Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

الآخر في أدب الرحلة
الآخر في أدب الرحلة
الآخر في أدب الرحلة
Ebook1,249 pages10 hours

الآخر في أدب الرحلة

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

منجز نقدي يغوص في أعماق فن الرحلة في قرونه الزاهرة التي نشأ فيها وشب، ينطلق من غاية أنثروبولوجية تبعث من ملاحظة مهمة الرحالة الإثنولوجية ملاحظة ومعايشة وكتابة، ومن ثم انطلق هذا الكتاب من سؤالي ماذا؟ وكيف؟ ومن رحم السؤال انثالت مظاهر ثقافية واجتماعية متعددة يتوسطها خيط النسق الناظم. في هذه الرحلة عن الرحلة تنكشف الأنساق، وتظهر مزايا الاختلاف، وتنعكس المرايا لتظهر من خلالها خصوصية الذات واختلاف الآخر.

Languageالعربية
Publishertevoi
Release dateJan 7, 2023
الآخر في أدب الرحلة

Related to الآخر في أدب الرحلة

Related ebooks

Reviews for الآخر في أدب الرحلة

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    الآخر في أدب الرحلة - وائل بن يوسف العريني

    د. وائل بن يوسف العريني

    الآخر في أدب الرحلة

    دراسة أنثروبولوجية

    في النقد الثقافي

    سلسلة علميّة يديرها الأستاذ الدّكتور أحمد الودرني

    الآخر في أدب الرحلة

    دراسة أنثروبولوجية

    تأليف

    د. وائل بن يوسف العريني

    مدير النشر عماد العزّالي

    التصميم ناصر بن ناصر

    الترقيم الدولي للكتاب 978-9938-23-033-8

    جميع الحقوق محفوظة

    الطبعة الأولى

    1441 هـ / 2020 م

    العنوان: 5 شارع شطرانة 2073 برج الوزير أريانة - الجمهورية التونسية

    الهاتف: 58563568 +216

    الموقع الإلكتروني: www.tunisian-books.com

    البـريد الإلكتروني: medi.publishers@gnet.tn

    هذا الكتاب في الأصل أطروحة دكتوراه بعنوان (الآخر في أدب الرحلة: من القرن الثالث حتى القرن الثامن، دراسة في النقد الثقافي)، أنجزت في العام الجامعي 1438-1439هـ/ 2017-2018م، بإشراف أ.د. أحمد الودرني، ونوقشت في يوم الخميس 17/1/1440هـ الموافق 27/9/2018م، وقد تكونت اللجنة من:

    الأستاذ الدكتور أحمد الودرني مقررا

    الأستاذ الدكتور لطفي دبّيش عضوا.

    الأستاذ الدكتور عبدالله المفلح عضوا

    وقد منح الباحث على إثرها درجة الدكتوراه بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى، وذلك بكلية اللغة العربية، قسم البلاغة والنقد، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

    عائلتي.. أمي، أبي..

    زوجتي..

    أبنائي وإخوتي الكرام..

    هذا جهدي المتواضع أهديه لكم بكل خجل فتقبلوه

    أنتم وقوده، وبينكم ولد وترعرع حتى استقام

    لأشكرنّك معروفا هممت به

    إن اهتمامك بالمعروف معروفُ

    ولا ألومك إن لم يمضه قدر

    فالشيء بالقدر المحتوم مصروفُ

    الباهلي..

    شكر وامتنان..

    إلى الباذلين بكل حب، أساتذتي وزملائي..

    الأستاذ الدكتور أحمد بن الطيب الودرني أستاذي الأثير

    الدكتور محمد بن سعد الدكان، الزميل الصديق

    إلى كل من أعان ونصح وقوّم

    الشكر لا يوفي جليل عطائكم، وأقول في قلبي مقالة سابقٍ:

    يا ذا اليمينين قد أوليتني منناً

    تترى هي الغاية القصوى من المننِ

    ولست أسطيع من شكر أجيء به

    إلا استطاعة ذي جسم وذي بدنِ

    لو كنت أعرف فوق الشكر منزلة

    أوفى من الشكر عند الله في الثّمنِ

    أخلصتهـا لـك مـن قلبـي مهذّبـة

    حذوا على مثل ما أوليت من حسنِ

    أبو عيينة المهلبي..

    مقدمة

    انطلق الإنسان منذ نزل إلى الأرض في جولان لا ينتهي، وتفكر في الخلق حيّه وجامده مستجيباً لأمر ربه سبحانه وتعالى حين أمره بالسير والتفكر فقال: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ العنكبوت: 20. وقد بدأ الإنسان يروي مشاهداته منذ القدم، بالنقوش والمِسَلَّات أولاً، ثم بالكتابة المسترسلة أخيراً، حتى تهذبت هذه المدونات في مراحل متأخرة من الوجود البشري ووجد ما يسمى الأدب الجغرافي وأدب الرحلة.

    ولأن الإنسان إذا خرج من بلاده فستتغير عليه الوجوه والأحوال والتضاريس، عما كان يعهده في بلاده، فإن كل ما سيراه لأول مرة يعد غريباً مختلفاً عنه، ينبهه إلى اختلاف الخلق وتعدد الأشكال والطبائع والأحوال، فإذا استطاع أن ينظر أولاً، ويسبر بعمق ثانياً، ويتحدث ويوصِّف ثالثاً، فقد استطاع أن يتعايش مع الاختلاف ويقبله إلى حد ما، وهو ما يجعل هذا الخطاب مغرياً بالنظر وداعياً إلى التعمق والتحليل، وهو ما عمد إليه هذا الكتاب في اتجاهه العام الذي يفترض منذ البداية أن الرحلة تنطلق إلى المختلف عن الذات قليلاً أو كثيراً، ويسمى كل ذلك المختلف (آخرَ) سواء أكان إنساناً أو فضاءً حاوياً للآخر وملكاً له أو مستفيداً منه. ومن هنا نشأ هذا العنوان (الآخر في أدب الرحلة: دراسة أنثروبولوجية)؛ لدراسة أشكال حضور المختلف (الآخر) في التراث العربي من خلال زاوية من زواياه وهو أدب الرحلات ما بين القرن الثالث والثامن.

    أولاً: الإطار العام للبحث

    يتميز الأدب القديم بالثراء الثقافي والمعرفي والفني، وتتعدد أشكاله وفنونه بتعدد شداة الأدب وحاذقي الكتابة، ومن ذلك أدب الرحلات، الذي يتميز بخصوصيات متعددة تقربه إلى ذهنية الباحث وشغفه أولاً، وتوجب الإسهام فيه لقلة الواردين ثانياً، وزخمه المعرفي والثقافي ثالثاً، لذا كان من هم الباحث قبل مرحلة الدكتوراه أن يتجه بحثه إلى هذه الوجهة، وأن يسبر غور هذا النوع من الكتابة في اتجاه محدد ووفق أدوات بحثية حديثة يمكنه الإفادة منها.

    والبحث في أدب الرحلات خصوصاً في أوائل نماذجه بالإضافة إلى كونه هدفاً للباحث ورغبة قديمة، فهو أيضاً إسهام في كشف حقبة تاريخية مهمة، تبلور فيها فن جديد من فنون العربية، بكل ما تحمله البدايات من نقص أو تداخل؛ مما يعظم أهمية الريادة والنموذج الأول، وما يبين أيضاً وعي الكتاب ببناء الفنون الجديدة وتفاصيلها الفنية والمضمونية بل والتعاقدية بين الكاتب والقارئ، خصوصاً وأن أرضية الانطلاق وآفاق الحركة ترتبط بالواقع وتدل عليه وربما تعهد الرحالة بالالتزام الحرفي والرواية الأمينة وسرد المشاهدات بتفاصيل حقيقية.

    ثانياً: الإطار الخاص

    في مرحلة متقدمة من دراسة الدكتوراه بدأ الباحث التفكير في مدخل مهم يلج منه إلى أدب الرحلات، يمكنه أن يفيد في دراستها ابتداءً، ويسهم بحيوية في واقع الحياة والانفتاح الإعلامي والحضاري على مختلف الأمم والثقافات، ومن هنا انبثق سؤال الاختلاف ووجوب الاتجاه إليه، لما فيه من نجاعة على المستوى الاجتماعي والثقافي والفكري، ولما فيه أيضاً من مناسبة للباحث من حيث الأدوات المنهجية، لذا كان هذا البحث ينطلق من وجهة الرحلات التي انطلقت من أجله (الآخر)؛ لرصد الاختلاف الذي نقله الرحالة وأكدوه أولاً، ودرجة هذا الاختلاف عن الذات المرتحلة ثانياً، ثم كيف تعامل الرحالة مع هذا الاختلاف وقد انطلقوا منذ البداية إليه وآمنوا، كلهم أو بعضهم، بوجود الاختلاف وتغير نمط الحياة والثقافة والمجتمع، فكان بعضهم على درجة من اللياقة الاجتماعية يتعايش ويلج المجالس ويتحدث ويحاور، وكان بعضهم متوجساً يحذر من المخالطة ويرغب في الانعزال، وبعضهم آثر ترك الآخر إلا من رصد مختصر وتعميم ظاهر. وكلها أمور جاء سؤال البحث الأول ليجيب عنها.

    ولأن هذا البحث بهذا الاتجاه وهذا المنهج(1) يعد جديداً في هذا الباب فقد آثر الباحث أن ينطلق من أول رحلة موثقة، فيما يعلم، في القرن الثالث الهجري، وهي رحلة ابن فضلان، بالإضافة إلى أهم الرحلات التي تلتها وهي رحلة ابن جبير في القرن السادس وابن بطوطة في القرن الثامن، وبينهما وبين البداية رحلاتٌ لم يكن في وسع البحث والباحث إلا النص عليها ودراستها؛ لتكون العينة شاملة للقرون الستة التي ابتدأت بابن فضلان وانتهت بابن خلدون ت 808هـ.

