Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

الإينيادة
الإينيادة
الإينيادة
Ebook838 pages5 hours

الإينيادة

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

يتضمن هذا الكتاب نص الإينيادة التي نظمها فرجيليوس باللاتينية شعرًا ما بين عامي 29 و19 قبل الميلاد، وهي تحكي القصة الأسطورية لإينياس الذي أمرته الآلهة أن يرحل من طروادة إلى إيطاليا ليضع هناك الأسس الأولى للدولة الرومانية. وتعد الإينيادة ذروة الأدب اللاتيني عبر العصور، وأصبحت من أهم النصوص المستخدمة في تدريس اللاتينية وفي الدرس الأدبي، كما كان لها تأثير كبير في الآداب الأوروبية التي نشأت لاحقًا. وكان محمود علي الغول بدأ بترجمة الإينيادة من اللاتينية في عام 1942 وأنهاها في عام 1951، وقد ترجمها نثرًا في لغة أدبية رفيعة، تتفق مع ما يتسم به النص اللاتيني من مستوى أدبي رفيع، ولكنه لم ينشر ترجمته آنذاك، بل ظل يعدل فيها بين الحين والحين حتى وفاته في عام 1983، فعمل المعدان عمر الغول ونداء الخزعلي على تحقيق مخطوطات الترجمة المختلفة التي تركها المترجم، وخرجا بالنص المنشور هنا، وضبطاه بالحركات لييسّرا للقارئ تذوّق لغته، وشفعاه بمقدمة وتعليقات ورسومات وفهارس.
Languageالعربية
Release dateSep 11, 2019
ISBN9781912643226
الإينيادة

Related to الإينيادة

Related ebooks

Related categories

Reviews for الإينيادة

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    الإينيادة - بوبليوس فورغيليوس مارو فرجيل

    مقدمة معدِّي الترجمة للنشر

    بدأ محمود الغول ترجمة الإينيادة في عام 1942 وأنهاها في عام 1951، إلا أنه لم ينشرها، لكن الصورة التي وصلتنا فيها الترجمة، تبين أن النص المترجم كان ما يزال في حاجة إلى تحرير يخرجه في هيئة منسجمة بعد أن تباعدت المدة بين ترجمة أجزائه المختلفة، كما كان النص ما يزال في حاجة إلى مقدمة تعرف بالإينيادة وبمؤلفها، وإلى كشاف بالشخوص الرئيسيين المذكورين فيه، وسوى ذلك من أعمال، كان ينبغي استكمالها قبل دفع العمل إلى النشر.

    ويرجح أن المترجم أجَّل ذلك إلى وقت لاحق يتاح له فيه إنجاز هذه المهام الباقية. لكن حياة محمود الغول سارت بعد عام 1951 في دروب جديدة، باعدت بينه وبين إتمام العمل. فقد ظل على ترحاله بين الحواضر العربية، ينتقل في كل عام إلى مدينة جديدة، حتى كان عام 1955، حين انتقل للعيش والدراسة إلى لندن، فدخلت اهتماماته المهنية في منعطف جديد كليًا، بعيد الصلة بالدراسات الأدبية الكلاسيكية التي تنتمي ترجمة الإينيادة إليها. فقد بدأ بجامعة لندن بدراسة اللغات السامية، واختص في النقوش العربية الجنوبية منها، حتى بات بعد ذلك أحد أعلام هذا الاختصاص في العالم كله. وانتقل بعد ذلك إلى الولايات المتحدة، قبل أن يرجع إلى بريطانيا للعمل بجامعة سانت أندروز بأسكتلندا.

    وفي عام 1968 عاد محمود الغول إلى الشرق، فعمل في قسم اللغة العربية بالجامعة الأميركية ببيروت حتى عام 1975. ويقول الدكتور إحسان عباس الذي جمعته بمحمود الغول زمالة منذ أيام الدراسة بالكلية العربية بالقدس ثم في القاهرة وبعدها في الجامعة الأميركية في بيروت، إنه بعد اشتغال محمود الغول الطويل باللغات السامية «أصبح الأدب اللاتيني [عنده محض أصداء. وفي لحظات الرضا كان يلذ لمحمود أن تتجاذب معه أطراف الحديث حول الآداب الكلاسيكية، ولكني أظنه في لحظات الغضب كان ينظر إلى الإينيادة وإلى آثار هوراتيوس، [التي ترجمها محمود الغول عن اللاتينية كذلك] نظرته إلى غرباء احتلوا مكاناً من بيته وقلبه، ولكن بإذن منه» (1988: 23)¹. ويمضي الدكتور إحسان عباس في كلامه، فيقول: «برغم ما بذل محمود من جهد في ترجمة الإينيادة، راجعتُه كثيرًا أثناء إقامته في بيروت أستاذًا في الجامعة الأميركية (1968-1975) بشأن نشرها، فكان أحياناً يتهرب من الموضوع، أو يتعلل بأسباب يراها مقنعة» (1988: 24، حاشية 15). ومع ذلك، فيبدو أن محمود الغول، في ساعات الرضا التي ذكرها الدكتور إحسان عباس، قد رجع في أثناء إقامته ببيروت إلى الإينيادة؛ فبين أيدينا اليوم، إلى جانب النسخ المكتوبة بخط اليد من ترجمته للإينيادة، نسخة مطبوعة بالآلة الطابعة، يرجح أنها طُبعت ببيروت، وتجد في هذه النسخة تصويباته لما وقع في طباعتها من أخطاء. لكن اشتغاله بالإينيادة حينئذ لم يتجاوز في ما يبدو هذه الحدود، فلم تشمل نسخة الآلة الطابعة سوى الكتب الستة الأولى من الإينيادة، أما الكتب الستة الباقية فلم تطبع.

