Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

بنية الخطاب في القرآن الكريم: التكوين والأسلوب -الجزء الأول (الكتاب الأول): بنية الخطاب في القرآن الكريم: التكوين والأسلوب, #1
بنية الخطاب في القرآن الكريم: التكوين والأسلوب -الجزء الأول (الكتاب الأول): بنية الخطاب في القرآن الكريم: التكوين والأسلوب, #1
بنية الخطاب في القرآن الكريم: التكوين والأسلوب -الجزء الأول (الكتاب الأول): بنية الخطاب في القرآن الكريم: التكوين والأسلوب, #1
Ebook1,329 pages10 hours

بنية الخطاب في القرآن الكريم: التكوين والأسلوب -الجزء الأول (الكتاب الأول): بنية الخطاب في القرآن الكريم: التكوين والأسلوب, #1

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

 كتاب "بنية الخطاب في القرآن الكريم: التكوين والأسلوب" هو كتاب متميز في مجاله  يأتينا من إحدى العقول المتميزة في مجال الدراسات القرآنية واللغوية، الدكتور دسوقي إبراهيم. يعرض الكتاب تحليلاً دقيقًا للبنية الخطابية في القرآن الكريم، مع التركيز على التكوين والأسلوب الذي يميز القرآن كنصٍ فريد.

يهدف الكتاب إلى فهم عميق لبنية الخطاب في القرآن، وكيفية استخدامها لنقل المعاني وتأثيرها على المستمعين والقراء. يقدم الدكتور دسوقي إبراهيم تحليلاً شاملاً يشمل العديد من الجوانب المهمة، مثل ترتيب الآيات والسور، والتكرار والتنويع الأسلوبي، والتواصل اللغوي والبلاغي بين الله والإنسان.

يعتبر الجزء الأول من الكتاب بدايةً مثيرة وأساسية للتعرف على المفاهيم الأساسية المتعلقة بالبنية الخطابية في القرآن الكريم. يقدم الكتاب نظرة شاملة على تركيب القرآن وتنظيمه، مع إلقاء الضوء على الآليات اللغوية التي تشكل الأساس لتأثير القرآن على القراء.

باستخدام منهجية متكاملة ومنطقية، يستعرض الكتاب عدة مفاهيم مهمة مثل الوحدة السورية والعلاقات النصية بين السور والآيات. يتناول أيضًا البنية الفرعية للآيات والجمل، وكيفية تشكل السياق اللغوي والثقافي الخاص بالقرآن.

ما يميز هذا الكتاب هو أسلوب الكتابة العلمي القوي والذكاء الفكري للدكتور دسوقي إبراهيم. يتميز بالبساطة والوضوح في عرض المفاهيم المعقدة، مما يجعله مفهومًا وقابلًا للتطبيق للقراء المهتمين بالدراسات القرآنية واللغوية.

يعتبر "بنية الخطاب في القرآن الكريم: التكوين والأسلوب" مرجعًا قيمًا لكل من الباحثين والطلاب والأكاديميين الذين يهتمون بدراسة القرآن الكريم واللغة العربية. يوفر الكتاب رؤية شاملة ومتعمقة للبنية الخطابية في القرآن، مرتبة بشكل منطقي ومنظم، مما يساعد على فهم أفضل لتركيب القرآن وتأثيره الفريد.

باختصار، يعد كتاب "بنية الخطاب في القرآن الكريم: التكوين والأسلوب" للدكتور دسوقي إبراهيم إضافة قيمة لدراسة القرآن الكريم وفهمه بشكل أعمق. يقدم تحليلاً شاملاً للبنية الخطابية في القرآن، ويساعد القراء على فهم كيفية تكوينه وأسلوبه الفريد. إنه كتاب لا غنى عنه لكل من يهتم بالدراسات القرآنية واللغوية ويرغب في استكشاف عمق القرآن الكريم.

   

 

 

Languageالعربية
Release dateJan 18, 2024
ISBN9798224725434
بنية الخطاب في القرآن الكريم: التكوين والأسلوب -الجزء الأول (الكتاب الأول): بنية الخطاب في القرآن الكريم: التكوين والأسلوب, #1
Author

أ.د: دسوقي إبراهيم

الأستاذ المساعد بكلية العلوم الإسلامية جامعة أتاتورك وجامعة بايبورت تركيا - سابقًا  

Read more from أ.د: دسوقي إبراهيم

Related to بنية الخطاب في القرآن الكريم

Titles in the series (3)

View More

Related ebooks

Reviews for بنية الخطاب في القرآن الكريم

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    بنية الخطاب في القرآن الكريم - أ.د: دسوقي إبراهيم

    بنية الخطاب في القرآن الكريم

    التكوين والأسلوب

    دكتور دسوقي إبراهيم

    الأستاذ المساعد بكلية العلوم الإسلامية

    جامعة أتاتورك وجامعة بايبورت

    تركيا - سابقًا

    ﴿الجزء الأول﴾

    ﴿خطاب الله سبحانه وتعالى عن نفسه﴾

    الكتاب الأول

    الخطاب باسم الجلالة (الله)

    ––––––––

    ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾

    ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ

    لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾

    (الإسراء : 88)

    {شُكْرٌ وتَقْدِيرٌ واحْتِرَامٌ}

    D:\20370335_10155092155474055_1925896574_n.jpg

    أتقدم بخالص شكري واحترامي وتقديري وعرفاني بالجميل والفضل لأبي وأستاذي ومعلمي الجليل : الأستاذ الدكتور نصر الله حاجي مفتي أوغلي، العميد الأسبق لكلية العلوم الإسلامية ، جامعة أتاورك وجامعة بايبورت بالجمهورية التركية .

    وهذا الشكر والتقدير لا أقدمه لسيادته بوصفه عميدًا للكلية فحسب ، بل أقدمه لسيادته بوصفه أبًا، وإنسانًا، وعالمًا، ومؤمنًا مخلصًا، ورحيمًا عطوفًا . هذا الرجل المتواضِعُ فِي غَيْرِ ذِلَّةٍ ، المُتَرَفِّعُ فِي غَيْرِ كِبْرٍ ،وكل هذا لأنه رجل من طراز رفيع .

    والحق أقول : لولا فضل هذا الأب الفاضل والعالم الجليل، الذي لا تُذكرُ كلية الإلهيات في أنحاء الجمهورية التركية كلها إلا ويذكر معها البرفسور الأستاذ الدكتور نصر الله علىَّ بعد الله سبحانه ، ما كنتُ لأصلَ إلى ما وصلت إليه الآن : علميًا وماديًا . فجزاه الله عني خير ما جزى أبًا عن ولده ، وعالمًا عن تلميذه :

    يَا نَصْرُ يَا مَنْ وَرِثْتَ الْعِلْمَ مِــــــــــــــــــــــــــــــنْ مَهْدِهْ    أَبُوْكَ مُفْــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتٍ وَأَنْـــــتَ وَارِثُ الأَبِّ

    كَــــــــذَا الْكِــــــــــــــرَامُ هُـــــــــــــــــــــمُ لِلْعِلْمِ مَـــــــــــــــــــــــــــــــدْرَسَةٌ  عِـرْقٌ أَصِيْلٌ مِــــــنَ الصِّبَا إلى الشَّيْبِ

    فَأَنْتَ نَصْـرٌ مِـــــــــــــــــــــنَ الموْلَى فَنِعْمَ الَّــــــــــــــــــــــــــذِي  سَمَّاكَ نَــصْرًا وَنِعْـمَ صَاحِبُ الَّلقَبِ

    لَكَ الْفِخَارُ سُلِلْتَ مِنْ مَعِيْنِ الْآيِ تَكْرُمَةً  فَكُنْتَ نَـــصْرًا عَلَى الشُّكُوْكِ وَالرِّيَبِ

    يَـــــــا ابْــــــــــــــــــــــنَ الْكِـــــــــــــــــــــــــرَامِ حَبَـــــــــــــــــــاكَ اللهُ مَنْزِلَةً  مــِنَ التُّقَى والْهُدَى والْحُبِّ وَالنُّجَبِ

    يَا مَـنْ مُنِحْتَ الْـوَفَا أَصْلا مِــــــــــــــــــــــــــــنَ الشِّيَمِ  ومَــــــــــــــــــا الْـوَفَا إلاَّ مِــــنْ عَرَاقَةِ النَّسَب

    ابنك وتلميذك / دسوقي إبراهيم

    شكر وتقدير

    أتقدم بخالص شكري وتقديري لأخي الفاضل وصديقي العزيز  الدكتور عيد فتحي عبد اللطيف ؛ إذ كثيرًا ما أرشدني إلى أن أوظف طاقاتي الأدبية والبلاغية في دراسة كتاب (الله) العزيز ؛ مؤمنًا بأن الدراسات البلاغية لا تبلغ ذروتها إلا من خلال دراسة آيات الذكر الحكيم . فله مني وافر الشكر وعظيم الاحترام والتقدير .

    والحقيقة أن الدكتور عيد هو أخي الذي لم تلده أمي ، فقد قذف (الله) الحب في قلبينا ، فكنا وجهين لعملة واحدة ، لدرجة أن إخواننا الأتراك كانوا ينادوننا بالأخوين بل ظن بعضهم، أو ربما كان متأكدًا بأننا أخوان شقيقان . وما كان هذا ليحدث هذا، لولا أن أسبغ الله علينا نعمه ظاهرة وباطنة بهذا الرباط الأخوي الإيماني ، الذي قلما يحدث بين اثنين من وطن واحد خارج وطنهما .    

