Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

فقه التّواصل النّبويّ
فقه التّواصل النّبويّ
فقه التّواصل النّبويّ
Ebook323 pages2 hours

فقه التّواصل النّبويّ

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

إنَّ الْحَمدَ لِلّهِ نَحمَدُهُ وَنَستَعِينُهُ وَنَستَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِن شُرُورِ أَنفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعمَالِنَا، مَن يَهدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَن يُضلِل فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَن لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ.

أمّا بعد:

فقد أنزل الله -تعالى- كتابه، وحبا العرب عن غيرهم بصفة البيان، فحازت العربيّة بذلك أكبر فضائلها، ومعلوم أنّ دور اللّغة العربيّة أهمُّ من أدوار اللّغات القوميّة الأخرى مجتمعة، فهي لم تكتفِ بتوحيد أفراد مجتمع في قطر من الأقطار، بل قد وحّدت المسلمين أجمعين في شتّى بقاع الأرض، على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وانتماءاتهم وعرقيّاتهم، فكان لزاما على كلّ معتنق للإسلام أن يتعلّمها، هذا مع غير أبنائها، فكيف الحال مع أبنائها؟

وتعدّ كلّ اللّغات أنظمة تواصليّة فعّالة،  إلّا أنّ بعضها يفضُل بعضا،  حسب فعاليّة ونجاح ما توفّره كلّ منها من ميكانيزمات، وآليّات، وإستراتيجيّات، ووسائل تواصليّة. والتّواصل بمختلف أشكاله وتنوّع اتّجاهاته يبقى سلوكا إنسانيّا تحتضنه اللّغة، وتتجلّى أهمّيّة هذه اللّغة في نقل الأفكار والمعارف، وتوسيع المدارك،  والتّعبير عن المشاعر، وببساطة، اللّـغة هي الأداة التـي من خلالها يـكون التّواصل سهلا وأقلّ تعقيدا.

  وهي تساعدنا لرؤية عالمنا واكتشاف المزيد من المعارف والأفكار، وتجعل تواصلنا يحدث بشكل أفضل.

Languageالعربية
PublisherGreen Wave
Release dateDec 14, 2023
ISBN9798223556022
فقه التّواصل النّبويّ

Related to فقه التّواصل النّبويّ

Related ebooks

Reviews for فقه التّواصل النّبويّ

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    فقه التّواصل النّبويّ - د. خالد حميدات

    الفهرس

    مقدمة..............................................5

    الفصل الأوّل : الخطاب واستراتيجياته المختلفة

    المبحث الأوّل: مفهوم الخطاب.........................................................

    1. الخطاب في المعاجم العربيّة والغربيّة...............................................

    2. الخطاب في الاصطلاح.................................................................

    المبحث الثّانيّ: إستراتيجيّات الخطاب، مفهومها وأنواعها، وأهمّ آليّاتها.........

    1. مفهوم الإستراتيجيّة....................................................................

    2. مفهوم إستراتيجيّة الخطاب..........................................................

    3. أنواع إستراتيجيّات الخطاب..........................................................

    1.3 الإستراتيجيّة التّضامنيّة..............................................................

    2.3 الإستراتيجيّة التّوجيهيّة..............................................................

    3.3 الإستراتيجيّة التّلميحيّة .............................................................

    4.3 الإستراتيجيّة الإقناعيّة...............................................................

    الفصل الثّاني: قراءة لغويّة تداوليّة لنماذج من خطابات النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام

    المبحث الأوّل: التّقاليد والأخلاق والمُثُل العليا في الهدي النّبويّ.................

    1. الحديث الأول...........................................................................

    2. الحديث الثّاني...........................................................................

    المبحث الثّاني: الفروسيّة وتعلّق العربيّ بها...........................................

    1. الحديث الأوّل .........................................................................

    2. الحديث الثّاني...........................................................................

    3. الحديث الثّالث.........................................................................

