Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

فلسفة النحو بين التنظير والتطبيق : دراسة في القرآن الكريم
فلسفة النحو بين التنظير والتطبيق : دراسة في القرآن الكريم
فلسفة النحو بين التنظير والتطبيق : دراسة في القرآن الكريم
Ebook681 pages5 hours

فلسفة النحو بين التنظير والتطبيق : دراسة في القرآن الكريم

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

تعد فلسفة النحو من المواضيع المهمة في دراسة اللغة العربية، حيث تسعى إلى فهم أسس وقواعد النحو وتطبيقاتها. يعتبر كتاب "فلسفة النحو بين التنظير والتطبيق: دراسة في القرآن الكريم" للدكتور دسوقي إبراهيم واحدًا من الأعمال المهمة في هذا المجال. يقدم الكتاب دراسة شاملة وعميقة حول فلسفة النحو وتطبيقاتها في ضوء القرآن الكريم. في هذا المقال، سنستعرض محتوى الكتاب ونلقي نظرة عامة على المساهمات القيمة التي قدمها الدكتور دسوقي إبراهيم في هذا المجال.

ويعد كتاب "فلسفة النحو بين التنظير والتطبيق: دراسة فيالقرآن الكريم" للدكتور دسوقي إبراهيم إسهامًا قيمًا في فهم وتحليل النحو العربي وتطبيقاته في القرآن الكريم. يقدم الكتاب دراسة شاملة ومتعمقة لفلسفة النحو، مع التركيز على الجوانب التنظيرية والتطبيقية، ويوفر رؤية جديدة ونقدية للنظريات النحوية المعاصرة.

يستحق الدكتور دسوقي إبراهيم الثناء على مجهوده في هذا الكتاب، حيث يقدم للقارئ فهمًا عميقًا لفلسفة النحو وتطبيقاتها في القرآن الكريم. يعتمد الكتاب على منهجية بحثية دقيقة واستناده إلى المصادر النحوية الكلاسيكية والمعاصرة، مما يجعله مرجعًا قيمًا في هذا المجال.

باختصار، يعد كتاب "فلسفة النحو بين التنظير والتطبيق: دراسة في القرآن الكريم" للدكتور دسوقي إبراهيم قراءة مهمة لكل من يهتم بدراسة اللغة العربية وفهم النحو وتطبيقاته في القرآن الكريم. يقدم الكتاب رؤية شاملة وعميقة في فلسفة النحو، ويساهم في إثراء المعرفة والبحث في هذا المجال المهم

Languageالعربية
Release dateJan 3, 2024
ISBN9798215610367
فلسفة النحو بين التنظير والتطبيق : دراسة في القرآن الكريم
Author

أ.د : دسوقي إبراهيم

أستاذ مساعد سابق في الجامعات التركية: حاصل على الدكتوراه في الدراسات الشعرية من جامعة عين شمس، وعمل في كلية العلوم الإسلامية بجامعة أتاتورك وجامعة بايبورت. متخصص في النقد الأدبي الحديث: يهتم بدراسة الشعر الحديث والتوجهات النقدية المعاصرة، ويقدم تحليلات نقدية عميقة ومبتكرة لأشعار بعض من أبرز شعراء الحداثة في العالم العربي، مثل أحمد شوقي ونزار قباني ومحمود درويش وآخرون. مؤلف كتاب قراءات نقدية في شعر الحداثة: كتاب صادر عن وكالة كنزي للنشر، يستند إلى دراسة مستفيضة لأشعار الشعراء المذكورين، باستخدام مناهج نقدية متنوعة، مثل النقد البلاغي والنقد السيميائي والنقد الأخلاقي.

Related to فلسفة النحو بين التنظير والتطبيق

Related ebooks

Reviews for فلسفة النحو بين التنظير والتطبيق

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    فلسفة النحو بين التنظير والتطبيق - أ.د : دسوقي إبراهيم

    الإِهْدَاء

    إلى المهتمين بلغة القرآن الكريم

    دسوقي

    تقديم

    من المسلم به في الأوساط العلمية أن للغات البشر أصلين في نشأتها ؛ توقيفي واصطلاحي . أما التوقيفي، فيقصد به أنها من عند(الله)سبحانه وتعالى . والاصطلاحي يعني أنها ما اصطلح وتوافق عليه بنو البشر .

    وفيما يخص اللغة العربية ، يقول الجاحظ (255ه) :" القول في إنطاق (الله) عز وجل إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام بالعربية المُبِيْنَةِ على غير التلقين والتمرين، وعلى غير التدريب والتدريج ، وكيف صار عربيًا أعجمي الأبوين ، وأول مَنْ عليه أن يُقِرَّ بهذا القحطانيُّ ، فلابد أن يكون له أب كان أول عربي من جميع بني آدم ﷺ . ولو لم يكن ذلك كذلك ، وكان لا يكون عربيًا حتى يكون أبوه عربيًا وكذلك أبوه وكذلك جده ، كان ذلك موجبًا لأن يكون نوح ﷺ عربيًا ، وكذلك آدم ﷺ .

    ثم يقول : قال أبو عبيدة : حدثنا مِسمَع بن عبد الملك عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين عن آبائه قال: أول من فُتِقَ لسانه بالعربية المُبِيْنَةِ إسماعيل، وهو  ابن أربع عشرة سنة ([1]) .