    الإِهْدَاء

    إلى مَنْ بِوجُودِهَا تُوجَدُ السَّعادَةُ

    وبِفَقْدِهَا تُفْتَقَدُ السَّعَادَةُ

    إلى مَنْ مَثَّلَتْ لِيَ الأمَّ والأبَّ

    والأخَّ والأختَ مُنْذُ نَشْأَتِي

    إِلَى أُمّي الغَالِيَة.

    تقديم

    كثيرة هي الدراسات التي أُنْتِجَتْ حول (الخطاب القرآني) ، وكثيرة هي النداءات التي نادت بدراسة القرآن الكريم من خلال المناهج القرائية الحديثة ، بعد الطفرة اللغوية التي شهدها القرن العشرون في الثقافة العربية ؛ لاتصالها بالثقافة الغربية .

    ولاتساع الموضوع وتشعبه ، اقتصر الاتجاه الأول على بعض الجوانب في دراسة الخطاب القرآني ؛ فمنهم من تناول الخطاب القرآني لبني إسرائيل ([1]) ، ومنهم من تناوله للمؤمنين ([2]) ، ومنهم من قصره على بعض سور التنزيل العزيز([3]) .

    أما الاتجاه الثاني ، فقد أوقع بعض دارسيه أنفسهم في المحظور ؛ إذ تعاملوا مع الكتاب العزيز بوصفه منتجًا ثقافيًا ، راغبين في خلع سمة القداسة عن الكتاب المقدس ، وإضفاء سمة البشرية عليه ، كما سنرى في قسم التمهيد .

    وعلى أية حال ، لم تقابلني – في حدود معرفتي – دراسة في الخطاب القرآني ، اتسمت بالتأني والتروي والشمولية من حيث الإلمام بجوانب الموضوع ، أو الدقة والعمق في الدراسة النصية التي تبرز الجماليات الفنية للغة ، وتفاعُل تلك الجماليات في إنتاج الدلالة القرآنية في الخطاب القرآني .

    ومن ثم، بدت لي مشروعية هذا الموضوع، المكرَّر في عنوانه، الجديد في تناوله. وأرجو (الله) سبحانه وتعالى أن يقدم هذا الموضوع جديدًا ، ينضاف إلى سلسلة الدراسات التي تكشف بلاغة النظم في القرآن الكريم .

    أما منهج الدراسة ، فهو المنهج العلمي الألسني الحديث ، الذي يفيد من الدراسات اللغوية المعاصرة ، والذي تشكلت منه كل المناهج التحليلية ، التي يُستعان بها في قراءة النصوص اللغوية : مثل البنيوية، والأسلوبية، والسميولوجية، ونظرية التلقي، والتفكيكية والنقد الثقافي وغيرها . ولما كانت هذه المناهج لا يهمها إلا البحث والتنقيب عن الظواهر اللغوية المكوِّنة للنص، وكيفية تفاعلها ومشاركتها في إنتاج دلالته، غدا من الأولى الاستعانة بها في فهم الخطاب القرآني ([4]) .

    ولا ينبغي أن يُظنَّ أنني أدخل إلى دراسة الخطاب القرآني بفروض مسبقة ، أو بمناهج معينة ، فهذا مما يسيء لعملية التحليل ذاتها ؛ لأن الدارس الحقيقي هو الذي يترك للنص المدروس المنهج التحليلي الذي يصلح للتعامل معه في فك شفراته، وإنتاج دلالاته . لذا قلت : المنهج العلمي الألسني الحديث ([5]) .

    وترتكز هذه الدراسة على ثوابت وأسس ، أوجزها في النقاط الآتية :أولًا أن القرآن الكريم هو كتاب(الله)، المعجز في ذاته .

    ثانيًا : أن القرآن الكريم منهج عملي – حيوي يصلح لكل زمان ومكان ، فلا يصيبه التغيير بتغير الأزمنة ، ولا يتأثر بتبدل الأمكنة ؛ لأنه دستور (الله) للخلق إلى يوم القيامة . لم تصبه زيادة ولا نقصان ، ولن تنقضي عجائبه ، ولن ينضب إعجازه إلى أن يرث (الله) الأرض ومن عليها .

    ثالثًا : أنه الكتاب المقدس، المختلف عن كلام البشر ؛ ومن ثم فالتعامل معه يجب ألا أن يكون مثل التعامل مع الكتب البشرية . لذا ينبغي الحيطة والحذر في انتقاء الألفاظ ، وتركيب الجمل ، والتحلي بالأدب والقيم العليا في رحلة البحث في جماليات الخطاب القرآني ([6]) .   

    وإذا تتبعنا الخطاب القرآني بمفهومه الشامل وتكوينه المتكامل ، ألفيناه يشمل كثيرًا من الأنواع ، حسب المخاطِب والمتلقي على النحو الآتي : أولا خطاب الله سبحانه وتعالى عن نفسه . ثانيًا : ( الخطاب الإلهي– الملائكي ) . ثالثًا ( الخطاب الإلهي – الإنساني ). رابعًا (الخطاب الملائكي – الإنساني). أخيرًا (الخطاب الإنساني – الإنساني) . سادسًا : (خطاب النفس) . وبطبيعة الحال ، فإن كل ضرب من هذه الأضرب تندرج تحته فصول ومباحث عدة ، تتجلى فى عملية التفصيل .

    ولهذا التنوع ، وهذه الكثرة ، لم يكن من الممكن أن تخرج هذه الدراسة في سفر واحد ؛ لذا  كان لابد من عملية التقسيم .

    ولما كان ذلك كذلك . أردت أن يأتي الجزء الأول معالجًا للخطاب الأول ، المتمثل في خطاب (الله) سبحانه وتعالى عن نفسه . ولما كان هذا الضرب من الخطاب يشمل الخطاب باسم الجلالة (الله)، ثم بدالي (رب) و(إله) . قسمتُ الجزء الأول إلى كتابين : الكتاب الأول خطاب(الله)سبحانه وتعالى عن نفسه باسم الجلالة(الله)، وهو الكتاب الذي بين أيدينا الآن . أما الكتاب الثاني - في الجزء الأول - فسيشمل خطاب (الله) سبحانه عن نفسه بدالي (رب) و(إله). ثم ترد الأجزاء الأخرى متناولة بقية أضرب الخطاب القرآني .

    ويضم هذا الكتاب تمهيدًا وفصلين على النحو الآتي : أولًا التمهيد وقد تناول مناقشة أربعة عناصر : الأول مصطلح البنية بين التراث والمعاصرة . الثاني : مفهوم الخطاب والفرق بين الخطاب والحوار، وكذلك خصائص الخطاب في القرآن الكريم. الثالث : قراءة في الدراسات السابقة، ومناقشتها مناقشة علمية . الأخير : اسم الجلالة (الله) من حيث الدلالة المعجمية ، وتغير المفهوم من الجاهلية إلى الإسلام ، ثم العلامة اللغوية .

    أما فصلا الدراسة ، فقد جاء الأول تحت عنوان { اسم الجلالة (الله) في التركيب الاسمي} . وقد انقسم هذا الفصل إلى تسعة مباحث : الأول اسم الجلالة (الله) اسمًا ظاهرًا في موقع المبتدأ. الثاني : اسم الجلالة (الله) ضميرًا في موقع المبتدأ .الثالث : اسم الجلالة (الله)اسمًا للناسخ. الرابع :اسم الجلالة (الله) في موقع الخبر.الخامس: اسم الجلالة (الله) في موقع الجر.السادس : اسم الجلالة (الله) في منطقة التوابع . السابع : اسم الجلالة (الله) في موقع النداء . الثامن : اسم الجلالة (الله) في موقع الاستثناء . الأخير: اسم الجلالة (الله) في موقع القسم . ومن الطبيعي أن تندرج محاور وعناصر عدة تحت كل مبحث من تلك المباحث .

    أما الفصل الثاني ، فقد جاء تحت عنوان {اسم الجلالة (الله) في التركيب الزمني} . وقد شمل ثلاثة مباحث : الأول اسم الجلالة (الله) في موقع الفاعل . الثاني : اسم الجلالة (الله) في موقع المنصوب على التعظيم . الأخير : اسم الجلالة (الله) شبه جملة متعلقًا بالفعل ، ثم الخاتمة والفهرست [*].

    وقبل مغادرة هذا التقديم ، أشير إلى بعض النقاط ؛ الأولى : أنني أقصد بدال (التكوين) الذي ورد في العنوان الفضاء السياقي واللغوي الذي يحيط البنية التركيبية للخطاب ؛ من مثل أطراف الخطاب ، والرسالة ، والسياق الثقافي ...إلخ .

    أما دال (الأسلوب) فأقصد به البنية التركيبية اللغوية للرسالة التي يشملها الخطاب،وما أسست عليه من جماليات لغوية. وهو ما سيتضح من خلال الدراسة.

