Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

التعليق الممجد على موطأ محمد
التعليق الممجد على موطأ محمد
التعليق الممجد على موطأ محمد
Ebook717 pages5 hours

التعليق الممجد على موطأ محمد

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

التعليق الممجد على موطأ محمد شرح جليل، عظيم لكتاب " موطأ الإمام مالك "، بالإضافة إلى ذلك فهو أحد الكتب الكبار التي ألفها الإمام اللَّكنَويّ من كتبه الكثيرة البالغة 115 كتابًا، وقد بدأ تأليفه أواخر سنة 1292 ، وكانت سِنُّه 27 سنة، ثم اعترضته أسفار وأعراض وأشغال فأتمّ تأليفه في شعبان سنة 1295، فهي موهبة عجيبة وقدرة غريبة أن يتسنّم كتاب الموطأ شابٌّ هندي اللغة والدار في هذه السن، وقد ضمّنه زاهي علمه وأرقى معرفته في الحديث الشريف وعلومه، وفي الفقه الحنفي والمذاهب الأخرى وسائر ما يتصل بذلك من العلوم من بعيد أو من قريب- فجاء هذا الكتاب درة فريدة من درر العلم وجوهرة نفيسة من أنفس الجواهر
Languageالعربية
PublisherRufoof
Release dateJul 27, 1903
ISBN9786404825029
التعليق الممجد على موطأ محمد

Related to التعليق الممجد على موطأ محمد

Related ebooks

Related categories

Reviews for التعليق الممجد على موطأ محمد

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    التعليق الممجد على موطأ محمد - اللكنوي الهندي

    الغلاف

    التعليق الممجد على موطأ محمد

    الجزء 1

    اللكنوي الهندي

    1304

    التعليق الممجد على موطأ محمد شرح جليل، عظيم لكتاب موطأ الإمام مالك ، بالإضافة إلى ذلك فهو أحد الكتب الكبار التي ألفها الإمام اللَّكنَويّ من كتبه الكثيرة البالغة 115 كتابًا، وقد بدأ تأليفه أواخر سنة 1292 ، وكانت سِنُّه 27 سنة، ثم اعترضته أسفار وأعراض وأشغال فأتمّ تأليفه في شعبان سنة 1295، فهي موهبة عجيبة وقدرة غريبة أن يتسنّم كتاب الموطأ شابٌّ هندي اللغة والدار في هذه السن، وقد ضمّنه زاهي علمه وأرقى معرفته في الحديث الشريف وعلومه، وفي الفقه الحنفي والمذاهب الأخرى وسائر ما يتصل بذلك من العلوم من بعيد أو من قريب- فجاء هذا الكتاب درة فريدة من درر العلم وجوهرة نفيسة من أنفس الجواهر

    مقدمات الطبع والتحقيق

    تقدِيم بقَلم سَمَاحَةِ الشَّيخ أبي الحَسَن عَلي الحَسَني النَّدوي

    - الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده.

    وبعد، فأبدأ هذا التقديم المتواضع لكتاب التعليق الممجَّد على موطأ الإمام محمد للإمام أبي الحَسَنات عبد الحي اللَّكنَويّ رحمه الله تعالى، تحقيق وأخراج أخينا الفاضل فضيلة الشيخ الدكتور تقيّ الدين النَّدْوي، بما قاله حكيمُ الإسلام الإمام أحمد بن عبد الرحيم المعروف بالشيخ وليّ الله الدهلوي (1114 هـ - 1176 هـ) في مقدمة كتابه المصفّى شرح الموطأ بالفارسية ما معناه بالعربية، قال - بعدَ ما ذكر حِيرتَه بسبب اختلاف مذاهب الفقهاء وكثرة أحزاب العلماء وتجاذيهم كلّ واحد عن الآخر إلى جانب - قال رحمه الله:

    (أُلهمت الإشارة إلى كتاب الموطأ تأليف الإمام الهُمام حجة الإسلام مالك بن أنس، وعَظُم ذلك الخاطر رويداً فرويداً، وتيقَّنْتُ أنه لا يوجد الآن كتابٌ ما في الفقه أقوى من موطأ الإمام مالك، لأن الكتب تتفاضل فيما بينها: إما من جهة فضل المصنف، أو من جهة التزام الصحة، أو من جهة شهرة أحاديث، أو من جهة القبول لها من عامة المسلمين، أو من جهة حُسن الترتيب واستيعاب المقاصد المهمة أو نحوها، وهذه الأمور كلها موجودة في الموطأ على وجه الكمال بالنسبة إلى جميع الكتب الموجودة على وجه الأرض الآن) (نقلاً من تسهيل دراية الموطّأ في كتاب المسوّي شرح الموطّأ، إخراج دار الكتب العلمية - بيروت، ص 17 - 18) .

    ومن كلامه فيه في نفس مقدمة المصفى: (لقد انشرح صدري وحصل لي اليقين بأن الموطأ أصح كتاب يوجد على وجه الأرض بعد كتاب الله، كذلك تيقَّنْت أن طريق الإجتهاد وتحصيل الفقه (بمعنى معرفة أحكام الشريعة من أدلتها التفصيلية) مسدود اليوم (على من رام التحقيق) إلاَّ من وجه واحد، وهو أن يجعل المحقِّق الموطّأ نصب عينيه ويجتهد في وصل مراسيله ومعرفة مآخذ أقوال الصحابة والتابعين (بتتبُّع كتب أئمة المحدثين)، ثم يسلك طريق الفقهاء المجتهدين (في المذاهب) من تحديد مفهوم الألفاظ، وتطبيق الدلائل، وتبيين الركن والشرط والآداب، واستخلاص القواعد الكلية الجامعة المانعة، ومعرفة عِلَل الأحكام وتعميمها وتحقيقها، وفقاً لعموم العِلّة وخصوصها، وأمثال ذلك، ويجتهد في فَهْم تعقّبات الإمام الشافعيّ وغيره (كتفقّبات الإمام محمد في موطّئه، وكتاب الحجج)، ثم يجتهد في تطبيق المختلفات أو ترجيح الأحسن منها، ويتمكَّن من تحصيل اليقين بدلالة الدلائل على تلك المسائل، وبغالب الظن للرأي لمعرفة أحكام الله تعالى) (المرجع السابق: ص 29) .