    المبحث الثّالث: الطّبيعة وحبّ الوطن عند العرب..................................

    1. الحديث الأوّل.........................................................................

    2. الحديث الثّاني...........................................................................

    3. الحديث الثّالث.........................................................................

    المبحث الرّابع: الأمثال والحكم النّبويّة...............................................

    أولا : الحكم النّبويّة.......................................................................

    1. الحديث الأوّل.........................................................................

    2. الحديث الثّاني.........................................................................

    ثانيا:  الأمثال النّبويّة.....................................................................

    1. الحديث الأوّل.........................................................................

    2. الحديث الثّاني.........................................................................

    المبحث الخامس: قيم روحيّة واجتماعيّة في الإسلام.............................

    1. الحديث................................................................................

    المبحث السّادس: موقف النّبيّ -عليه الصّلاة والسّلام- من الشّعر والشّعراء.

    1. الحديث الأوّل.........................................................................

    2. الحديث الثّاني.........................................................................

    خاتمة.......................................................................................

    المصادر والمراجع

    Une image contenant croquis, Police, blanc, dessin Description générée automatiquement

    إنَّ الْحَمدَ لِلّهِ نَحمَدُهُ وَنَستَعِينُهُ وَنَستَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِن شُرُورِ أَنفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعمَالِنَا، مَن يَهدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَن يُضلِل فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَن لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ.

    أمّا بعد:

    فقد أنزل الله -تعالى- كتابه، وحبا العرب عن غيرهم بصفة البيان، فحازت العربيّة بذلك أكبر فضائلها، ومعلوم أنّ دور اللّغة العربيّة أهمُّ من أدوار اللّغات القوميّة الأخرى مجتمعة، فهي لم تكتفِ بتوحيد أفراد مجتمع في قطر من الأقطار، بل قد وحّدت المسلمين أجمعين في شتّى بقاع الأرض، على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وانتماءاتهم وعرقيّاتهم، فكان لزاما على كلّ معتنق للإسلام أن يتعلّمها، هذا مع غير أبنائها، فكيف الحال مع أبنائها؟

    وتعدّ كلّ اللّغات أنظمة تواصليّة فعّالة،  إلّا أنّ بعضها يفضُل بعضا،  حسب فعاليّة ونجاح ما توفّره كلّ منها من ميكانيزمات، وآليّات، وإستراتيجيّات، ووسائل تواصليّة. والتّواصل بمختلف أشكاله وتنوّع اتّجاهاته يبقى سلوكا إنسانيّا تحتضنه اللّغة، وتتجلّى أهمّيّة هذه اللّغة في نقل الأفكار والمعارف، وتوسيع المدارك،  والتّعبير عن المشاعر، وببساطة، اللّـغة هي الأداة التـي من خلالها يـكون التّواصل سهلا وأقلّ تعقيدا.

    وهي تساعدنا لرؤية عالمنا واكتشاف المزيد من المعارف والأفكار، وتجعل تواصلنا يحدث بشكل أفضل.

    والتّواصل اللّغويّ أساس العلاقات الإنسانيّة، وهو من أقدم أشكال النّشاط الإنسانيّ؛ ذلك أنّ  البشر يفعلونه كلّ يوم، ليعبّروا عن ذواتهم واحتياجاتهم، فبدونه تتعطّل مصالحهم، وتنقطع علاقاتهم الإنسانيّة والاجتماعيّة، وتتوقف حضارتهم؛ إذ إنّه أصل في بناء الحضارة، وهو مسألة حياة وإثبات وجودٍ لكلّ فرد في مجتمعه، وهذا ما يجعل فاقد اللّغة، أو غير القادر على استعمالها، يوضع ضمن دائرة العجز والإعاقة.