    الثانية : أنه لما كان موضوع الدراسة يشمل بنية الخطاب القرآني من حيث التكوين والأسلوب ، وكان من الصعوبة بمكان حصر مضامين الخطابات وأهدافها ومراميها ، وكذلك العناصر اللغوية التي تُبنى عليها الخصائص الأسلوبية لكل نوع من أنواع تلك الخطابات ، وأن كل الدراسات السابقة التي تناولت الخطاب القرآني تناولته إما من جانب الفوائد التربوية ، أو من جانب أنماطه المتعددة ، مثل الإقناعي والحواري والقصصي والساخر ، أو من جانب المتلقي مثل (المؤمنون،أو بني إسرائيل) ...إلخ ، ولكون القرآن الكريم كله يعد خطابًا ...إلخ . لكل هذا، فضَّلْتُ أن تُبنى الدراسة على العنصرين البارزيْنِ في تكوين الخطاب وهما : المخاطِب والمخاطَب ، وبخاصة في الأجزاء القادمة من الدراسة،تسهيلًا لكتابة الفهرست، وتجنبًا للازدحام والتشتيت ، على أن تدرس بقية العناصر المشكّلة لبنية الخطاب، إضافة إلى جمالياته داخل هذين العنصرين .

    وزيادة في ضبط الدراسة في هذا الجزء– بكتابيه - اتخذت القالب النحوي بوصفه مقياسًا ومعيارًا محددًا وثابتًا ، يمكن دراسة الموضوع من خلال تقاسيمه المختلفة ، فرغبت أن يكون القالب النحوي رداء وعباة للفهرست ؛ زيادة في تسهيل الدراسة من ناحية ، ووضوحها أمام المتلقي من ناحية أخرى . وهذا ما جعل فصلي هذا الكتاب يردان على النحو المبين آنفًا .  

    الثالثة : أن غلبة مضمون الخطاب هي التي تحدد طرفيه، من حيث المخاطِب والمخاطَب. بمعنى أنه يمكن أن يكون الخطاب موجهًا إلى النبي ﷺ ، بيد أنه يهدف إلى خطاب آخر، فتُبنى الدراسة على طرفي الخطاب الآخر المنشود من الخطاب الأول . فمثلا قوله سبحانه وتعالى : ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ * وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ * قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ * فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ * قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ * وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ * وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ﴾ (الحجر: 49 – 66) يشمل نوعين من الخطاب: الحق سبحانه وتعالى مع النبي ﷺ ، من خلال الأمر (نبئ) ، وخطاب الملائكة مع خليل الرحمن إبراهيم ونبي (الله) لوط عليهما السلام  .

    ولما كان الغالب على المقطع القرآني هو الخطاب الدائر بين الملائكة والنبيين الكريمين عليهما السلام ، يُدرس هذا الخطاب في نوع ( الخطاب الملائكي – النبوي ) وليس (الله–الأنبياء). وهو ما سنراه جليًا في ثنايا  الأجزاء القادمة إن شاء (الله) تعالى .

    الرابعة :أن الخطاب يتم دراسته من حيث المخاطِب والمخاطَب وعكس ذلك ، بمعنى أن ثمة خطابات موجهة من (الله) سبحانه وتعالى إلى الملائكة، أو الأنبياء، أو عموم البشر . والعكس صحيح . فمثل هذه الخطابات تتم دراستها على الجانبين : من (الله) إلى هؤلاء ، ومن هؤلاء إلى (الله) جل وعلا .

    الخامسة : ينبغي أن يؤخذ في الحسبان ، أن النبي ﷺ هو المتلقي الأول للقرآن الكريم عن رب العزة سبحانه وتعالى ، بواسطة أمين الوحي جبريل عليه السلام . والمؤمنون يتلقون القرآن عن النبيﷺ ؛ لذا فثم خطابات ترد بصيغة المفرد من جانب المتلقي ويراد بها الجمع ، والعكس صحيح ، كما سنرى داخل الدراسة .

    السادسة : أحيانًا يرد الخطاب متعدد الجوانب من حيث المخاطِب والمخاطَب؛ بمعنى أن الحق سبحانه وتعالى يخاطب النبي ويُعْلِمُهُ بما سيُخاطَبُ به من جانب الكفار ، وكيفية الرد عليهم . فمثلًا قوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ (البقرة :219)  يشمل المخاطِب الأول وهو رب العزة سبحانه وتعالى ، والمتلقي الأول وهو النبي ﷺ ، ثم المخاطِب الثاني وهم الكفار في (يسألونك) ، ثم المتلقي الثاني (وهو المتلقي الأول في الوقت نفسه) النبي ﷺ، ثم المتلقي الثالث وهو النبي ﷺ في (قل) ، ثم المخاطِب الثالث في جواب السائلين، ثم المتلقي الثالث وهم السائلون عندما يحصلون على الجواب من النبي ﷺ . ويمكن توضيح ذلك على هذا النحو :

    الله (المخاطِب الأول)

    1-النبي (المتلقي الأول ليسألونك من الله)

    2-النبي(المتلقي الثاني لسؤال السائلين)    المخاطِب الثاني/السائلون

    3-النبي (المتلقي الثالث للفعل (قل) من الله)

    4-النبي (المخاطِب الثالث لمقول القول في : قل)  المتلقي الرابع / السائلون

    السابعة : لما كان القرآن الكريم بأكمله يعد خطابًا من مولانا جل في علاه إلى النبي ﷺ ، ومن ثم إلى كل من يقرأ القرآن ، وكان من الصعب أن يضم هذا الكتاب كل آيات القرآن الكريم ، بوصفها خطابًا كما أسلفت ، وقع الاختيار على أنواع الخطابات التي تشمل عددًا من المخاطِبين والمخاطَبين ؛ لإظهار الإعجاز القرآني في هذه المنطقة من آيات الذكر الحكيم . وهو ما دفعني إلى فهرسة الكتاب في أجزائه القادمة ، بحسب المخاطِب والمخاطَب ، مرجئًا دراسة العناصر الأخرى ( التكوينية والأسلوبية ) إلى ثنايا الدراسة .

    الثامنة : اعتماد حديث الحق سبحانه وتعالى عن الآخرين خطابًا محكيًا ، متعدد التلقي ( النبي وكل من يقرأ القرآن الكريم ) ، مثل حديثه جل وعلا عن المؤمنين مثلًا في قوله تعالى : ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ (القمر : 54 ، 55) ، أو حديثه عن الكفار في قوله تعالى : ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ *خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ (البقرة:161 ، 162). أو حديثه عن المنافقين في قوله : ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ*فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾(البقرة:8–10) . ويستمر هذا المقطع حتى الآية العشرين .

    فمثل تلك الخطابات لا تندرج تحت نوع الخطاب المباشر مع متلق حاضر ، ظاهر من السياق . وإن كان متلقيها هو النبي ﷺ ، بوصفه المتلقي الأول من البشر للقرآن الكريم كله . وستتضح بلاغة هذا النوع من الخطابات ، وجوانب الإعجاز في موضعها داخل الدراسة . ومن الجدير بالذكر أن هذه النقاط تنسحب على بقية أجزاء الدراسة ، حتى نهايتها .

    التاسعة : أن الخطاب الذي تعتمده هذه الدراسة – في الجزء الأول بكتابيه - هو الخطاب الذي يرد في إطار إخبار (الله) سبحانه وتعالى عن نفسه ، سواء كان ذلك من (الله) مباشرة ، مثل قوله تعالى : ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ (طه : 14) ، أو ما يرد على لسان أحد أنبيائه أو الصالحين من عباده . مثل الحوار الذي دار بين سيدنا يعقوب عليه السلام وأبنائه في قوله تعالى : ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾(البقرة: 133).

    العاشرة : عند تحليل بنية الخطاب – في هذا الجزء بكتابيه - سأبدأ بالبنية التركيبية ، المتمثلة في المنطلقات النحوية في الجانب التقعيدي منها ؛ للتعرف على الرتب النحوية لدوال الخطاب ، ثم الدخول إلى العنصر البلاغي ، بهدف إظهار فاعلية العلاقة بين النحو والبلاغة في إنتاج الدلالة القرآنية ، داخل بنية الخطاب . 

    الحادية عشرة : في الاستشهاد بالمصادر النحوية في الجانب التقعيدي منها ، أحيانًا تكون المصادر الأولى أكثر إيجازًا للقاعدة النحوية ، في حين تبسط المصادر المتأخرة تناول القاعدة النحوية ، إضافة إلى سهولة الأسلوب والعرض التي تتميز بهما المصادر المتأخرة ؛ لذا سأقدم – في بعض المواضع – المصادر المتأخرة في عملية الاستشهاد في المتن ، على أن أشير في الهامش إلى المصادر المتقدمة / الأولى . كأن أثبت مثلًا استشهادًا في المتن لابن عقيل ، وأشير في الهامش : انظر في هذا ، الخليل أو سيبويه أو غيرهما . وأقول هذا درًا لتوهم القارئ عدم إدراكنا للجانب التاريخي في عملية التوثيق .   

    الثانية عشرة : أنني سأضطر أحيانًا– في بقية أجزاء الدراسة - إلى تكرار بعض النصوص المقتبسة  ؛ وذلك لسببين : الأول كي لا أحوج القارئ إلى مراجعة تلك النصوص في موضعها الأول ؛ درءًا للتشتت والملل بالبحث بين ثنايا أسفار الدراسة . الأخير : أنه ربما لا يتسنى للقارئ الكريم الحصول على أجزاء الدراسة كلها ، مما قد يصيبه بالضيق لعدم وصوله إلى مواضع الإحالة للنصوص المستشهد بها . فليعذرني القارئ الكريم ، ولا يمل من هذا الصنيع .