    أما ما يتصل بمكانة الموطّأ للإمام محمد رحمه الله تعالى بالنسبة إلى موطّأ مالك برواية يحيى الأندلسي الليثي المصمودي وهو المتبادر بالموطّأ عند الإطلاق، وأكبّ عليه العلماء في القديم والحديث بالتدريس والشرح، فحسب القارئ ما يقوله الإمام عبدُ الحيّ بن عبد الحليم اللَّكنَوي صاحب التعليق الممجَّد في مقدمته لهذا الكتاب:

    (له ترجيح على الموطّأ برواية يحيى وتفضيل عليه لوجوه مقبولة عند أولي الأفهام) (التعليق الممجّد، ص 35 طبع المطبع المصطفائي 1297 هـ) .

    ثم ذكر هذه الأسباب وتوسَّع في عِّدها وشرحها (يُرجع إلى البحث في المقدمة، من ص 35 إلى ص 40) .

    وقد كان الإمام عبد الحيّ اللَّكْنَويّ من أقدر الناس وأجدرهم بالتعليق على موطّأ الإمام محمد، لأنه كان يجمع بين الصلة العلمية القوية بالحديث والصلة العلمية القوية بفقه المذاهب الأربعة، وبصفة خاصة بالمذهب الحنفي، الذي كان الإمام محمد من أعلامه البارزين ومؤسِّسيه الأصيلين، فكان بذلك يجمع بين نسب علميّ معنوي قريب بصاحب الموطّأ إمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس، ونسب معنوي علمي كذلك بالإمام محمد بن الحسن تلميذ الإمام مالك وصاحب الإمام أبي حنيفة. والنسب العلمي والمعنوي ليس أقلَّ قيمةً ولا أضعف تأثيراً من النسب الجسدي الظاهر، وبذلك استطاع أن يتغلب على ما يعتبره كثير من التناقض والجمع بين الأضداد واستطاع أن ينصف كل الإنصاف لصاحب الكتاب الأول الإمام مالك وراويه وناقله الراشد البار الفقيه المجتهد، والمحدث الواعي، الإمام محمد. هذا عدا ما اتصف به من اتِّساع الأُفق العلمي ورحابة الصدر، وسلامة الفكر، والذكاء النادر. يقول سَمِيُّه العلامة عبد الحيّ بن فخر الدين الحسني (م 1341 هـ)، في كتابه المشهور: نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر في ترجمة الإمام عبد الحيّ اللَّكْنَوي يحكي قوله:

    (ومن مِنَحِه أنه جعلني سالكاً بين الإفراط والتفريط لا تأتي مسألة معركة الآراء بين يديّ إلاَّ أُلهمت الطريق الوسط فيها، ولست ممّن يختار التقليد البَحْت بحيث لا يترك قول الفقهاء وإنْ خالَفَتْه الأدلة الشرعية، ولا ممن يطعن عليهم ويحقِّر الفقه بالكلّيّة) (نزهة الخواطر 8/235) .

    وصاحب كتاب نزهة الخواطر قد أدرك الإمامَ عبدَ الحيّ اللَّكْنوي وحضر مجالسه أكثر من مرة، فشهادته له شهود عيان وانطباع معاصر خبير، يقول: (كان متبحراً في العلوم معقولاً ومنقولاً، مطَّلعاً على دقائق الشرع وغوامضه، تبحّر في العلوم، وتحرَّى في نقل الأحكام، وحرَّر المسائل وانفرد في الهند بعلم الفتوى، فسارت بذكره الرُّكبان، بحيث إن كل علماء إقليم يُشيرون إلى جلالته، وله في الأصول والفروع قوة كاملة وقدرة شاملة، وفضيلة تامة وإحاطة عامة ... والحاصل أنه كان من عجائب الزمن ومن محاسن الهند، وكان الثناء عليه كلمة إجماع، والاعتراف بفضله ليس فيه نزاع) (نزهة الخواطر: 8/234 - 235).

    والتعليق الممجَّد للإمام عبد الحيّ اللكنوي، يمثّل ما وُصف به من الجمع بين إتقان صناعة الحديث والاطّلاع على مراجعه، وبين المعرفة الدقيقة الواسعة بالمذاهب الفقيه، ثم ما اتّصف به من سعة الصدر من سعة العلم وإعطاء الحديث حقَّه من الإجلال والترجيح، والفقه من التقدير والاهتمام، والخروج من كل ذلك بكلام متَّزن مقتصد لا إفراط فيه ولا تفريط.

    وقد اتفق لكاتب هذه السطور الاطّلاع على هذا الكتاب أيام طلبه لعلم الحديث وأيام التدريس، فأُعجب بسلامة فكره ورحابة صدره.

    وقد كان هذا الكتاب التعليق الممجد في حاجة إلى أن يتناوله أحد المتوفِّرين على دراسة الحديث الشريف وتدريسه، بالعناية به تعليقاً وتصحيحاً، ونشره بالحروف العربية الحديثة حتى تتيسر قراءتُه لمن اعتاد ذلك من العلماء في العام العربي، فقد كان كتابُه بالخط الفارسي مطبوعاً كلَّ مرة على الحجر، غير واضح وغير شائق للمشتغلين بالحديث والفقه من العلماء الشباب والكهول والشيوخ في المشرق العربي.

    وقد وُفِّق لذلك أخونا العزيز فضيلة الشيخ الدكتور تقيّ الدين النَّدْوي أستاذ الحديث بجامعة الإمارات العربية المتّحدة، وعُني بتصحيح نُسخ الكتاب والتعليق على مواضع كثيرة من الكتاب، والرجوع إلى المصادر التي نقل منها المؤلف عند التردد، ووضع الفهرس العام للكتاب، وقام بذلك بعمل علمي جليل وإحياء مأثرة من مآثر عالم مخلصٍ ربَّاني خادمِ العلوم الدينية وناشرها في ربوع الهند، ومؤلِّف كتب يبلغ عددُها إلى مئة وعشرة (110) كتب منها 86 كتاباً بالعربية، فاستحق بذلك الأخ العزيز الفاضل شكر المقدِّرين لكتاب الموطّأ، والمشتغلين بعلم الحديث والفقه، وثناء الجميع وتقديرهم، تقبَّل الله عمله ونفع به الداني والقاصي.