    ويمكن لنا أن نستشف من كلام الجاحظ أمورًا ؛ الأول : أن الجاحظ يرى أنه إذا كان سيدنا إسماعيل هو أول من فُتِقَ لسانه بالعربية المبينة ، فإن ذلك قد تم على غير تلقين وتمرين ، وعلى غير تدريب وتدريج . وهذا يعني أن تَعَلُّمَ سيدنا إسماعيل العربية المبينة كان بواسطة الإلهام ، أو الوحي ، مما يدخل هذا في إطار التوقيف .

    الثاني : أنه إذا لم يكن ذلك كذلك ، وكان لابد للناطق بالعربية المبينة أن يكون عربي الأبوين ، فإن ذلك يعني امتداد العربية إلى سيدنا آدم عليه السلام ، مما يدخل هذا كذلك في مذهب التوقيف ، كما سنرى لاحقًا في تعلم سيدنا آدم عليه السلام الأسماء عن (الله) سبحانه وتعالى .

    الأخير : أن وصف العربية التي فُتِقَ بها لسان سيدنا إسماعيل عليه السلام بالمبينة يعني أنه قد سُبِقَ بنطق العربية ، لكن غير المبينة ، مما يشير – ضمنًا – أن سيدنا إسماعيل عليه السلام لم يكن أول من نطق بالعربية ، وإنما يعود هذا إلى سيدنا آدم عليه السلام .

    ولما كان في علم (الله) تعالى أن سيدنا إسماعيل سيكون نبيًا للعرب ، ومن نسله سيبعث رسول من العرب ﷺ قدر (الله) تعالى وهيأ أن تصل العربية إلى مرحلة النضج والإبانة على لسانه عليه السلام .

    ومن قدامى اللغويين الذين وازنوا بين المذهبين ابن جني (392ه) ، حيث يقول : هذا موضوع محوج إلى فضل تأمل ، غير أن أكثر أهل النظر على أن أصل اللغة إنما هو تواضع واصطلاح ، لا وحي وتوقيف ، إلا أن أبا علي رحمه الله قال لي يومًا : هي من عند الله ، واحتج بقوله سبحانه وتعالى : ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ . وهذا لا يتناول موضع الخلاف . وذلك أنه قد يجوز أن يكون تأويله : أقدرَ آدم على أن واضع عليها ؛ وهذا المعنى من عند الله سبحانه لا محالة . فإذا كان ذلك محتملًا غير مستنكر سقط الاستدلال به.وقد كان أبو علي رحمه الله أيضًا قال به في بعض كلامه. وهذا أيضًا رأي أبي الحسن، على أنه لم يمنع قول من قال : إنها تواضع منه . على أنه فُسِّرَ هذا بأن قيل: إن الله سبحانه عَلَّمَ آدم أسماء جميع المخلوقات ، بجميع اللغات:العربية، والفارسية ، والسريانية ، والعبرانية ، والرومية ، وغير ذلك من سائر اللغات ، فكان آدم وولده يتكلمون بها ، ثم إن ولده تفرقوا في الدنيا، وعلق كل منهم بلغة من تلك اللغات،فغلبت عليه،واضمحل عنه ما سواها؛لبعد عهدهم بها([2]) .

    وبعد أن طرح ابن جني مذهب المواضعة في نشأة اللغة من خلال محاكاة أصوات الطبيعة عاد وقال : وأعلم فيما بعد ، أنني على تقادم الوقت ، دائم التنقير والبحث عن هذا  الموضع ، فأجد الدواعي والخوالج قوية التجاذب لي ، مختلفة جهات التغول على فكري،وذلك أنني إذا تأملت حال هذه اللغة الشريفة، الكريمة اللطيفة، وجدت فيها من الحكمة والدقة ، والإرهاف ، والرقة ، ما يملك عليّ جانب الفكر ، حتى يكاد يطمح به أمام غلوة السحر ، فمن ذلك ما نبه عليه أصحابنا رحمهم الله ، ومنه ما حذوته على أمثلتهم ، فعرفت بتتابعه وانقياده ، وبُعد مراميه وآماده ، صحة ما وُفِّقُوا لتقديمه منه ، ولطفَ ما أُسعدوا به ، وفُرِق لهم عنه ، وانضاف إلى ذلك وارد الأخبار المأثورة بأنها من عند الله جل وعز ؛ فقوي في نفسي اعتقاد كونها توقيفًا من الله سبحانه ، وأنها وحي ([3]) .

    ويمكن لنا كذلك أن نأخذ ملامح من طرح ابن جني ؛ الأول : أنه يطرح وجهتي النظر حيال مذهبي تعليم اللغة : التوقيفي والاصطلاحي . الثاني : أن ترجيح التوقيفي ربما يستشف من قول شيخه إبي علي أن العربية من عند الله تعالى ، ثم ما ذهب هو إليه في الطرح الأخير . الأخير : أن سيدنا آدم عليه السلام كان قد عُلِّمَ اللغات كلها .

    وفي الطرح التفسيري  يقول الماوردي (450ه) في قوله تعالى :﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾:فإن كان التعليم يخص كل شيء، فما الذي عُلِّمَه:الاسم أم المسمى ؟ قيل: التعليم كان مقصورًا على الاسم دون المعنى، وقيل: كان التعليم للاسم والمسمى. فإن كان التعليم مقصورًا على الاسم دون المسمى ، فكيف كان ؟ قيل : علمه باللغة التي كان يتحدث بها . وقيل علمه بكل اللغات ، وعلمها آدم ولده ، فلما تفرقوا تكلم كـل قوم منهم بلسان استسهلوه منها وأَلِفُوه ، ثم نسوا غيره فتطاول الزمن ([4]) .