    الثالثة عشرة : أنني سأتعامل مع منطقة الهامش مثل تعاملي مع منطقة المتن ؛ بمعنى أنني سأتخدم الهامش كثيرًا ، كلما ألحت الضرورة ؛ لتخرج الدراسة مزيجًا ما بين المتن والهامش ؛ مما يدحض فكرة أن الهامش يعد مساحة مخصصة لعملية التوثيق فحسب ، أو أنه يقل أهمية عن المتن ، أو يأتي في المرتبة الأخيرة بعده .

    الرابعة عشر: أنه من الممكن أن أطبع كل جزء أنتهي من دراسته ، ومن الطبيعي أن أعيد النظر – وأنا أسير في بقية الأجزاء - فيما تم طبعه ، فيتسنى لي ما كان ينبغي دراسته ، أو حذفه ؛ لذا فسيشمل الجزء الأخير تذييلًا لمعالجة هذا الأمر إِنْ وُجِدْ .   

    الأخيرة : أنني سأضع اسم الجلالة (الله) بين قوسين ؛ احترامًا وتعظيمًا وتقديسًا له سبحانه. لأنه ينبغي ألَّا يكتبُ اسمه تعالى هكذا مثل بقية مفردات اللغة. فإن قيل : إن (الله) تعالى لم يصنع هذا في القرآن. قلتُ: (الله) لا يُسْأَلُ عما يفعل ونحن نسأل .      

    وبعد ، فإني أدعو (الله) سبحانه وتعالى أن يعينني ليخرج هذا الكتاب – بأجزائه المتعددة - على الوجه الذي يُرضيه جل وعلا، وأن يقدم جديدًا في مجال الدراسات القرآنية ، وأن يفيد به ، إنه ولي ذلك ، والقادر عليه .

    كلية العلوم الإسلامية – جامعة بايبورت - الجمهورية التركية

    التمهيد

    أولًا : مصطلح (البنية) بين التراث والمعاصرة  

    ثانيًا: الخطاب (مفهومه–الخطاب والحوار– خصائص الخطاب القرآني )

    ثالثًا : قراءة في الدراسات السابقة

    رابعًا :اسم الجلالة (الله) (الدلالة المعجمية– المفهوم– العلامة اللغوية )

    أولا : مصطلح (البنية) بين التراث والمعاصرة

    لم يرد مصطلح (البنية) في القرآن الكريم صراحة ، وإنما ورد من خلال الفعل (بَنَى) الذي ورد في الكتاب العزيز بمعنى (شَيَّدَ) . يقول (الله) تعالى : ﴿ لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ (التوبة :110) . وبمعنى (رَفَعَ) في قوله تعالى : ﴿ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ﴾ (ق: 6) . وبمعنى (قوة البناء) كذلك في قوله تعالى ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ (الصف: 4) .

    بيد أنه ورد في بعض المعاجم القديمة بنفس اللفظ (البنية) ؛ ففي لسان العرب:"الْبَنْيُ نقيض الهدم، بَنَى البَنَّاءُ البِنَاءَ بَنْيًا وبِنَاءً وبِنًى ، وبُنْيَانًا وبِنْيَةً وبِنَايَةً . والْبِنْيَةُ والْبُنْيَةُ : ما بَنَيْتَهُ ، وهو البِنَى والبُنَى ؛ وأنشد الفارسي عن أبى الحسن :

    أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البُنَى  وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شَدُّوا

    ويُرْوَى : أحسنوا البِنَى ؛ قال أبو إسحاق : إنما أراد بالبِنَى جمع بِنْيَة ([7]) . وهذا يعني أن مصطلح (البنية) قد ورد في المعاجم القديمة، بمعنى البناء أو التشييد المادي .

    وقد تصور اللغويون العرب هذا المصطلح بوصفه الهيكل الثابت للشيء ؛ فتحدث النحاة عن البناء مقابل الإعراب ، كما تصوروه على أنه التركيب والصياغة ، ومن هنا جاءت تسميتهم للمبني للمعلوم والمبني للمجهول ([8]) . وقد يعنى المصطلح في الثقافة العربية معنى (التكوين) ([9]) .

    وفي الثقافة الأوربية ، يدل المصطلح على الشكل الذي يُشَيَّدُ به مبنىً ما . ثم لم يلبث هذا المفهوم أن اتسع ليشمل الطريقة التي تتكيف بها الأجزاء لتُكَوِّن كلًا ما ، سواء كان جسمًا حيًا أو معدنيًا أو قولًا لغويًا ([10]) .

    وإذا كان مصطلح (البنية) يعني التشييد والبناء، فهو لا يقف عند هذا المعنى الشكلي، بل يمتد ليعني العلاقات والنظام اللذَيْنِ يتألف منهما هذا البناء ، سواء أكان هذا على المستوى المادي الملموس ، والمرئي أيضًا في معنى التشييد، أم المستوى المادي المرئي في اللغة .

    والمتأمل في التراث النقدي عند العرب ، يدرك أن فكرة العلاقات بين أجزاء الجمل من القضايا المهمة التي اعتنى بها علماؤنا العظام ، وبخاصة عبد القاهر الجرجاني في نظرية (النظم) ، التي سبقت كل هذه الأطروحات الحداثية بمئات السنين . يقـــول عبد القاهر الجرجاني (471ه) :واعلم أنك إذا رجعت إلى نفسك علمت علمًا لا يعترضه الشك ، أن لا نظم في الكلم ولا ترتيب ، حتى يعلق بعضها ببعض ، ويبنى بعضها على بعض ، وتُجْعل هذه بسبب من تلك . هذا ما لا يجهله عاقل ، ولا يخفى على أحد من الناس ([11]) .

    وفي فصاحة الدال يقول عبد القاهر : وجملة الأمر أنَّا لا نوجب الفصاحة للفظة مقطوعة مرفوعة من الكلام الذي هي فيه ، ولكنا نوجبها لها موصولة بغيرها، ومُعَلَّقًا معناها بمعنى ما يليها ([12]) .

    وحتى علم البلاغة - وبخاصة البيان والمعاني - ما هو إلا مباحث تدور في فلك العلاقات بين الكلم ؛ فالتشبيه والاستعارة والمجاز بكل أنواعه والكناية، مؤسسة على العلاقة بين الدوال المكونة لهذه البنية أو تلك . وفي الوقت نفسه نجد أن مباحث علم المعاني ؛ من المسند إليه والمسند ، وبِنَى التقديم والتأخير ، والحذف والذكر ، وأساليب الإنشاء والخبر...إلخ ، لا تسهم بشكل واضح في إنتاج الدلالة إلا من خلال العلاقات القائمة بين الكلمات .

    وإذا كانت تلك المباحث تنتمي – في عملية التوزيع - إلى الحركة الأفقية للدوال ، فلم تخرج الحركة الرأسية - عملية الاختيار - عن هذا الإطار أيضًا، أي إطار العلاقة بين اللفظ المنتقَى والجسد اللغوي / الجملة التي يحل فيها . وهنا يقول عبد القاهر الجرجاني : ينبغي أن ينظر إلى الكلمة قبل دخولها في التأليف ، وقبل أن تصير إلى الصورة التي بها يكون الكلم إخبارًا ، وأمرًا ، ونهيًا ، واستخبارًا ، وتعجبًا ، وتؤدي في الجملة معنى من المعاني التي لا سبيل إلى إفادتها إلا بضم كلمة إلى كلمة ، وبناء لفظة على لفظة ([13]) .

    وإذا كان هذا ما يخص علم البلاغة ، فإن مباحث علم النحو لم تبتعد عن فكرة العلاقات كذلك ؛ فالرتب التي تحل فيها الدوال ، بما يترتب عليها من وظائف نحوية ، هي التي بدونها لا يمكن أن يُتوصل للمعنى المنشود من أقل وحدة تعبيرية في اللغة ، وهي الجملة .

    وإذا كان هذا مفهومًا على مستوى الجملة ، فالعلاقات بين الجمل هي التي تبرز المعنى على مستوى الفقرة اللغوية . وهنا يمكن القول : إن التراث النقدي هو الذي وضع هذه البذرة ، وإذا كان ثم فضل للنقد الحداثي ، فيتمثل في الانتقال بفكرة العلاقات من مستوى الجملة إلى مستوى النص .

    لا داعي إذن لكل هذا التهليل للبنيوية،أو الادعاء بأن مصطلح (البنية) جديد كل الجدة على ثقافتنا المعاصرة . لكن كل ما يمكن أن نقوله : إن الثقافة الحداثية استطاعت أن تستخدم المصطلح استخدامًا تطبيقيًا على العلوم الإنسانية الأخرى مثل علم الإبستمولوجيا/ علم المعرفة، وعلم الإنثروبولوجيا/ علم تطور الإنسان، ومجال التحليل النفسي ، وكذلك في المجالات الفلسفية ([14]) .

    والذي أريد أن أقوله : هو أن مصطلح (البنية) لم يبتعد عن معناه التراثي ، فإذا كان يعني دلالة البناء والتشييد في التراث ، فـإنه يعني المفهوم نفسه في العصر الحديث ، لكن في اللغة . وإذا كنا نتحدث عن بنية الخطاب في القرآن الكريم ، فأعتقد أنه أصبح من الواضح أن دراستنا ستقوم على إظهار الإعجاز القرآني في تركيب لغة الخطاب ، بما في ذلك العناصر التي ستكوِّن هذه البنية ، كما سيتضح .      