    وفي عام 1976، عاد محمود الغول إلى الأردن، وعمل في جامعة اليرموك حتى مرض بمرضه الذي مات فيه في عام 1983، وكانت تلك السنوات حافلة بالعمل، الإداري خاصة، فقد كانت جامعة اليرموك في طور التأسيس، وأوكلت له في ذلك الحين مهام استغرقت جل وقته. إلا أنه، عندما قطع رحلة استشفائه في لندن ورجع إلى الأردن لأسابيع قليلة في شهر آذار/مارس من عام 1983 استخرج الإينيادة من بين رفوف مكتبته، وراح يقرأ فيها بين الحين والآخر، ثم حملها معه إلى لندن عند سفره ليستكمل علاجه هناك، ولعل بعض ما يوجد في نسخها اليوم من تصويبات وتعديلات راجع إلى تلك الفترة. وذكرت زوجه أنه ظل يقلب النظر فيها حتى تردت صحته ولم يعد قادرًا على العمل، وتوفي في كانون الأول/ديسمبر من ذلك العام. فتحقق بذلك ظن الدكتور إحسان عباس حين قال: «... فإن الماضي كان قطعة من نفسه، وقد احتفظ بكل المسودات -على تكررها- وأظنه كان ينقلها معه حيث ذهب» (1988: 23).

    وبعد وفاته، حملت زوجه نسخ الإينيادة إلى عمان. وبعد مرور عام على وفاته، في شهر كانون الأول/ديسمبر من عام 1984، عُقد مؤتمر دولي بجامعة اليرموك تكريمًا لذكراه، أوصى بنشر أعماله غير المنشورة، ومن بينها الإينيادة. وعهد إلى الدكتور إحسان عباس بنشرها بالاستعانة بمن يراه أهلاً لذلك، ولكنه، وبعد أن استبقى نسخ الترجمة عنده عامًا أو يزيد، عاد فردَّها إلى زوج محمود الغول معتذرًا عن نشرها أو الإشراف على نشرها، لأنه لم يجد من بين الأكاديميين العرب من يتولى ذلك لصعوبة المهمة. ويبدو أنه قد نظر في تلك الأثناء في الترجمة، إذ تجد في حواشيها اليوم تعليقات أو علامات استفهام كتبت بخط مختلف عن خط محمود الغول، لعلها من خطه.

    وظلت الإينيادة بعد ذلك في حوزة زوج محمود الغول نحو عشرين عامًا، حتى عام 2004، حين دفعت إليَّ (عمر الغول) كل ما كان عندها من نسخ الترجمة، المخطوطة والمطبوعة، مفوضة أمر نشرها إليَّ، لاشتغالي بتاريخ الشرق القديم ولغاته، تحقيقًا ونشرًا، ثم لقرابتي لمحمود الغول، فأنا ابن أخيه، إلا أن التزامات عديدة منعتني من التفرغ لنشرها في ذلك الوقت. وفي صيف عام 2007، طبعتُها، مستندًا إلى إحدى نسخها- انظر أدناه -، غير أن تراكم المهام البحثية والإدارية عاد فصرفني عنها، حتى صيف عام 2013، حين بدأت مستعينًا بشريكتي في هذه النشرة، الآنسة نداء الخزعلي، بإعداد ترجمة محمود الغول للإينيادة للنشر.

    تحقيق نسخ الترجمة

    أعاد محمود الغول النظر في ترجمته لكتب الإينيادة ما بين عامي 1943 و1951 مرات عدة، وكان يحتفظ في كل مرة بالنسخ السابقة من ترجمته، فكانت نتيجة ذلك أننا وجدنا عدة ترجمات للكتاب الواحد، وخاصة في ما يتعلق بالكتب الستة الأولى، فقررنا اعتماد إحداها- ونحسبها التي أسماها الدكتور إحسان عباس النسخة «ق» -لتكون الأصل الذي نعتمده لنص الترجمة للكتب الستة الأولى. وإنما استقر أمرنا على ذلك، لأننا وجدناها الوحيدة التي تجمع الكتب الستة الأولى كلها، ثم إن محمود الغول كان يكتب في ذيل كل كتاب تاريخ نسخه له، فكانت التواريخ في هذه النسخة متأخرة، أكثرها في عامي 1950 و1951. واطمأنت نفسانا إلى هذا الاختيار يوم وجدنا أن نص هذه الترجمة مطابق لنص الترجمة المطبوع بالآلة الطابعة، مما يعني أن محمود الغول نفسه اختار هذا النص ليكون أساسًا للعمل المنوي نشره. أما في ما يتعلق بالكتب الستة الباقية، فلم نجد ترجماتها مجموعة في دفتر واحد، وإنما كانت مفرقة في دفاتر منفصلة، فاعتمدنا النص الوارد في تلك الدفاتر.

    وظل محمود الغول بعد عام 1951 يقلب النظر في النص المترجم بين الحين والحين، يدلك على ذلك التعديلات المكتوبة بخطه بحبر مختلف في مواضع كثيرة من النص المترجم، بما في ذلك في مخطوطة الترجمة للكتب الستة الأولى. وقد عمدنا في تحقيق النص إلى اعتماد هذه التعديلات، بوصفها تمثل الصياغة النهائية للنص التي اعتمدها المترجم. أما في الكتب المتأخرة، من العاشر إلى الثاني عشر، فكان محمود الغول يسوق أحياناً في متن النص لفظتين أو عبارتين متتاليتين ترجمةً للفظة أو عبارة لاتينية واحدة، من دون أن يظهر من ذلك إن كان يقدم إحدى الترجمتين على الأخرى، فاعتمدنا الترجمة الثانية حيث ما وردت، افتراضًا منا أنها كانت الأرجح عنده.