    ثالثاً: الاختيارات المنهجية

    تنطلق هذه الأطروحة من تقنيات (تحليل الخطاب)(2) أساساً لدراسة أدب الرحلة بشكل عام وقراءة وجوه الحضور الخاص للآخر فيه، وفيما يأتي عرض مختصر لما يعنيه الخطاب وأبرز تقنياته ووسائله:

    برزت في النصف الثاني من القرن الميلادي المنصرم مدارس لسانية ونقدية تأسست على المنجز السابق في التراث اللغوي قبل العصر الحديث، وما توصل إليه حقل اللسانيات وعلوم اللغة العامة من قواعد وقوانين تحكم الممارسة اللغوية وتقوم بدراسة البنية اللغوية وتشكيل النصوص، فانطلقت هذه المدارس مما أنجز لتطرح نظرتها للنص الإبداعي وكافة النصوص الأخرى معللة هذه النظرة الخاصة من إدراك طبيعة النص اللغوي المعتمد بشكل أساس على المقصد، والغرض، والمصدر؛ لأجل وظائف خارج اللغة أسهمت بشكل فعال في تحديد طبيعة النص وطريقة تشكيله.

    ومن هنا برزت مدارس تحليل الخطاب بأنواعه لتؤكد طبيعة اللغة المتمثلة في إقامة جسور الاتصال بين أطراف العملية التواصلية: المرسل والمرسل إليه، مما انعكس على طريقة ولغة وأدوات الرسالة/ النص وفق حاجات المرسل وممكنات اللغة وظروف تلقي النص بما يعرف باسم المقام والسياق والنسق.

    وسأعرض بإيجاز أهم تفاصيل هذا المصطلح في النقاط الآتية:

    1 - المفهوم العام للخطاب وتحليل الخطاب

    الخِطاب مراجعة الكلام، كأن باني الخطاب يعيد النظر فيه حتى إذا ما ارتضاه أرسله ليبلغ الرسالة المتوخاة، وفي القرآن الكريم ﴿وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾ ص: 20. قيل في تفسيرها أنها جزء من عملية التواصل أتقنه وبدأه داود عليه السلام وهو قول (أما بعد) للانتقال من مستوى إلى آخر داخل عملية الكلام/ الخطاب(3)، وفي قوله تعالى ﴿إِنَّ هَٰذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾ ص: 23. معنى الخطاب: الكلام، أي: كان أقوى مني وأبين، وفي حديثه تفوق واضح، وقدرة على السيطرة والتأثير(4).

    وقد تخوف بعض النقاد من وضع تعريف اصطلاحي للخطاب لطبيعته الزئبقية وتعدد وجوهه بتعدد زوايا النظر، فبعضهم يختزل الخطاب في الكلام الموجه، وبعضهم يجعله مرادفاً للنص أو الملفوظ بشكل تام، كما أن تعدد تعريفات الخطاب يرجع إلى طبيعته المقترنة بمصطلحات علمية أو معرفية مثل: الخطاب الثقافي، السياسي، الديني، الصوفي... إلخ.

    ولتقرير تعريف مرضٍ للخطاب يحسن أن نعرف بعض الأمور العامة حوله، فالخطاب بدءاً وحدة لسانية داخل سياج اللغة وتطبيق من تطبيقاتها كما يرى (بنفينيست ت 1976م)(5)، وهو أيضاً وحدة لسانية أكبر من الجملة الواحدة، وهذه الوحدة (مرسلة) و(مفهومة) على وجه الإجمال، والخطاب مختلف في الأحجام والأنواع والمحتوى الاجتماعي أو الأيديولوجي، ولكي يكون خطاباً فلابد أن يُنظر إليه من خلال آليات التشكيل وطبيعة التواصل اللساني الذي يتغياه(6).

    وقد عرّف (لوي غسبان) الخطاب بأنه: «الملفوظ منظوراً إليه من زاوية الآلية الخطابية التي تشرطه»(7).

    أما في الدراسات العربية فقد عُرّف الخطاب بأنه «كل منطوق به موجه إلى الغير بغرض إفهامه مقصوداً مخصوصاً»(8).

    والتعريف الأخير يشير صراحة إلى سياق الخطاب وعناصره المعتبرة التي ينبغي استيعابها عند المحلل، وهذه العناصر هي:

    1 - المرسل.

    2 -المرسل إليه.

    3 -العناصر المشتركة: العلاقة بين الطرفين، والظروف الاجتماعية، والمعارف المشتركة، وغير ذلك(9).

    وتحليل الخطاب بهذا المفهوم يعني تناول الوحدات الملفوظة -أو المكتوبة- وتتبع أنظمتها اللغوية والإشارية بغرض التوصل إلى المقاصد ونقاط التواصل، والوقوف على مظاهر الاطراد في الإحداثات اللغوية التي يستعملها المتكلمون لإيصال معانيهم ومقاصدهم(10).

    2 - أسس تحليل الخطاب

    إن ما يميز مدارس تحليل الخطاب قيامها على عدد من المفاهيم والأسس التي تأسست وتقررت وفق النظرة الكاملة للخطاب كما أسلفت، فتكوّن عند تلك المدارس جهاز من المفاهيم الكبرى والأساسية التي تحدد طريقة التفاعل مع النصوص وطريقة تحليلها، والوقوف على الوظائف الأساسية للخطاب وفق ما يريد المرسل -أو يُظن أنه يريده-، ووفق ما يفهمه المرسل إليه – أو يُظن أنه يفهمه-، بالنظر إلى مستوى طرفي الرسالة، وطبيعة الرسالة، وظروف نشأتها وسيرورتها، ومن هذه المفاهيم والمصطلحات ما أشرت إليه سابقاً وما سيأتي من مصطلحات كفهم العالم، والمرجع، والإحالة، والسياق، والنسق، والقياس، وغيرها من المفاهيم.

    وقد انطلقت مدارس تحليل الخطاب ابتداء من تحديد ماهية الخاطب في وظيفته، وأدى ذلك إلى تأمل عناصر الخطاب التي لا يخلو منها نص من النصوص، وفي عناصر الخطاب يبرز اسم الناقد الروسي (رومان جاكبسون ت 1982م) الذي اهتم في تحديد طبيعة الخطاب من خلال عناصره الأساس وهي عنده ستة عناصر:

    1 - المرسل: الطرف الأول، ويسمى أيضاً: الباث، المخاطِب، الناقل، المتحدِّث.

    2 - المرسل إليه: الطرف الثاني.

    3 - الرسالة: وهي المستوى المحسوس من عملية التواصل، سواء أكانت مسموعة أو مكتوبة.

    4 - السّنن: وهي مجموع العلامات المشتركة التي تتشكل منها الرسالة، والنظام التركيبي (اللغة، النظام).

    5 - السياق: وهو المرجع الذي يُشار إليه.

    6 - القناة: وهي الوسيلة التي ينتقل بواسطتها الخطاب (الكتابة، الصوت، الرسم)(11).

    وبناء على هذه العناصر الستة، وارتباط الخطاب بواحد منها في تكوين المقصد فقد تكونت لدى (رومان جاكبسون) وظائف الخطاب الست التي تكوّن الخطاب وتحدد مستواه المرجعي أو الانفعالي أو غيره، وهذه الوظائف هي:

    1 - الوظيفة التعبيرية أو الانفعالية: وتتمحور حول المرسل، وتهدف إلى التعبير عن موقفه.

    2 - الوظيفة الانتباهية أوالإيعازية أو الندائية: وتتمحور حول المرسل إليه لتنبيهه أو إثارته أو أمره.

    3 - الوظيفة المرجعية: وتتمحور حول المرجع.

    4 - الوظيفة الإفهامية أو وظيفة إقامة الاتصال: وتتمركز حول القناة أو وسيلة الاتصال.

    5 - وظيفة ما وراء اللغة: وتتمحور حول لغة الخطاب ذاتها، كالسؤال عن تفسير كلمة وردت في الخطاب.

    6 - الوظيفة الشعرية: وتتمحور حول الرسالة، وتتميز بطبيعتها الشكلية الجمالية(12).

    وكل وظيفة من هذه الوظائف تتخذ شكلاً خِطابياً مميزاً، وتصطبغ فيه اللغة وأدواتها بطابعه العام كما سنرى في هذه الأطروحة إن شاء الله تعالى.

    إن الحديث عن الرسالة والمرسل حديث قديم قدم الدراسات النقدية، إلا أن ربط هذه الأجزاء ببعضها مما برعت فيه مدارس تحليل الخطاب وتأكد بمجيئها، ومن ذلك ربط عناصر الرسالة (المرسل والمرسل إليه) بالسياق، وإذا كان الاهتمام بالسياق قبل مدارس تحليل الخطاب جزئياً ومحدوداً وغير واضح في المدارس التراثية واللسانية الحداثية، فإن مدارس تحليل الخطاب بدءاً من (برونسيلاف مالينوفسكي ت 1942م) قد عمقت دراسة السياق واحتفلت به وقررت أنواعه ووقفت على كثير من آثاره في تشكيل الرسالة.

    والسياق (context)(13) في تحليل الخطاب يقصد به «مجموع النّص الّذي يسبق و/أو يصاحب الوحدة النسقيّة موضع النظر، والذي ترتبط به الدلالة. ويمكن للسياق أن يكون مظهَراً أو لسانيّاً، أو مضَمراً ويوصف، في هذه الحالة، بأّنه غير لساني أو مقاميّ»(14). فهو إذن كلٌّ متسع يشمل الكلمات والجمل الحقيقية والقطعة كلها والكتاب كله وكل ما يتصل بالنص من ظروف وملابسات وغيرها من العناصر المتصلة بالمقام الذي ينجز فيه الخطاب(15). وهو بذلك شيء أشمل من السياق بمفهومه النموذجي الذي يعني السياق اللغوي وما يحف بالكلمة من جمل وعبارات تحدد المعنى المقصود(16).

    وللسياق دور فاعل في تحديد المعاني وحصرها ضمن المعاني اللغوية الممكنة، فاستعمال «صيغة لغوية يحدد مجموعة من المعاني، وبإمكان المقام أن يساعد على تحديد عدد من المعاني، فعندما تستعمل صيغة في سياق ما فإنها تستبعد كل المعاني الممكنة لتلك الصيغة التي لا يحتملها السياق»(17).

    ويتضح في السياق دور المبدأ الاجتماعي، فهو عند (فيرث ت 1960م) و(هايمز ت 2009م) ركن أصيل من أركان السياق لا يمكن إغفاله، ومن خلاله يمكن فهم العمليات التواصلية بين المجموعات، يقول (فيرث): «أما أنا فأقترح أنه لا يمكن الفصل فصلاً تاماً بين الأصوات (المتكلمة) وبين السياق الاجتماعي الذي تلعب فيه دورها، وبالتالي فإنه يجب النظر إلى كل النصوص في اللغات المنطوقة على أنها تحمل في طياتها مقومات القول، بحيث تحيل على مشاركين نموذجيين في سياق معمم»(18).

