427هـ/ 2006م.

    (25)

    (2)

    ينظر: استراتيجيَّات الخِطَاب: مقاربة لغويَّة تداوليَّة: 1/25، د.عبد الهادي بن ظافر الشهري، دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع، عمَّان، الطبعة الثانية، 1436هـ/ 2015م.

    (26)

    (3)

    في كتابه: الحجاج في القرآن من خلال خصائصه الأسلوبيَّة، دار الفارابي، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى 2001م، الطبعة القثانية 2007م

    (27)

    (4)

    سبقت الإشارة إليه، هامش (1)، ص17.

    (28)

    (1)

    هناك دراسات بحثت هذه القضيَّة، من ذلك: التداوليَّة عند العلماء العرب، د.مسعود صحراوي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت- لبنان، طبعة 2005م.

    (29)

    (2)

    الفكر التَّداولي في الحديث النَّبوي: 317.

    (30)

    (1)

    المعايير النَّصيَّة بين السُّور المكية والمدنيَّة (دراسة تطبيقيَّة: الأعراف والنساء نموذجًا): 309، د.يسري السيد إبراهيم نوفل، دار النابغة للنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى، 1436هـ/ 2014م.

    التَّمهيد

    1. مفهوم الفَضَاء:

    - الفَضَاء في المُعجَم العربيّ.

    - الفَضَاء في الدَّرس النَّقدي: المَنْبَت والتَّحوُّلات.

    - الفَضَاء والمَكان.

    - الفَضَاء في الخطاب النَّبوي.

    2. أبْعاد الفَضَاء في الخِطاب النَّبوي:

    - البُعد الإدراكي.

    - البُعد التَّداولي.

    - البُعد التَّقاطُبي.

    1. مفهوم الفَضَاء

    الفَضاء في الـمُعجَم العربيّ

    يذكر ابن فارس أنَّ الفاء والضَّاد والحرف المعتلّ أصلٌ صحيح يدل على: الانفتاح في الشيء والاتِّساع(1)؛ لذا فـ(الفَضَاءُ)(2): الْمَكَانُ الْوَاسِعُ مِنَ الأَرض.. وَقَدْ فَضَا المكانُ وأَفْضَى إِذا اتَّسَعَ، والصحراءُ فَضَاء، ويُقَالُ: أَفْضَيتَ إِذا خَرَجْتَ إِلى الْفَضَاءِ، وَفِي دُعائه ﷺ لِلنَّابِغَةِ: لَا يُفْضِي اللّهُ فَاكَ(3)؛ - فِي رِوَايَةٍ- وَمَعْنَاهُ أَن لَا يَجْعَلَهُ فَضَاءً لَا سِنَّ فِيهِ. والفَضَاء: الْخَالِي الْفَارِغُ الْوَاسِعُ مِنَ الأَرض. والفَضَاء: السَّاحةُ وَمَا اتَّسَعَ مِنَ الأَرض. والفِعْل: فَضَا يَفضُو فُضُوًّا، فهو فاضٍ، قال رُؤبة:

    أفــرخ قيــضُ بيضُهـــا المنقــــاضِ عنكــم، كِرامًــا بالمقــام الفَاضِـــي(4)

    وقد فَضَا المكان وأفضى: إذا اتَّسع.. وفي حديث معاذ في عذاب القبر: .. ضربَهُ بمرضافَةٍ(5) وسط رأسه حتَّى يُفضِي كُلَّ شيءٍ منه(6)، أي: يصير فَضاءً. و(الفضاء): السَّاحة، وما اتَّسع من الأرض، وهو كذلك: ما استوى من الأرض واتَّسع، والصَّحراء فضاء، وجَمعُه: أفْضِيَة. ومكان فاضٍ أو مُفْضٍ: واسع.

    والإِفْضَاءُ في الحقيقة الانتهاء؛ ومنه قوله تعالى: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا﴾، [النساء: 21]؛ أَي انْتَهى وأَوى، عدَّاه بإِلى لأَن فيه معنى وصَل، ومكان فاضٍ ومُفْضٍ أَي واسع، وأفْضَى المرأةَ: جَعَلَ مَسْلَكَيْها واحِداً، فهي مُفْضَاةٌ.