    الصفحة الأولى من إحدى مسودات الكتاب السابع

    بخط محمود الغول وتظهر تصويباته وتعديلاته على الترجمة

    ولما كانت الترجمة مكتوبة بخط اليد، فقد استعنا في الأحوال التي استغلق علينا فيها قراءة خطه بترجمة حديثة للإينيادة² لتحديد القراءة الصحيحة. وضبطنا بعد ذلك أسماء الأعلام الواردة في النص ضبطًا موحدًا؛ إذ ورد كثير منها مكتوبًا في صور مختلفة، نتيجة امتداد الترجمة على مدى تسعة أعوام.

    وبعد أن استقر النص المترجم بين أيدينا، التفتنا إلى صياغته، فلحظنا أن فيه ألفاظًا عربية بعضها نادر، قد لا يتبين القارئون كلهم معناها، ولكننا أبقينا عليها استنادًا إلى خطتنا في العمل، والتي رأت أن تقدم ترجمة محمود الغول للإينيادة كما وصلت إلينا من دون تعديل، من باب الأمانة العلمية. ثم إنا رأينا أن ورود ألفاظ في هذه الترجمة ذات مستوى أدبي رفيع، يتفق مع الطبيعة الأدبية المميزة للنص اللاتيني الأدبي الفريد، فمن المنتظر أن تأتي ترجمة مثل هذا العمل ترجمة أدبية عالية، يختار فيها المترجم اللفظة العربية الأفصح والأبلغ، حتى وإن لم تكن شائعة. وقد وجدنا في الترجمة، إلى ذلك، مواضع عديدة اختار فيها المترجم لفظة عربية نادرة ليعبر بها عن معنى دقيق ورد في النص اللاتيني، من ذلك، مثلاً، أنه يستخدم في الكتاب التاسع لفظ «القَرَم» ليعبِّر به عن شهوة تورنوس إلى لقاء الطرواديين وقتلهم. فهذه اللفظة تؤدي المعنى المطلوب أداءً دقيقًا؛ لا تؤديه، مثلاً، لفظة «الجوع»، أو عبارة «الجوع الشديد»؛ لأن «القَرَم» هو «شدة الشهوة إلى اللحم»، واستخدامها في هذا الموضع من الترجمة يزيد القارئ تمثلاً لطبيعة تورنوس كما صورها فرجيل، بوصفه شخصًا متعطشًا للبطش، لا جوعًا ولا حاجةً، وإنما استقواء وتعالٍ. وقد نهجنا، على أية حال، في هذه الألفاظ نهجًا وسطًا، فنحن وإن أبقينا عليها، إلا أننا بيَّنا في الحواشي معاني ما قدَّرنا أنه قد يستغلق على أكثر القارئين، وحرصنا على أن نظل مقلين في ذلك، فلا نثقل نص الترجمة بالشروح.

    وتعظيمًا للفائدة المرجوة من نقل هذا الأثر الأدبي الرفيع إلى العربية، فقد أدخلنا فيه الحركات الإعرابية كلها، وأية حركات أخرى رأيناها ضرورية لتمكين القارئ من قراءة النص قراءة صحيحة. كما أدخلنا في النص علامات الترقيم اللازمة، بعد أن كانت مخطوطات الترجمة خلت منها.

    ولما كان نص الإينيادة صادرًا عن محيط ثقافي غير مألوف للقارئ العربي، فقد قدم محمود الغول له بمقدمة طويلة، عرَّف فيها بمؤلف الإينيادة، وبعصره، وبمؤلفاته، لكنه لم ينهها، فتحدث فيها عن عملَي فرجيل الآخرين «أناشيد الرعاة» و«أناشيد الزراعة» في شيء من التفصيل، لكننا لم نجد فيها ذكرًا للإينيادة، وعليه فقد اكتفينا من مقدمته بالجزء الذي عرَّف فيه بفرجيل، وزيادة في الإيضاح، صدَّرنا كل كتاب من الكتب الاثني عشر بملخص لأحداث الكتاب، تيسيرًا لمن شاء الاطلاع على أجزاء هذا العمل منفصلة، أو لمن أراد أن يستعين بنص هذه الترجمة في الدراسة أو في التدريس. وألحقنا بالترجمة كشافًا يعرِّف بأهم من ورد في الإينيادة من شخوص وآلهة ومخلوقات أخرى ومواضع، تيسيرًا على القارئ العربي الذي لا يألف هذه المسميات.

    وأعنا القارئ الذي يسعى إلى الإفادة من الترجمة في البحث العلمي والأدبي، بفهارس بأسماء الأشخاص، والآلهة، والمواضع.

    وأضفنا في هذا الكتاب فصلين يعرفان بالمترجم وعمله، أولهما سيرة حياة محمود الغول المهنية، وأدرجناها في آخر الكتاب، وثانيهما نص يسرد سيرة هذه الترجمة كما رواها المترجم نفسه، في مسودة كتبها بخط يده، يبدو أنه أعدها لمحاضرة عن هذا الموضوع ألقاها برابطة الكتاب الأردنيين بعمان في عام 1978، وجعلناها في صدر الكتاب.

    وقد كان للإينيادة أثر بعيد في الحياة الفنية الغربية على مر القرون، فاتخذ الفنانون من أحداثها وشخوصها موضوعات لأعمالهم الفنية، من رسومات، وتماثيل، وتصاوير على الآنية والفسيفساء، وسوى ذلك. فرأينا أن نعرض للقارئ شيئًا من هذا الأثر الفني العميق والشامل، فأدرجنا في أول كل كتاب من كتب الإينيادة عملاً فنيًا متميزًا يصور حدثاً أو شخصًا ذا علاقة بموضوع الكتاب.