    ومن أجل تحديد أثر السياق بصورة أدق فقد قُسِّم السياق إلى أنواع خمسة، هي: سياق القرائن (نحو النص)، والسياق الوجودي، والسياق المقامي، وسياق الفعل، والسياق النفسي. وهذه السياقات يشترك فيها اللغوي بغير اللغوي دون فواصل دقيقة(19).

    وقد تناول دارسو الخطاب، وخصوصاً أصحاب المدرسة التداولية، السياق بتحديد أطرافه وما يتعلق بكل طرف من خصوصيات، وما تشترك فيه الأطراف، مستصحبين طبيعة التجربة الإنسانية واختلافها، وطبيعة أثر كل عنصر –المرسل والمرسل إليه- في الخطاب المنجز، إضافة إلى تقرير الخصائص المميزة للسياق من معرفة المشاركين في الخطاب ومعرفة الموضوع والسياق الزمني والمكاني والوضع الجسمي للأطراف المشاركة والطابع العام والغرض وصيغة الرسالة وغير ذلك، وهي ما يتناولها بعضهم باسم المؤثرات السياقية ويسميها مؤشرات مع إضافات أخرى(20).

    ويرى بعض النقاد وجود إشكال في تحديد أثر السياق في مستوى الخطاب، يقول أحدهم: «لو سلمنا بوجود بعض أوجه لمدلول جملة ما في مقام ما، فهل هذه الأوجه جزء من مدلول الجملة بحكم معناها؟... أم هل يجب أن نصل إليها بعد بحث يمكننا من استشفافها من بقية معنى الجملة والحقائق المتعلقة به ذات الصلة بالمقام؟»(21). والأظهر أن التخلص من هذا الإشكال يتم حين يعمد المحلل إلى جعل السياق وجهاً من وجوه تحديد المعاني بصفة (ظنية) دون الجزم بأن ذلك المعنى هو المعنى (المقصود) قطعاً من خطاب المرسل، كما أن أثر السياق يبدو أكثر إقناعاً إذا وُضِع في حيز المعنى الثاني أو معنى المعنى بحسب عبارة عبد القاهر الجرجاني(22)، ولعل هذا الإشكال يضعف عند تأمل هذا الرأي النقدي الذي يقول: «علينا أن نحدد ما يمكن معرفته من معنى قول ما ومقامه بالاعتماد فقط على معرفتنا بأن القول قد حصل... فكلما لفتت انتباهي جملة مستعملة في سياق ما أجد نفسي أتساءل مباشرة عما إذا كان وقعها سيكون مختلفا لو حصل تغيير طفيف على السياق»(23).

    وهكذا نجد أن السياق في التحليل الخِطابي ركن أصيل لا يمكن الاستغناء عنه، يضطلع بدور كبير في تحديد قيمة الرسالة وسببها وعوامل ذيوعها، كما أنه يعين المحلل على تحديد الدلالات والمقاصد، ولم كان الخِطاب مؤثراً في مجموعة بشرية ما في مكان وزمان معينين.

    وامتداداً للحديث عن السياق فقد أشار دارسو الخطاب إلى قواعد مهمة يسهم السياق في إبرازها ويُفسّر الخِطاب من خلالها ترتبط بالعلاقة بين المرسل والمرسل إليه أكثر من ارتباطها بالعلاقات بين الجمل في السياق اللغوي، وهذه القواعد هي: الافتراض، والإحالة، والمعنى الضمني، والاستنتاج، والقياس. وهذه القواعد تعدّ من المفاهيم المقاصدية التي تربط بين العلاقات القائمة بين المشاركين والعناصر التي يحويها الخطاب اللغوي(24).

    هذه أبرز أساسيات تحليل الخطاب التي تشترك فيها مدارس تحليل الخطاب الحديثة، مع الإشارة إلى أن هناك أساسيات فرعية لكل مدرسة أو منهج ينضوي تحت هذا الكل الشامل، ويضيق المقام هنا عن الإحاطة بتلك الأساسيات فضلاً عن طبيعة هذه الدراسة المحصورة، التي تهدف إلى تقديم لمحة مختصرة عن هذه المدارس.

    وتعتمد هذه الأطروحة على تقنيات تحليل الخطاب في قراءة وتحليل الخطاب الثقافي المتعلق بالآخر في أدب الرحلة، والوقوف على أبرز مقاصد النص الرحلي وأهدافه التواصلية الجمالية والمرجعية والتداولية وغيرها.

    وإضافة إلى تقنيات تحليل الخطاب فإن الباحث يضيف إلى جهازه المنهجي منهجين إضافيين يرى أهميتهما في تفسير الخطاب واستنباط دلالاته، وهذان المنهجان هما:

    أ- الأنثروبولوجيا(25) البنيوية

    نشأت الانثروبولوجيا الاجتماعية مع البعثة الأولى الانجليزية عام 1901م بعد نشر بحوثها حول القبائل الأسترالية، وأهم شرط في الانثروبولوجيا أن يعايش الملاحظ الأنثربولوجي الحياة مع المجتمع المدروس، ويبقى في مكانهم فترة من الزمن، ويعاين المواقف والأحوال والشعائر واللحظات والأعمال ويرصد كل ذلك. والشرط الثاني نبذ الاحكام المسبقة أو محاولة التخلص منها وعدم سماعها أصلاً حتى تتم الدراسة المباشرة والملاحظة الدقيقة والفهم النابع من الحوادث ذاتها(26).

    أي أن الانثروبولوجيا الاجتماعية تدرس الظواهر وتحاول تفسيرها داخل سياقها وليس من خلال نظرة علمية موضوعية مجردة، إنها تجيب عن (ماذا؟) أولاً، ثم تبحث عن (لماذا؟) داخل السياق الاجتماعي والثقافي الذي ظهرت فيه هذه الممارسة(27).

    وقد أطلق عالم الاجتماع الفرنسي (كلود ليفي ستراوس ت 2009م) مصطلح (الأنثروبولوجيا البنيوية) في كتاب يحمل هذا العنوان، وأراد به جملة الدراسات المرتبطة بأس البناء الاجتماعي في المجتمعات بشكل عام، وأنماط العلاقات فيها بين البناء والتناغم أو التعارض، كما درس أنماط بنية المجتمعات من خلال الروابط الاجتماعية فيها بين قبلية وعشائرية ومدنية وغيرها.

    وذكر (ستراوس) في بدايات حديثه عن هذا المنهج أن الأنثروبولوجيا البنيوية تنقسم إلى قسمين هما: الأنثروبولوجيا الاجتماعية والأنثروبولوجيا الثقافية، ولكل منهما اختصاص محدد، فـ«الأنثروبولوجيا الاجتماعية تختص بدراسة المؤسسات المعتبرة كمجموعات من التصورات»، والأنثروبولوجيا الثقافية «تختص بدراسة التقنيات، وكذلك دراسة المؤسسات المعتبرة كتقنيات في خدمة الحياة الاجتماعية»(28).

    ومن ثم فليس هناك تناقض بين الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية، بل هما يصلان لنفس النتائج على خطوات متفرقة، تبدأ الاجتماعية من خلال التنظيمات الاجتماعية والعلاقات الاجتماعية والبناء الاجتماعي، أما الانثروبولوجيا الثقافية فتركز على انتقال الثقافة عبر الأجيل وعلى الدور الذي تلعبه الارتباطات المتبادلة بين مظاهر الحياة الاجتماعية كلها في انتقال الثقافة عبر الأجيال، ولذلك فقد ارتبطت بالبناء الاجتماعي والنظرة الكلية للمظاهر دون النظرة الجزئية(29).

    ومن طبيعة الأنثروبولوجيا ألا تدرس بشكل منفصل، بل يجب أن تجمع إلى فرع أو أكثر من هذه العلوم: علم اللغة، الجغرافيا، علم النفس، علم الاجتماع، علم الآثار (الأركيولوجيا)(30).

    والرحالة يعدون في العرف العلمي الاجتماعي اليوم باحثين اثنوجرافيين وهم الذين يعيشون في المجتمعات ويرصدون الظواهر دون تحليل ويركزون على الجوانب المختلفة والجديرة بالتقييد.. والباحث الانثروبولوجي هو الذي يحاول تفسير تلك الظواهر من خلال السياق وداخل ذات المجتمعات ليجيب عن أسئلة لماذا ومتى؟(31).

    ب- المنهج السيميائي

    السيماء قيل هي العلامة، ولهذا فإن منهج السيميائية يسمى علم العلامة أو العلامات، ويقوم في أبسط مفهوماته على اعتبار الشيء علامة(32).

    والعلامة التي تُقصد هنا هي «ذلك الشيء الذي يجعلنا دائما نعرف شيئاً إضافياً». وهي أيضاً: «شيء يقوم مقام شيء آخر». أما (جاكبسون 1982م) فيربط العلامة بالعلاقة اللفظية بالمعنى فيقول: «العلامة علاقة إرجاع»(33).

    وللعلامة عند بعضهم ثلاث تفسيرات مختلفة، هي: نظرية المعنى المقصود (في اللغة)، ونظرية البرهان (في الأنثروبولوجيا مثل العادات أو التصرفات أو المظاهر الاجتماعية)، ونظرية التمثيل عبر الرسم (في الفنون الجميلة)(34).

    وفي الاصطلاح تعرّف السيميائية في معجمها الخاص بأنها: «مجموع دالٌ يدور حوله الشك، على سبيل الفرضية، في امتلاكه لانتظام وتقطيع داخلي مكتف بذاته»(35).

    ومن هنا فإن الباحث السيميائي في السيميائية بشكل عام أمام شيء محسوس يسمى المجموع الدال (صورة، كلمة، ممارسة..إلخ) تحمل في ضمنها دلالات غير حاضرة يمكن أن نسميها معنوية(36). والسيميائية اللغوية التي ننطلق منها هنا في علاقة الإرجاع، بعبارة (جاكبسون)، التي ينبه إليها اللفظ في الرحلة إلى معنى معرفي أو أسطوري أو أنثروبولوجي ينبه إليه المتلقي أو يؤوِّله(37).