    أبو الحسن علي الحسني الندوي 15 من ذي الحجة الحرام سنة 1409 هـ

    دار العوم ندوة العلماء - الهند المجلد الأول

    تَقدمة بقلم الأستاذ عَبد الفتاح أبو غُدّة

    - وهي تتضمن بإيجاز:

    كلماتٍ عن

    حفظ الله تعالى للسنة،

    وتميز المدينة المنورة بأوفى نصيب منها،

    وسبق علماء المدينة في تدوين الحديث،

    وعن تأليف مالك للموطأ،

    وتأريخ تأليف الموطأ،

    وأن الموطأ أوَّل ما صُنِّفَ في الصحيح،

    وعن مكانة الموطأ وصُعوبة الجمع بين الفقه والحديث،

    وعن كبار الحفاظ الأقدمين وحدود معرفتهم بالفقه،

    وأنَّ الإمامة في علم تجتمع معها العامية في علم آخر،

    وعن يُسر الرواية وصُعوبة الفقه والاجتهاد.

    وكلماتٍ عن مزايا الموطأ، وعن روايات الموطأ عن مالك،

    وكلماتٍ في ترجمة محمد بن الحسن راوي الموطأ،

    وكلماتٍ في رد الجَرح للراوي بالعمل بالرأي، وعن ظلم جملةٍ من المحدِّثين للإمامين: أبي يوسف ومحمد الفقيهين المحدِّثين،

    وكلماتٍ للإمام ابن تيمية في دفع الجَرح بالعمل بالرأي، وعن تحجُّرِ جُلِّ الرُّواةِ وضِيقِهم من المشتغل بغير الحديث، والردِّ على من قَدَح في أبي حنيفة بدعوى تقديمه القياسَ على السُّنَّة،

    وكلماتٍ في ترجمة الشارح الإمام اللَّكنوي، وأهمية طبع كتاب التعليق المُمَجَّد.

    بسم الله الرحمن الرحيم

    كلمَةٌ وتقدِمةٌ إمَامَ مُوطّأ الإمام مَالك برواية الإمام محمَّد بن الحَسَن

    وَهوَ المشْهُور بمُوطأ الإِمام محمَّد:

    حفظ الله تعالى للسنة:

    - لقد حَظِيَتْ سُنَّةُ النبي صلى الله عليه وسلم - وهي أحاديثه الشريفة: أقوالُه، وأفعاله، وتقريراتُه - من أول يوم بالعناية التامة، والحفظ والرعاية، والعمل بها من الصحابة الكرام والتابعين الأخيار، فحُفِظَت حفظاً تاماً، ونُقلتْ نقلاً دقيقاً، تحقيقاً لقول الله تعالى: {إنَّا نحنُ نَزَّلنا الذكرَ وإنّا لَهُ لَحافظون} .

    فمن حفظِ الذكر والكتابِ الكريم حِفظُها، فإنها مفسِّرة له ومُعرِّفة بأحكامه ومَراميه، قال سبحانه: {وأنزلنا إليك الذكر لتبيِّنَ للناس ما نُزِّل إليهم} .

    ولقد أقام الله سبحانه في القرون الثلاثة الأولى الخيِّرة: رجالاً تلقَّوْا هذا الدين بفَهم وبصيرة، وحُبِّ وولاء، وإعزاز وتكريم، فآثروه على أنفسهم وأهليهم وأولادهم وديارهم، وهاجروا في سبيل تحصيله وضبطه، وتلقيهِ وتبليغه، وهجروا الراحة والأوطان، وطافوا القرى والبلدان، لتحصيل الحديث النبوي الواحد وما يتصل به من آثار السلف الصالح، فبَلَغوا الغاية، وأتَوْا على النهاية، وكانوا بحق {خيرَ أُمَّة أُخرِجَتْ للناس} .

    نصيب المدينة من السنة أوفى نصيب وسَبْقُها في تدوين السنة:

    - وكان لكل بلد من البلدان التي فتحها الإسلامُ الحنيف واستقرَّ فيها المسلمون، نصيبٌ من العلم، يختلف عن الآخر قلةً وكثرة، بحسب كثرة الصحابة الواردين عليه والمقيمين فيه، فكان نصيبُ دارِ الهجرة النبوية: المدينةِ المنوَّرة أوفَى نصيب، لتوفر وجود الصحابة الكرام فيها، إذ كانت هي ومكةُ المكرَّمةُ بعدَ فتحها دارَ الإسلام الأولى ومَهْوَى أفئدة المؤمنين.

    فعاشت فيها السنة وجاشت، وانتشرت في آفاق الإسلام، وتوارثها الناس جيلاً عن جيل، وقبيلاً عن قبيل، وكثر في دار الهجرة الفقهاء والمحدثون كثرة بالغة، فقد نُقل عن مالك، أنه قال: عرضتُ كتابي هذا على سبعين فقيهاً من فقهاء المدينة. فلمَّا نشأ مالك، كانت السنة قد أخذت طريقها إلى التدوين.

    وكان تدوينها في المدينة المنورة قبلَ كل الأمصار، فألَّف فيها الإمام محمد بن شهاب الزهريُّ المدني، شيخ مالك، المتوفى سنة 124، وموسى بن عقبة المدني شيخ مالك أيضا المتوفي سنة 141، ومحمد بن إسحاق المُطَّلبي المدني، المتوفى سنة 151، وابن أبي ذئب محمد بن عبد الرحمن المدني، المتوفى سنة 158.

    وألَّف في زمن هؤلاء وبعدَهم غيرُهم من أئمة الحديث والسنَّة، في مكة المكرمة، والكوفة، والبصرة، وخراسان، ولكنَّ السَّبْقَ الأول في تدوين السنَّة كان لعلماء المدينة الأعلام، ويأتي تأليفُ الإمام مالكٍ الموطأ في عِداد الكتب التي دَوَّنَتْ السنَّة في المدينة وغيرها: (الكتاب العاشر) تدويناً، والأولَ تصنيفاً على الأبواب الفقهية، كما يُستفاد من الرسالة المستطرفة لبيان مشهور كتب السنَّة المشرَّفة (للعلامة السيد محمد بن جعفر الكتاني رحمه الله تعالى، ص 327، وص 4 من الطبعة الرابعة)، فجاء الإمام مالك وقد تعقَّد التأليف في السنَّة بعضَ الشيء، وبَلَغ مالكٌ في الإمامة للمسلمين مبلغاً رفيعاً، فألَّف كتابَه العظيم: الموطأ.