    وعلى الرّغم من أنّ اللّغة المنطوقة أهمّ شكل اتُّخذ للتّواصل، فإنّ البشر اخترعوا وسائلَ عديدة وأساليبَ مختلفة للتّواصل في ما بينهم، بعضها يكون مختلفا تماما عن اللّغة المنطوقة؛ كاللّغة المكتوبة، وبعضها الآخر يكون مصاحبا لها؛ كحركات الجسم، وإيماءات الوجه، ومختلف الوسائل غير اللّفظيّة، ليكون التّواصل حينئذ في أقوى صوره.

    ويتجلّى التّواصل اللّغويّ أساسا من خلال الخطاب، هذا الّذي يقوم على التّفاعل والتّواصل والقصد؛ لأنّ (المخاطبة) صيغة مبالغة تفيد المشاركة، والّتي تقتضي ضرورة وجود مخاطِب، ومخاطَب، وخطاب.

    ومعلوم أنّ المرسل لا يصنع خطابه جزافا، بل ينتهج طرقا وأساليبَ وفنّيّاتٍ تواصليّةً متنوّعةً، يُصطلحُ عليها بـ إستراتيجيّات الخطاب، وهي فنّ يستعمله، وطريقةٌ يتّخذها، يسعى من خلالها إلى التّعبير عن مقاصده، وتحقيق أهدافه، والتّأثير في غيره، موظّفا في ذلك ما يُتاح له من أساليب التّواصل اللّفظيّ وغير اللّفظيّ، مراعيا السّياقَ التّواصليّ وعناصرَه المختلفة، واللّغةَ الطّبيعيّة المستعملة، وطبيعة المتلقّي وأحوالَه، وردّة فعله، ومختلفَ الأطر الّتي تنظّم مجتمعه، والعوائق والعقبات الّتي قد تعترضه. وتزيدُ فرص تحقيق الهدف من خطابه كلّما كانت الوسيلة ملائمة ومناسبة، ولا يحصل ذلك دون اختيارٍ أمثلَ لإستراتيجيّة خطابيّة يقومُ عليها التّواصل. 

    ولقد عَرَفَ النّبيّ محمّدٌ -عليه الصّلاة والسّلام- ألسنةَ العرب وأساليبَهم في الكلام، وجمع من الكلام رونق الحضارة وجزالة البداوة، في لفظ ناصع، ومعان صحاح، وعبارات مضيئة، لا تكلّف فيها، وهو يخاطب الوجدان، ويهزّ الضّمير، ويوقظ العقل، ويلامس الإحساس، ويُنبّه الوعي والإدراك، ويؤثّر في قلوب المخاطَبين، ويطيّب نفوسهم، حتّى إنّها لتُذرف دموعهم، وترِقّ وتخشع قلوبُهم([1]).

    ولا يتهيّأ هذا لأيّ إنسان، وذلك أنّ "ألفاظَ النّبوّة يعمرها قلب متّصل بجلال خالقه، ويصقلها لسان نزل عليه القرآن بحقائقه، فهي وإن لم تكن من الوحي، ولكنّها جاءت من سبيله، وإن يكن لها منه دليلٌ، فقد كانت هي من دليله، مُحكمةُ الفصول، حتّى ليس فيها عروة مفصولة، محذوفةُ الفضول، حتّى ليس فيها كلمة مفضولة.

    وكأنّما هي في اختصارها وإفادتها نبض قلب يتكلّم، وإنّما هي في سموّها وإجادتها مظهر من خواطره، صلّى الله عليه وسلم، إن خرجت في الموعظة قلتَ: أنينٌ من فؤاد مقروح، وإن راعت بالحكمة قلتَ: صورة بشريّة من الرّوح في مَنزع يلين فينفر بالدّموع، ويشتدّ فينزو بالدّماء. وإذا أراك القرآن أنّه خطاب السّماء للأرض، أراك هذا أنّه كلام الأرض بعد السّماء"([2]) .