    وقد نشأ تحت السيميائية أنواع متعددة، كل نوع منها يقترب من اختصاص معرفي محدد، ويجمعها كلها الانتماء للسيميائية العامة التي تؤسس البناء النظري وتضبطه، وكل نوع من الأنواع الخصوصية يُعنى بدراسة الصيغ المختلفة التي تربط صنف التعابير بصنف المضامين، وما للعلامات من قوى (أبستمولوجية) قررتها السيميائية العامة بشكل عام ونظري(38).

    وتعتمد هذه الأطروحة على العلاقة التي تنشأ بين الرموز السيميائية ودلالاتها الأنثروبولوجية، إذ تفيد الباحث في استنابط الدلالات وربطها بالنسق الثقافي وعمقه في مجتمعات الآخر، فيمكن من خلال السيميائية الأنثروبولوجية استعمال الرمز في استنباط الدلالات وفي الاستدلال على إدراك الرحالة لهذه الرموز وربما قناعتهم بها ودفاعهم عنها.

    خامساً: هيكل الكتاب

    بني هذا الكتاب على تمهيد وخمسة فصول وخاتمة، حيث بدأ التمهيد بقسم أول يُعنى بمصطلح الآخر وحدوده، والاختيار الذي يراه الباحث مناسباً للانطلاق في دراسة أدب الرحلة بشكل عام وللعينة التي اختارها بشكل خاص، وفي القسم الثاني من التمهيد عُرّف أدب الرحلات والفرق بينه وبين الكتابة الجغرافية الوظيفية، ثم تم التعريف بالرحلات التي شملتها عينة الدراسة وأبرز مميزات كل رحلة باختصار.

    وجاء الفصل الأول للحديث عن حضور الآخر في الحياة السياسية مقسماً إلى أربعة مباحث، الأول في الحديث عن نظام الحكم وتسلسل المسؤوليات، والثاني في سبر أسلوب الحكم عند الآخر، أما المبحث الثالث فجاء للحديث عن التنظيمات الداخلية في بلاد الآخر مما يحكمه النسق غالباً، وفي المبحث الرابع خُصِّص الحديث عن سياسة التطور العمراني وما تقيمه الدولة من منشآت أو تعيد إقامته مما له علاقة بالثقافة والتكوين الاجتماعي عند الآخر.

    أما الفصل الثاني فقد اهتم بالشق المقابل للسياسي (الخاص) وهو شق الحياة اليومية (العام)، فتخصص الحديث فيه عن حضور الآخر الاجتماعي من خلال أربعة مباحث أيضاً، اهتم الأول منها بالجانب الديني عند الآخر بتفاصيله ثقافة ونسقاً، والثاني للحديث عن مكونات مجتمع الآخر رجالاً ونساءً وما يتعلق بذلك من خصوصيات نسقية، وأكمل المبحث الثالث هذا الحديث في تتبع ورصد أنماط وأشكال اندماج مكونات المجتمع في أصغر مؤسساته وهو الأسرة تأسيسا وسياسة وأسلوب حياة حتى النهاية، وأخيراً جاء المبحث الرابع للحديث عن بعض المظاهر الأنثروبولوجية عند الآخر مما شاهده الرحالة وشهدوا عليه عند الآخر حضارة وثقافة.

    وفي الفصل الثالث اتجه الحديث إلى معالجة الخطاب الرحلي من وجهة النظر اللغوية والنقد الأدبي، فضم مبحثين هما: المعجم وفضاء الآخر العجيب، وقام هذا الفصل على أسس تحليل الخطاب الأدبي والبحث المعجمي.

    ولأن الرحلات تنطلق من المختلف وترسم الفروقات بين الذات والآخر إلى حد ما فقد تخصص الحديث في الفصل الرابع عن أثر الآخر في الأنا انطلاقاً من النظرية الحوارية التي وضعها الناقد الروسي (ميخائيل باختين) في ضرورة أن تتعدد الأصوات في الفن النثري السردي، وقد تقسم الحديث في هذا الفصل إلى عدد من المباحث المرتبطة بالأنثروبولوجيا الاجتماعية والدينية، من تأثر الرحالة الخاص في العادات الاجتماعية واللباس وبعض المظاهر الحضارية، وتأثرهم أيضا في المستوى الاجتماعي العام بالمشاركة في مجاميع الناس والاضطلاع أحياناً ببعض الأدوار التنسيقية أو التنظيمية، وعالج هذ الفصل أيضا جانب التأثر بديانة الآخر على المستوى الخطابي الوقتي، وأخيرا أثر الطبيعة في الرحالة بمكوناتها الحيوانية والنباتية.

    أما الفصل الخامس فقد جاء خلاصة لما مر في المباحث جميعها، ليستخلص وجهات النظر التي بثها الرحالة في رحلاتهم، ومراوحتها بين التسامح/ القبول والرفض والانبهار والاختزال، وهي مباحث هذا الفصل، فأبرز كل مبحث ما يتصل بوجهة نظر محددة، أفقية كانت أو عمودية عميقة.

    وقد خُتم كل فصل من الفصل الخمسة بخاتمة تتضمن أبرز ما مر في المباحث من نتائج على المستويين المضموني والفني.

    وبعد هذه الرحلة الطويلة طيلة عشرين مبحثاً جاءت الخاتمة لتسجل أبرز النتائج التي توصل إليها البحث والباحث موزعة في أربعة تقسيمات هي: النتائج المضمونية، والنتائج الخِطابية، والنتائج الحوارية، والنتائج التقويمية، وبعد ذلك خُتم الحديث بأبرز التوصيات التي يرى الباحث جدارتها في ميدان أدب الرحلة ودراستها.

    وبعد، فأدعوك أخي القارئ الفذ إلى الارتحال معي في عمق هذا المنجز العربي النفيس، لنقرأ مع الرحالة أبعاد المختلف في زواياه المتعددة، ونقف على صورة الذات ومشاعر الآخر تجاهها، والتأثير الناشئ بين الذات والآخر ذهابا وإيابا، بسم الله مجراها ومرساها..

    والحمد لله رب العالمين

    الرياض، الأندلس 3/4/1439هـ

    (1) يعرف المنهج الثقافي بأنه: «فعل الكشف عن الأنساق، وتعرية الخطابات المؤسساتية، والتعرف على أساليبها في ترسيخ هيمنتها، وفرض شروطها على الذائقة الحضارية للأمة». النقد الثقافي وخصائصه، د. جميل حمداوي، ص 2.

    (2) ورد مصطلح (تحليل الخطاب) أولاً عند (هاريس 1952م) في كتاب له بهذا العنوان.

    (3) ينظر: تفسير الطبري، 21/173.

    (4) ينظر: تفسير الطبري، 21/179. وينظر في المادة اللغوية: لسان العرب، مادة (خطب). ويتضح من خلال المعاني السابقة لمادة الـ(خطاب) أنه في اللغة يدل على ممارسة واعية على درجة من الإتقان لمجموعة متناسقة من الجمل المترابطة ذات الأهمية النسبية لتحقيق غرض ما في أوجه مختلفة من النشاطات الشرعية والاجتماعية والثقافية، وهذا هو المعنى المفهوم العام لمصطلح الخطاب في النقد الأدبي الحديث.

    (5) يرى بنفينيست أن اللغة «كل منتهٍ ثابت من العناصر الممكنة». مجلة تحليل الخطاب، عدد 5 2015م، ص 134. وعلى رأي (بنفينيست) فإن الخطاب تشكيل متغير غير ثابت يستثمر أحد القوالب اللغوية أو أكثر من قالب.

    (6) ينظر: استراتيجيات الخطاب، د. عبد الهادي الشهري، ص 69. و: مجلة تحليل الخطاب، العدد5: 2015م، ص 134.

    (7) نفسه. وهناك عدد من التعريفات الغربية لمفهوم الخطاب بالنظر إلى محددات مختلفة، كالنظر للخطاب بوصفه وحدة أكبر الجملة، أو بوصفه وحدة لغوية مستعملة، أو بوصفه الملفوظ. ينظر: استراتيجيات الخطاب، ص 74.

    (8) اللسان والميزان، طه عبد الرحمن، ص 215.

    (9) ينظر: استراتيجيات الخطاب، د. عبد الهادي الشهري، ص 76.

    (10) ينظر: تحليل الخطاب، ج. ب. براون، و ج. يول، ترجمة: د. محمد زليطي و د. منير التريكي، ص 33.

    (11) وتمثل هذه العناصر من خلال الهيكل الآتي:

    ينظر: التواصل اللساني والشعرية، الطاهر بو مزبر، ص 24-34.

    (12) ينظر: نظرية المعنى، د. أحمد الوردني، ص 87-88، و: قضايا الشعرية، جاكبسون، ص 28-33. وغني عن البيان أن بعض هذه المصطلحات مختلفة بسبب الترجمة، وقد وردت التسميات الأخرى للعناصر والوظائف في : استراتيجيات الخطاب، ينظر 1/40.

    (13) يستعمل د. تمام حسان مصطلح المقام لترجمة المصطلح الأجنبي، ويؤكد أن المقام الذي يختاره يختلف عن المقام البلاغي المنصوص عليه في تعريف البلاغة وعلم المعاني، لجمود المقام البلاغي وحياة المقام الذي يقصده بحسب المواقف وتعددها وتنوعها. ينظر: الأصول، ص 303-304.

    (14) السيميائية: المعجم المعلل، قريماس و كورتيس، ترجمة أحمد الودرني، ص 103.

    (15) دور الكلمة في اللغة، ستيفن أولمان، ترجمة كمال بشر، ص 57.

    (16) السياق نوعان، سياق نصي وسياق مادي، أو هو سياق لغوي، وسياق التلفظ أو الحال أو الموقف. ينظر: تحليل الخطاب، ج. براون و ج. يول، ص 57. و: استراتيجيات الخطاب، 1/77.

    (17) نفسه، ص 47.

    (18) تحليل الخطاب، ج. براون وج. يول، ص 46.

    (19) نفسه، ص 79.

    (20) ينظر: نفسه، ص 47-48، و 51.

    (21) نفسه، ص 44.