    أما كيف تم تعليم سيدنا آدم عليه السلام اللغات لدى المفسرين ، فتكاد تجمع جل آرائهم على أن تعليم سيدنا آدم عليه السلام اللغات كان توقيفيًا ([5]) . 

    ومعنى هذا ، أن تعليم اللغات لسيدنا آدم عليه السلام ، حسب طرح المفسرين الأكابر كان توقيفيًا . وهنا يقول الإمام القرطبي :قال ابن خويز منداد: في هذه الآية– أي قوله تعالى :﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ - دليل على أن اللغة مأخوذة توقيفًا ، وأن الله تعالى علمها آدم جملة وتفصيلًا ([6]) .

    أما أول من تحدث باللغة العربية،فقد قال القرطبي:"واختلف في أول من تكلم باللسان العربي فروي عن كعب الأحبار أن أول من وَضَعَ الكتابَ العربيَّ والسريانيَّ والكتبَ كلها وتكلم بالألسنة كلها آدم عليه السلام. وقاله غير كعب الأحبار.

    فإن قيل : قد روي عن كعب الأحبار من وجه حسن قال : أول من تكلم بالعربية جبريل عليه السلام ، وهو الذي ألقاها على لسان نوح عليه السلام ، وألقاها نوح على لسان ابنه سام . رواه ثور بن يزيد عن خالد بن معدان ، عن كعب . وروي عن النبي ﷺ أنه قال : (أول من فُتِقَ لسانه بالعربية المبينة إسماعيل وهو ابن عشر سنين ) ، وقد روي أيضًا : أن أول من تكلم بالعربية يعرب بن قحطان . وقد روي غير ذلك . قلنا : الصحيح أن أول من تكلم باللغات كلها من البشر آدم عليه السلام ، والقرآن يشهد له ، قال الله تعالى : ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ . واللغات كلها أسماء ، فهي داخلة تحته ، وبهذا جاءت السنة ، قال ﷺ : ( وعلم آدم الأسماء كلها حتى القصعة والقُصَيعَة ) . وما ذكروه يحتمل أن يكون المراد به : أول من تكلم بالعربية من ولد إبراهيم عليه السلام إسماعيلُ عليه السلام . وكذلك إن صح ما سواه ؛ فإنه يكون محمولًا على أن المذكور أول من تكلم من قبيلته بالعربية بدليل ما ذكرنا ، والله أعلم. وكذلك جبريل أول من تكلم بها من الملائكة ، وألقاها على لسان نوح بعد أن علمها الله آدم أو جبريل ، على ما تقدم ، والله أعلم " ([7]) .

    وفي دال (الأسماء) في قوله تعالى :﴿الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ يقول ابن جني : فإن قيل : فاللغة فيها أسماء ، وأفعال ، وحروف ؛ وليس يجوز أن يكون المعلَّم من ذلك الأسماء دون غيرها مما ليس بأسماء ، فكيف خص الأسماء وحدها ؟ قيل : اعتمد ذلك من حيث كانت الأسماء أقوى الأنواع الثلاثة ، ولابد لكل كلام مفيد من الاسم ، وقد تستغني الجملة المستقلة عن كل واحد من الحرف والفعل ، فلما كانت الأسماء من القوة والأولية في النفس والرتبة،على ما لا خفاء به جاز أن يكتفى بها مما هو تالٍ لها، ومحمول في الحاجة إليه عليها ([8]) .   

    كما يقول الإمام القرطبي في دال (الأسماء) كذلك: الأسماء هنا بمعنى العبارات ، فإن الاسم قد يطلق ويراد به المسمى ، كقولك زيد قائم ، والأسد شجاع . وقد يراد به التسمية ذاتها ، كقولك : أسد ثلاثة أحرف ، ففي الأول يقال : الاسم هو المسمى ، بمعنى يراد به المسمى ، وفي الثاني لا يراد به المسمى ([9]) .

    ثم يقول:وقد يجرى اسم في اللغة مجرى ذات العبارة، وهو الأكثر من استعمالها، ومنه قوله تعالى : ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ على أشهر التأويلات ، ومنه قول النبي ﷺ : إن لله تسعة وتسعين اسمًا ([10]) .

    ويقول أبو السعود (982ه) : والاسم باعتبار الاشتقاق ما يكون علامة للشيء ودليلًا يرفعه إلى الذهن من الألفاظ والصفات والأفعال ،  واستعماله عرفًا في اللفظ الموضوع لمعنى مفردًا كان أو مركبًا ، مخبرًا عنه أو خبرًا أو رابطة بينهما ، واصطلاحًا في المفرد الدال على معنى في نفسه غير مقترن بالزمان . والمراد ههنا إما الأول ، أو الثاني . وهو مستلزم للأول ؛ إذ العلم بالألفاظ من حيث الدلالة على المعاني مسبوق بالعلم بها ([11]) .

    ويستشف مما قيل حول دال (الأسماء) أنها تعني : العبارات والجمل ، وليست الأسماء المفردة ، ومما يعضد هذا أن الإنسان إذ يعبر عما يريد لا يمكن له أن يستخدم الاسم مفردًا . وإذا وقع ذلك فسيكون حتمًا ثَمَّ محذوف ، مثلما تسأل : من هذا ؟ تجاب : رجل ؛ أي هذا رجل ([*)].