    تأليف مالك الموطأ:

    - وقد ذكر العلماء أن تأليف الإمام مالك الموطأ، إنما كان باقتراحٍ من الخليفة العباسي إبي جعفر المنصور - عبد الله بن محمد، ولد سنة 95، وتوفي سنة 158 رحمه الله تعالى -، في قَدْمَةٍ من قَدَماتِهِ إلى الحج، دعاه المنصور لزيارته فزاره، فأكرمه أبو جعفر وأجلسه بجانبه، وسأله أسئلة كثيرة، فأعجبه سَمْتُه وعلمه وعقله وسدادُ رأيه، وصِحةُ أجوبتهِ، فعَرَف له مقامَهُ في العلم والدين وإمامةِ المسلمين.

    فقد جاء أنَّ أبا جعفر قال لمالك: ضَعْ للناس كتاباً أَحمِلُهم عليه، فكَلَّمه مالك في ذلك - أي مانَعَه مالك في حملِ الناس على كتابة -، فقال ضَعْهُ فما أحدٌ اليومَ أعلمَ منك، فوضعالموطأ، فلم يَفرُغ منه حتى مات أبو جعفر.

    وفي روايةٍ: قال مالك: دخلت على أبي جعفر بالغداة حين وقعت الشمسُ بالأرض، وقد نزل عن سريره إلى بساطه، فقال لي: حقيقٌ أنت بكل خير، وحقيقٌ بكل إكرام، فلم يزل يسألني حتى أتاه المؤذِّن بالظهر، فقال لي: أنت أعلمُ الناس، فقلت: لا واللهِ يا أمير المؤمنين، قال: بلى، ولكنك تكتمُ ذلك، فما أحدٌ أعلمَ منك اليومَ بعدَ أمير المؤمنين.

    يا أبا عبد الله - كنية الإمام مالك -، ضَعْ للناس كُتُباً، وجنِّب فيها شدائدَ عبد الله بن عُمَر، ورُخَصَ ابن عباس، وشواذَّ ابن مسعود، واقصِد أوسط الأمور، وما اجتمع عليه الأمَّةُ والصحابة، ولئن بقيتُ لأكتبنَّ كتبك بماء الذهب، فأحمِلُ الناسَ عليها.

    فقلت له: يا أمير المؤمنين، لا تفعل، فإن الناس قد سبقت لهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورَوَوْا روايات، وأخذ كلُّ قوم بما سَبَقَ إليهم، وعملوا به، ودانوا له، من اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهِم، وإنَّ رَدَّهم عما اعتقدوه شديد، فدع الناسَ وما هم عليه، وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم، فقال: لَعَمْري لو طاوعتني على ذلك لأمرتُ به. انتهى (هذا وما قبله من ترتيب المدارك للقاضي عياض 2: 71 - 73) .

    وقال العلامة المؤرخ القاضي الإمام ابن خلدون، في أوائل مقدمته (ص 17 - 18، وانتصار الفقير السالك، للراعي الأندلسي ص 208)، وقد كان أبو جعفر لمكانٍ من العلم والدين قَبلَ الخلافةِ وبعدَها (أطال الإمام ابن جرير الطبري في ترجمة أبي جعفر المنصور أيَّ إطالة، في سنة تاريخ وفاته سنة 158، فترجم له وذكر أخباره ووصاياه ... في 54 صفحة، من 8: 54 - 108. قال العلامة الزرقاني في مقدمته لشرح الموطأ1: 9، وذكروا أنَّ المهديَّ والهادي سَمِعا الموطأ من مالك، وأنَّ الرشيدَ وبنيه الأمينَ والمأمونَ والمؤتَمن، أخذوا عن مالكٍ الموطأ أيضاً انتهى.

    فهكذا كانت نشأةُ الملوك في العلم في القرون الخَّيرة الأولى، ومنه تُدرَكُ نشأةُ جَدِّهم أبي جعفر المنصور في القرن الأفضل والأعلم، التي أشار إليها الإمام ابن خلدون)، وهو القائل لمالكٍ حين أشار عليه بتأليف الموطأ: يا أبا عبد الله، إنه لم يَبق على وجه الأرض أعلَمُ مني ومنك، وإني قد شغَلَتني الخلافة، فضَعْ أنت للناس كتاباً ينتفعون به، تجنَّبْ فيه رُخَص ابن عباس، وشدائدَ ابن عمر - وشوادَّ ابن مسعود -، ووطِّئْهُ للناس توطئة، قال مالك: فوالله لقد علَّمني التصنيف يومئذ". انتهى.

    فألف مالك الموطأعلى هذا المنهج، فالموطأ معناه: المسهَّل الميسَّر (يقال في اللغة: وَطُؤَ الموضعُ يَوْطُؤُ وَطاءةً ووُطوءةً: لانَ سَهُل، فهو وطيءٌ، ووطَّأ الموضعَ صَيَّرهُ وطيءاً، ووطَّأ الفرِاشَ: دَمَّثَهُ ودَثَّرهُ، والموطَّأ: المسهَّلُ الميسَّر. كما في القاموس والمعجم الوسيط) .

    وذكر العلماء أن الإمام ابنَ أبي ذئب مُعاصِرَ الإمام مالك وبلديَّه - قد صنَّف موطّأً أكبرَ من موطأ مالك، حتى قيل لمالك: ما الفائدة في تصنيفك؟ فقال: ما كان لله بقي (من الرسالة المستطرفة ص 9) .

    تأريخ تأليف الموطأ:

    - ذكر العلماء أن أبا جعفر المنصور حين حَجَّ بالناس أيام خلافته، طَلَب من الإمام مالك أن يُدوِّن كتاب الموطأ.