    وقالَ أَبُو عليَ القالِي: الفَضاءُ السّعَةُ؛ وأَنْشَدَ:

    بِــأَرْضٍ فَضَــاءٍ لَا يُسَــدُّ وَصِيدُهَــا عَلَــيَّ وَمَعْرُوفِــي بِهَــا غَيْـــرُ مُنْكَـــرِ(7)

    وقالَ الآخَرُ:

    أَلا رُبَّمــا ضـــاقَ الفَضـــاءُ بأَهْلِــــه وأَمْكَـن من بَيْــن الأسِنَّــة مَخْـرج(8)

    وجاء في المعجم الوسيط: (الفَضَاء) مَا اتَّسع من الأَرْض، والخالي من الأَرْض، وَمن الدَّار مَا اتَّسع من الأَرْض أمامها، وَمَا بَين الْكَوَاكِب والنجوم من مسافات لا يعلمهَا إِلَّا الله"(9).

    وتكاد تتَّفق المعاني اللُّغويَّة على أن (الفَضَاء) فيه معنى: الاتِّساع، والانفتاح، والخَلَاء، والمسافات التي لا تُحدّ ولا تتموضَع بخصوصيَّة تعزلها عن غيرها؛ بل إنَّ هذه المعاني مُستَحضَرةٌ في (الفَضَاء) بحيث أصبحت كالعَلَم عليه؛ فحين نُطالِع معاجم العربيَّة نجد عددًا من المفردات قد فُسِّرت بـ(الفضاء)، من ذلك -مثلًا(10)-:

    - (البِدْحُ): الفَضاءُ الواسعُ(11).

    - (البرَاز): الفضاء الواسع الخالِي(12).

    - (الجَوّ): الفضاء بَين السَّمَاء وَالْأَرْض(13).

    - (الدَّأْدَاءُ): الفَضاءُ، وما اتَّسَعَ من التِّلاعِ والأوْدِيَةِ(14).

    - (السَّاحَةُ): النَّاحِيَةُ، وفَضاءٌ بينَ دُورِ الحَيِّ(15).

    - (السَّلَنْطَحُ): الفَضاءُ الواسِعُ(16).

    - (السِّيُّ): الْفَضَاءُ مِنَ الْأَرْضِ(17).

    - (الصَّحراء): الفَضاءُ الواسِعُ لا نباتَ به(18).

    - (العَراءُ): الفَضاءُ لا يُسْتَتَرُ فيه بشيءٍ(19).

    - (الفَرْشُ): الفضاء الواسع(20).

    - (الـمَرْج): الفضاء(21).

    - (المـَلِيعُ): الفَضاءُ الواسعُ(22).

    فكل هذه الألفاظ جاء الفضاء في تفسيرها، ويُلاحَظ اقترانها بمعاني: الاتِّساع، والخلو، والبَينِيَّة، كما أنَّ شيوع مصطلح (الفضَاء) في الدَّرس المعجمي العربي يُثبت استعماله في معناه العام الذي تحدَّد بعد ذلك من خلال استعمالات النَّقاد له، دون خُلوِّه من ذلك المعنى الأصيل الذي يحمله لفظ الفضاء ويوحي به ظلاله في تراثنا العربيّ؛ ما يعني أن هذا اللَّفظ لم يكن دخيلاً على لغتنا، أو نادر الاستعمال؛ بل على العكس من ذلك، فهو حريّ من هذه الجهة باستثماره تنظيرًا وتطبيقًا، خصوصًا إذا اعتبرنا ما طرأ عليه من تخصيص لجزئياته ومحتواه في النَّقد الحديث من قَبيل التَّطوّر الدّلالي الذي رُوعي فيه الاستعمال المعجمي في لغتنا العربيَّة.

    * * *

    (1)

    (1)

    ينظر: معجم مقاييس اللغة: 4/440-441، أبو الحسن أحمد بن فارس بن زكريا، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، بيروت، 1399هـ/ 1979م.