    وخلاصة هذا كله ، أنه في رأيي أن اللغة العربية توقيفية وأنها أصل اللغات ، وذلك للآتي ؛ أولًا : أن الحق سبحانه وتعالى  قَدَّرَ أن تكون هذه اللغة وعاء لحمل دلالات أشرف الكتاب السماوية وهو القرآن الكريم ، فما كان ليتركها لبني البشر أن يضعوها أو يصطلحوا عليها .

    ثانيًا : أن اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم ، والقرآن الكريم هو كلام (الله) تعالى ، وكلام (الله) تعالى قديم ، وليس بمخلوق كما تزعم المعتزلة .

    ثالثًا : تقدير الباري أن يكون القرآن الكريم هو آخر الكتب السماوية ، المنزل على قلب أشرف أنبيائه ﷺ . وليس ذلك فحسب ، بل أن يصير القرآن الكريم منهج حياة ، غير مقتصر على الشعائر التعبدية فحسب ، بل يشمل مناحي الحياة كلها .

    رابعًا: تحدي القرآن الكريم للعرب، ولو كانت العربية من وضع بني البشر ، ووصلت إلى مرحلة الذروة إبان نزول القرآن الكريم ، لاستطاع العرب أن يأتوا بمثله.

    خامسًا : أنه من المسلم به أن القراءات القرآنية توقيفية ، ومنها ما يتقاطع ويتشابك مع النحو العربي من مثل الزمن (عَلَّمَ) في قوله تعالى : ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ (البقرة : 31) الذي له قراءة أخرى (عُلِّمَ) ([12]) ، مما يعني – ضمنيًا – أن علم النحو علم توقيفي .

    فإذا كان سيدنا آدم عليه السلام قد عُلِّمَ اللغات كلها ، ومنها العربية بطبيعة الحال ، فإنه لابد أن يكون قد عرف النحو ؛ إذ كيف يعبر عما يريد في مواقف ومشارب مختلفة بضبط واحد للكلمات ؟!! .

    وهذا لا يمنع من أن يكون ثَمَّ تطور قد حدث للغة العربية على مر الزمن ، لكن ما نريد أن نثبته هو أن بدايات اللغة  العربية - على الأقل – كانت توقيفية .

    سادسًا : سهولة حفظ القرآن الكريم على المسلم غير العربي بإتقان يفوق أحيانًا حفاظ القرآن من العرب ؛ لكون لغة القرآن تجمع بين التوقيف والإعجاز .

    سابعًا : علو لغة القرآن على التقعيد اللغوي ، فإن قيل : أين ؟ قلتُ : من المسلم به لغويًا أن اللغة العربية – وربما كل اللغات – تكره توالي الأمثال ؛ بمعنى ألا يتكرر الصوت الواحد أكثر من مرة . وإذا قرأت قوله تعالى : ﴿قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ﴾ (هود : 48) أدركت أن صوت (الميم) تكرر ثمانيَ مرات في (أُمَمٍ مِمَّنْ) ؛ خمسًا أصلية وثلاثًا بالتضعيف ([13]).

    وإذا قرأت قوله تعالى :﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ (الفرقان :43 ) ، (الجاثية : 23) ألفيت أن صوت (الهاء) قد تكرر ثلاث مرات متتالية . مما يجعلنا نذهب إلى أن اللغة العربية لغة توقيفية .

    ثامنًا : أن ما يجعلنا نذهب إلى أن اللغة العربية هي أصل اللغات يتبلور في عناصر؛ الأول: أن اللغة العربية تمتلك جذورًا لغوية أكثر من بقية اللغات البشرية. الثاني : التشابه الشديد الذي يصل إلى حد التطابق أحيانًا بين نطق كثير من ألفاظ العربية والألفاظ في اللغات الأخرى ؛ فمثلًا دال : (جيد) في العربية هو دال (good ) في الإنجليزية ، ودال (جزيل) في العربية هو دال (جوزال) في التركية ، ودال (سلام) في العربية هو دال (شلوم) في العبرانية ...إلخ .

    الثالث : أن ثمة دراسة تحمل عنوان (اللغة العربية أصل اللغات كلها) عرض فيها مؤلفها لهذا الموضوع بالتفصيل ، ووازن في آخرها بين نطق بعض الدوال العربية والإنجليزية ، وأبان عن تأثر الإنجليزية بالعربية ([14]) .

    الرابع : تميز اللغة العربية بخصائص لغوية لم تتوفر لبقية اللغات ؛ مثل وجود حركات الإعراب التي ترتبط بها المعاني ، والقوانين الصرفية والصوتية ...إلخ .

    الخامس : أنه إضافة إلى ارتباط المعاني بحركات الإعراب ، يتغير معنى الدال الواحد بتغير حركة حرفه الأخير ؛ فمثلًا مادة (ذَهَبَ) إذا أردنا بها الفعل الماضي كانت (ذَهَبَ) ، وإذا أردنا بها الاسم كانت (ذَهَبٌ) ، ومادة (سَمَكَ) إذا أردت بها الفعل كانت (سَمَكَ) بمعنى ارتفع ، وإذا أردت بها الاسم كانت (سَمَكٌ) ؛ أي الطعام . وهلم جرا .