    وقد استقرأت حجات أبي جعفر بعد خلافته، في تاريخ الطبري، فتبيَّن أنها كانت خمسَ حجات، أولُها في سنةِ 140 ثم سنة 144، ثم سنةِ 147، ثم سنةِ 152، ثم سنةِ 158، التي توفي فيها بمكة حاجاً محرماً.

    ولم يتعرض الإمام ابن جرير عند ذكره هذه الحجات لأبي جعفر، للحديث عن تدوين كتاب الموطأ.

    نعم تعرَّض لذلك ابن جرير في كتابه ذيل المذيَّل المطبوع بآخر تاريخه 11: 659، فذكر القصة عن المهدي أولاً، ثم ذكرها عن أبي جعفر ثانياً برواية الواقدي.

    وتابعه على ذكرِ ذلك كذلك: بتقديم رواية أن المهدي هو المُقترحُ لتأليف الموطأ، على رواية أن المنصور هو المقترح تأليفه: الإمامُ ابن عبد البر في الانتقاء ص 40، فساق الروايتين من طريق ابن جرير، الأولى بسنده إلى إبراهيم بن حماد الزهري المدني، عن مالك. والثانية بسنده إلى محمد بن عمر الواقدي، عن مالك.

    وعلَّق عليه شيخنا العلامة الكوثري رحمه الله تعالى، ما يلي:

    وصنيعُ ابن جرير في ذيل المذيَّل كما هنا، يُؤذِنُ بترجيحِهِ الروايةَ الأولى، وتحاميهِ عن رواية الواقدي - أن القصة مع المنصور -، لكن ابن عساكر خرَّج في كشف المغطَّا من فضل الموطَّا بطرقٍ عن مالك ما يُؤيدُ روايةَ الواقدي، وإن لم تخلُ واحدُ منها عن مقال. وفيه - أي في كشف المغطى - سماعٌ الرشيد الموطأ" عن مالك لمَّا حَجَّ مع أبي يوسف.

    والذي يُستخلص من مختلِفِ الروايات في ذلك، أنَّ المنصور تحادث مع مالك في تدوين عِلم أهل المدينة عامَ ثمانية وأربعين ومئة محادثةً إجمالية، ولمَّا حَجَّ قَبْلَ حجتِهِ الأخيرة، أوصاه أن يتجنب فيما يدونه شدائدَ ابن عُمَر، ورُخَصَ ابن عباس، وشَوَاذَّ ابن مسعود رضي الله عنهم.

    وأما إخراجهُ للناس ففي سنة تسع وخمسين ومئة في عهد المهدي، فلا تثبُتُ روايتُهُ ممَّن تقدَّم على ذلك". انتهى.

    وقال شيخنا الكوثري أيضاً رحمه الله تعالى، في مقدمته لجزء أحاديث الموطأ واتفاق الرواه عن مالك واختلافُهم فيها للدار قطني، ما يلي: "ألَّف عبد العزيز بن عبد لله بن أبي سلمة الماجِشُون كتاباً فيما اجتمع عليه أهل المدينة، ولما اطلع عليه مالك بن أنس رضي الله عنه، استحسن صنيعَه، إلى أنه أخَذ عليه إغفاله ذكر الأخبار والآثار في الأبواب، حتى قرر أن يقوم هو بنفسه بجمع كتابٍ تحتوي أبوابُهُ صِحاحَ الأخبار وعملَ أهل المدينة، في أبواب الفقه، فيدأ يمهُدُ السبيل لذلك.

    وكان المنصور العباسي بلغه شيء مما عَزَم عليه مالك، فاجتمع به في حجته - قَبْلَ - الأخيرة في التحقيق، وأوصاه أن يدون علمَ أهل المدينة، مجتنباً رُخَصَ ابن عباس، وشدائدَ ابن عمر، وشواذَّ ابن مسعود رضي الله عنهم، حيث كان جماعة من أصحاب هؤلاء ينشرون علومهم في المدينة المنورة، منهم الفقهاء العَشَرة في أيام عمر بن عبد العزيز، ولهم أصحابٌ وأصحابُ أصحاب أدركهم مالك.

    فتقوَّتْ عزيمة مالك حتى تجرَّد لجمع الصفوة من الأحاديث والآثار المروية عند أهل المدينة، ولجمع العملِ المتوارثِ بينهم، مقتصراً في الرواية على شيوخ أهل المدينة سوى ستة، وهم: أبو الزبير من مكة، وإبراهيم بن أبي عَبْلَةَ من الشام، وعبد الكريم بن مالك من الجزيرة، وعطاء بن عبد الله من خراسان، وحُمَيدٌ الطويل وأيوبُ السِّختياني من البصرة، إلى أن أتم عملَه في عهد المهدي العباسي، كما بينتُ ذلك فيما علقتُ على الانتقاء لابن عبد البر". انتهى.

    وهذا الذي رجحه شيخنا من أن المنصور تحدث مع مالك في سنة 148، بشأن تدوين علم أهل المدينة، وأوصاه قبل حجته الأخيرة أن يتجنب في التأليف شدائد ابن عمر.. غير ظاهر فإن حجته الأخيرة التي توفي فيها كانت سنة 158، والحجة التي قبلها كانت سنة 152 والتي قبلها سنة 147، والتي قبلها سنة 144، والتي قبلها سنة 140، كما أسلفته عن تاريخ ابن جرير.

    ولم يحج المنصور في سنة 148، وإنما حج بالناس ابنُهُ جعفر كما في غير كتاب فتكون سنةُ 148 سَبْقَ قلم عن 147.

    ثم قوله: إن المنصور تحدث مع مالك في تلك السنة، وأوصاه بتجنبِ ما أوصاه بتجنبه في الحجة التي قبل الأخيرة، وهي - كما عند ابن جرير - سنة 152، فيه بُعدٌ أيضاً فإن المتبادر أن يقع ذلك من المنصور في أول حجة له بعد توليه الخلافة سنة 140، أو في ثاني حجة سنة 144، ويمكن أن يكون ذلك في ثالث حجة سنة 147، أما في رابع حجة سنة 152، ففيه بُعدٌ شديد لأنه يلزم أن يكون مالك ألَّف الموطأ بأقلَّ من سبع سنوات، لأنه قد سمعه منه المهدي سنة 159، على ما ذكره شيخنا، في حين أن المهديَّ إنما حجَّ بالناس سنة 160، وحجَّ الهادي سنة 161، كما عند ابن جرير.