    ثانيًا : الخطاب : مفهومه ، الخطاب والحوار ، خصائص الخطاب القرآني

    مفهوم الخطاب

    الخطاب والمخاطبة : مراجعة الكلام. وقد خاطبه بالكلام مخاطبة وخطابًا([15]). وفي المعاجم الحديثة ، يعني مصطلح الخطاب : نص يكتبه كاتبه إلى شخص آخر ، ويُسمى كذلك الرسالة . ويتضمن الخطاب أخبارًا تعني الطرفين ([16]) .

    وفي معجم الكليات، يقول الكفوي (1094ه) : الخطاب هو اللفظ المتواضع عليه، المقصود به إفهام من هو متهيئ لفهمه ([17]) . كما يعرف الكلام بقوله : والكــــــــلام يطلق علــــــى العبارة الــــــــــدالة بالوضع ، وعلـــــــى مـــــــدلولها القائم بالنفس ([18]) ، فالخطاب إمــــــــــــا الكلام اللفظي ، أو الكـــــــــلام النفسي الموجه نحـــــــــو الغير للإفهام ([19]) .

    والخطاب يعني (المخاطبة) ، وهو المعنى الذي ورد في قول (الله) سبحانه وتعالى : ﴿وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾ (ص : 20) ([20]) . وكذلك  قول (الله) عز وجل : ﴿إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾ (ص:23 ) ([21]) .

    ومهما تعددت التعريفات ، فالخطاب يعني–من وجهة نظري–عملية تواصل ، سواء بالكلام المنطوق أو المكتوب ، أو الرمز ([22]) ، تصدر من مخاطِب إلى مخاطَب بوسيلة مشتركة بينهما ، بهدف إبلاغ رسالة ما .

    وحول هذا التعريف تدور عناصر الاتصال الستة التي احتفى بها النقاد العرب بوصفها وافدًا ثقافيًا . وقد تمثلت هذه العناصر في مخطط الناقد البنيوي (جاكبسون) الذي ينتمي إلى الشكلية الروسية ، وهي المدرسة التي أسهمت في نشأة المنهج البنيوي . وهذه العناصر هي : المخاطِب ، والمخاطَب ، والرسالة ، والسياق ، والشفرة ، ووسيلة الاتصال ([23]) .

    والحقيقة أن هذه العناصر الستة قد وردت على نحو واضح في تراثنا العربي ولنقرأ هذا النص لابن طباطبا العلوي (322ه ) : وعيار الشعر أن يورد على الفهم الثاقب ، فما قَبِلَه واصطفاه فهو واف ، وما مجَّه ونفاه فهو ناقص . والعلة في قبول الفهم الناقد للشعر الحسن الذي يرد عليه ، ونفيه للقبيح منه ، واهتزازه لما يقبله، وتكرُّهَهُ لما ينفيه، أنَّ كل حاسة من حواس البدن إنما تتقبل ما يتصل بها مما طبعت له، إذا كان وروده عليها ورودًا لطيفًا لا جور فيه، وبموافقة لا مضاد معها([24]).

    وبالتأمل في هذه الفقرة، نجدها قد ضمت عنصرين من عناصر الاتصال الستة : الرسالة والمتلقي ؛ فكلما كانت الرسالة وافية ، ترد ورودًا لطيفًا ، لا جور فيها ، وبموافقة لا مضاد معها ، قَبِلَهَا المتلقي المدرب على سماع الجيد من الأشعار، وكلما كانت ناقصة مجها الذوق السليم .

    وفي موضع آخر يقول ابن طباطبا : ولحسن الشعر وقبول الفهم إياه علة أخرى، وهي موافقته للحال التي معناه له ، كالمدح في حال المفاخرة ، وكالهجاء في حال مباراة المهاجي ، وكالمراثي في حال جزع المصاب ([25]) . وليس بخاف أن كل هذا لا يعني إلا السياق الذي ترد فيه الرسالة .

    ولم يبتعد يقول حازم القرطاجني (608ه) عن هذا حين يقول: والأقاويل الشعرية أيضًا تختلف مذاهبها وأنحاء الاعتماد فيها بحسب الجهة أو الجهات التي يعتني الشاعر فيها بإيقاع الحيل /  وســـــائل الاتصال ، التي هي عمدة في إنهاض النفوس لفعل شيء أو تركه ، أو التي هي أعوان للعمدة . وتلك الجهات هي مــــــا يرجــــــع إلى القـــــــول نفسه / الرسالة ، أو ما يرجع إلى القائل / المخاطِب ، أو مـــــــــا يرجع إلى المقول فيه / السياق ، أو مـــــــــا يرجع إلى المقــــــــــول له / المخاطَب ([26]) .

    ولعدم الإطالة ، فكل ما تقدم من تراثنا النقدي والبلاغي ، لم يبتعد عما يُقدم الآن في العناصر المكونة لبنية الخطاب (الرسالة) ؛ فمثلًا : ما القبح والجمال إلا صفتان من صفات التلقي ، وهل للأغراض الشعرية القديمة معنى غير أنها تمثل السياقات المختلفة التي ترد فيها الرسالة بما يتناسب معها : حالًا ومقامًا ؟! .

    وربما تكون هذه فرصة أن أقول : إن أكثر ما ورد عن الوافد الغربي في مجال الحداثة النقدية ، وبخاصة المناهج الحداثية من : بنيوية وأسلوبية وسيميولوجية وتلق وغيرها ، ما هي إلا تنمية للبذور التي غرسها تراثنا النقدي والبلاغي .      

    الخطاب والحوار

    قد عرفنا مفهوم (الخطاب) فيما تقدم من حديث . أما الحوار ، فهو من المحاورة التي تعني المجاوبة ، والتحاور يعني التجاوب ([27]) . وحاوره محاورة وحوارًا يعني جاوبه وجادله ([28]) . وهذا يشير إلى أن الحوار يعني تبادل الحديث  بين المتخاطبين . وهذا التبادل قد يكون باللغة المكتوبة أو المنطوقة أو بالإشارة .

    ومن هنا ، يبدو جليًا أن الفرق بين الخطاب والحوار ، هو أن الأول ينطلق من مخاطِب إلى مخاطَب ، سواء أجاب عليه المخاطَب أم لم يُجب . أما الحوار، فهو انطلاق الكلام من مخاطِب إلى مخاطَب ، بشرط رد المخاطَب على المخاطِب . وهذا يجعلنا نقول : إن كل حوار خطاب ، وليس كل خطاب حوارًا . فمثلًا قول (الله) عز وجل : ﴿يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ (المائدة :67) يُعد خطابًا. أما قول (الله) عز وجل : ﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ (المائدة :116) ، فهو حوار . ولما كان ذلك كذلك ، فقد عالجت هذه الدراسة التي يضمها هذا الجزء – بكتابيه - الخطاب والحوار  معًا .  

    خصائص الخطاب القرآني

    من الطبيعي أن يكون لكل خطاب خصائص ؛ لأن بنية الخطاب تتألف من أكثر من عنصر ؛ فثم المخاطِب ، والمخاطَب، والرسالة نفسها ، والسياق ، ومضمون الرسالة ، ووسيلة الاتصال بين المتخاطبين .

    وعلى المستوى البشري ، تختلف سمات المخاطِبين والمخاطَبين ، بحسب طبيعة كل منهم . وباختلاف تلك السمات تختلف طبيعة الخطاب ؛ فمن حيث المتلقي مثلًا ، لابد أن تختلف أساليب الخطاب من متلق لآخر. يقول الدكتور محمد عبد المطلب: إن دراسة الأساليب كمـا تكون لغوية تكون – أيضًا – نفسية واجتماعية على حد سواء ، ولذا فنحن لا نتحدث مع طفل مثلما نتحدث مع شخص بالغ ،أو مع شخص مثقف مثل حديثنا مع شخص جاهل. إن مراعاة الإحساس اللغوي عند المرسل إليه، ليست فقط العامل الوحيد ؛ بل إن التسلسل الاجتماعي يتدخل ويجبرنا على تغيير طرقنا في التعبير ([29]) . هذا على مستوى الخطاب البشري  .

    وإذا أردنا أن نستقصي خصائص الخطاب في القرآن الكريم ، فإنه يمكن أن نوجزها في النقاط الآتية : أولًا قداسة الخطاب ونقائه وطهارته ؛ فالمخاطِب هو (الله) رب العالمين سبحانه وتعالى الذي لا يحتاج إلى كثير شرح ، أو طويل بيان . والمخاطَب هو الحبيب محمد ﷺ ، أنقى خلق (الله) سبحانه وتعالى وأطهرهم . واقرأ معي ماذا قال ربنا عز وجل عن النبي محمد ﷺ . يقول مولانا : ﴿يَاأَهْلَ الْكِتَابِ  قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ﴾(المائدة: 15) . والنور في هذه الآية هو الرسول ﷺ  ([30]) . والرسالة هي القرآن الكريم ، الذي شبهها الحق سبحانه وتعالى بالسراج المنير ، وذلك في قوله تعالى : ﴿ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ﴾ ( الأحزاب : 45 ، 46 ) ([31]) . وحامل القرآن هو أمين الوحي جبريل عليه السلام : ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ (الشعراء : 192 - 195) ([32]) .

    ثانيًا :الشمول والعموم . وهنا يقول مولانا عز وجل : ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ (الأنعام : 38) ، وقوله سبحانه : ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾(النحل : 89) ، بل يعد كتاب (الله) هو الحياة الحقيقية ، يقول مولانا : ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ (الأنفال : 24) .