    فإن قيل : نعلم جميعًا أن واضع حركات علم النحو هو أبو الأسود الدؤلي بإيعاذ من الخليفة عمر بن الخطاب أو الخليفة على بن أبي طالب أو غير ذلك على ما ذكرت الروايات ، فكيف يتماشى ذلك مع مذهب التوقيف ؟

    قلتُ : التوقيف كان مشافهة ، ونزل القرآن بدون حركات ، وحُفِظَ مشافهة إلى أن اتسعت رقعة الدولة الإسلامية وظهر اللحن([15]) ، فرُسِمَت هيئات للحركات التي كانت تنطق شفاهة . هذا هو دور البشر .

    أي أن التوقيف انتقل من طور المشافهة إلى طور الكتابة ؛ ليسهل على العرب ومن دخل دينهم وتعلم لغتهم ممارسة حياتهم اللغوية . وهذا من نعم (الله) تعالى أن جعل للإنسان حظًا في بلوغ اللغة حد الكمال .

    أما عن موضوع العنوان ، فإن التركيب الأثيري فيه هو (فلسفة النحو) . ولما كان دال فلسفة يعني التأمل ، فقد يفهم من هذا العنوان أنني أقصد دراسة الارتباط بين النحو والدلالة . وربما يكون هذا جزءًا من القصد . لكن الارتباط بين النحو والدلالة قد يسحب على الدال الواحد إذا تغيرت رتبته النحوية من تركيب لآخر .

    لكن لم تهدف هذه الدراسة إلى هذا المقصد ، وإنما تهدف إلى ارتباط النحو بالدلالة للوحدة اللغوية الواحدة عندما تحمل وجهين أو حتى أكثر من الإعراب في تركيب لغوي واحد ، سواء أكانت هذه الوحدة أداة أم دالًا أم تركيبًا (جملة ، شبه جملة) ، كما سنرى في ثنايا الدراسة . وكان من الطبيعي أن تتم هذه الدراسة في الكتاب الذي تكفل بحفظ اللغة التوقيفية ، وهو القرآن الكريم .

    وأريد أن أنبه إلى نقطة في غاية الأهمية ، هي أن هذه الأوجه المتنوعة التي تحملها الأداة أو التركيب – بخلاف الدال – تتنوع ما بين المصطلحات النحوية والبلاغية ؛ فعندما أقول : (الواو) للحال ، فالحال مصطلح نحوي ، وعندما أقول : (الفاء) للتعليل ، فالتعليل مصطلح بلاغي ، أما المصطلح النحوي الذي تشغله جملة ما بعد (الواو) فهو العطف ؛ فعندما أقول : نجح الابن ففرح الأب ، ف(الفاء) سبية وعاطفة في الوقت نفسه .

    وكذلك مصطلح التعقيب والسرعة وهما مصطلحان مرتبطان بأداة (الفاء)، وهما من المصطلحات التي تؤدي معنى بلاغيًا ، أم المصطلح النحوي المنوط بهما فهو مصطلح (العطف) .

    والأمر نفسه بالنسبة للتركيب ، فقد تكون الجملة في موقع الخبر ، وقد تكون استئنافية ، فالخبر مصطلح نحوي ، والاستئناف مصطلح  بلاغي يندرج تحت علم المعاني في مبحث الفصل والوصل . أما المصطلح النحوي الذي تشغله الجملة الاستئنافية فهو اللامحل من الإعراب . وعلى كل حال سنناقش هذا كله بالتفصيل داخل ثنايا الدراسة إن شاء (الله) تعالى .

    وتتوزع هذه الدراسة – بعد التقديم – على أربعة فصول ؛ يتناول الأول منها (الأدوات) وارتباط الدلالة القرآنية بذكرها أو حذفها ، وكذلك تقلبها في الوظائف النحوية المتعددة ، وإبدال أداة مكان آخرى . ثم يرد الثاني ليناقش (الدوال) بين الأوجه الإعرابية المتعددة ، ثم يرد الثالث ليناقش (التركيب) - سواء كان جملة أو شبه جملة - وحمله لأكثر من موقع إعرابي  ، ثم الخاتمة  ، فالمصادر والمراجع .

    ومنهجيًا ، تتأسس الدراسة على الرصد التقعيدي للوحدة اللغوية ، ثم المناقشة التطبيقية من خلال نماذج من آيات الذكر الحكيم .

    أما الدراسات السابقة ، فمن حيث الأدوات خرجت دراسة تحت عنوان : (الأدوات النحوية ودلالاتها في القرآن الكريم) ([*)] اقتصر فيها مؤلفها على دراسة الأدوات من خلال المعربين العرب .

    وفي إطار دراسة الأدوات كذلك جاءت دراسة (الواو والفاء وثم في القرآن الكريم . دراسة نحوية دلالية إحصائية) ([*)]  لتناقش الأدوات الثلاثة من خلال آيات الذكر الحكيم .

    ومن حيث الموقع الإعرابي الذي يختص بالدال ، ثَمَّ دراسة تحمل عنوان (التوجيه النحوي لتداخل التوابع في القرآن الكريم) ([*)] ، وكذلك(المعنى وتعدد التوجيه النحوي . دراسة في كتاب شرح مشكلات الحماسة لابن جني)([*)] . وقد اقتصرت هذه الدراسة على مناقشة علاقة المعنى بالنحو من خلال الاسم في منطقة المرفوعات والمنصوبات والمجرورات ، وذلك من خلال الشواهد الشعرية .