    والمذكور أن مالكاً ألَّف الموطأ في سنين كثيرة، ذُكر أنها أربعون، وذُكر أنها دون ذلك، وعلى كل حال يستبعد أن تكون مدة التأليف نحو سبع سنوات، لما عُرف من إتقان مالك وضبطه وانتقائه، وقلة تحديثه بالأحاديث في مجالسه، فلم يكن يحدث في مجلسه إلا ببضعة أحاديث معدودة فتأليفه الموطأ بعد سنة 140 جزماً أو بعد سنة 147، وفراغه منه بعد سنة 158 جزماً، والله تعالى أعلم.

    وهكذا تم تأليف هذا الكتاب الموطأ فقد جمع فيه الإمام مالك - كما سبق نقلُ قوله - حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأقوال الصحابة، وأقوال التابعين، ورأياً هو إجماعُ أهل المدينة، لم يخرج عنها، فجمع الحديثَ بأوسع معانيه - وما يتصلُ به من آثار الصدر الأول، لأنها كانت المرجع الأكبَر في الأحكام العملية.

    الموطأ أوَّلُ ما صُنِّف في الصحيح:

    - قال العلامة الزرقاني في مقدمته لشرح الموطأ (12: 1): "وأطلق جماعة على الموطأ اسم الصحيح، واعترضوا قول ابن الصلاح: أوَّلُ من صنَّف فيه البخاري، وإن عبر بقوله: الصحيح المجرَّد، للاحتراز عن الموطأ، فلم يُجرد فيه الصحيح بل أدخل المرسل والمنقطع والبلاغات، فقد قال الحافظ مُغُلْطاي: لا فرق بين الموطأ والبخاري في ذلك، لوجوده أيضاً في البخاري من التعاليق ونحوها.

    ولكن فرَّق الحافظ ابن حجر: بأن ما في الموطأ كذلك مسموعٌ لمالك غالباً، قال: وما في البخاري قد حَذَف إسنادَه عمداً، لأغراضٍ قررتها في التغليق، تظهر أن ما في البخاري من ذلك لا يخرجه عن كونه جّرَّد فيه الصحيح، بخلاف الموطأ بل قال الحافظ مغلطاي: أوَّل من صَنَّف الصحيح مالك.

    وقولُ الحافظ: هو صحيح عنده وعند من يقلده على ما اقتضاه نظرُه من الاحتجاج بالمرسل والمنقطع وغيرهما، لا على الشرط الذي استقر عليه العمل في حد الصحة: تعقَّبَهُ السيوطي بأن ما فيه من المراسيل - مع كونها حجةً عنده بلا شرط، وعند من وافقه من الأئمة - هي حجةٌ عندنا أيضاً لأن المرسل حجة عندنا إذا اعتضد وما من مرسل في الموطأ إلا وله عاضد أو عواضد فالصوابُ إطلاقُ أن الموطأ صحيح لا يُستثنى منه شيء.

    وقد صنف ابن عبد البر كتاباً في وصل ما في الموطأ من المرسل والمنقطع والمعضل، وقال: وجميعُ ما فيه من قوله: بلغني، ومن قوله: عن الثقة عنده، مما لم يُسنده أحدٌ وستون حديثاً كلُّها مسندة من غير طريق مالك، إلا أربعةً لا تعرف: أحدها: إني لا أَنسى ولكن أُنَسَّى لأسُنَّ. والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أُرِيَ أعمارَ الناس قبلهُ أو ما شاء الله من ذلك، فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا مثل الذي بلغه غيرهم في طول العمر فأعطاه الله ليلة القدر خيراً من ألف شهر والثالث قول معاذ: آخرُ ما أوصاني به رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقد وضعتُ رجلي في الغَرز - أن قال: حَسِّن خُلُقَك إلى الناس. والرابع: إذا نشأت بَحريَّةً ثم تشاءَمَتْ فتلك عين غَدِيقة".

    وتعقَّب الحافظ ابن حجر أيضاً الشيخُ صالحٌ الفُلاَّنيُّ فقال (كما في الرسالة المستطرفة ص 5 - 6): "وفيما قاله الحافظ ابن حجر من الفرق بين بلاغات الموطأ ومعلَّقات البخاري: نظر، فلو أمعن الحافظُ النظر في الموطأ كما أمعن النظر في البخاري لعلم أنه لا فرق بينهما، وما ذكره من أن مالكاً سمعها كذلك، غيرُ مسلَّم، لأنه يذكر بلاغاً في رواية يحيى مثلاً أو مرسلاً، فيرويه غيرُهُ عن مالك موصولاً مسنداً.

    وما ذكَرَ من كون مراسيل الموطأ حجةً عند مالك ومن تبِعَه دون غيرهم: مردودٌ بأنها حجة عند الشافعي وأهلِ الحديث، لاعتضادها كلِّها بمسندٍ ذكره ابن عبد البر والسيوطي وغيرُهما.

    وما ذكره العراقي أن من بلاغاته ما لا يعرف: مردودٌ بأن ابن عبد البر ذكر أن جميعَ بلاغاته ومراسليه ومنقطعاته كلَّها موصولةٌ بطرق صحاح إلا أربعة، فقد وَصَل ابن الصلاح الأربعة بتأليف مستقل وهو عندي وعليه خطه، فظهر بهذا أنه لا فرق بين الموطأ والبخاري، وصَحَّ أن مالكاً أوَّل من صَنَّف في الصحيح، كما ذكره ابن العربي وغيرُه".

    مكانة الموطأ وصعوبة الجمع بين الفقه والحديث:

    - تأليفُ الحديث وجمعه في كتاب على الأبواب الفقهية، لا ينهض به إلا فقيه يدري معاني الأحاديث، ويفقه مداركها ومقاصدها، ويميز بين لفظ ولفظ فيها، وهذا النمط من العلماء المحدِّثين الفقهاء يُعَدُّ نَزْراً يسيراً بالنظر إلى كثرة المحدثين الرواة والحفاظ الأثبات، إذ الحفظُ شيء والفقه شيء آخرُ أميَزُ منه وأشرف، وأهم وأنفع، فإن الفقه دِقَّةُ الفهم للنصوص من الكتاب والسنَّة - عبارةً أو إشارةً، صراحةً أو كنايةً - وتنزيلها منازلها في مراتب الأحكام، لا وَكسَ ولا شطط، ولا تهوُّر ولاجمود.