    ويعدّ الخطاب النّبويّ أرقى أنواع الخطابات بعد الخطاب القرآنيّ، نظرا لتميّزه في المضمون والأسلوب والحجاج والإقناع، وهو خطاب تفاعليّ، تضمّن الأسس الرّئيسيّة في أنواع الخطاب المشهورة (الحوار، الجدل، النّقاش، المناظرة). كما أنّه خطاب تعليميّ يحقّق الغايات التّشريعيّة والتّبيينيّة، وقد اختصّ من بين أنواع الخطاب بجمعه بين التّعليم والإقناع والإمتاع تحت مِظلّة التّبليغ([3]).

    وقد اعتنى الصّحابة -رضوان الله عليهم- برواية أقوال النّبيّ -عليه الصّلاة والسّلام- وأفعاله وما أقرّه، فكانوا بين مُكثر ومُقلّ، ولعلّ سبب عنايتهم هذه تحفيز النّبي -عليه الصّلاة والسّلام- نفسِه لهم، فقد روى أبو داود عن زيد بن ثابت أنّه قال: "سمعت رسول الله -صلّى الله عليه وسلمّ- يقولّ نضّر الله امرأً سمع منّا حديثا فحفظه حتّى يبلّغه، فرُبّ حاملِ فقه إلى من هو أفقه منه، ورُبّ حاملِ فقه ليس بفقيه"([4]).

    وكان أكثرهم يحفظون ما يسمعون من النّبي -عليه الصّلاة والسّلام- ويروونه شفاها، وقلّ منهم من كان يكتب، وربّما كان من يعرف الكتابة منهم يُحجم عن الكتابة؛ لأنّ النّاس كانوا يعيبون على من يفعل ذلك، ولم يكن الحقّ معهم، ودليل ذلك ما رواه أبو داوود عن عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو، قال: "كنتُ أَكتُبُ كلَّ شيءٍ أَسمَعُهُ مِن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أُرِيدُ حِفْظَهُ، فنَهَتْنِي قُرَيشٌ، وقالوا: أَتكتُبُ كلَّ شيءٍ تَسمَعُهُ ورسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَشَرٌ يَتكلَّمُ في الغضبِ والرِّضا؟، فأَمسَكْتُ عن الكِتابِ، فذَكَرْتُ ذلكَ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأَوْمأَ بأُصبُعِهِ إلى فيه، فقال: اكتُبْ؛ فوالَّذي نفْسي بيدِهِ، ما يَخْرُجُ منه إلَّا حقٌّ"([5]).

    ولهذا، فإنّ خطاب النّبيّ -عليه الصّلاة والسّلام- لمن حوله من الصّحابة وغيرهم خطاب شفهيّ كلُّه، لكنّه بعد أن دُوّن أصبح خطابا كتابيّا، ويُستثنى من ذلك تلك الرّسائل الّتي بعثها إلى ملوك الأرض وقادة الأمم والشّعوب والقبائل في عصره، يعرضُ فيها عليهم الإسلام، أو يُجري هدنة معهم.

    ولسنا هنا في مقام التّأريخ لمراحل رواية الحديث النّبويّ وتدوينه، لكن يكفينا أن نعلم أنّ الله مثلما سخّر صدورا واعية لكتابه الكريم، حفظته لنا غضّا طريّا كما كان في الزّمن الأوّل، فقد سخّر رجالا عظاما نافحوا عن سنّة النّبي -عليه الصّلاة والسّلام- وفضحوا أمر من كذب عليه، وكان مذهبهم التّحرّي والحيطة والحذر في قَبول الأحاديث، فأجازوا ما صحّ منها، وضعّفوا ما ضعف، ولم تأخذهم هوادة أو استكانة في ذلك، فأوصلوا لنا تراثا قيّما لم تحزه أمّةٌ غيرُ أمّة الإسلام.