    (22) يقول الإمام عبد القاهر الجرجاني ت 471ه: «هاهنا عبارةٌ مختصرةٌ وهي: أن تَقولَ المعنى ومعنى المعنى. تَعنى بـ «المعنى» المفهومَ من ظاهر اللفظ، والذي تَصِلُ إليه بغير واسطةٍ. وبـ «معنى المعنى» أن تَعْقِل من اللفظ معنًى ثم يُفضي بكَ ذلك المعنى إلى معنى آخر كالذي فسَّرْتُ لك». دلائل الإعجاز، ص 203. وحديث عبد القاهر الجرجاني صريح في تحصيل المعاني من خلال وجوه البيان خاصة، لكن الأمثلة التي أوردها وتحديد دلالاتها يُستدل بها من خلال السياق مثل دلالة (كثير الرماد) على المضياف، وكذلك هناك القرينة في الاستعارة التي تكون حالية (مقامية) أي سياقية.

    (23) تحليل الخطاب، ج. براون و ج. يول، ص 45.

    (24) يمكن الإشارة إلى تعريف هذه القواعد باختصار فنقول:

    أ- الافتراض:

    يمكن تعريف الافتراض بأنه ما يعتبره المتكلم أرضية مشتركة مسلماً بها لدى أطراف المحادثة.

    ويرتبط الافتراض بالجانب المقاصدي، ويقوم به المتكلم وحده [ينظر: تحليل الخطاب، ج. براون و ج. يول، ص 37.]

    ب- الإحالة:

    أما الإحالة فترتبط بالربط بين الدال والمدلول، فهي العلاقة القائمة بين الأسماء ومسمياتها، والذي يحيل دائما هو المتكلم، فالإحالة ممارسة يقوم بها شخص ما وليست شيئاً يقوم به تعبير ما [ينظر: نفسه، ص 36].

    ج- المعنى الضمني:

    هو المعنى الكامن خلف المعاني الصريحة للخطاب، أو هو بتعبير (غرايس ت 1975م): «ما يمكن أن يضمنه أو يوحي به أو يعينه متكلم ما فوق ما يصرح به ظاهر كلامه» [نفسه، ص 40].

    وعند تعارض المعاني الصريحة مع المعاني الضمنية ينبغي أن يدرج المتكلم قرينة أو استدراكاً يمنع المعنى الضمني المرتبط به، كمثل قول: جاء أعرابي ولكنه متعلم، فعبارة (لكنه متعلم) جاءت لتزيل المعنى الضمني (الجهل) الذي تدل عليه كلمة (أعرابي).

    د- الاستنتاج:

    عملية الاستنتاج مهمة من مهام المحلل الخِطابي؛ لأنه لا يملك طريقة مباشرة للوصول للمعنى المقصود من قبل المتكلم وقت تلفظه به، ومن طبيعة الاستنتاج أن تتعدد عملياته بحسب الظروف ومستوى التلقي وطبيعة النص المحلل[ينظر: السابق، ص 42]..

    ه- القياس:

    سبقت الإشارة إلى هذه القاعدة عند الحديث عن مصطلح (مفهوم العالم) في تحليل الخطاب، والمقصود به تلك الدلالات التي يثيرها الخطاب في ذهن السامع بالنظر إلى تجارب سابقة مشابهة لنفس الاستعمال اللغوي، ومثاله السابق مصطلح المطعم وما يثيره من دلالات عند استيعاب السياق زماناً ومكاناً [ينظر: نفسه، ص 45، و 282]. ولعل أظهر مثال على استعمال السامع للقياس بالنظر إلى الخبرة المكانية كلمة (حمّام) في النصوص العربية وفي الدارجة، فبناء على نشأة المتكلم يكون فهمنا للعبارة، فالحمام في الخليج مكان قضاء الحاجة، وفي الشام هو مكان الاستحمام الجماعي. ينظر في دلالة (حمام) على مكان الاغتسال: المعجم الوسيط، مادة (حمم). ولم أجد من أشار إلى دلالة الحمام في الخليج العربي.

    (25) يترجم مصطلح أنثروبولوجيا إلى علم الإنسان ويقصد به كل تلك الدراسات التي تتناول النشاط الإنساني بمختلف تنوعاته: الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفنية وغير ذلك، ولذلك تولد عن هذا المصطلح تفريعات مثل: أنثروبولوجيا اجتماعية، سياسية، اقتصادية، فنية، سلوكية، ماركسية.. إلخ. ينظر: موسوعة علم الإنسان، شارلوت سيمور، ص 112- 147.

    (26) الأنثروبولوجيا الاجتماعية نماذج التأويل، د. محمود حمدي عبد الغني ص 10-11، و ص 16.

    (27) ينظر: الانثروبولوجيا الاجتماعية، د. محمود عبد الغني، ص 24-25..

    (28) الأنثروبولوجيا البنيوية، كلود ليفي ستراوس، ص 15.

    (29) ينظر: الانثروبولوجيا الاجتماعية، د. محمود عبد الغني، ص 33-34.

    (30) ينظر: نفسه، ص 34-35

    (31) ينظر: نفسه، ص 29-30.

    (32) يطلق مصطلح السيميائية ليفيد إما الكيان الظاهر الذي يراد معرفته، أو الموضوع المعرفي، أو مجموع الوسائل التي تفيد في معرفة هذا الموضوع. ينظر: السيميائية: المعجم المعلل في نظرية اللغة، قريماس وكورتيس، ص 455.

    وقد ورد مصطلح سيما قديماً عند أرسطو، فإن اللغة سيما والسيما لغة، حيث جعل الروابط بين اللفظ والمعنى سيمياءً، يقول: «الكلمات والحروف هي بلا شك وقبل كل شيء (سيمياء) أي علامات للمعاني التي في النفس». السيميائية وفلسفة اللغة، ص 73. وللعلامات نمطان مختلفان عنده في كتاب الخطابة، الأول يسميه (تكميريون) بمعنى الدليل، ويمكن أن يسمى العلامة الضرورية: من لديه حمى فهو مريض، من لديها حليب فقد ولدت، مما يمكن ترجمته لحكم كلي: جميع من لديهم حمى هم مرضى، ويمكن ملاحظة أنها لا تقيم علاقة شرط فقد يكون الشخص مريضاً دون أن يكون لديه حمى. النمط الثاني لا اسم خاص له ويمكن تسميته بالعلامة الضعيفة مثل إن كان تنفسه مضطرباً فلديه حمى، فالاستنتاج هنا ظني، ولذلك فإن تحويله لمقدمة يستلزم الاحتياط فيقال: بعض الأشخاص تنفسهم مضطرب، وهؤلاء عندهم حمى؛ والنمط الثاني هو من قبيل الاستقراء لقضيتين إن فصلتهما لا يحملان معنى وإذا جمعتهما لا تعطيان قياساً جازماً. ينظر: نفسه، ص 74-75.

    (33) السيميائية وفلسفة اللغة، ص 39، و116.

    (34) ينظر: نفسه، ص 55.

    (35) السيميائية: المعجم المعلل في نظرية اللغة، ألجيرداس قريماس وجوزيف كوتيس، ص 455.

    (36) بهذا المفهوم يمكن أن نقول إن عبد القاهر الجرجاني قد لمح الدلالة السيميائية في اللغة حين أشار إلى المعاني الثواني حين قال: «الكلام على ضربين: ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، وذلك إذا قصدت أن تخبر عن زيد مثلا «بالخروج» على الحقيقة، فقلت: (خرج زيد): و«بالانطلاق» عن عمرو، فقلت: (عمرو منطلق)؛ وعلى هذا القياس. وضرب آخر أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، ولكن يدلك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة، ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض». ص 202. وقوله: « هاهنا عبارةٌ مختصرةٌ وهي: أن تَقولَ المعنى ومعنى المعنى. تَعنى بـ «المعنى» المفهومَ من ظاهر اللفظ، والذي تَصِلُ إليه بغير واسطةٍ. وبـ «معنى المعنى» أن تَعْقِل من اللفظ معنًى ثم يُفضي بكَ ذلك المعنى إلى معنى آخر كالذي فسَّرْتُ لك». دلائل الإعجاز، ص 203. وسواء أكانت عبارة عبد القاهر موهمة في ربط المعنى الأعمق بالمعنى أو باللفظ الذي أداه فإن ارتباط الخطاب المنجز بمعنى خلفه لا تؤديه اللغة عادة يقرب فكرة عبد القاهر إلى السيميائية أو يقرب السيميائية إلى عبد القاهر.

    (37) يقول (تشارلز موريس ت 1979م): «الشيء ليس علامة إلا إذا أوله أحدهم على أنه علامة على شيء ما». السيميائية وفلسفة اللغة، ص 47.

    (38) ينظر: السيميائية: المعجم المعلل في نظرية اللغة، قريماس و كورتيس، ص 456-464.

    التمهيـد

    الآخر

    أدب الرحلة

    أولاً: الآخر

    1 - المفهوم والدلالات

    أ - الدلالة اللغوية والدينية

    تأتي مادة (أخر) لتدل على معاني التأخير والمفارقة، واشتق منها على وزن (أفعل) كلمة (آخر) لتدل على معنى: غير، كقولك: رجل آخر وثوب آخر، قال تعالى: ﴿فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا﴾. المائدة: 107.

    قال ابن فارس: أي مسلمان يقومان مقام النصرانيين يحلفان أنهما اختانا ثم يرجع للنصرانيين، وقال الفراء: آخران من غير دينكم من اليهود والنصارى(1).

    فالفراء وابن فارس يريان في الآخرية اختلاف الديانة مع المسلمين، وهذا الاختلاف يقصد به أهل الكتاب تحديداً.

    وقال امرؤ القيس:

    إذا قلت هذا صاحبٌ قد رضيته

    وقــــرّتْ بـــه العينـــان َبُدِّلـــتُ آخـــــــرا(2)

    أي بدلت غيره.

    وتأتي الكلمة أيضاً لتدل على أحد الشيئين من جنس واحد، قال المتنبي:

    ودع كل صــــوت غير صــــوتي فإنني

    أنا الصائح المحكي والآخر الصدى(3)

    قال صاحب المنجد: «إذا قلت: جاءني رجل وآخر معه، لم يكن الآخر إلا من جنس ما قلته»(4).

    ومؤنث آخر: (أخرى)، قال تعالى: ﴿وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَىٰ﴾ النجم: 20. والجمع أُخَر، قال تعالى: ﴿فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ البقرة: 184.