    وهذه الأوصاف عزيزةُ الوجود في العلماء قديماً فضلاً عن شدة عزتها في الخلف المتأخر، ويخطئُ خطأ مكعباً من يظن أويزعم أن مجرد حفظ الحديث أو اقتناء كتبه والوقوف عليه، يجعل من فاعل ذلك فقيهاً عارفاً بالأحكام الشرعية ودقيق الاستنباط. قال محمد بن يزيد المستملي: سألت أحمد بن حنبل عن - شيخه - عبد الرزاق - صاحب المصنف المطبوع في أحد عشر مجلداً -: أكان له فقه؟ فقال: ما أقلَّ الفقه في أصحاب الحديث (كما في ترجمة (محمد بن يزيد المستملي) في طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى 329: 1) .

    وجاء في تقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (ص 293)، في ترجمة (أحمد بن حنبل)، وفي مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي (ص 63)، وفي تاريخ الإسلام للذهبي - مخطوط - من طريق ابن أبي حاتم، في ترجمة (أحمد بن حنبل) أيضاً، ما يلي:

    قال إسحاق بن راهويه: كنتُ أجالس بالعراق أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وأصحابَنا، فكنا نتذاكرُ الحديث من طريق وطريقين وثلاثة، فيقول يحيى بن معين من بينهم: وطريق كذا، فأقول: أليس قد صح هذا بأجماع منا؟ فيقولون: نعم، فأقول: ما مرادُهُ؟ ما تفسيرُهُ؟ ما فقهه؟ فيَبقون - أي يسكتون مُفحَمين - كلُّهم! إلا أحمد بن حنبل. انتهى.

    كبار الحفاظ الأقدمين وحدود معرفتهم بالفقه:

    - قال عبد الفتاح: هذا النص يفيدنا بجلاء أن المعرفة التامة بعلم الحديث - ولو من أولئك الأئمة الكبار أركان علم الحديث في أزهى عصور العلم - لا تجعل المحدث الحافظ (فقيهاً مجتهداً) إذ لو كان الاشتغال بالحديث يجعل (الحافظَ): (فقيهاً مجتهداً)، لكان الحفاظ الذين لا يُحصى عددهم، والذين بَلَغَ حفظ كل واحد منهم للمتون والأسانيد ما لا يحفظه أهل مصر من الأمصار اليوم: أولى بالاجتهاد ولكنهم صانهم الله تعالى فما زعموه لأنفسهم.

    بل إن سيد الحفاظ الإمام (يحيى بن سعيد القطان) البصري، إمام المحدثين وشيخ الجرح والتعديل: كان لا يجتهد في استنباط الأحكام، بل يأخذ بقول الإمام أبي حنيفة، كما في ترجمة (وكيع بن الجراح) في تذكرة الحفاظ للحافظ الذهبي (307: 1). وفي تهذيب التهذيب (450: 10) في ترجمة (أبي حنيفة النعمان بن ثابت): قال أحمد بن سعيد القاضي: سمعتُ يحيى بن معين - تلميذ يحيى القِطان - يقول: سمعتُ يحيى بن سعيد القطان يقول: لا نَكذِبُ اللَّهَ، ما سمعنا رأياً أحسن من رأي أبي حنيفة، وقد أخذنا بأكثر أقواله. انتهى.

    وكان إمام أهل الحفظ في عصره وكيع بن الجراح الكوفي، محدثُ العراق، لا يجتهدُ أيضاً، ويفتي برأي الإمام أبي حنيفة الكوفي، ففي تذكرة الحفاظ للحافظ الذهبي (307: 1)، وتهذيب التهذيب (126: 11 - 127): قال حسين بن حبان، عن ابن معين - تلميذ وكيع -: ما رأيت أفضل من وكيع، كان يستقبل القبلة، ويحفظ حديثه، ويقوم الليل، ويَسرُدُ الصوم، ويُفتي بقول أبي حنيفة".

    وكذلك هؤلاء الحفاظ الأئمة الأجلة، الذين عناهم الإمام إسحاق بن راهويه في كلمته المذكورة، ومنهم يحيى بن معين، كانوا لا يجتهدون، وقد أخبر عنهم أنهم كانوا يفيضون في ذكر طرق الحديث الواحد إفاضةً زائدة، فيقول لهم: ما مُرادُ الحديث؟ ما تفسيره؟ ما فقهه؟ فيبقون كلُّهم إلا أحمد بن حنبل.

    وهذا عنوان دينهم وأمانتهم وحصافتهم وورعهم، إذ وقفوا عند ما يُحسنون، ولم يخوضوا فيما لا يُحسنون، وذلك لصعوبة الفقه الذي يعتمد على الدراية وعُمق الفهم للنصوص من الكتاب والسنَّة والآثار، وعلى معرفة التوفيق بينها، وعلى معرفة الناسخ والمنسوخ، وما أُجمعَ عليه، وما اختلف فيه، وعلى معرفة الجرح والتعديل، وقُدرةِ الترجيح بين الأدلة، وعلى معرفة لغة العرب، ألفاظاً وبلاغةً ونحواً ومجازاً وحقيقةً ...

    ومن أجلِ هذا قال الإمام أحمد، لمَّا سأله محمد بن يزيد المستملي - كما تقدم -، عن المحدث الحافظ الكبير (عبد الرزاق بن همام الصنعاني) صاحب التصانيف التي منها المصنف، وشيخ الإمام أحمد نفسِه، وشيخ إسحاق بن راهويه، ويحيى بن معين، ومحمد بن يحيى الذهلي، أركان علم الحديث وروايته في ذلك العصر، وشيخ خلق سواهم، المتوفى سنة 211 عن 85 سنة: أكان له فقه؟ فقال الإمام أحمد: ما أقلَّ الفقه في أصحاب الحديث! .