    وفي هذا الكتاب محاولات متواضعة لتحليل نماذج من خطابات النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام، والتّعرّفِ على بعض إستراتيجيّات الخطاب ومختلف آليّاتها اللّفظيّة وغير اللّفظيّة الّتي استعملها في وعظه وتربيته لأصحابه، لجذب انتباههم وتركيزهم، والحفاظ على اهتمامهم، وتوجيه تفكيرهم، وبناء الثّقة، وتوطيد علاقته بهم وتعزيزها، وبناء شخصيّاتهم عقائديّا، وإيمانيّا، وأخلاقيّا، وفكريّا، واجتماعيّا، وتربويّا، ولإنشاء مجتمع سويّ يعي واجباته ومسؤوليّاته، ولتحقيق الامتثال لوصاياه، ولتبسيطها وتوضيحها وتجنّب اللّبس والغموض فيها.

    وقد سعينا إلى بيان مدى إمكانيّة تطبيق المنهج التّداوليّ في دراسة وتحليل الخطابات النّبويّة، بغية الوصول إلى فهم أفضل لها، والتّعرّف على ما من شأنه تطوير العمليّة التّواصليّة، وتحقيق الغاية منها. وقد اتّبعنا في الكتاب المنهجَ التّحليليّ مستعينين في ذلك بما يتيحه المنهج التّداوليّ من آليّات.

    واللّهَ نسأل التّوفيق والسّداد والرّشاد إلى الحقّ وبالحقّ  وصلّى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم.

    كتبه: خالد حميدات  

    المحرّم 1444هـ/ أوت 2022م.

    الفصل الأوّل

    الخطاب واستراتيجياته المختلفة

    قبل أن نحلّل نماذج من خطابات النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام، لا بدّ أن نتحدّث عن مفاهيم أساسيّة، هي: الخطاب، الاستراتيجية، استراتيجية الخطاب.

    المبحث الأوّل: مفهوم الخطاب:

    يعدّ مصطلح الخطاب من أكثر المصطلحات شيوعا، وهو واحد من المفاهيم الحديثة الّتي اختلفت الدّراسات، وتعدّدت الآراء في تحديدها، وهو مفهوم عصيّ عن التّحديد، غيرُ متّفق عليه([6])، تتنازعه العديد من التّخصّصات والنّظريّات والحقول المعرفيّة؛ كاللّسانيّات، وعلم الاجتماع، وعلم النّفس، والعلوم السّياسيّة، والإعلام والتّواصل، والنّقد الأدبيّ، والفلسفة...

    وقد أضحى النّموذجُ اللّسانيّ نموذجا مهيمنا على مختلف العلوم والمعارف([7])، وأصبح للخطاب وظيفة تواصليّة بين النّاس؛ وهم يتدبّرون شؤونهم وأمورهم الخاصّة والعامّة، وحين يتبادلون الرّسائل والحوارات([8]).

    وفي ما يأتي نعرض لمفهوم الخطاب عند بعض علماء العرب والغرب.

    الخطاب في المعاجم العربيّة والغربيّة :

    الخطاب لغةً: من (خَطَبَ)، والْخَاءُ وَالطَّاءُ وَالْبَاءُ أَصْلَانِ: أَحَدُهُمَا الْكَلَامُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، يُقَالُ خَاطَبهُ يُخَاطِبُهُ خِطَابًا، وَالْخُطْبَةُ مِنْ ذَلِكَ...([9])، و...الخِطابُ والمُخاطَبَة: مُراجَعَة الكَلامِ، وَقَدْ خاطَبَه بالكَلامِ مُخاطَبَةً وخِطاباً، وهُما يَتخاطَبانِ([10])، وَالْمُخَاطَبَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْخِطَابِ وَالْمُشَاوَرَةِ([11])، وفي أساس البلاغة: هو المواجهة بالكلام([12])، وفي معجم العين: هو مراجعة الكلام([13]).