    (2)

    (2)

    لسان العرب: 15/158، مادة (فَضَا)، محمد بن مكرم ابن منظور الأنصاري، دار صادر، بيروت، ط3، 1414هـ. وينظر: الصِّحاح (تاج اللغة وصحاح العربية): (مادة: فَضَا): 6/2455، إسماعيل بن حماد الجوهريي، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الرابعة، 1407هـ/ 1987م. و: القاموس المحيط: 1321، مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، تحقيق: مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة، بإشراف: محمد نعيم العرقسُوسي، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان/ الطبعة الثامنة، 1426هـ / 2005م، و: و:تاج العروس من جواهر القاموس: (فَضُو) 39/241، محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني، أبو الفيض، الملقّب بمرتضى، الزَّبيدي، مجموعة من المحققين، دار الهداية، (د.ت)، وغيرها من معاجم العربيَّة القديمة والحديثة.

    (3)

    (3)

    أصل الحديث: لا يفضُضِ اللّهُ فاك وإسناده ضعيف. يُنظر: إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة: 6/146، أحمد بن أبي بكر البوصيري، تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، دار الوطن، الرياض، الطبعة الأولى، 1420هـ.

    (4)

    (4)

    البيت لرُؤبة بن العجَّاج في ديوانه. ينظر: مجموع أشعار العرب (وهو مشتمل على ديوان رؤبة بن العجاج): 82، اعتنى بتصحيحه: وليم بن الورد البروسيّ، دار ابن قتيبة للطباعة والنشر والتوزيع، الكويت، (د.ت).

    (5)

    (5)

    وردت: (مرصَافة)، و(مرضَافة) معجمة ومُهملة. "فالمرصَافة أراها كالمطرقة وسميت مرصَافة لارتصافها واجتماعها وكل شيء ضممته إلى شيء فقد رصفته، ومن قَالَ: (مرضَافة) ذهب إلى الرَّضف، وهى الحجارة المحماة كأنه أراد مقمعة من نار. يُنظر: غريب الحديث: 2/310، أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب البستي، المعروف بـ(الخطَّابي)، تحقيق: عبد الكريم إبراهيم الغرباوي، خرج أحاديثه: عبد القيوم عبد رب النبي، دار الفكر، 1402هـ/ 1982م.

    (6)

    (6)

    غريب الحديث: 2/310، و: الفائق في غريب الحديث والأثر: 4/49، أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار اللّه، تحقيق: علي محمد البجاوي، ومحمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعرفة، لبنان، الطبعة الثانية، (د.ت).

    (7)

    (1)

    نَسَبه المحقق: السيد أحمد صقر لعبيد بن وهب العبسي، وأحال على سيرة ابن هشام 1/326. ينظر: غريب القرآن: 265، أبو محمد عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة الدينوري، تحقيق: أحمد صقر، دار الكتب العلمية، طبعة 1398هـ/ 1978م.

    (8)

    (2)

    البيت لابن وهب الشَّاعر (محمد بن وهب)، من شعراء المأمون. ينظر: الوافي بالوفيات: 5/117، صلاح الدين خليل بن أيبك بن عبد اللّه الصفدي، تحقيق: أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى، دار إحياء التراث، بيروت، طبعة 1420هـ/ 2000م. ومعاهد التنصيص على شواهد التلخيص: 1/227، عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن أحمد، أبو الفتح العباسي، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، عالم الكتب، بيروت، (د.ت).

    (9)

    (3)

    المعجم الوسيط: 2/694، مجمع اللغة العربية بالقاهرة، دار الدعوة، (د.ت).

    (10)

    (4)

    سأسرد هنا نماذج فقط، ومن خلال نُخبة من المعاجم؛ إذ ليس المقام للحصر أو الاستقصاء.

    (11)

    (1)

    ينظر: الصِّحاح: 1/354، و: المحكم والمحيط الأعظم: 2/266، أبو الحسن علي بن إسماعيل بن سيده المرسي، تحقيق: عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1421هـ/ 2000م. و: لسان العرب: 2/408، و: تاج العروس: 6/302.

    (12)

    (2)

    ينظر: الصِّحاح: 3/864، و: المحكم والمحيط الأعظم: 9/37، و: لسان العرب: 5/309، و: القاموس المحيط: 502، و: تاج العروس: 15/19، و: المعجم الوسيط: 1/49.