    وروى الإمام البيهقي في مناقب الشافعي (152: 2): "عن الربيع المُرادي قال: سمعت الشافعي يقول لأبي علي بن مِقلاص - عبد العزيز بن عمران، المتوفى سنة 234، الإمام الفقيه -: تريد تحفظ الحديث وتكونُ فقيهاً؟ هيهات! ما أبعَدك من ذلك - ولم يكن هذا لبلادة فيه حاشاه -.

    قلت - القائل البيهقي -: وإنما أراد به حفظه على رَسم أهل الحديث، من حفظ الأبواب والمذاكرة بها، وذلك علم كثير إذا اشتغل به، فربما لم يتفرغ إلى الفقه، فأما الأحاديث التي يحتاج إليها في الفقه، فلا بد من حفظها معه، فعلى الكتاب والسنة بناء أصول الفقه، وبالله التوفيق.

    وقد أخبرنا أبو عبد الله الحافظ - هو الحاكم النيسابوري - قال: أخبرني أبو عبد الله محمد بن إبراهيم المؤذن، قال: سمعت عبد الله بن محمد بن الحسن يقول: سمعت إبراهيم بن محمد الصيدلاني يقول: سمعت إسحاق بن إبراهيم الحنظلي - هو إسحاق بن راهويه - يقول: ذاكرت الشافعي، فقال: لو كنتُ أحفظ كما تحفظ لغلبت أهل الدنيا.

    وهذا لأن إسحاق الحنظلي كان يحفظه على رسم أهل الحديث، ويَسرد أبوابه سرداً وكان لا يهتدي إلى ما كان يهتدي إليه الشافعي من الاستنباط والفقه، وكان الشافعي يحفظُ من الحديث ما كان يحتاج إليه، وكان لا يستنكف من الرجوع إلى أهله فيما اشتَبَه عليه، وذلك لشدة اتقائهِ لله عز وجل، وخشيته منه، واحتياطه لدينه". انتهى.

    قال عبد الفتاح: وفي كلٍ من هذين النصين الغاليين فوائد عظيمة جداً، ففيه أن الجمع بين الفقه والحديث على رسم أهل الحديث متعذر - إلا لمن أكرمه الله بذلك - إذ قال الشافعي في هذا: هيهات!.

    وفيه بيانُ الإمام البيهقي لهذا المعنى بجلاء ووضوح وهو إمام محدث وفقيه، فلكلامه مَقامٌ رفيع في هذا الباب.

    وفيه دَعم الإمام البيهقي رحمه الله تعالى هذا الذي قاله في تفسير كلمة الشافعي لابن مقلاص، بكلمة الشافعي لإسحاق بن راهويه رضي الله عنهما، بشكل يَقطع لسان كل مشاغب على الفقهاء من رواة الحديث، بدعوى أنه أهل للاستنباط والفقه والاجتهاد في الأحكام.

    فهذا يحيى بن معين إمامُ الحفظ للحديث، وإمامُ الجرح والتعديل، يقفُ ساكتاُ في مسألة جواز تغسيل المرأة الحائض للمرأة الميتة، حتى يأتيَ الإمام أحمد بن حنبل فيُفتيَهم بجواز ذلك، ويذكُرَ لهم دليلَه مما هو محفوظ لديهم كل الحفظ من عِدَّة طرق. كما سيأتي نقلُه قريباً.

    وهذا الإمام الشافعي يقول لإسحاق بن راهويه: لو كنتُ أحفظ ما تحفظ لغلبتُ أهل الدنيا. وفيه بيانً تميُّز الشافعي بالفقه، وتميُّزِ ابن راهويه بالحفظ، ولكنه لم يُمكِّي ابنَ راهويه أن يبلغ مبلغ الشافعي بالفقه، مع إقرار الشافعي له بالتفوق العظيم الباهر في الحفظ، لأنه كما قال البيهقي: كان يَسردُ الحديثَ سرداً، مع أنه قد ذكره بعضُهم في عدادِ من كان له مذهب فقهي.

    فسَرْد الحديث وحفظه وروايتُه: غيرُ فهمه واستنباط معنايه على وجهها، إذْ خلق الله تعالى لكل علم أهلاً ينهضون به ويتميزون على سواهم.

    الإمامة في علم تجتمع معها العامية في علم آخر:

    - ولا غضاضة في هذا، فالعلم رزقٌ وعطاء من الله تعالى، وهو كثير وكبير وثقيل، ولا يَملك كلُّ إمام ناصيةَ كل علم أراد معرفَته، فقد قال الإمام أبو حامد الغزالي، وتَبِعَهُ الإمام ابن قدامة الحنبلي، في بعض مباحث الإجماع، في كتابيهما: المستصفَى وروضة الناظر، ما معناه: كم من عالم إمامٌ في علم، عاميٌّ في علم آخر.

    قال الإمام أبو حامد الغزالي في آخر رسالته: قانون التأويل: واعلم أنَّ بضاعتي في علم الحديث مُزجاة. انتهى.

    ومثلُ هذه الكلمة المملوءة بالتواضع، لا يقولها هذا الإمامُ العظيم والمحجاجُ الفريد حُجَّةُ الإسلام، لولا ما كان عليه من السلوك السَّنِي والخُلُق السَّنِي والخُلُق السُّنِّي: أنتم أعلم بأمر دنياكم.

    فهل رأيت في هؤلاء الأدعياء المدَّعين للاجتهاد، من يُنصف الواقع والحق، فيقولُ عن نفسِهِ فيما لا يُحسنه مثلَ هذا؟!

    خلق الله للعلوم رجالاً * ورجالاً لنَفْشَةٍ ودَعَاوي!

    وقال الحافظ الإمام أبو عًمَر بن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (160: 2)، تعقيباً على قول الإمام أحمد: "من أين يَعرفُ يحيى بنُ معين الشافعي؟! هو لا يعرف الشافعي ولا يعرف ما يقول الشافعي قال أبو عمر: صدق أحمد بن حنبل رحمه الله، إنَّ ابن معين لا يَعرفُ الشافعي. وقد حُكي عن ابن معين أنه سُئل عن مسألةٍ من التيمم، فلم يعرفها!

    حدثنا عبدُ الوارث بن سفيان، قال: حدثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا ابن زهير، قال: سُئل يحيى بن معين

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1