    ويرى ابن منظور أن مصطلح (آخر) مع كونه اسماً إلا أن فيه «معنى الصفة؛ لأن أفعل من كذا لا يكون إلا في الصفة»(5). ولعل هذه الصفة هي كون الآخر مسنداً إلى متقدم له مختلف عنه في وجه من الوجوه أو أكثر.

    ويلحظ أيضاً في المعنى اللغوي للآخر دورانه حول الانتقاص أو التأخير، وأن الآخر دائماً يأتي بعد متقدم، فهو إذن إما تابع، أو مختلف اختلافاً يقصِّر به وينزله درجة أو أكثر عن الشيء/ الذات/ الأنا، ويأتي الآخر ليدل على شيء ترك وأخذ قسيمه أو نقيضه.

    ولمصطلح الآخر عدد من الألفاظ المقابلة التي تفيد الضدية أحياناً أو المفارقة فقط، هذه المصطلحات هي:

    الأنا: بمعنى الشخص المتحدث أو الأشخاص (نحن).

    الذات: ومعناها الحقيقة والشخصية، قال تعالى ﴿وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾ الأنفال: 1. وفي المعجم الوسيط: الذات: النفس والشخص.(6)

    ب - الدلالة المصطلحية

    وبالنظر إلى مصطلح الآخر في الدراسات والعلوم الحديثة فإن مفهومه يختلف باختلاف النظرة والأرضية المعرفية، وتدخل فيه النسبية بشكل كبير؛ ولهذا فإن معرفة الآخر وتعريفه ينطلقان من الذات والأنا، حتى قيل في أبسط تعريفاته هو كل ما عدا الأنا (7).

    والمعنى الشهير للآخر: أنه شخص أو مجموعة مغايرة من البشر ذات هوية موحدة، نستطيع أن نحدد اختلافها بالمقارنة مع الذات(8). وهذا التعريف ربما يفهم منه معنى الضدية والإقصاء. وهو أيضا: «ذلك الذي تقضي الذات بمخالفته لها وتحكم باختلافه عنها في نظم الحياة كلها: في العادات والتقاليد والأذواق واللسان والدين»(9).

    وهناك تعريفات للآخر تنحو به منحىً فلسفياً، إذ قد يعرف بأنه الذات المثالية التي يسعى الإنسان لتحقيقها وما بينها وبين الواقع من اختلاف. وهذا التعريف قد يفهم منه تلك التبعية للمنتصر (الآخر الاستعماري)(10).

    دلالة علم النفس

    يرد مصطلح (other) في علم النفس ليدل على: آخر، وأخرى، وآخرين. ومفهوم الآخرين: فكرة الفرد عن الآخرين. والآخر (the other): كل شيء ما عدا الذات(11).

    أما الغيرية فهي ترجمة للمصطلح الإنجليزي: (Alturism) والفرنسي: (Alturisme)(12).

    ويجري تعريف الآخر على أساس استعدائي في غالب الأمر، فهو عرض من أعراض عملية التغرّب، وهو انفصام لا مفر من اللقاء به، وهو محدِّد لحدود الأنا وانعكاس لمرحلة المرآة (13) التي يكتشف من خلالها الطفل منذ الشهر السادس حدود ذاته واختلافه وانفصامه عن الغير(14).

    والموقف من الآخر يقوم على مدى الإحساس بتماهيه أو انفصاله عن قضايا الذات: الأهداف، القيم، العقيدة، الاهتمامات، المصالح، التطور الروحي والمادي(15).

    وقد أولى العالم النفسي سيجموند فرويد (1939م) عناية كبيرة بهذا الموضوع، إذ درس العلاقة بالآخر فرداً أو جماعة، وبرز من خلال هذه الدراسة اكتشاف بنية داخلية تنشأ من خلال تفاعل الفرد مع جماعته، وتسمى هذه البنية (الأنا) المثالية، وهي تمظهر من تمظهرات الآخر داخل الأنا.

    وتصبح الأنا المثالية (الأنا العليا) شكلاً من أشكال الآخر؛ لأنها نموذج جمعي لا تدركه الأنا ولا تستطيع اللحاق به، فتصبح من ثم آخر لا يمكن بُلوغه، ويرتد النظر عند ذلك إلى الذات (الأنا) ويُنظر إليها نظرة نرجسية استغراقية(16).

    د - الدلالة الحضارية

    ولعل أوسع المفاهيم وأكثرها شهرة هي إطلاق المصطلح للدلالة على الشرق والغرب بالتناوب مع مصطلح الذات، فالآخر هو الغربي بالنسبة للشرقي، والشرقي بالنسبة للغربي. إلا أن هناك إطلاقات متعددة للمصطلح ذات أبعاد فلسفية أو اجتماعية أو غيرها، ومن ذلك مثلا:

    1 - الآخر هو الحاكم المستبد عند (جورج أوريل).

    2 - هو المحكوم من وجهة نظر الأمير (ميكافيلي).

    3 - هو صاحب العمل عند ماركس، وقد يكون الآخر هنا رمزياً أيضاً (رأس المال).

    4 - الآخر في الدين.

    5 - الآخر في الجنس.

    6 - الآخر هو القوة العظمى المسيطرة على العالم.

    7 - الآخر الاجتماعي: الغني بالنسبة للفقير، الرجل بالنسبة للمرأة... إلخ والعكس صحيح أيضا(17).

    هذه الشروح لمصطلح واحد تبين مقدار التوسع في استخدام لفظ الآخر وإطلاقه على (كل) ما جاوز الأنا وفارقها، سواء أكانت الأنا الفردية أو الجماعية، كما أن الآخر يمكن أن يكون معيناً، فالتسمية تعين بشكل دائم فرداً معارضاً لكل الآخرين من الصنف ذاته، وفي كل مرة نطلق فيها اسماً فإننا نؤكد كونه آخر بالنسبة للأنا وللمجموعة نفسها(18).

    وفي دراستنا حول أدب الرحلة فإن الآخر هو ذلك المختلف ثقافياً يقوم الرحالة باكتشافه ونقله وتوصيفه في رحلته سواءً أكان كلي الاختلاف أو جزئيه، وسواءً أكان بشراً أم غير ذلك.

    وقد يستخدم بعض الدارسين مصطلحات مرادفة للآخر، فالغير والغيرية استعملهما د. محمد الحاتمي(19) لقربهما من مفهوم المصطلح الانجليزي (Alterity)، مفرقاً بين الغير والآخر بأن الآخر مشابه للأنا في وجوه كثيرة، أما الغير فهو المفارق للأنا المختلف عنها، فالمسلم في بلدان المسلمين المختلفة آخر، والنصراني وأهل البلاد غير المسلمة غير. وهذه القسمة لا داعي إليها من وجهة نظري؛ لأن التشابه حاصل بين الذات والغير -بمصطلح د. الحاتمي-، فهو تشابه في الإنسانية، والجنس (الذكر أو الأنثى) وبعض العادات، وبعض اللباس، وهكذا فإن الذات تشابه الآخر والغير إما كثيراً أو في وجوه معدودة.

    ويستخدم بعضهم مصطلح الآخرية للتفريق بينها وبين الآخر اللغوي، ويعرف الآخرية بأنها: رؤية الفرد إلى غيره من الناس بوصفهم آخرين (20).

    وهذه التعددية في مدلول المصطلح تجعلنا نبحث العلاقة بين الآخر والذات، فما الاتفاق بينهما وما الاختلاف؟ وما مستوى العلاقة والمسافة الفاصلة بينهما؟ هل هي مسافة موحدة وقائمة وفاصلة أم هي محكومة بالنسبية تبعاً لنسبية المصطلح؟

    الذات في أحد تعريفاتها هي: «فكرة الشخص عن نفسه، وهي نظرة الشخص إلى نفسه باعتباره مصدر الفعل»(21).

    أو هي «ذلك المفهوم الذي يكونه الفرد عن نفسه باعتباره كائناً بيولوجياً اجتماعياً، أي باعتباره مصدرا للتأثير والتأثر بالنسبة للآخر»(22).

    ومن ثمة فإن نظرة الذات إلى الآخر تختلف باختلاف الوعي بالذات وعيا حقيقياً من جهة، والاطلاع على الآخر من جهة أخرى، فعلاقة الذات في الأطراف ليست كعلاقة الذات في العمق الجغرافي مع الآخر، وهكذا علاقة الذات المتنقلة ليست كعلاقة الذات القارّة الثابتة.

    ولتأسيس الحديث حول العلاقة بين الذات والآخر لابد من الإشارة إلى نقطتين:

    الأولى: أنه لا يوجد آخر إلا حين الوعي بوجوده، مثل تنبيه الحملة الفرنسية بوجود آخر في العالم، وهذا الآخر كان على درجة من التقدم والحضارة.

    الثانية: العلاقة مع الآخر لا تقوم إلا على قاعدة الغالب والمغلوب، وإلا اضمحل الآخر وأصبح عدماً (23).

    وعند تأمل التجارب التاريخية فإن النظرة إلى الآخر غالباً ما تكون نظرة عداوة لعدو يشكل «تهديداً للهوية الذاتية. وتظل العداوة محتملة حتى في حال السلم بين الطرفين... ومن ثمة يتضح أن الأنا، سواء أكانت محايدة أو منتمية إلى تكتل، تفترض وجود عدو محتمل يهدد كيانها وهويتها باستمرار، وهذا ما يجعلها من جهة، متيقظة من جميع الطوارئ الممكنة وحريصة على صيانة مقوماتها ومكاسبها، وما يحفزها، من جهة ثانية، على اعتبار الآخر غيباً ينبغي الاحتراس منه تفادياً لأي خطر يمكن أن يصدر عنه»(24).

    وليست العلاقة بين الذات والآخر علاقة عداء على الدوام، بل إننا نجد العلاقة تتراوح بين القبول والرفض، أو بين السلب والإيجاب، تبعا لمستوى الوعي، وسلوك الآخر، وظروف الالتقاء، فالنظرة إلى الآخر إما:

    1 - سلبية: وهي الأكثر، ويجري فيها عدد من المظاهـر كالاختزال(25)، والجنسـنة (26)، وتفويت الزمن الحاضر بالتفكير في المستقبل أو استعادة الماضي(27)؛ وربما جاءت هذه المظاهر لأن وجهة نظر الأديب «لا تتطابق مع آراء الناس الذين يتحدث عنهم مادام هؤلاء ليس بإمكانهم أن يتحدثوا باللغة التي يستعملها عند سرده لتاريخهم، ولا يمكن لموقفه أن ينفصل عن تجربته»(28).