    (13)

    (3)

    ينظر: المعجم الوسيط: 1/149.

    (14)

    (4)

    ينظر: المحكم والمحيط الأعظم: 9/361، و: لسان العرب: 1/71، و: القاموس المحيط: 40، و: تاج العروس: 1/219.

    (15)

    (5)

    القاموس المحيط: (السَّاحَة): 225. القاموس المحيط: 212.

    (16)

    (6)

    ينظر: المحكم والمحيط الأعظم: 4/64، و: لسان العرب: 2/488، و: تاج العروس: 6/483.

    (17)

    (7)

    ينظر: معجم مقاييس اللغة: 3/112.

    (18)

    (8)

    ينظر: معجم مقاييس اللغة: 3/333، و: المحكم والمحيط الأعظم: 3/146، و: لسان العرب: 4/443، و: القاموس المحيط: 422، و: تاج العروس: 12/286،: 1/49.

    (19)

    (9)

    ينظر: الصِّحاح: 6/2423، و: معجم مقاييس اللغة: 4/298، و: المحكم والمحيط الأعظم: 2/232، و: القاموس المحيط: 1311، و: تاج العروس: 39/32، و: المعجم الوسيط: 2/598.

    (20)

    (10)

    ينظر: الصِّحاح: 3/1014، و: لسان العرب: 6/327، و: تاج العروس: 17/300.

    (21)

    (11)

    ينظر: المحكم والمحيط الأعظم: 7/422، و: لسان العرب: 2/364، و: تاج العروس: 6/207.

    (22)

    (1)

    ينظر: لسان العرب: 8/342.

    الفَضَاء في الدَّرس النَّقدي: المَنْبَت والتَّحوّلات

    يمكن أن تكون بوادر نشأة دراسات الشَّكل الفضائي عمومًا وفي الرواية خصوصًا من الجدالات الفلسفيَّة الإغريقيَّة والرومانية حول طبيعة الفَضاء والزَّمن(1)، وتعالقات (المكان) بهما، فنلحظ أنه في تقسيم (أرسطو): عام وخاص، حيث المكان عنده هو: السَّطح الباطن المماس للجسم المـَحْوي، وهو على نوعين: خاص فلكلّ جسم مكان يشغله، وعام مشترك يوجد فيه جسمان أو أكثر(2)، فالعام الذي يحوي عناصر ممتدَّة يمكن أن يكون إشارة متقدّمة من (أرسطو) إلى المحتوى الفضائي الذي يشمل مساحة أرحَب تتشابك فيها العلاقات.

    غير أنَّ (أرسطو) لم يؤثِّر كثيرًا في النَّظريات التالية في الفَضَاء كما أثَّرت فيها الهندسة الإقليديَّة، التي قدَّمت تصوُّرًا وجد له تمثيلًا صادقًا في (الفضاء الفيزيائي) ذي الأبعاد الثلاثة، ولكن هذا التصور الإقليدي هو الآخر انهار مع ظهور نظريات هندسيَّة لا إقليديَّة في القرن التاسع عشر، حين قدمت النَّظريَّة النِّسبيَّة تصورًا أوضح للفَضاء الفيزيائي، وبتطوُّر النَّظريات العلميَّة والفلسفيَّة تبلورت مفاهيم متعددة للفَضاء؛ فالمفهوم القديم الذي قدَّمته التصورات الفلسفيَّة للفضاء الموحَّد تشظَّى إلى فضاءات متعددة(3).