    ومن حيث الجمل ، ثَمَّ دراسة بعنوان (الجملة الحالية في القرآن الكريم . أحصاء ودراسة ) ([*)] ، وكذلك (الجملة الاستئنافية في القرآن الكريم . دراسة لغوية تحليلية)([*)] . وأخيرًا (دلالة الجملة الاعتراضية في القرآن الكريم) ([*)]

    وهذه الدراسات كلها دراسات متميزة ، بذل فيها مؤلفوها جهدًا مضنيًا ، لكن ما تتميز به الدراسة التي بين أيدينا عن السابقة عليها يتمثل في الآتي؛ أولًا : أن كل الدراسات السابقة اختصت بجانب واحد من حيث دراسة الوحدة اللغوية ؛ فمنها ما اختص بالأدوات فحسب ، ومنها ما اختص بالدوال فحسب ، ومنها ما اختص بالجملة  فحسب . أما دراستنا فقد شملت ما شملته الدراسات السابقة ، إضافة إلى تركيب شبه الجملة .

    ثانيًا : أن الدراسات السابقة اعتمدت كثيرًا على مسألة الرصد والإحصاء ، بينما ما نقوم به نحن في هذه الدراسة يعتمد على المناقشة والتأمل والتحليل ، وربط إنتاج الدلالة القرآنية بالتفاعل بين طاقات اللغة المتنوعة في مستواها الفني .

    ثالثًا : أن الدراسات السابقة استدعت في معظمها وجهة نظر العلماء الأفاضل فيما هي بصدده من عناصر الدراسة ، بينما تؤسس هذه الدراسة وتُبنى على تأمل صاحبها للظاهرة اللغوية وتحليلها ، وبيان أثرها في إنتاج الدلالة القرآنية .

    رابعًا : لم تفد الدراسات السابقة من بقية العناصر اللغوية مثل حقل الصرف والصوتيات والقراءات والوقف والابتداء ومناهج النقد الحداثي المؤسسة على اللغويات الحديثة ، بينما حاولت هذه الدراسة أن تفيد من كل هذا .   

    وقبل أن أغادر هذا التقديم ، أريد أن أنبه إلى أمر مهم ، وهو أنني سأضع اسم الجلالة (الله) بين قوسين ، تمييزًا وتنزيهًا له سبحانه وتعالى عن بقية الدوال اللغوية الأخرى ، واحترامًا وتأدبًا لغويًا مع الباري جل وعلا ، سائله سبحانه وتعالى القبول ، والصفح والمغفرة .

    وعلى كل حال ، إن أفادت الدراسة وأضافت جديدًا إلى حقل الدراسات اللغوية ف(لله) تعالى الحمد والشكر ، وإلا فيكفينا شرف المحاولة . وفق (الله) تعالى المجتهدين جميعهم إلى كل خير وفلاح ، وتقبل منهم .

    دسوقي

    الفصل الأول : الأدوات

    توطئة :

    إذا كان سيبويه (180ه) قد قال في مفتتح كتابه :" فالكلم : اسم ، وفعل ، وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل ([16]) ، وتبعه في ذلك المبرد (285ه) ([17]) ، وابن السراج  (316ه)([18]) ، وكذا المصادر النحوية كلها ، فسنبدأ من أقل وحدة لغوية، وهي الأداة ؛ لأن الأداة تشمل الحرف وغير الحرف  .

    في مصادر النحو القديمة ثم تداخل بين مفهوم الأدوات والحروف ، فمثلًا تأتي الأدوات بمعنى الحروف عند سيبويه ، عندما يقول : وللقسم والمقسم به أدوات في حروف الجر ، وأكثرها الواو ، ثم الباء ، يدخلان على كل محلوف به . ثم التاء ، ولا تدخل إلا في واحد ، وذلك قولك : والله لأفعلن ، وبالله لأفعلن ، ﴿وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ﴾ (الأنبياء : 57) ([19]) .

    وقبل سيبويه أطلق الخليل بن أحمد مفهوم الحروف على أدوات القسم كذلك ، عندما قال : قولهم : والله ، وتالله ، وهي من حروف الخفض ([20]) .

    وكذلك أطلق الخليل على أدوات النداء مثل (الواو) مفهوم الحرف ، عندما قال : وأما واو النداء قولهم : يا زيدُ ، وازيدُ ، هازيدُ . ومنهم من يحذف حرف النداء ويكتفي فيقول : زيدُ ([21]) .

    وإذا ذهبنا إلى ابن قتيبة (276ه) وجدناه يضع عنوانًا تحت (باب تفسير حروف المعاني وما شاكلها من الأفعال التي لا تنصرف) يناقش فيه حروفًا وأسماء وظروفًا وأفعالًا ، مثل النواسخ وأفعال الشروع وغير ذلك([22]) . 

    وزاد من ذلك المبرد عندما أطلق مصطلح الحرف على بقية أدوات النداء: يا ، أيا ، هيا ، وأي ، وألف الاستفهام ([23]) .

    وفي الأدوات العاملة أطلق المبرد على : (إن)  و (أن) ، و(لكن) ، و(كأن) ، و(ليت) ، و(لعل) أنها حروف مشبهة بالأفعال ([24]) .  