    ومن مظاهر النظرة السلبية: الهوس أو الرهاب، فالهوس: اعتبار ثقافة الآخر متفوقة على ثقافة الأنا، وهو تفوق يعزز الشعور بالضعف والصغار تجاه الآخر وربما أدى ذلك الهوس إلى الارتماء والذوبان أو الرفض القاطع، وكلاهما سلوك سلبي يضر بالأنا فيزيل خصوصيتها أو يؤخر تقدمها. وأما الرهاب فهو: اعتبار ثقافة الأنا متفوقة على ثقافة الآخر. وينشأ عن ذلك النظرة الفوقية والاحتقار ورفض كل النماذج القادمة من الآخر ولو كانت متفوقة(29).

    2 - إيجابية: وهي الأقل، وتمثل نضجاً ثقافياً وتاريخياً يمكن ملاحظته، ومن مظاهر هذه الإيجابية: التعامل بطريقة إيجابية مع الحقيقة الأجنبية لكونها تكمل الحقيقة المحلية وتعضدها، وهذا الموقف هو سبيل التبادل المعرفي والثقافي والحوار الحضاري(30).

    هذه المحبة تجعل العلاقة بين الذات والآخر علاقة صداقة، يتشارك فيها الصديقان في التعبير عن الرغبة والعيش معاً، وينشأ بينهما شعور بالتساوي والمساواة والرغبة في التعاون والتجاور، وحين يصاب الآخر تتألم الذات وتقوم بالمبادرة لاعتراف الذات بهشاشة وضع البشر وفنائهم (31).

    إن سلوك الفرد تجاه الآخر يتأثر «بالانطباع الذي يتكون عنه استناداً إلى طريقة الإدراك وكيفية التعامل مع المكون الثقافي والاجتماعي لهذا الآخر، حيث ينبثق من هذا الإدراك والتعامل تفاعل متبادل بين الأنا الفردية أو الجماعية والآخر، تتفاوت درجة إيجابية هذا التفاعل وسلبيته بتباين هذا الإدراك»(32).

    وقد عني الفلاسفة وأصحاب الفكر الغربي من أرسطو وحتى العصر الحاضر بدراسة الآخر وتحديد فضائه وحدود تماسه مع الأنا، فأرسطو (384 ق.م - 322 ق.م) يهمه من الآخر مستوى علاقته بالأنا، ومتى تكون هذه العلاقة قريبة وفي دائرة الصداقة، يقول: «إن العقل يختار دوما أفضل ما يناسب ذاته... وأما الصديق، وهو ذات أخرى، فيتكفل بتقديم ما لا يقدر أن يكسبه المرء بذاته»(33). والذات تصادق الآخر حين يكون قريبا منها، في التفكير والعادات والأخلاق(34).

    و- الدلالة الحديثة لمصطلح الآخر

    في العصر الحديث نشطت دراسة الآخر على المستوى الفكري والفلسفي، وامتدت دراسة الآخر «من الدراسات الفلسفية الفرنسية إلى التحليل النفسي، والفلسفة الوجودية، والظاهراتية، وآليات تحليل الخطاب الاستعماري والتحديق ونظرية الفلم، والنقد النسوي، والدراسات الثقافية، ومصادر السيادة والهيمنة سواء أكانت الهيمنة على موضوع لغوي أو موضوع مفهوماتي»(35).

    فمن وجهة نظر تجريدية يُنظر إلى الآخر على أنه رمز كامل كما عند بعض المفكرين الفرنسيين (لاكان وغيره)(36)، ويرون أن كينونة المرء لا تتحقق إلا بالتعبير والقول باستخدام نظام تمثيلي يسبق الوجود (اللغة)، فأنت حين تعبر تكتب بلغة موجودة مسبقاً، فكأنك تكتب مكتوباً ومنطوقاً مسبقاً، ومن هنا فلا ذاتية نقية لأنها ستصبح بهذا المفهوم مخترقة من الآخر الغريب في اللغة(37)، ويمكن اعتبار التناص جزءاً من هذه النظرة إلى حد ما.

    ومن أبرز الجماعات الفكرية التي تناولت مفهوم الآخر جماعة الوجوديين، وعلى رأسهم (جان بول سارتر 1905-1980م)، فالآخر عندهم ابتداء له حق الحرية، تلك الحرية في تحويل الذات إلى شيء بالنسبة للآخر كما أننا نحول الآخر إلى شيء من مقتضى العبودية(38)، وأن يعتبر كل واحد منا الآخر آلة ووسيلة بالنسبة له(39).

    وتأتي أهمية الآخر عند الوجوديين من جهة تكوينه الجوهري للذات، وتحديد الهوية، وإسهامه في تأسيس وتوجيه المنطلق الذاتي الشخصي والقومي الثقافي، إلا أنهم ينظرون إليه نظرة عداء نابعة من فكرة العبودية السابقة، وهذه النظرة نظرة جبرية ليست حرة، ولهذا ختم (سارتر) إحدى مسرحياته بقوله: «الآخرون هم الجحيم»(40).

    وهذه النظرة السوداء تجاه الآخر ينبغي أخذها في سياقها الزمني العصيب؛ إذ كانت نتاج الدمار الإنساني والمادي الذي جرى في الثلث الثاني من القرن الماضي بسبب الحرب العالمية الثانية، وأصبحت تمثيلاً حياً لمقولة: (الإنسان ذئب لأخيه الإنسان) (41).

    أما الفيلسوف الفرنسي (ميشيل فوكو 1926-1984م) فالعلاقة عنده بين الذات والآخر علاقة ارتباط لا انفكاك منه، مشبِّها هذا الارتباط بارتباط الحياة بالموت(42). والآخر عند فوكو هو اللا مفكر فيه في الفكر نفسه، وهو الماضي بالنسبة للحاضر، ويقع على الهامش، لكنه ضروري وجوهري لوجود الخطاب! فنحن لا نعرف الذات إلا عند معرفة الآخر، تماماً كما أننا لا نعرف الحاضر إلا حين نعرف الماضي. والآخر على مستوى الخطاب «هو معالم الانقطاع والانفصال الذي يحاول التاريخ استبعاده ليؤكد استمراريته»(43).

    إن هذا التذبذب في اعتبار الآخر والتلاعب في أهميته حيناً وفي إقصائه حيناً آخر ليعكس حيرة واضحة في التعامل مع الآخر جنساً وثقافةً وديناً، وتتذبذب هذه النظرة بين الفلسفة والملاحظة التاريخية والواقع البشري المتأزم.

    ويأتي فيلسوف التفكيكية (جاك دريدا: 1930- 2004م) ليؤكد -كسابقيه- عبور مفهوم الأنا عبر الآخر ومعرفته، فالآخر عنده هو المصدر الحقيقي؛ لأن الأنا لا تستطيع خلق خارج عنها ضمن نفسها دون أن تصطدم بالآخر، بل إنه يبالغ في عد الآخر أساساً ومنطلقاً، فيقول: «إن اللغة للآخر، جاءت من الآخر، بل هي مجيء الآخر»(44). وضرورة الآخر وجوهريته ليست لكينونة الآخر فقط، بل لكل ما يتعلق بها، حتى إن الجنوسة(45) نفسها تأتي من الآخر(46).

    أما الناقد والفيلسوف الروسي (ميخائيل باختين 1895 - 1975م) فقد جاءت دراسته للآخر من خلال النظرية الحوارية أو المبدأ الحواري(47)، وتدور دراسته للآخر حول المنطلقات والأفكار التي تلتقي معها أفكار (ميشيل فوكو) و (جاك دريدا) لكنها أكثر تنظيماً ووضوحاً، وهذه الأفكار والمنطلقات هي:

    1 - دراسة الآخر في إطار نفسي فلسفي (الأنثروبولوجيا الفلسفية).

    2 -من المستحيل إدراك وجود الكائن منفصلاً عن علاقاته التي تربطه بالآخر.

    3 - الآخر نقطة تقويم للذات، إذ بصورة «ثابتة تماماً يمكن القول إننا نتفحّص تأملاتنا وتفكّراتنا بحياتنا الخاصة ونتفهمها عبر وعي الأشخاص الآخرين»(48).

    4 - حاجتنا للآخر حاجة جمالية مطلقة، ففاعلية الآخر في الرؤية والتأليف تُوجِد هوية شخصية خارجية نهائية للذات، وبدون الآخر ونظرته لن توجد هذه الهوية.

    5 - لا يقدم الآخر إدراكاً للصورة الخارجية فقط، بل يقدم صورة للذات الداخلية أيضاً.

    6 - كل ما يتصل بالذات ينفذ إلى الوعي عبر أفواه الآخرين، فالوعي الإنساني «يتفتّح ويستيقظ محاطاً بوعي الآخرين»(49).

    7 - من خلال الآخر تكتسب الذات التسمية والحب. وبدونه يكون الضياع «لا أستطيع أن أفعل شيئاً دون الآخر؛ لا أستطيع أن أكوّن ذاتي دون الآخر، ينبغي أن أجد نفسي في الآخر وأجد الآخر فيّ... إنني أتلقى اسمي من الآخر، وهذا الاسم يوجد بالنسبة للآخر، إن حب الذات مستحيل أيضاً بصورة مساوية لعدم إمكانية تسمية الذات»(50).

    8 -حضور الآخر مركزي في التعبير الأدبي؛ لأنه هو المكتمل والظاهر ويمكن قياسه(51).

    من أجل ذلك؛ ولارتباط دراسة الآخر بنظريات تحليل الخطاب، والدراسات الثقافية، كانت دراسة الآخر ومستوى التعبير عنه وطريقة تصويره أحد اهتمامات النقد في العصر الحديث، بسبب اختلاف طرائق التعبير ومركبات الوصف وملاحظة سمات اجتماعية ونفسية وسلوكية وفكرية تحكم ذلك التصوير وتحدد مساره(52).

    إن دراسة الآخر في النقد تعين على الإمساك بجغرافية الأنا ومرجعيتها التاريخية بالإضافة إلى تعريب الآخر واحتضانه لغوياً، والحديث عن مستويات العلائق البينية إنسانياً واجتماعياً(53)، وكل ذلك يأتي عند مقارنة الأنا بالآخر مقارنة ظاهرة أو مضمرة؛ لتحديد هوية الأنا، ومسارها، وفاعليتها الحقيقية، وكما قيل: بضدها تتميز الأشياءُ.