    وللحساسيَّة التي تكتنف (الفَضَاء) منذ بواكير تداوله، ولطبيعة علاقاته المعقَّدة بعناصر أخرى مباينة له، أو مشاركة له في دائرة مفهومه العام؛ أُهمل الفضاء من قِبل النَّقد؛ لالتباسه بالمكان الواقعي، حيث ظلَّ لفترة طويلة خاضعًا للقراءة السَّاذجة؛ لأن المبدع التقليدي اهتم بوصف المكان والمبالغة في تحديده وتعيينه، وذلك بغية محاكاة الواقع ومطابقته، وقد أثَّرت هذه الدِّقَّة الوصفيَّة سلبًا في الفضاء؛ لتجريدها إياه مفهومه النَّصي، باعتباره عنصرًا خياليًا مختلفًا، كالشخصيَّة والحدث وغيرها من المكونات الحكائية الأخرى، ثم حقق الفضاء مع الرواية الجديدة تخلّصه من الإسهابات الوصفيَّة التي سلبته وظيفته، فحقق تقدُّمًا مكَّنه من احتلال مركز مهم في البناء السَّردي، وأثبت حضوره كبنية وكدور وظيفي لا تزييني(4)، على نحو ما سنُطالع عند النُّقاد في الغرب والشَّرق بعد ذلك، ولم يكن له كامل الاهتمام من قبل المنظِّرين، حيث كان التركيز على الجانب الوظيفي الذي يهتم بما يحيل عليه الفضاء من تمظهرات واقعية ورمزية دون الالتفات إلى بنائه في النَّص، وعلاقته بباقي المكونات الحكائية الأخرى(5).

    ومنذ سبعينيَّات القَرن الماضي بدأ الاهتمام بالفضاء الروائي باعتباره مكونًا حكائيًا، وليس مجرد مؤطر للشَّخصية والحدث(6)، وأخذ مصطلح الفضَاء طرقًا مختلفة، وأفكارًا متعددة عند بعض النقاد والباحثين، وقد عبر محمد بنيس عن رأيه في هذه القضية في كتابه (الشعر العربي الحديث: بنياته وإبدالاته)، حيث يقول: إن مصطلح (الفَضَاء) مستعمل في الدَّلائليَّة بمفاهيم متباينة، قاسمها المشترك هو اعتباره كموضوع مبني يتضمن عناصر متقطعة انطلاقًا من الامتداد المعتبر، كاتساع مملوء، ممتلئ، دون حلّ للاسترسال. إن بناء الفضاء يمكن فحصه من وجهة هندسية بإخلاء أي ملكية أخرى، ومن وجهة نظر نفسية فيزيولوجية كظهور متصاعد لخصائص مكانية، انطلاقًا من الخلط الأولي، أو من وجهة نظر اجتماعية ثقافية كتنظيم ثقافي للطبيعة مثل الفضاء المعمر، وإذا أضفنا جميع الاستعمالات الاستعارية لهذه الكلمة، فإن استعمال مصطلح (الفَضَاء) يتطلب حذرًا شديدًا من طرف الدَّلائليين(7).

    وكما أشار إلى ذلك (جوليان غريماس) و(جوزيف كورتيس) في معجمهما (السيموطيقيا)، حين قالا: إنَّ بناءَ الفضاءِ يمكن فَحْصُه من زاويةِ نظرٍ هندسيَّةٍ مع إجلاء كلِّ خاصِّيَةٍ أخرى، أو من زاويةِ نظرٍ نفسيَّةٍ فيزيولوجيَّةٍ (عُضْوِيَّة) باعتباره تجَلِّيًا متواصِلاً لصفاتٍ فضائيَّةٍ انطلاقًا من الالتباس الأصليّ، أو من زاوية نظرٍ اجتماعيَّةٍ ثقافيَّةٍ باعتباره انتظامًا ثقافيًّا للطَّبيعة: مثال، الفضاء المشيَّد. وإذا ما أُضيفتْ كلُّ الاستعمالات المجازيَّة المختلِفة لهذا المصطلح، فسيُسْتَخْلَصُ أنَّ استعمالَ مصطلح الفضاء يتطلَّبُ فطنةً كبيرةً من السِّيميائيِّ(8).

    وللأهميَّة التي احتلها الفَضَاء في التَّعاطي النَّقدي الحديث؛ أسهمت البنيويَّة، والسيميائيَّة، وغيرهما في دراسة الفضاء، على مستوى: الحكي السَّردي، أو الشعريَّة، والنَّصيَّة، بل تجاوزت ذلك لتلُف الإنشائيَّة، وتحليل عناصر الخطاب وتكوينه على المستوى الداخلي والخارجي، وأصبحت الدراسات النقدية الحديثة تنظر إليه نظرة جديدة، وتغتني به؛ مما أعاد له حضوره على مستوى التحليل والبحث(9)، وأضحى مصطلح (فَضَاء) يُستعمل في السِّيميائيات أو الحقل العلامي بمفاهيم جدّ متَّسعة ومتباينة، لكنها ذات قاسم مشترك بحيث يمكن اعتبار الفضاء موضوعًا ذا بنية حاملة لعناصر أو مكونات غير مترابطة تستدعي مزيدًا من الحيطة والحذر(10).