    يظهر من التّعريفات السّابقة:

    أنّ مصطلح (الخطاب) عند العرب يُحيل إلى مفهوم (الكلام)، ولعلّه استمَدّ دلالته من السّياق القرآني، وذلك في مثل قول ربّنا-عزّ وجلّ-: ﴿فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾ ]ص: 23[. "قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: (وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ): قَهَرَنِي، وَذَلِكَ الْعَزُّ؛ قَالَ: وَالْخِطَابُ: الْكَلَامُ"([14]).

    وفي قوله -تعالى-: ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾ ]ص: 20[، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْخُصُومَاتِ الَّتِي يُخَاصَمُ النَّاسُ إِلَيْهِ فَصْلَ ذَلِكَ الْخِطَابِ، الْكَلَامُ الْفَهْمُ، وَإِصَابَةُ الْقَضَاءِ وَالْبَيِّنَاتِ([15]). وقال الطّبريّ: أُوتِيَ دَاوُدُ فَصْلَ الْخِطَابِ فِي الْقَضَاءِ وَالْمُحَاوَرَةِ وَالْخَطْبِ([16])، وهذه الثّلاثة تقوم في معظمها بالكلام.

    أنّ الخطاب يقوم على التّفاعل والتّواصل والقصد؛ لأنّ (المخاطبة) صيغة مبالغة تفيد المشاركة، كما أنّ المواجهة والمراجعة تقتضي ضرورة وجود مخاطِب، ومخاطَب، وخطاب.

    والخطاب عند (الكفويّ) يتضمّن معنى المكالمة، وَهُوَ الْكَلَام الَّذِي يُقْصد بِهِ الإفهام...، وهو اللَّفْظ المتواضع عَلَيْهِ الْمَقْصُود بِهِ إفهام مَن هُوَ متهيّئ لفهمه...، والخطاب إِمَّا الْكَلَام اللَّفْظِيّ، أَو الْكَلَام النَّفْسِيّ الموجه نَحْو الْغَيْر للإفهام...([17]). فليس خطابا ما لا يُقصدُ به الإفهام. ولا بدّ أن يوجَّه الخطاب كذلك إلى متلقّ عاقل له القدرة على فهمه. وقد يكون لفظيّا صادرا عن الجهاز الصّوتيّ للإنسان، وقد يكون نفسيّا داخليّا.

    وقد صنّف (الجوينيّ) الخطابَ ضمن مجموعة من المفاهيم المقاربة له، في قوله: الكلام، والخطاب، والتّكلّم، والتّخاطب، والنّطق، واحدٌ في حقيقة اللّغة، وهو ما به يصير الحيّ متكلّما([18]).

    ويتوارد إلى أذهاننا معنيان للخطاب، هما: الرّسالة والكلام الموجّهان في مناسبة ما([19]). وقد ورد في (معجم المصطلحات العربيّة) بمعنى (الرّسالة Letter)، وهي (نصّ مكتوب يُنقل من مرسل إلى مرسل إليه، يتضمّن أنباء لا تخصّ سواهما)، وقد أصبحت جنسا أدبيّا قريبا من المقال في الكتابات الغربيّة([20]).

    ويقترب المعنى اللّغوي للخطاب في معاجمنا العربيّة من ذاك الموجود في المعاجم الغربيّة، نقصد مصطلح (Discourse)، والّذي يعني حديث، محاضرة، مقالة([21])، فالخطاب (Discourse) يُقصَد به الحديث والكلام الموجّه من مخاطِب إلى مخاطَب بغية الفهم والإفهام ([22]).

    وفي الموسوعة (Encyclopédie Universalis)، نجد أنّ كلمة خطاب (Duscours) -في أصلها اللّاتينيّ (Discurrere)- لم تكن ذات علاقة مباشرة باللّغة؛ إذ كانت تعني (الجري هنا وهناك)، ولم تأخذ معنى الخطاب إلّا في أواخر العهد اللّاتينيّ، حيث أصبحت تعني: الحديث والمقابلة، قبل أن تُحيل إلى كلّ تشكيل للفكر، شفويّا كان أم مكتوبا([23]).وهذا

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1