    والشمول والعموم هنا ، لا يختصان بمضمون القرآن الكريم فحسب ، بل ببني البشر كلهم ؛ خوطب به الرسل، والنبيون، والمؤمنون، والكفار ، والمنافقون ، وأهل الكتاب ، بل والناس جميعًا . يقول مولانا : ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ البقرة : 253) .ويقول سبحانه وتعالى : ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ (آل عمران : 81) . ويقول عز من قائل : ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (البقرة :104) . ويقول تباركت أسماؤه : ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (التحريم :7) . ويقول عظمت قدرته :﴿ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾ (الأحزاب:12) . ويقول جل جاهه : ﴿ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ (آل عمران : 65) . ويقول الحق تبارك وتعالى : ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ ( البقرة : 21) .

    ثالثًا: الدوام والاستمرار. وكان طبيعيًا أن يتسم كتاب (الله) عز وجل بهذه السمة، وهو آخر الكتب السماوية ، الذي تناول تعاليم الأمم السابقة وشرائعها ، محافظًا عليها وشاهدًا على صدق ما فيها . يقول مولانا : ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ ( المائدة : 48) .

    والدوام والاستمرار يشملان الزمان والمكان كذلك ؛ فالقرآن الكريم صالح لكل مكان ولكل زمان ([33]) . وهو بهذا يُعد علاجًا شافيًا لكل قضايا العصور والأمكنة ، حتى يرث (الله) الأرض ومن عليها . ومن يقل غير هذا من المسلمين ([34]) ، فينبغي أن يعد نفسه من المنافقين الخلص ، إن لم يتجاوز درجة النفاق .

    رابعًا : الصدق المحض . إن من أساسيات العقيدة الصحيحة للمسلم الإيمان بالكتب السماوية وتصديقها : ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ (البقرة : 285 ) . وبذا ، فإن كل ما جاء في القرآن الكريم صدق محض ، الإيمان به كله واجب شرعي ، غير مجزأ . ولِمَ لا والمخاطِب هو رب العزة سبحانه وتعالى ، والمتلقي الأول هو سيدنا رسول (الله) ﷺ ، وناقل الخطاب هو أمين الوحي سيدنا جبريل عليه السلام ؟ !!!.

    خامسًا : التعليم والتوجيه . إن من يتأمل الخطاب القرآني ، يدرك أنه يضع للبشر نموذجًا أعلى للخطاب والحوار ؛ ففي الحوار الذي دار بين الحق سبحانه وتعالى وملائكته في قوله تعالى : ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ*قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ (البقرة : 30 - 33) يقول الدكتور سيد طنطاوي : ومن الفوائد التي تؤخذ من هذه المحاورة التي دارت بين الخالق – عز وجل – وبين ملائكته الكرام : أنه - سبحانه– قد أفسح المجال أمام الملائكة لكي يعبروا عن رأيهم ، وأنه– سبحانه – قد أرشدهم بأسلوب مهذب حكيم إلى ما يجب عليهم الوقوف عنده . وهكذا يتعلم العقلاء من هذه المحاورة أن الرئيس عليه أن يفسح المجال لمرءوسيه المخلصين ، لكي يناقشوه فيما خفى عليهم من أمور ، وإذا تجاوزوا حدود الأدب اللائق معه ، راعى في عتابهم ما عرفه فيهم من سلامة القلب([35]). وقس على هذا كل ما يخص بني البشر من آداب الحوار والخطاب.  

    سادسًا: الإعجاز. وتأتي صفة الإعجاز للخطاب القرآني، من كونه كتاب (الله) عز وجل ، فهو ليس كلام بشر ؛ لذا تعددت فيه مناحي الإعجاز ؛ فثم الإعجاز اللغوي ، والإعجاز العلمي ، وإعجاز التحدي بأن يأتي أحد بمثله . وعلينا أن نتأمل الكم الهائل من الكتب التي ألفت في الإعجاز القرآني ، بداية من كتاب مجاز القرآن لابن المثنى، حتى وقتنا هذا ، وما سيأتي بعد ذلك في العصور القادمة .

    وبعد التقدم العلمي الذي حل بعصرنا الحديث ، انبرى علماء متخصصون في إظهار الإعجاز العلمي للقرآن الكريم ، على رأس هؤلاء الدكتور زغلول النجار . وما كان يتناوله الدكتور مصطفى محمود من شواهد قرآنية على ما يتناوله من ظواهر كونية في برنامجه التليفزيوني الأسبوعي (العلم والإيمان) ...إلخ .

    كما أن القرآن الكريم اتسم بسمة الإعجاز،لكونه من جنس ما برع فيه العرب، كما في عصى سيدنا موسى، وإبراء سيدنا عيسى للمرضى وإحيائه للموتى بإذن (الله). ولما كانت اللغة العربية هي تاج رأس العرب، بما ورد بها من شعر وخطب وغير ذلك ، جاء القرآن الكريم بها ليُعجز أصحابها .     

    سابعًا:مراعاة الحال والمقام .كان من حلمه سبحانه وتعالى ورحمته بالعرب البدو، أن راعى عقولهم ؛ فلم يرهق أفاهمهم بما لا يستطيعون فهمه ، بل خاطبهم على قدر حاجتهم ومنتهى وعيهم . ولنقرأ قوله تعالى : ﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ (النحل : 8 ) . فتزييل الآية بقوله (وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) جاء مراعاة لحال المخاطَب ؛ فبعد أن أظهر الحق سبحانه وتعالى قدرته في خلق وسائل المواصلات في أيامهم (الخيل والبغال والحمير) ، لم يخبرهم بما يمكن أن يكون عليه المستقبل من العصور اللاحقة من وسائل المواصلات ؛ مراعاة لفهمهم . إذ كيف لِفَهْمِ العربي البدوي أن يستوعب– في أيامه– السيارات والقطارات، بل والطائرات...إلخ؟.

    ولم يكن هذا من قِبَلِ الحق سبحانه وتعالى فحسب في مراعاة المقام ، بل كان من قِبَلِ المخاطِبين من البشر ، وبخاصة الأنبياء مع (الله)سبحانه وتعالى . ولنقرأ معًا قول ربنا : ﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى﴾ ( طه : 17 ، 18 ) . من المؤكد أن سيدنا موسى عليه السلام كان يتلذذ ويستمتع بالحوار مع الخالق جل في علاه ؛ لذلك عندما سأله عما في يده - تلطفًا به ، وطمأنة لقلبه ، وحبًا له - مع علمه ، أراد سيدنا موسى أن يطيل الحديث مع الحق سبحانه وتعالى ، فلم يكتف بمجرد الإخبار(هي عصاي)، بل أستأنف قائلًا–دون أن يسأله الحق سبحانه وتعالى عن إفادته منها– (أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي) . ولما تنبه سيدنا موسى عليه السلام إلى مقام الجلال والتقديس والخشية والهيبة قال : (وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى) .     

    وحتى في الشرائع السابقة ، إذ فرض الحق سبحانه وتعالى الصلاة على بني إسرائيل يوم السبت فقط ، وأن يجعلوا بيوتهم قبلة لهم ، كان فيه مراعاة لفهمهم ووعيهم . والأمر في هذا يطول . وماذا تكون البلاغة إذن إلا مراعاة مقتضى الحال !!! .  

    أخيرًا : قوة الحجة ونصاعة البرهان . إن من يتأمل الخطاب القرآني ، يدرك بما لا يدع مجالًا للشك أنه بُني على قوة الحجة، ووضوح البرهان ونصاعته. فمثلًا، عند حديث الحق سبحانه وتعالى عن تفرده بالخلق، لم يخاطب العرب بالغيبيات التي تتأبى على فهمهم، وتتعالى على وعيهم ، بل خاطبهم بالماديات التي يعرفونها ، وتحيط بهم في حياتهم العملية ، فيقول سبحانه وتعالى : ﴿ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (النمل:60 - 64). وكثير غير هذه الآيات .

    ولم تقتصر قوة الحجة ونصاعة البرهان على هذا الحد في مخاطبة الحق عز وجل للناس ، بل نرى ذلك في المتخاطِبين من البشر فيما بينهم . ويتضح هذا جليًا في الحوار الذي دار بين سيدنا إبراهيم عليه السلام والنمرود بن كنعان، وذلك في قول(الله) عز وجل : ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (البقرة : 258) . وبالمنهج نفسه الذي أقامه (الله) سبحانه على المخاطَبين في الآيات السابقات ، وهو المنهج المادي، أدحض سيدنا إبراهيم النمرود وأبهته، دون الدخول معه في جدل عقيم([36]) .

    ثالثًا : قراءة في الدراسات السابقة

    كما قلت في مقدمة هذا الكتاب ، سبقت هذه الدراسة دراسات كثيرة متعددة ومتنوعة في الآن ذاته . وتنقسم هذه الدراسات إلى اتجاهين : اتجاه يتبنى الاعتدال في التناول ، ويتعامل مع القرآن الكريم بما ينبغي التعامل به معه ، واتجاه يتبنى المناهج الغربية الحداثية التي لا ترى القرآن إلا نصًا لغويًا تاريخيًا ، مرتبطًا بثقافة ما .

    أما الاتجاه الأول ، فتختص كل دراسة منه بمناقشة قضية ما، متعلقة بالخطاب القرآني ؛ فمنها ما تتناول الارتقاء المعرفي في الخطاب القرآني ([37]) ، ومنها ما تناقش الخطاب القرآني من خلال علاقة النص بالسياق ([38]) ، ومنها ما تدور حول جماليات الخطاب في القرآن الكريم ([39]) ، ومنها ما تتناول الخطاب القصصي في القرآن ([40]) .