    وإذا كان لفظ (الفَضَاء) لفظًا مُعجَميًا عربيًا أصيلًا في دلالته على معاني الاتساع، والانفتاح، والبَينيَّة، وغيرها مما سبق؛ فقد اشتق الفرنسيون والإنجليز مصطلحي (espace)، و(space) من لفظة (spatuim) اللاتينيَّة، التي تعني في الأصل الامتداد واللامحدود الذي يحوي كل الامتدادات الجزئيَّة المحددة، في حين لم يعرف الإغريق لفظة (الفَضَاء)؛ إذ لم تظهر في لغتهم كلمة تدل على (المكان)، وإنما عرفوا لفظة (Topos)، وتعني: (موقع)(11)، ثم أضحى (الفَضَاء) واحدًا من أهم المفهومات التي برزت في الدراسات الحديثة بعدما كان الاهتمام الأول منصبًا على المكان أو الزمان، كل منهما بشكل منفرد، أما اليوم فقد أصبح الفضاء يحظى بالاهتمام المتميز من الباحثين؛ لأنه يتناول الكلّ النَّصي من مختلف مناحيه؛ مما يؤدي إلى إظهار خبايا النَّص وغاياته، إذ لا نَصَّ بدون فَضَاء يحيا به، وتجري الأحداث من خلاله(12).

    وقد تعددت الزوايا التي قارب بها الدارسون الفَضَاء الروائي بتعدد المرجعيات والخلفيات الفكرية والنظرية التي تسند وتؤطر دراساتهم، وتعددت الرؤى بتعدد الأبحاث والدراسات، الشيء الذي أعطاه أبعادًا ودلالات تنوعت بتنوع أدوات وإجراءات المقاربة النقدية(13)، وعلى الرغم من كثرة الدراسات النقدية في موضوع الفضاء إلا أنَّ هذا المصطلح يجعلنا أمام مجموعة مختلفة من الآراء والأفكار التي بلغت حدَّ الإشكال المعرفي والفلسفي والنقدي(14)؛ لأنه مفهوم متطوِّر متَّسع، يستحضر مكونات متعددة، تشترك فيما بينها، القاسِمُ المشترَكُ بينها يمكن أن يكون في اعتباره مَوْضُوعًا مَبْنِيًّا يحتوي عناصرَ متقطِّعة(15)، وتبعًا لذلك؛ تطوَّر مفهوم الفَضَاء واهتمَّت به العلوم والدراسات النقديَّة، ولقي أصداءً كبيرة في الدَّرس اللُّغويّ واللِّسانيّ الحديث، بحيث تَدَاعى في محاولة لتشكيل رؤية فنيَّة متعددة، فكان (الفضاء الروائي الأدبي) المتمثل في الخطوط السوداء عبر الصفحات البيضاء في طي الوصف السردي، وهناك (الفضاء الجغرافي) المتمثل في الحدود الثقافية بين ثقافة وأخرى.. وهناك (الفضاء الخيالي)، و(الفضاء المسرحي)(16)، إلى غير ذلك، غير أن (الفَضَاء الكوني) المحدود وغير المحدود، الذي يحوي بين طياته أماكن متعددة، أو لا يحويها، يمثل الفَضَاء المركزي الذي تتعالق معه فضاءات متعددة، بل يلتحم في النَّص مع عناصر السرد برُمَّتها.

    ولا أدلَّ على اتِّساع المفهوم الفضائيّ -في الرواية خصوصًا- من صور وظائفه التي تشكَّلت في الرواية، وهي: "أولًا وظائفه من حيث هو إيهام ثانوي فعال في النَّص، وواسطة عبرها تتحقق الخصائص الفضائيَّة في الفنّ الزمني،

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1