    وما كان لهذه الترجمة أن تنشر لولا تضافر جهود طيبة عديدة، كانت مجتمعةً سببًا في توفيقنا إلى نشرها. ويستحق منا مشروع «كلمة» شكرًا خاصًا جزيلاً، لتفضله بالموافقة على نشر هذه الترجمة ضمن إصداراته، ونشكر في السياق نفسه الزميل الصديق الأستاذ الدكتور خليل الشيخ من جامعة اليرموك الذي تفضل فزكى نشر هذه الترجمة لدى مشروع «كلمة». كما نشكر الصديق المهندس إلياس عطاالله الذي راجع النسخة الأخيرة من الترجمة، وأبدى ملاحظاته النافعة عليها وتصويباته، والسيدة أمل بسيسو التي أعانتنا على الضبط اللغوي الصحيح للنص في بعض المواضع المشكلة، كما نشكر الزميل السيد جمال فودة من مكتبة جامعة اليرموك على ما قدمه لنا من عون متعدد الوجوه في أثناء عملنا على الترجمة.

    إننا، ونحن نقدم هذا العمل للقارئ العربي، لنستشعر قدرًا غير يسير من الارتياح والفخر؛ ارتياح ناشئ عن الإحساس بأداء هذه الأمانة الثقيلة أخيرًا، فترجمة الإينيادة هذه تصدر اليوم بعد مضي ثلاثة وستين عامًا على إنجاز محمود الغول لها، نصدرها ولما ندخر جهدًا في تدقيقها وضبطها ورفدها بالمقدمات، والشروح، والملاحق. أما الفخر، فناشئ عن تقديم هذا العمل الفريد للقارئ العربي، الفريد في أصله والفريد في ترجمته. وتأتي الترجمة رفدًا مهمًا للجهود العربية الحيية في مجال الدراسات الكلاسيكية، فما يزال كثير من هذه الأعمال غير مترجم، أو تجده مترجمًا عن لغات حديثة، وليس عن اللغات الأم التي كتب بها.

    ونستشعر في نشرنا هذا للإينيادة معاندة لمجرى الأشياء؛ ففرجيل، كما سيعرف القارئ من تعريف محمود الغول به أدناه، مات من دون أن ينشر الإينيادة، بل يقال إنه عارض نشرها وهمَّ بحرقها، لولا أن حال أصدقاؤه بينه وبين ذلك. أما محمود الغول الذي قضى تسع سنين من شبابه في ترجمتها، فقد أمضى سائر عمره يحمل ترجماته للإينيادة معه أنى ذهب، هامًا بنشرها دائمًا محجمًا عن ذلك أبدًا، ولم يفت رفيق دربه، إحسان عباس، هذا الالتقاء في مصير الإينيادة بين الرجلين اللذين يفصل بينهما ألفا سنة، فرجيل ومحمود الغول، فكلاهما بذل عقدًا من عمره مشتغلاً بهذا النص، ورحل عن الدنيا من دون أن يرى عمله منشورًا، فتجد عباس يتساءل بعد أن تأمل تردد الغول في نشر ترجمته للإينيادة: «أكانت وقفة فرجيل هذه من ملحمته شبحًا يحول بين المترجم وبين نشرها؟» (1988: 24، الحاشية 15).

    فيسرنا سرورًا شديدًا أن نكون نحن اليوم سببًا في وصول ترجمة محمود الغول إلى غايتها بعد رحلتها الطويلة معه وبعده، ونرجو أن نكون قد وفينا له بعض حقه على تلامذته في النهوض بعلمه، وأن نكون قد نفعنا القارئ العربي بهذا العمل المتميز.

    عمر الغول ونداء الخزعلي

    إربد، في 9/11/2014

    صلتي بفرجيل³

    محمود الغول

    صلتي بفرجيل ترجع إلى أربعين سنة، حين فرض علينا ونحن طلاب في الصف الخامس في الكلية العربية بالقدس أن ندرس الكتاب السادس من الإينيادة ضمن مقرر اللغة اللاتينية للامتحان المتوسط، الإنترميديت، من امتحانات مجلس التعليم العالي في فلسطين. أما صلتي باللغة اللاتينية فترجع إلى قبل ذلك بسنتين، ولها حكاية قد تكون طريفة.

    انتقلت من المدرسة الرشيدية الثانوية- كما كانت تسمى حينذاك- إلى الكلية العربية في عام 1938، بعد مضي حوالي شهر من بداية العام الدراسي، وبعد أن قرر مدير المعارف أنه، وإن كنتُ من أهل سلوان، وبذلك كنت حكمًا من أهل القدس، إلا أنني أستحق أن أدرس في الكلية العربية. ولما جئت الكلية العربية وجدت جمعًا ملتئمًا كنت شبه دخيل عليه. ووجدت الطلاب بدأوا دراسة اللغة اللاتينية، ولم تكن تدرَّس في المدرسة الرشيدية، وبذلك فاتني مقدار عمل شهر البدء والتأسيس في اللغة، ولم أستطع أن أستدركه طيلة العام، بل بقيت أغبر في آثار السابقين. ولم يقتصر الأمر في ذلك على اللاتينية، بل كان الحال كذلك في سائر الدروس، وإن اختلف السبب.

    لقد وجدت في الكلية العربية مكتبة عامرة بالعربية والإنجليزية، أبوابها دومًا مفتوحة والوصول إلى الكتب ميسر، فأقبلت عليها إقبال النهم، لا أخرج منها ما دمت فارغًا من درس أو عمل آخر، وأستعير كل كتاب لا انتهي منه في يومي. وضربت بالدروس عرض الحائط، وكانت نتيجة امتحانات نهاية العام لا ترفع الرأس ضرورة، وإن لم توجب فصلي. وفي نهاية العام، قيل لنا إن اللغة اللاتينية ستكون واحدًا من الموضوعات المقررة لامتحان المترك في العام الثاني، ونُصحنا أن نستعير كتب اللغة اللاتينية لنتقوى فيها خلال الصيف. وأذكر أن شيخنا، رحمه الله، جورج خميس تردد في أن يعيرني تلك الكتب، ثقة منه أنني لن ألحق بالمجلين من الزملاء مهما فعلت.