    وليس بخاف أن أصحاب الاتجاه الآخر هم المفكرون العرب الذين تربوا على الثقافة الغربية ؛ سواء من درس منهم في الجامعات الأوربية ، أو ممن تبنوا هذه الثقافة ، وتغذوا على المناهج النقدية الوافدة ؛ ظنًا منهم أن هذه المناهج جديدة كل الجدة على الثقافة العربية . وأنا لا أدري لماذا لم يتنبه مثل هؤلاء إلى أن كل ما ورد في تلك المناهج له أصول في التراث النقدي والبلاغي عند العرب ؟ ([41]) .

    والحقيقة أن هذا الاتجاه بدأ مبكرًا ، وبخاصة فـي العقد الثالث من القرن العشرين،إذ حاول الدكتور طه حسين تطبيق منهج الشك الذي تبناه عن الفيلسوف الفرنسي (ديكارت) على الشعر الجاهلي . ومن المؤسف أن عميد الأدب العربي لم يكتف بالشك في نسبة الشعر الجاهلي إلى الشعراء الجاهليين ، بل تطرق إلى الحديث عن القرآن بالمنهج نفسه . يقول عن ورود اسمي إبراهيم وإسماعيل في القرآن : " للتوارة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل ، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضًا ، ولكن وجود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلًا عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة، ونشأة العرب المستعربة فيها . ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعًا من الحيلة ، في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة ، وبين الإسلام واليهودية والقرآن والتوراة من جهة أخرى ) ([42]) .

    ومن العجب أنك تجد الدكتور طه حسين ينفي الشك في القرآن الكريم قبل هذه الصفحة بعشر صفحات فحسب ، وذلك في معرض دراسته للحياة الجاهلية، إذ يقول : أدرسها – أي الحياة الجاهلية – في نص لا سبيل إلى الشك في صحته، أدرسها في القرآن. فالقرآن أصدق مرآة للعصر الجاهلي ، ونص القرآن ثابت لا سبيل إلى الشك فيه([43]) . أي أنه يؤمن بثبوت النص القرآني هنا، ويشك فيه في النص السابق. فأيهما نصدق ؟!!! ([44]) .

    وينبغي ألا ننسى المارق معروف الرصافي الذي يقول عن كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) في معرض حديثه عن العبودية في الجاهلية : " لا شك أن هذه الحالة التي لا تعرف للمجتمع حقوقًا غير حقوق الأرباب محتاجة إلى الإصلاح ، وأن خير ضامن لإصلاحها ما جاء به محمد من كلمة التوحيد ، وهي من مخترعاته التي لم يُسبق إليها على ما أرى " ([45]) .

    والآن ندخل إلى الدراسات التي تناولت الخطاب القرآني من خلال المناهج النقدية والفلسفية الحديثة . وقد وقع الاختيار على بعض ممن يسمون أنفسهم بالمفكرين ، وهم : الجزائري محمد أركون ، والمصريان : نصر حامد أبو زيد ، وحسن حنفي ، وأخيرًا السوري الطيب تيزيني . ولنبدأ أولًا بما يُسمى المفكر الجزائري محمد أركون .

    والعنصر المهم في قراءات محمد أركون – وحتى غيره – الذي يبني عليه كل آرائه وأطروحاته ، هو (مفهوم الوحي) ([46]) . يقول محمد أركون : القرآن مجموعة محدودة ومفتوحة من نصوص باللغة العربية ، يمكن أن نصل إليها ماثلة في النص المثبت إملائيًا بعد القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي . وإن جملة النص المثبت على هذا المنوال نهضت بآن واحد بوظيفة أثر مكتوب وكلام تعبدي ([47]) .

    ثم يقول :إن تعريفنا القرآن سيتيح لنا دراسة مفهوم كلام الله باعتباره موضوعًا لغويًا. وبذا نتساءل ما هي السبل اللغوية والأدبية بالمعنى الصحيح التي يشيد بها النص القرآني بنية علاقة إدراك –شعور مرتكز إلى مفهوم إله حي مبدع متعال([48]).

    ثم يستكمل طرحه قائلًا : وعلى هذا النحو يستعمل القرآن الشعور اللغوي العربي لإقامة شعور ديني جديد . ولذا فإن علم الكلام سيستخدم فيما بعد جميع ثروات النقد الأدبي ليفرض العقيدة الشهيرة القائلة بأن القرآن لا يمكن أن يُقلد، وإذن فهو معجزة (الإعجاز) ([49]) .

    والمستخلَص من هذا الطرح نقطتان متداخلتان في حقيقة الأمر : الأولى التعامل مع القرآن الكريم على أنه نص لغوي ، بعيدًا عن الاعتبارات الدينية بوصفه نصًا معجزًا الأخرى : دراسة القرآن الكريم دراسة أدبية علمية ، تتجاوز الموقف الأيديولوجي القديم / أي الموقف الذي ينظر إلى القرآن الكريم بوصفه نصًا مقدسًا  من عند (الله) سبحانه وتعالى .

    والحقيقة ، أن النقطة الأولى تهدف إلى نزع القداسة والإعجاز عن القرآن الكريم . أما النقطة الأخرى، فتهدف إلى ربط القرآن بالمرحلة التاريخية – الثقافية ، أي النظر إلى القرآن بوصفه منتَجًا ثقافيًا ، كما سيأتي عند نصر حامد أبو زيد . فإن قيل : لماذا كــــل هذا ؟ قلت : لتحويل القرآن إلى نص بشري ، ومــــن ثــــــم محاولة العبث بـــــه ([50]) .

    يقول أركون معلقًا على رأي حسن البصري في العلاقة بين القرآن الكريم وفاتحة الكتاب : هذا لا يعني بالطبع أننا ننخرط في الخط التبجيلي ، وأن نكرر بصياغات لغوية مختلفة ما كان عدد من المفسرين المسلمين قد قالوه سابقًا . وإنما يكمن مقصدنا الأكثر بعدًا وعمقًا في المساهمة بتشكيل فكر ديني منفتح عن طريق مثال الإسلام . لقد ابتدأ العلماء يعترفون بأن الخطابات اللاهوتية التي ظهرت حتى الآن مرتبطة كلها بأيديولوجيا رسمية أو معارضة . ونحن نريد أن نخرج من هذا الإطار الضيق ، وأن نجعل ممكنًا وجود تفكير ديني منفتح من دون أي أسبقيات لاهوتية على جميع التجارب الدينية للبشرية ([51]) .

    وانطلاقًا من هذا المبدأ الشيطاني ، تبلورت محاولات أركون في التعامل مع القرآن في النقاط الآتية : أولًا الانتقال من مسألة التعامل مع القرآن بصفته المقدسة ، إلى محاولة التفكير فيه . وهنا يسخر من بعض المؤلفات التي تعاملت مع القرآن بمبدأ (المستحيل التفكير فيه)، فيقول:" ظهرت مؤخرًا ثلاثة كتب ، من بين كتب أخرى عديدة، يمكن أن نستشهد بها للتدليل على أن الفكرة الشائعة عن الوحي في المجتمعات الإسلامية لا تزال محصورة داخل دائرة ما ندعوه بالمستحيل التفكير فيه بالنسبة للتراث الإسلامي ، منذ القرن الحادي عشر الميلادي . ونقصد بالمستحيل التفكير فيه هنا ما يلي : إن المكانه الأرثوذكسية اللاهوتية للوحي كما كان قد نُطِقَ به من قبل النبي وجُمِعَ فورًا أو لاحقًا في المصحف تحت الإشراف الرسمي للخليفة عثمان بن عفان ، لا يمكن أن يكون موضوعًا للدراسة أو مادة للتحري النقدي . فهذه المكانة محمية من قبل الإجماع الكوني لكل المسلمين"([52]) .

    ثانيًا : محاولته إخضاع القرآن للتاريخ ، ونفيه أن يشمل كل ما يحتاجه البشر، يقول :" يمكننا أن نقرأ نفس التصريحات التبجيلية ونفس الانتماء الحار والقوي للمعتقدات الشائعة بين جميع المؤمنين الإسلاميين في مئات الكتب المكتوبة عن هذا الموضوع نفسه / يعني موضوع تبجيل القرآن واحترامه والتعامل معه بوصفه كتابًا مقدسًا ...والسمة الأكثر إدهاشًا في هذا الخطاب المتجذر عميقًا في وعي الملايين هي الاقتناع التالي، الذي كان مفهومًا في القرون الوسطى ، ولكنه أقل موثوقية في السياقات المعاصرة المتعددة الثقافات . مؤدى هذا الاقتناع ما يلي : إن القرآن هو عبارة عن المرجع الأعلى والنهائي لكل البشر. فهو يحتوي على كل جواب لأي سؤال كما ويحتوي على الحلول التي يحتاجها البشر في كل زمان ومكان. وهو يتعالى على أي نمط من أنماط ما ندعوه اليوم بالتاريخية، ولا يتأثر بها على الإطلاق "([53]) .

    وفي هامش هذه الصفحة ، يشرح مترجم الكتاب مفهوم التاريخية، ورأي أركون في الربط بينها وبين القرآن ، فيقول:" مفهوم التاريخية غير وارد على الإطلاق بالنسبة للوعي الإسلامي التقليدي . فالنصوص الدينية تتعالى على التاريخ في نظره . ولكن البحث التاريخي الحديث يثبت لنا أن القرآن مرتبط بظروف عصره وبيئته" ([54]) .