    والأمر نفسه في أدوات الاستثناء ، فقد أطلق المبرد على (إلا) و(حاشا) ، و(خلا) مصطلح الحرف ([25]) .

    ويطلق ابن هشام (761ه)مصطلح الحرف على المفردات:وأعني بالمفردات الحروف وما تضمن معناها من الأسماء والظروف فإنها المحتاجة إلى ذلك ([26]) .

    وقد قال السيوطي (911ه) صراحة : أعني بالأدوات : الحروف وما شاكلها من الأسماء والأفعال والظروف ([27]) .

    وعندما تتصفح كتبًا مثل مغني اللبيب ، والبرهان ، والإتقان تجد أن علماءنا الأفذاذ تناولوا فيما سموه بالمفردات والأدوات حروفًا وأسماء وظروفًا وأفعالًا ، مثل أفعال الشروع (كاد ، عسى) والنواسخ (كان ، ليس ، لعل ، ليت)...إلخ . مما يدل على المفهوم الواسع لديهم في مسألة الأدوات ([*)] .

    ولاتساع هذه الرقعة ، وعدم اقتصار هذه الدراسة على الأدوات فحسب ، واهتمام الدراسة بالأدوات – فضلًا عن المفردات والتركيب – التي تحمل أكثر من وجه إعربي ، أو ما تتعلق دلالتها بخصوصية مجيئها في القرآن الكريم ، فسنحاول جاهدين أن تشمل الدراسة أصناف الأدوات التي ذُكرت في الطرح النحوي ؛ من حروف وظروف وأسماء وأفعال .

    وما نقدمه سيكون نموذجًا لغيره ؛ إذ لا تهدف الدراسة إلى عملية الإحصاء والحصر ، وإنما تهدف إلى عملية التحليل ، وإبراز كيفية إنتاج الدلالة القرآنية من خلال تعدد الأوجه الإعرابية ، سواء فيما يخص الأدوات ، أو الدوال ، أو التراكيب .  

    ومناقشتنا للأدوات في هذا الفصل من هذه الدراسة ينقسم إلى ثلاثة مظاهر؛ الأول : ارتباط إنتاج الدلالة القرآنية بذكر الأداة أو حذفها . الثاني : ارتباط الدلالة القرآنية بالوظيفة النحوية التي تحملها الأداة ، ومدى تغير الدلالة القرآنية بتغير هذه الوظيفة.الأخير:ارتباط الدلالة القرآنية بالتبادل بين الأدوات ؛ أي بإمكانية مقام أداة مكان أخرى ، كما سنرى في ثنايا الدراسة .

    وسنناقش المظهر الأول من خلال أداتين من الأدوات؛ أداة التعريف (ال)([*)] ، وكذلك أداة النداء (يا). على أن نسوق أمثلة لكل هذا الطرح من آيات الذكر الحكيم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ؛ فهو تنزيل من حكيم حميد . 

    أولًا : الأداة بين الحذف والذكر

    أ-  (ال)

    أطلق الخليل ابن أحمد على ألف الوصل الداخلة على(اللام)ألف التعريف؛ لأنها تدخل مع (اللام) في أول الاسم النكرة فيصير ذلك الاسم معرفة . وكذلك على (اللام) بأنها لام التعريف ([28]) .

    ويعرض الدكتور فاضل السامرائي أغراض المعرف ب(ال) فيقول : للتعريف ب(ال) أغراض ؛ أهمها : تعيين واحد من أفراد الجنس ، كقولك (أقبل الرجل) ، و(اشتريتُ الكتاب) . ولا تقول ذلك إلا إذا كان المخاطَب يعرف الرجل ...وكذلك (اشتريت الكتاب) فإنه لا يجوز أن تقول ذلك لمخاطبك إذا كان لا يعرف شيئًا عن الكتاب ([29]) .

    وهنا يقول شيخ النحاة سيبويه : وأما الألف واللام فنحو الرجل  والفرس والبعير ، وما أشبه ذلك. وإنما صار معرفة لأنك أردتَ بالألف واللام الشيء بعينه دون سائر أمته، لأنك إذا قلتَ : مررت برجلٍ ، فإنك إنما زعمت أنك مررت بواحد ممن يقع عليه هذا الاسم ، لا تريد رجلًا بعينه يعرفه المخاطَب . وإذا أدخلت الألف واللام فإنما تُذَكّرُه رجلًا قد عَرَفَهُ ، فتقول : الرجل الذي كان من أمره كذا وكذا؛ ليتوهم الذي كان عهده ما تذكر من أمره([30]) .

    ويسوق الدكتور السامرائي الغرض الثاني في بيان الجنس ، مثل (الفهد أسرع من الذئب) ؛ إذ إنك لا تقصد فهدًا بعينه ولا ذئبًا بعينه ، وإنما تقصد أن هذا الجنس أسرع من هذ الجنس .

    ثم يرد الغرض الثالث في الاستغراق ؛ أي شمول كل أفراد الجنس لما هو متحدث به من مثل قوله تعالى : ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ (النساء : 28) فلا يشذ واحد من أفراد الجنس البشري من هذا الضعف .

    ويرد الغرض الرابع في الإشارة إلى واحد ممن عُرِفَتْ حقيقتُه في الذهن من دون قصد إلى التعيين،مثل قولك(اذهبْ إلى السوق واشترِ لنا كذا وكذا)لمن لم يدخل المدينة إلا هذه المرة ، ولم يـر سوقها من قبل . فأنت هنا لا تقصد سوقًا بعينه ([31]) .