    على كل حال، استعرت الكتب وجئت عمان، حيث كانت أسرتي تقيم إذ ذاك، وبدأت أدرس. وكان لنا صديق يزورنا هو السيد الخوري أبو سامي من أهل بيت جالا- توفي رحمه الله منذ بضع سنوات- فنصحني أن أبحث في دير اللاتين في عمان عمن يعلمني اللاتينية. فحزمت أمري ومشيت من بيتنا وراء وزارة المالية الجمارك اليوم إلى دير اللاتين، حيث لا يزال، سوى أن المسافة بينه وبين سينما البترا خلف المسجد الكبير كانت براحًا موحشًا. هناك وجدت راهبًا ألمانيًا شابًا اسمه ألبرت غريب، يحسن العربية ويجيد الإنجليزية واللاتينية طبعًا.

    فابتهج بطلبي غاية الابتهاج، وبدأت أدرس معه كل يوم من ساعتين إلى ثلاث حتى يستحق طول الدرس مشقة الطريق. فكان أن طوينا الكتب طيًا مدة شهري تموز وآب، وذات يوم في مطلع أيلول ذهبت كعادتي للدرس، فقيل لي إنه ذهب، ثم علمت بعد ذلك أنه اعتقل بعد إعلان الحرب العالمية الثانية، لأنه ألماني. وقد لمحته بعد ذلك بعام تقريبًا في ساحة دير للراهبات في البلدة القديمة في القدس كان موضع اعتقاله. فله التحية إن كان ما يزال حيًا، وعليه الرحمة إن كان وافاه الأجل.

    وعدنا للدراسة في مطلع العام وأنا واثق من نفسي، لكنْ، كانت سبقتني إلى شيخنا الجديد، الدكتور جورج حوراني، المعلومات المستقاة من سجل العام السابق، فكان لا بد لي أن أجاهد مرتين لأثبت جدارتي، فكان أن كنت الوحيد الذي نجح في اللاتينية في امتحان المترك بامتياز، ففرح بي مدير المعارف فرحًا لا مثيل له، وركبتني عنده منذ ذلك الحين سمعة أنني نابغ في اللاتينية، مع أنني كنت أحب أن أذكر بغير ذلك. ونمت على هذا المجد سنتين أخريين، وقد قيل لي إنني كنت الأول في جميع مواد الفرع الأدبي: اللاتينية والتاريخ القديم والفلسفة والمنطق، وتقاسمت مع زميل في الفرع العلمي المادتين المشتركتين، فكنت الأول في الإنجليزية، وكان هو الأول في العربية. ومع ذلك، وقع عليَّ الاختيار لأذهب في بعثة لدراسة اللغة العربية في جامعة فؤاد الأول صيف عام 1942. وكان لمدير المعارف في فلسطين شروط على الجامعة المصرية لم تقبلها، فطالت المفاوضة، فعينت معلمًا للغة الإنجليزية في مدرسة المسلخ- البلدية في الخليل، حيث بقيت عامًا وشهرًا من مطلع العام الذي تلاه. وشغلت نفسي بتعلم العبرية والسريانية- على يد شيخين من شيوخ الجامعة العبرية، ألقاهما في عطلة نهاية الأسبوع، وبتعلم اللغة الحميرية على نفسي، استعدادًا لدراسة تلك اللغات في جامعة فؤاد الأول. وكان شتاء 42-43 قاسيًا، فلم أعد أذهب إلى القدس بانتظام، فشغلت نفسي بترجمة الإينيادة، وأتممت ترجمة الكتاب الأول في «كانون الثاني/يناير 1943 في مدينة الخليل إبراهيم»، كما هو مكتوب على صدر هذا الدفتر.

    وفي شهر شباط/فبراير من عام 1943 دخل الأستاذ- فيما بعد الدكتور- وليد عرفات المستشفى ثلاثة أسابيع لعملية جراحية، وطلب مني أن أتولى مكانه الإشراف على منزل الطلبة الداخليين. وكان الجو باردًا والثلج شديدًا، فوجدت نفسي معظم الوقت جليس المنزل، وعثرت بين كتبه على نسخة من الكتاب الثامن من الإينيادة باللاتينية مع ملاحظات وشروح بالإنجليزية، فشغلت نفسي بقراءته ثم شرعت في ترجمته، ولعلي أنهيتها قبل عودة الدكتور وليد عرفات من إجازته المرضية، فعلى الدفتر تاريخان للترجمة، هما صفر 1362 الموافق شباط/فبراير 1943.

    وفي آذار/مارس 1943 ترجمت الكتاب الثاني بمدينة الخليل إبراهيم كذلك، وتوقفت بعد ذلك حين تحسن الجو وعدت إلى أسفاري إلى القدس ودراسة العبرية والسريانية، وشغلت نفسي بترجمة «رحلة حبشوس»⁴ من العبرية إلى العربية، ثم نقل قسمها العربي من الحرف العبري إلى الحرف العربي. وفي صيف ¹⁹⁴³، أشغلت نفسي بترجمة «الصنعة الشعرية» لهوراتيوس من اللاتينية أيضًا. ولما التحقت بالدراسة في جامعة فؤاد الأول في تشرين الثاني/نوفمبر من ¹⁹⁴³ وجدت مدير معارف فلسطين قد كتب لصديقه البروفسور وادل، رئيس قسم الدراسات الكلاسيكية في الجامعة، أن يتعهدني بدراسة اليونانية ويرعاني في دراسة اللاتينية، فاعتذرت عن دراسة اليونانية، وأقبلت على دراسة اللاتينية معه ومع الدكتور محمد سليم سالم، وكنت أدرس مع طلاب الدراسات العليا، وكان منهم المرحوم محمد صقر خفاجة، وأحمد عبد اللطيف علي، وأمين سلامة، ومع طلاب السنة الرابعة في قسم الليسانس، ومنهم الدكتور عبد القادر سليم والدكتور عبد المعطي الغمراوي.