    ولمفهوم الآخر في النقد كما في الفكر عدد من الإشكاليات التي تثار عند الحديث عن المفهوم وطريقة التناول ومستوى الوعي لدى الأديب/ المفكر، ومن ذلك مثلاً إبراز مصطلح الآخر على أنه نقيض للذات، وأن الآخر حين يحضر في النتاج الفكري أو الثقافي فإنه يحضر ليُمارس ضدَّه الإقصاء والاستبعاد بوصفه شيئاً أو جنساً غير منتمٍ إلى الفرد أو الجماعة أو المؤسسة، كما أن المفهوم يحمّل بدلالات أيديولوجية ومذهبية، بالإضافة إلى تجسيده لكل ما هو غريب وغير مألوف ولكل ما يهدد الوحدة والصفاء(54).

    وهذه الإشكاليات فيها الكثير من المبالغة والأخذ للمصطلح في اتجاه واحد، فليس بالضرورة أن يكون الآخر نقيضاً للذات، كما سنرى في هذه الأطروحة، بل إن الآخر يحضر أحيانا ليقدم على أنه النموذج التعددي للمجتمع المسلم وفق النظام الأيديولوجي والمذهبي العام (55)، كما أن المصطلح يحتمل الإقصاء أحياناً وقد لا يحتمل تبعاً لوعي الرحالة ومستوى تقبله للآخر(56).

    ولرسم الآخر في الأدب عدد من المؤثرات التي يمكن ملاحظتها وقياسها، ومن هذه المؤثرات:

    1 - البعد الأسطوري الغرائبي.

    2 -المعطيات التاريخية.

    3 -الإطار الزماني والمكاني.

    4 -فضاء الشخصية الداخلي والخارجي(57).

    ز- الآخر في الحياة والفن

    ما هي ظروف الالتقاء بالآخر في الحياة والفن؟

    إن الالتقاء بالآخر له قنوات متعددة، من ذلك مثلاً الاختلاط بالآخر إما سفراً (الرحلة في بحثنا)، وإما أن يأتي الآخر إلى الذات وفق نظام معروف (الاستعمار)، وإما أن يترجم الآخر إلى لغة الأنا(58)، وأخيراً أن يأتي الآخر عبر الشاشة مصوراً.

    وأدب الرحلة لا يقوم في أساسه إلا على فكرة الآخر وحضوره في المتن، لتقوم الرحلة/ النص بتصوير الآخر، ورسم أبعاد حضوره جنساً وثقافة وبيئة وغيرها.

    ويضيف أدب الرحلة لمبدأ دراسة الآخر فيما يخص فكرة التعرف إلى ثقافة الإنسان وفكره، إذ يسهم بشكل كبير في الوصول إلى مدارك الآخر واستقراء إمكان التواصل ومقداره بين الذات الباحثة والآخر الغامض(59).

    وكما أن تصوير الآخر بشكل عام يأتي لغرض الإمساك بالذات وتحديد أبعادها، فإن الرحلة تنسجم مع هذا الغرض بشكل كبير، «فإن كانت الرحلة في بلد الغير وفي ثقافته وأحواله فهي بالأساس رحلة نحو الذات، بحكم أن ما يشاهد وما يوصف لا ينم إلا عن المقارنة مع الذات بشكل من الأشكال»(60).

    بل لقد تجاوز رسم الآخر في أدب الرحلة هدف الاستكشاف والمعرفة إلى التعاون معه، والبعد عن النفور، ومحاولة الكشف عن الغموض في الصورة بالمعاينة والوقوف على الحقائق وإبراز ما يمتلكه الآخر ويتفوق فيه، كل ذلك بدافع الدهشة والاندفاع نحو المجهول واكتشاف الأسرار(61).

    إلا أن الرحالة يختلفون في وعيهم بالآخر وقبولهم له، فبعضهم ينظر إلى مختلف الدين على أنه آخر فيبحث عن وجوه الاختلاف ومواطن الافتراق، وبعضهم يفتش عند المختلف مكاناً عن سمات الاختلاف وربما ربطها بالدين كما فعل ابن جبير، الذي بالغ في وصف تدين أهل المغرب على أنه الصحيح وما عداه فليس على الاتباع وفيه اختلاف كبير وابتداع، بل إنه كان يغوص في عمق المجتمع ليخرج اختلافات جزئية ليبرهن على علو جنسه المغربي من مثل تلقط صفات أهل بغداد أو مكة، أو أهل العراق وغير ذلك(62).

    وحين يدون الرحالة رحلته أو تُدوّن له(63) فإنه يقدم لنا الآخر في نوعين، الأول: الآخر المكتوب، وهو مدار الرحلة في الغالب وسبب التدوين، أما النوع الثاني فهو: الآخر المكتوب له، وعادة ما يظهر الوعي به في توجيه الحديث، وإسداء النصح، وربما تحليل الخطاب السابق وتفكيك أجزائه، فالعلاقة مع الأول علاقة وصف وتقويم، ومع الثاني علاقة توجيه وتنبيه ورعاية(64).

    وفي العصور الإسلامية الأولى والوسطى كان التداخل مع الآخر تداخلا تلقائيا ومقبولا، ولم تكن ثنائية دار الإسلام ودار الكفر واضحة وصارمة، بل كان الآخر يهاجر ليسكن في بلاد الإسلام ويعمل فيها، ويحفظ التاريخ لنا أسماء علماء في الفلك وجغرافيين هنود، وخزافين صينيين وغيرهم، جاؤوا وسكنوا بغداد. كما أن الرحالة حين يسافر إلى دار الكفر فإنه لا يتحرج من الإقامة فيها ووصف أهلها وعاداتهم مع الاهتمام بتوضيح وجهة النظر وتقويم العادات وبعض المظاهر(65).

    ويتعدد الآخر في الرحلات القديمة وفق مستويات أربعة، هي:

    1 - الآخر الغريب: في العقيدة والسلوك، والعرق والجنس.

    2 - الآخر الداخلي: المسلم الذي يناقض النموذج/ الرحالة سلوكاً وأخلاقاً، وهو على طبقات منه القاضي والمحتسب والعالم والغني والفقير والرجل والمرأة ...إلخ.

    3 - الآخر الدخيل: وهو المنتمي نسبياً للمكان والمختلف في الديانة، كاليهودي والنصراني في الوطن.

    4 - الآخر الخارجي: الصليبي، الكافر، أهل الكتاب، المجوس... إلخ(66).

    وداخل هذه المستويات تأتي أنواع متعددة، فنجد الآخر المسلم سواء من المذهب ذاته أو من المذاهب المختلفة، والآخر الوثني ،والآخر النصراني أو اليهودي، والآخر المختلف في الجوانب الاجتماعية أو الثقافية أو السياسية وغيرها على نحو ما سنرى في هذه الأطروحة إن شاء الله.

    وهكذا ظهر تعدد مفهوم ومعنى الآخر، وارتباطه بالذات وعياً وتنميطاً، وضرورة هذا الآخر للإمساك بالذات ومعرفة منجزاتها ودرجة حضورها وتحضرها.

    كما رأينا -بشكل موجز- ارتباط مفهوم الآخر بالدراسات الفكرية والفلسفية، ودخولها للنقد من بوابة الدراسات الثقافية (النقد الثقافي) ومن باب مناهج تحليل الخطاب.

    وأخيرا لمسنا أهمية دراسة الآخر في أدب الرحلة، وحضوره فيها بشكل قوي وفاعل، وستكون هذه الدراسة -بإذن الله مسلّطة الضوء على الآخر في أبعاده الثقافية المختلفة من خلال أدب الرحلة، والله المستعان وعليه الاتكال.

    (1) ينظر: مقاييس اللغة، أحمد بن فارس، مادة (أخر).

    (2) ديوان امرئ القيس، شرح: عبد الرحمن المصطاوي، ص 97

    (3) شرح ديوان المتنبي، عبد الرحمن البرقوقي، 2/15.

    (4) المنجد في اللغة، لويس معلوف، مادة أخر: ص 5.

    (5) لسان العرب، ابن منظور، مادة (أخر).

    (6) ينظر: الذات والآخر في روميات أبي فراس الحمداني، نوال براك الثمالي، ص10.

    (7) فتح أمريكا: مسألة الآخر، تزفيتان تودوروف، ص9

    (8) ينظر: دليل الناقد الأدبي، د. سعد البازعي ود. ميجان الرويلي، ص 23.

    (9) أوروبا في مرآة الرحلة: صورة للآخرة في أدب الرحلة المغربية المعاصرة، سعيد بنسعيد العلوي، ص 15.

    (10) ينظر: دليل الناقد الأدبي، ص 23-24.

    (11) ينظر: قاموس علم النفس: إنجليزي- عربي، د. حامد عبدالسلام زهران، ص 345.

    (12) ينظر: معجم مصطلحات علم النفس: عربي- فرنسي- إنجليزي، إعداد: د. عبد المجيد سلمي و د. نور الدين خالد و د. شريف بدوي، ص 301.

    (13) مصطلح المرآة أو مرحلة المرآة وضعه (جاك لاكان ت 1981م) في حدود عام 1936م. ينظر: خطاب الانبهار في النقد العربي الحديث، د. أحمد الودرني، ص 6.

    (14) مفهوم التغرب مفهوم كولونيالي، ومفهوم الانفصام عند جاك لاكان (ت 1981م). ينظر: الكره أو اللا تسامح مع الآخر: منظور نفسي- اجتماعي، د. صالح بريك، ص 78.

    (15) ينظر: السابق، ص 81.

    (16) ينظر: الكره أو اللا تسامح مع الآخر، ص 81-83.

    (17) ينظر: صورة الآخر: العربي ناظرا ومنظورا إليه، مجموعة بحوث قام بإعدادها د. الطاهر لبيب، ص 100-101.

    (18) الذات عينها كآخر، بول ريكور، ص 113.

    (19) سبقه الجابري إلى استعمال المصطلح، وهنا نصصت على الحاتمي لحديثه عن الفروقات بين المصطلحات، ينظر وجهة نظر الدكتور الحاتمي وتفريقه بين الاصطلاحين في: الرحلات المغربية السوسية

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1