    ثالثًا: القول بالخلفية الأسطورية للقصص القرآني ، وهنا يقول أركون :" يوجد في التراث الإسلامي شيء يدعى قصص الأنبياء ...وهذه القصص العديدة تشكل الخلفية الأسطورية التي تفسر لنا سبب نزول كل آية من آيات القرآن ...إن معنى العجيب المدهش أو الخارق للعادة بصفته مقولة نفسانية – ثقافية ، منتشر في جميع هذه القصص ، ومنعكس (أو مسقط) على الخطاب القرآني نفسه . وحتى اليوم نلاحظ أن تصور الوحي لا يزال مهيمنًا عليه من قبل هذا المعنى الخارق للعادة بصفته الأرضية الثقافية القاعدية التي ترتكز عليها المعرفة الأسطورية التي يدعوها المؤمنون بالحقيقة الدينية "([55]) .

    ولا عجب في ذلك ، فمحمد أركون يريد أن يضع كل الحقائق الدينية تحت مختبر النقد التاريخي، وما يثبته النقد التاريخي أنه حقيقة ، فهو حقيقة ، وما لا يثبته ، فهو ليس بحقيقة . يقول في مقدمة هذا الكتاب :" وهذه المرة (يعني في دراسته للحقائق الدينية بالمنهج التاريخي) لا يمكن استثناء أي نظام من أنظمة الحقيقة بحجة أنه إلهي منزل ، وغيره بشري زائل ، أو دنيوي عرضي . لا . فجميع التراثات الدينية سوف تخضع لمنهجية النقد التاريخي والحفر الأركيولوجي في الأعماق . وإذا كان هناك نظام للحقيقة يستحق الاستثناء فسيجبر لا محالة على أن يجدد بيانه وبراهينه وتأصيلة بحسب مــــــــا تقتضيه عولمة الــــذهن البشري ، ومـــــــــا يصاحب ذلك مــــــــن المعرفة الكونية العالمية " ([56]) .

    وهنا ، يُنَصِّب أركون الذهن البشري بعولمته حكمًا على كون الحقيقة الدينية حقيقة أم لا . وهنا نتساءل :إذا كان (الله) حقيقة، والملائكة حقيقة ، والآخرة حقيقة، والنار حقيقة ، والجنة حقيقة ، والروح ، وما يدور في القبر حقيقة ...بل وكل الغيبيات حقيقة ، فكيف نثبت كل تلك الحقائق الدينية بوساطة العقل البشري ؟ ([57]) .

    ينبغي على هؤلاء أن يفيقوا من ثباتهم ، وألا ينخدعوا بالعولمة العلمية . إن العقل البشري ذاته له حدود يقف عندها ، ولا يمكن أن يتخطاها . ما موقف العقل البشري مثلًا إذا رأى صاحبه ملكاً على صورته الحقيقية، أو رأى ما يحدث في القبر، أو رأى جانًا، أيَثْبُت أم يذهب عن صاحبه؟!!! لكنه الخبل والعته والسم ، الذي يراد بثه في القرآن الكريم .

    وعن هذه العلمية يقول محمد أركون أيضًا : إن هدفي لا يكمن في بلورة نظرية لاهوتية حديثة للوحي وتمكين المثقفين المؤمنين من إقامة التوافق والانسجام بين إيمانهم وأزمة المعنى التي نشهدها حاليًا . كنت أتمنى أن أفعل ذلك لو أن الفكر الإسلامي كان هيأ منذ القرن التاسع عشر الشروط العلمية الكفيلة بتحقيق مثل هذه المهمة الصعبة   ([58]) .

    رابعًا: محاولة العبث في ترتيب السور حسبما جاءت في المصحف الشريف ، لذا يقول عن سورة الفاتحة :" كل ما نستطيع قوله هو أن هذا النص القصير الموضوع في رأس المدونة القرآنية–ومن هنا اسم الفاتحة الذي خُلع عليها فيما بعد – يحتل في الترتيب الكرونولوجي الرقم 46. لذلك يمكن القول : إنه من المفيد ، على الأقل تاريخيًا، أن نقرأ الفاتحة من خلال السياق الممتد من السورة رقم (1) إلى السورة رقم(46) . ولكن بشرط أن يكون هذا الترتيب التاريخي لسور القرآن صحيحًا بشكل قاطع ، ثم على الأخص ، بشرط ألا تكون السورة غائبة عن مدونة ابن مسعود ومدونة ابن عباس " ([59]) .

    وهنا لا يكتفي أركون بالعبث في ترتيب السور ، بل يشكك في المصحف الموجود حاليًا . ولم يدر هذا المخبول أن ترتيب السور في القرآن الكريم ،ترتيب توقيفي([60]) ، أي عن النبي ﷺ ، عن رب العزة سبحانه وتعالى . وحتى لو كان ترتيب القرآن باجتهاد الصحابة ، ألم يصبح أمرًا متعارفًا عليه ، وعليه خرجت التفاسير المختلفة للقرآن الكريم على مدى أربعة عشر قرنًا ؟ ألم يُبْنَ تفسير نظم الدرر للإمام البقاعي على تناسب الآيات والسور ؟ كل هذه الأمور يعرفها أركون جيدًا . لكن الهدف يكمن في نسف التراث بأكمله ، بما في ذلك التفاسير المتعددة للقرآن الكريم ، والتي في حاجة– في نظر أركون –إلى مراجعة ، وفق مبادئه الجديدة ([61]) .

    أما حديثه عن مصحف ابن مسعود وابن عباس ، فلم يتم حرق أي شيء من القرآن ، إلا بعد أن جُمع كله في كتاب واحد . ألم يقرأ قول (الله) عز وجل :﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر : 9) ؟ حفظه من كل شيء : من الزيادة والنقصان ، من التبديل والتغيير ، من الحذف والإضافة ....إلخ . بيد أن أركون أراد التدليس على القارئ ، ومحاولة إقحامه في ترهاته ([62]) .

    وفي سياق حديثه عن جمع القرآن ، ومحاولته الفاشلة في تطبيق المنهج التاريخي يقول : ومن المعلوم أن النقد الفللوجي التاريخي للنصوص المقدسة ، كان قد طبق سابقًا على التوراة والأناجيل، دون أن يولد انعكاسات سلبية بالنسبة لمفهوم الوحي . ومن المؤسف له أن هذا النقد لا يزال مرفوضًا من قبل الرأي العام الإسلامي ([63]) .

    ويجمل أركون رأيه في القرآن من حيث ترتيب السور والآيات بقوله : نحن نعلم أن نظام ترتيب السور والآيات في المصحف لا يخضع لأي ترتيب زمني حقيقي ، ولا لأي معيار عقلاني أو منطقي ([64]) . أي لا يخضع لمنهجه الذي يتبناه ؛ لذا كان التشكيك.     

    خامسًا : محاولته قراءة القرآن بمبادئه هو التي وضعها موافقة لمنهجه التاريخي النقدي([65]). وإذا تصفحت ما قدمه من قراءة لسورة الفاتحة ، وسورة الكهف ، لا تجد أثرًا  لأي علم أو فكر ، اللهم إلا التشتت والتخبط ، وعدم الثبات . فأحيانًا يقول بعدم انسجام آيات القرآن ، وأحيانًا أخرى يقول بعدم انسجامها . يقول في معرض حديثه عن سورة الكهف : " نحن نعلم أنه نادرًا ما تشكل السور القرآنية وحدات نصية منسجمة ، وإنما تتشكل في الغالب من نوع من التجاور بين الآيات التي قد تختلف قليلًا أو كثيرًا في تواريخها ، أو من حيث ظروف الخطاب الذي لُفِظَت فيه لأول مرة ، أو من حيث مضامينها ، أو صياغتها التعبيرية . لكن هذا لا ينفي إمكانية العثور على فكرة مركزية حتى في وحدة نصية طويلة جدًا كسورة البقرة "([66]) .

    أخيرًا : رأيه في تفاسير القرآن . لم تخلُ التفاسير المتعددة للقرآن الكريم من تاريخية أركون التي تمثل له الشهيق والزفير ؛ لذا نجده يضع شرطَين لقراءة التفاسير التراثية ، فيقول:نحن لا نمتلك حتى الآن تاريخًا استقصائيًا شاملًا للتفسير القرآني، يتميز في الوقت ذاته بالجمع بين هذين الهمين المعرفيين التاليين: تحديد المنشأ والنسب والتفرعات التاريخية للأدبيات التفسيرية الضخمة والغزيرة مع التوقف طويلًا عند مرحلة البدايات خاصة ...والثاني ينبغي أن ندرس شروط ممارسة العقل الإسلامي لنفسه في كل تفسير قديم أو معاصر ؛ ذلك أنه من الأهمية بمكان أن نبين كيف أن المسلمات اللاهوتية والتاريخية واللغوية لهذا العقل قد أدت إلى الخلط بين مستويات الدلالة والمعنى الخاصة بالقرآن ([67]) . 

    ويمكن أن نلخص مبادئ أركون– ربما في كل ما كتب عن القرآن– في نقطتين: تتمثل الأولى في إعمال العقل البشري القائم على العلم التجريبي، بما يسميه (العقلانية) في كل الثوابت التراثية السابقة ، وبخاصة المسائل الإيمانية المبنية على القداسة ، والإعجاز ، والتنزيه ، والتبجيل لكل ما هو إلهي

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1