    وحدث أن جرى في درس الأستاذ مصطفى السقا ذكر «الكوميديا الإلهية» لدانتي، وما يقال عن أخذه فيها من قصص المعراج ورسالة الغفران، فكان أن ذكرت له الكتاب السادس من إينيادة فرجيل الذي يصف رحلته إلى العالم السفلي، وذكرت كذلك أن دانتي اتخذ فرجيل هاديًا له في نزوله إلى عالم الأرواح، فطلب مني أن أطلعه على ذلك، فعكفت على الكتاب فترة، وترجمته ربيع عام 1944، وأعطيته له. وفي صيف 1944، بدأت ترجمة الكتابين الثالث والرابع، وتركت الخامس، لأن الدكتور محمد سليم سالم كان قال لي إن الخامس مضجر ممل، فلم أنشط له، ثم شغلت في ذلك الصيف بكتابة مقدمة كتاب «الصنعة الشعرية» والملاحظات عليه، ورفعتها في مطلع العام الدراسي 1944، وأنا في السنة الثالثة، إلى الدكتور محمد سليم سالم، لينظر في نشرها مع مجموعة ترجمات عن اليونانية كانت ستصدر عن جمعية إحياء الدراسات الكلاسيكية، وقد طبعت كلها في كتاب صدر عن مكتبة النهضة عام 1945. وعدت إلى الكتاب الرابع، فأتممته في كانون الأول/ديسمبر 1944، وبيضت الكتب الخمسة عدا الخامس في هذا الدفتر، وفرغت من ذلك في 8 كانون الثاني/يناير 1945.

    ثم ترجمت الكتاب الخامس في شباط/فبراير 1945، وتركت تبييضه إلى صيف 1945، وبيضته في هذا الدفتر في أيلول/سبتمبر 1945، وبهذا اكتملت ترجمة الكتب الستة الأولى والكتاب الثامن.

    ولما عدت من الدراسة عام 1946، شغلت بتدريس اللغة العربية واللغة اللاتينية لطلاب الكلية العربية عن متابعة الترجمة، فلما انهار الانتداب البريطاني في عام 1948، وانهارت معه فلسطين التي كنا نعرفها، وجدتني في القاهرة صيف 1948، ثم في السويس والقاهرة منذ العام الدراسي 1948-1949، فعدت إلى الإينيادة، فترجمت الكتاب السابع، وأعدت ترجمة الكتاب الثامن، إذ لم تكن معي ترجمته الأولى التي كانت في سلوان مع سائر أوراقي، وعرض لي في نفسي عارض جعلني أمزق ترجمة الكتابين، واطلع إحسان عباس على ذلك، فما زال يتلطف بي حتى أعدت الترجمة، وانتهيت من ترجمة الكتاب السابع في 28 تموز/يوليو 1949، وأتممت ترجمة الثامن للمرة الثالثة بعدها بيومين بخطي وخط إحسان عباس، نعمل في مسكني أو مسكن محمود زايد ومحمود السمرة. وأتممت مراجعة السابع بمعونة إحسان عباس في 9 أيلول/سبتمبر 1949، وأتممت تبييضه في 13 أيلول/سبتمبر 1949، ثم أتممت مراجعة الثامن بمعونة إحسان عباس في 20 أيلول/سبتمبر 1949، وأتممت تبييضه في 20 أيلول/سبتمبر 1949، وكنت بعد الفراغ من ترجمة الثامن وقبل مراجعة السابع مع إحسان عباس بدأت أترجم التاسع مستعينًا بمحمود زايد على الكتابة وأنا أملي، ففرغت منه في 11 آب/أغسطس 1949. ولما انتهيت من مراجعة الثامن مع إحسان عباس في أيلول/سبتمبر، كما ذكرتُ، بدأت بمراجعة التاسع في تشرين الأول/أكتوبر 1949، ولكني انتقلت آخر ذلك الشهر من القاهرة إلى حلب. وفي نهاية النسخة التي بين يدي أني انتهيت من تصحيحه أو مراجعته في حلب في 6 أيار/مايو 1950، وأتممت تبييضه في 11 أيار/مايو 1950، وابتدأت بعدها رأسًا بترجمة الكتاب العاشر، ولكني لم أتم الترجمة إلا بعد أربعة عشر شهرًا في بيروت في 4 تموز/يوليو 1951، وأتممته مراجعة وتبييضًا في 20 تموز/يوليو 1951. وانتهيت من ترجمة الكتاب الحادي عشر يوم السبت 28 تموز/يوليو 1951 الساعة السابعة والدقيقة 46 في بيروت. ولا أعلم بالضبط متى انتهيت من مراجعته، ولعلي فعلت ذلك في الكويت أو دمشق، وذلك لأن مبيضته لم تنته، ولم أثبت في نهايتها شيئًا عن ذلك. وانتهيت من ترجمة الكتاب الثاني عشر يوم الأربعاء 1 آب 1951 في بيروت الساعة الثانية عشرة والدقيقة 35 بعد الظهر.