    ثم يتمثل الغرض الخامس في الدلالة على الكمال ، كقولك (هذا الرجل) ، و(هذا البطل) ؛ أي الكامل في هذا الوصف . ومن ذلك قولنا ( هذا الفتى كل الفنى) ، و(هذا الفتى حق الفتى) ([32]) .  

    وهنا يقول سيبويه : إذا قلتَ : هذا الرجل فقد يكون أنْ تعني كماله ، ويكون أنْ تقول هذا الرجل وأنْ تريد كلَّ ذَكَرٍ تَكَلَّمَ ومَشَى على رجلين فهو رَجُلٌ ([33]) .

    وهذا المعنى هو الذي ذهب إليه شيخ البلاغيين العلامة عبد القاهر الجرجاني (471ه ، أو 474ه) عندما قال : واعلم أنك تجد ( الألف واللام) في الخبر على معنى الجنس، ثم ترى له في ذلك وجوهًا ؛ أحدها : أن تقصر جنس المعنى على المخبَر عنه لقصد المبالغة ، وذلك قولك (زيد هو الجواد) ، و(عمرو هو الشجاع) ، تريد أنه الكامل([34]) .

    ويأتي الغرض الأخير متمثلًا في إيضاح ما لم يكن واضحًا للمخاطَب وتبيينه له ، كمن سمع بالماس ولم يره ، فتجيء به إليه وتقول : (هذا هو الماس) ([35]) .

    والتعريف الذي تضفيه الأداة (ال) على الاسم له قسمان: العهد أو الجنس . والعهد هو أن يكون ثم تعارف وتفاهم بين المخاطِب والمتلقي في الاسم المعرفة ؛ أي يكون هناك سابق معرفة للاثنين بهذا الاسم .

    أم الجنس ، فهو أن يُطلق الاسم لا على متعين ، بل على كل أفراد جنسه ، مثلما مر بنا من فَهْدٍ ، أو رَجُلٍ ...إلخ .

    وهنا يقول الرماني(384ه) :" أن تكون–أي (ال)– لتعريف العهد ، كقولك : جاءني الرجل ، إذا أردت واحدًا بينك وبين المخاطَب فيه عهد. وأن تكون لتعريف الجنس ، وذلك نحو قولك : أهلكَ الناسَ الدينارُ والدرهمُ . والمَلَكُ أفضل من الإنسان ، ومنه قوله تعالى ﴿وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا﴾ (الحاقة : 17) ، وقوله تعالى : ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ (البقرة : 220) ، وقوله سبحانه وتعالى : ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ (العصر : 2) ([36]) .

    ويقسم الأزهري (905ه) العهد إلى ثلاثة أنواع : العهد الذكري ، والعهد العلمي ، والعهد الحضوري . أما العهد الذكري ، فهو أن يتقدم لمصحوبها ذِكْرٌ ، نحو قوله تعالى : ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا﴾ (المزمل : 15 ، 16) وفائدتها التنبيه على أن الرسول الثاني هو الرسول الأول ؛ إذ لو جيء به منكرًا لتوهم أنه غيره .

    والعهد العلمي هو أن يتقدم لمصحوبها عِلْمٌ ، مثل قوله سبحانه وتعالى : ﴿بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى﴾ (طه : 12) ، وقوله تعالى : ﴿تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ (الفتح : 18) ، وقوله تعالى :  ﴿إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ﴾ (التوبة : 40) ؛ لأن ذلك معلوم عندهم .

    والعهد الحضوري ، هو أن يكون مصحوبها حاضرًا  ، مثل قوله تعالى : ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ (المائدة : 3) ؛ أي اليوم الحاضر ، وهو يوم عرفة " ([37]) .

    أما (ال) الجنسية ، فتكون إما للاستغراق ؛ أي شمول أفراد الجنس كله ، وهي التي تخلفها (كل) حقيقة ، مثل قوله تعالى : ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ (النساء : 28) ، وقوله تعالى : ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ (العصر : 2) . أو لاستغراق خصائص الأفراد ، وهي التي تخلفها (كل) مجازًا ، مثل قوله تعالى:﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ (البقرة : 2)، أو للماهية، وهي التي لا تخلفها (كل) لا حقيقة ولا مجازًا ،مثل قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ (الأنبيلء : 30) ([38]) . هذا عن الجانب التنظيري .

    فإذا جئنا إلى تأمل الأداة (ال) حالة حذفها وحالة ذكرها - وهو ما سميتُه  فلسفة النحو – في منطقة التطبيق ، ألفينا كثيرًا من مواضع الذكر الحكيم تخص هذه المسألة ، واختصارًا ، ندرس تأمل الأداة (ال) في حالتي الحذف والذكر من خلال دالين لغويين ؛ هما : السلام والحياة ([*)].

    يرد دال (السلام) منكرًا في قوله تعالى : ﴿وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا﴾ (مريم : 15) ، ويرد معرفًا في قوله تعالى : ﴿وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ (مريم : 33) .

    وبالتأمل ، يدرك أن الموضع الأول ورد بطريق الحكي عن سيدنا يحيى عليه السلام. أما الموضع الآخر فقد ورد على لسان سيدنا عيسى عليه السلام .

    ومعنى (سلام) الأولى

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1