    الصفحة الأخيرة من ترجمة محمود الغول للكتاب التاسع من الإينيادة

    بوبليوس فورغيليوس مارو

    محمود الغول

    ولد بوبليوس فورغيليوس مارو في 15 تشرين الأول/ أكتوبر سنة 70 قبل الميلاد، في ناحية أندس، وهي قرية من أعمال مانتوا شمال نهر البو في سهل لبارديا حاليًا من شمال إيطاليا. وقد كان المعتقد إلى زمن دانتي أنها عند ضيعة فبتولا على بعد ثلاثة أميال جنوب شرق مانتوا، وعلى هذا الاعتقاد ظل الناس بعد دانتي إلى زمن قريب. وقد أثار هذا الموضع شك الباحثين، لأن فورغيليوس في «أناشيد الرعاة» و«أناشيد الفلاحة» يصف منطقته الريفية التي نشأ فيها بما لا يتفق وطبيعة فبتولا وما يجاورها. وقد كان معتمد الناس في تعيين ذلك المكان على ترجمة فريوس التي كتبها للشاعر، وقد كانت تجعل بلدته على بعد ثلاثة أميال من مانتوا، وكان العدد ثلاثة يرسم فيها على الطريقة الرومانية هكذا III. وقد بيَّن الأستاذ كونوي أن أندس لا بد كانت واقعة عند كلغسانو الحالية في شمال غرب مانتوا، وقريبًا من فريمونا. وهذا يفسر السبب في أن ضيعة فورغيليوس صودرت مع ما صودر من أملاك فريمونا، رغم أنها كانت من أعمال مانتوا. وهذا الموضع يفسر تفسيرًا جليًا طبيعة المنطقة التي يصفها في «أناشيد الرعاة» و«أناشيد الفلاحة»، والتي عاش فيها صباه. وقد ساق الأستاذ كونوي الدليل إثر الدليل من نقوش عثر عليها في تلك المنطقة، قد ترجع لقوم أمه وقوم أبيه، كما أشار إلى أدلة من أدبه تبين كيف أن الأوصاف والمرئيات في تلك المنطقة توافق ما ورد من ذلك في شعره، وليس هنا محل ذكر هذه الأدلة، ويمكن الرجوع إليها في البحث الوافي في كتابه. أما ترجمة فريوس، فقد اقترح كونوي بشأنها أن العدد الأصلي لا بد كان «ثلاثين»، ويكتب بالرومانية xxx، ثم وقع تصحيف في النسخ، فنقل «ثلاثة» هكذا III.

    كان الشاعر ابنًا لوالدين رقيقي الحال، وقيل إن أباه كان عاملاً في الخزف، وقيل بل كان أجيرًا عند رجل يدعى ماغيس، كان يكل إليه أموره المهمة، ثم اتخذه ختنًا له، وزوَّجه ابنته. وتميل الروايات إلى أن تجعل مولد هذا الشاعر العظيم ذا شأن غير عادي، فتدعي أنه سبق مولده فالات كثيرة، وظهرت عليه وهو طفل أمارات تبشر بمستقبله السعيد. أما ماغيا فوليو، والدة فورغيليوس، فليس نعلم عنها أكثر من اسمها. ولهذا الاسم قيمة خاصة، فإنه التوى على الناس بعد زمن طويل، وصار عندهم يوحي بمسحة غامضة، كأنما يدل على قدرة سحرية، وذلك بسبب المعاني التي يوحيها الاسم Magia. وقد أثر هذا الاعتقاد الواهم تأثيرًا كبيرًا في نشوء الفكرة التي شاعت عنه، وطال أمدها في العصور الوسطى، وهي أنه كانت له قوة على السحر وعمل المعجزات، حتى قيل إنه ساحر ولدته أم عذراء.

    وليس يُعرف هل كان فورغيليوس رومانيًا بمولده أم لا، ومن المحتمل أن والده نال الرعوية الرومانية قبل مولده. ومهما يكن، فإن إيطاليا كلها أصبحت رومانية الرعوية بعد أن منح يوليوس قيصر ولاية «غاليا فيما أمام الألب» التي هي ولاية فورغيليوس الرعوية الرومانية. وقد جعل بعض الكتاب المحدثين يطلق العنان لخياله ويتوهم أن فورغيليوس رأى الدكتاتور يوليوس قيصر في إحدى مدن تلك الولاية حيث أقام زمنًا، ويقدرون أن من المحتمل أن فورغيليوس عرف ابن أخت يوليوس قيصر الذي أصبح فيما بعد الإمبراطور الروماني أغسطس.

    قضى فورغيليوس زمن الطفولة إلى الخامسة عشرة في فريمونا إلى أن لبس رداء الرجال، وذلك عند الرومان علامة بلوغ الصبي رشده. وربما كان مقامه في فريمونا في السنتين أو السنوات الثلاث الأخيرة من صباه فترة أتم فيها تعليمه السابق، ثم بارحها إلى ميلان، حيث كانت المدارس أشبه بجامعة ريفية. وحوالي السنة الثامنة عشرة من عمره رحل إلى روما التي كانت مركز الدراسة العالية عند جميع الشعوب التي تتكلم اللاتينية، وحيث كان ينشأ جماعة من نوابغ الشعراء والشباب فيه. وقد كان بعض الشعراء، مثل إميليوس ماكر، وكونتيلوس فاروس من جيرة فورغيليوس ومن أصدقائه الحميمين، ولكن أوثق صداقة له كانت مع كورنليوس غالوس من أهل فريغوس، وهي مستعمرة رومانية كان لها شأن بحري في غاليا النربونيسية. وكان غالوس شابًا في مثل سني فورغيليوس، له شخصية جذابة قوية وعبقرية شعرية مبشرة. وكان هو وفورغيليوس الاثنين النابهين السابقين في حلقة أدبية بارزة، وكانا يدرسان ويكتبان سوية، وكانت حلقتهما كلها تشكل حركة شعرية جديدة تقوم على أساس الدراسة الدقيقة والتنقيح والتهذيب إلى حد الإجهاد. وكان لها أغراض ثلاثة؛ الأول البلوغ إلى صنعة فنية أرقى وأقوى مما وصلت إليه اللاتينية حتى ذلك الوقت، والثاني تَمثُّل المعرفة الإسكندرية التي صارت تراث الطبقة المستنيرة الجديدة في روما وتحويلها إلى أشكال شعرية، والثالث إشراب هذه الأشكال الحركة الرومانتيكية الجديدة.

    وآثار فورغيليوس تدل دلالة واضحة على اتساع مقروئه، وهو يستحق قطعًا أن يسمى مثقفًا، وهو النعت الذي كان شعراء زمانه جميعًا يتطلعون إليه. وقد تعلم في روما البلاغة، وما إليها من علوم اللغة والأدب التي كانت أساس فن الخطابة. ولكن سرعان ما تحول عنها إلى دراسة الفلسفة اليونانية، ولعله اطلع على شعر لوكريتيوس في أثناء تتلمذه لسيرون الأبيقوري. واستمر الحال هذا عشر سنين في فترة لا نعرف عنها أكثر من أنها كانت مرحلة نضج عبقري بطيء، وإقبال على الدراسة شديد بين زمرة من الأصحاب المتآلفين.

    وفي هذه المدة توفي والده، وتزوجت أمه مرة أخرى. وقد ترك له والده إرثاً يؤمن له أن يعيش حياة الراحة والرحلة والانقطاع إلى الدراسة الأدبية والفلسفية والتاريخية. وقد منعه حياؤه الزائد الذي ورثه عن حياته الريفية ولازمه طول حياته، كما منعه اعتلال صحته وضعف بدنه من أن يقبل على أي عمل في الدولة، إداريًا كان أم عسكريًا، كما فعل غيره.

    وبعد معركة فلبي سنة 42 قبل الميلاد، كان أول همِّ الحكام الثلاثة أن يستعدوا لتسريح جيوشهم، ولذلك قرروا مصادرة أملاك المدن والنواحي الإيطالية التي ناصرت بروتوس وحزبه. وكانت فريمونا من المدن التي عادت أوكتافيانوس وحزبه، وهي مجاورة لمانتوا، وقريبة من ناحية أندس، حيث مزرعة فورغيليوس، ولذلك كانت مزرعته ضمن ما صودر من أعمال فريمونا لقربها منها.

    ومسألة خروج فورغيليوس من مزرعته كانت موضع جدل بين الباحثين، كمسألة موقع بلدته كما تقدم. فقد رأى بعض الباحثين أن فوليو استطاع بنفوذه عند أوكتافيانوس أن يستثني أرض والد فورغيليوس ويبقيها له. وحدث بعد ذلك بسنة أن تحول فوليو عن ود أغسطس وانحاز إلى جانب أنتونيوس، وتلا ذلك تقسيم جديد للأراضي، وطالب الجندُ بأرض فورغيليوس، وقامت خلافات حول الحدود. وقد تعرض الشاعر لغضب المدعي الفظ الذي طارده وسيفه بيده، وقيل إن فورغيليوس اضطر أن يعبر نهر منكيس سباحة لينجو بنفسه. وتقول هذه الرواية إن من حسن حظ فورغيليوس أن كان دارس، خَلَف فوليو، زميل دراسة قديم، فأبدى عطفًا عليه ذا أثر، فمنحه أوكتافيانوس ضيعة أخرى، ربما كانت هي الضيعة الساحرة في كمبانيا.

    وأهم ما يوحي بهذه الرواية في أدب فورغيليوس هو أن الشاعر والنشيد الأول من «أناشيد الرعاة» يذكر كيف أن الرعاة والفلاحين كانوا يغادرون أرضهم بمواشيهم إلى أراضٍ أخرى غريبة، على حين أن أحدهم، وهو المسمى تيترس، قد استطاع أن يظفر بالبقاء في أرضه بفضل شاب في روما سيتخذه إلهًا يقدم إليه القرابين. هم يعدون هذا إشارة إلى ما فعله فوليو من تمكين لفورغيليوس في أرضه أول الأمر. وفي النشيد التاسع، يصف الشاعر كيف أن الفلاحين قد سلموا أرضهم لأسياد جدد، وكيف أن شخصًا كان قد استطاع أن ينقذ أرضه بشعره عاد ففقدها. وهذا النشيد يخاطب دارس راجيًا أن ينقذ مانتوا الشقية بقربها من فريمونا.

    وقد ذكر دوناتس رواية طريفة، وإن لم تكن صحيحة، عن كيفية اتصال فورغيليوس بأوكتافيانوس، فهو يقول إن فورغيليوس مدة دراسته الأدب والفلسفة كان شديد الإقبال على دراسة الطب والرياضيات. وبعد أن حذق هذه الفروع من المعرفة وتفوق فيها، غادر نابويا حيث كان يدرس إلى روما حيث عرف صاحب أسطبل أوكتافيانوس، وجعل يقول له بالبيطرة والزرطقة⁶ في الإسطبلات الإمبراطورية، وصار يتناول جراية منظمة من الخبز، كواحد من السائسين. وحدث أن أرسل أوكتافيانوس إلى الإصطبل مهرًا، فرآه فورغيليوس، وحكم أنه غير سليم البنية، ثم اتضح صدق حكمه، فأمر أوكتافيانوس بأن يكافأ بمضاعفة جرايته من الخبز. وفي مرة أخرى أجاد تشخيص حالة كلب، فكافأه أوكتافيانوس بأن ضاعف جرايته مرة أخرى. واتفق أن كان أوكتافيانوس في شك من كونه ابن أكتافيوس على الصحيح، وظن أن فورغيليوس قد يكشف حقيقة نسبه لما يعرفه من أحوال الكلاب والخيل، فسأله رأيه في ذلك، فأجاب قائلاً برزانة: «إنك ابن خباز»؛ فدهش أوكتافيانوس، وقال: «كيف عرفت ذلك؟»، فأجاب: «عندما حكمت بأحكام لا يستطيع أن يجزم بها إلا أعقل الناس كافأتني مرتين بأرغفة من الخبز، وهو شيء يفعله خباز ابن خباز». فأعجب أوكتافيانوس بالنكتة، وقال: «أما بعد اليوم، فلن يكافئك خباز، بل أمير كريم».

    بعد أن اتصل سببه بسبب أوكتافيانوس ورجال دولته، جعل يعيش

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1