Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

أخلاقيات العيش المشترك
أخلاقيات العيش المشترك
أخلاقيات العيش المشترك
Ebook322 pages2 hours

أخلاقيات العيش المشترك

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

في هذا الكتاب يدعو المؤلف المفكِّرين والمبدعين والمثقَّفين إلى تجاوز المقاربات الوجدانيّة والانفعاليّة المتسرّعة نحو تعقّل أساسيّ لحياتنا وطرق تفكيرنا ونمط علاقاتنا المختلفة، وبالتالي نحو ترسيخ روافد العيش المشترك بواسطة الاحترام المتبادل والكرامة التأسيسيّة للكيان الإنساني، وخاصة أن الكرامة تتطلّب احترام الفوارق والاختلافات بين الأفراد والثقافات مهما كانت طبيعتها. كما يقترح المؤلف مفهوم التآنس ليعبّر عن عمق العيش معاً في كنف الكرامة والسلم والمحبّة، فالعيش معاً يمثّل ضرورة بيولوجيّة لا محالة، لكنّه إذا ما تجاوز حالة العنف وارتبط بالسلم أصبح تأنساً كما يقول ابن خلدون أو مؤانسة حسب أبي حيّان التوحيدي. ويدافع الكتاب بعمق في عالمنا الحالي حيث يزداد التوتّر ويهمن مشهد العنف والمخاطر والأوبئة عن قيم التّعقّل والعيش المشترك في جميع مجالات الحياة الاجتماعيّة والثقافيّة والاقتصاديّة والسياسيّة.

Languageالعربية
Publishertevoi
Release dateSep 4, 2022
ISBN9789938230468
أخلاقيات العيش المشترك

Related to أخلاقيات العيش المشترك

Related ebooks

Reviews for أخلاقيات العيش المشترك

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    أخلاقيات العيش المشترك - فتحي التريكي

    أخلاقيات

    العيش المشترك

    تأليف

    أ. د. فتحي التريكي

    تعريب

    د. زهير المدنيني

    المراجعة اللغوية

    د. محمّد بن عبد الجليل

    تأليف

    أ. د. فتحي التريكي

    مدير النشر عماد العزّالي

    التصميم ناصر بن ناصر

    الترقيم الدولي للكتاب 978-9938-23-046-8

    جميع الحقوق محفوظة

    الطبعة الأولى

    1442 هـ / 2021 م

    العنوان: 5 شارع شطرانة 2073 برج الوزير أريانة - الجمهورية التونسية

    الهاتف : 58563568 216

    الموقع الإلكتروني : www.lecteurtunisien.com

    البـريد الإلكتروني : medi.publishers@gnet.tn

    هذا الكتاب ترجمة لـ:

    Fathi Triki

    Ethique de la dignité, Révolution et vivre-ensemble

    Ed. Arabesque, Tunis 2018

    ننشر هذا الكتاب تزامناً مع انطلاق أعمال كرسي الإيسيسكو

    بالقصر السعيد- قصر الثقافة والآداب والفنون بباردو- تونس

    تحذير

    المؤلّف هو المسؤول وحده عن اختيار محتويات هذا الكتاب وعرضه وعن الآراء الواردة فيه والتي لا تعبّر بالضرورة عن آراء منظّمة الأيسيسكو ولا تلزمها.

    « L’auteur est responsable du choix et de la présentation des contenus de cette publication et des opinions qui y sont exprimées, lesquelles ne sont pas nécessairement conformes à celles de L’ICESCO et n'engagent pas l'Organisation »;

    تقديم معالي الدكتور سالم بن محمد المالك

    المدير العام لمنظمة العالم الإسلامي للتربية

    والعلوم والثقافة

    -إيسيسكو-

    يطالعنا الأستاذ المفكر فتحي التريكي بأثر منهجي سيمثل طالع البحوث والإصدارات ذات الصلة بالمدونة العلمية لكرسي الإيسيسكو للتفكير في العيش المشترك بالعالم الإسلامي. هذا المولود الجديد الذي اخترنا له مقرّاً ومنطلقاً «القصر السعيد، قصر الثقافة والآداب والفنون بباردو»، وهو معلم تاريخي أصيل بتونس يحتوي على مدارس فكرية وجامعية متعدِّدة منها معهد تونس للفلسفة» و«المدرسة التونسية للتاريخ والأنتروبولوجيا» و«المجلس الوطني للثقافة».

    قناعتي أنّ هذا الكتاب هو أفضل مدخل للكرسي الذي أحدثناه فهو يدعو إلى التّعمّق المتعقّل في مفاهيم أساسيّة للتعرّف على إشكاليات عصرنا، والمؤلِّف يدعو في هذا الكتاب المفكِّرين والمبدعين والمثقَّفين إلى تجاوز المقاربات الوجدانيّة والانفعاليّة المتسرّعة نحو تعقّل أساسيّ لحياتنا وطرق تفكيرنا ونمط علاقاتنا المختلفة، وبالتالي نحو ترسيخ روافد العيش المشترك بواسطة الاحترام المتبادل والكرامة التأسيسيّة للكيان الإنساني، والمعلوم أنّ الكرامة تتطلّب احترام الفوارق والاختلافات بين الأفراد والثقافات مهما كانت طبيعتها. جاء ذلك واضحاً في القرآن الكريم ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [سورة الإسراء، الآية 70]. والحقيقة أنّ هذا التميّز يأتي ضمن الوحدة التي أكّدها الإسلام بين جميع الكائنـات في العالم.

    ونحن نعمل في الإيسيسكو على أن تكون الكرامة هي أساس العلاقات بين البشر والقاعدة الأولى للتثاقف، ويجب أن تكون العلاقات بين الثقافات حواريّة ولا صداميّة، بل نذهب إلى أبعد من ذلك ونقرّ بأنّ الإسلام ديناً وثقافةً وحضارةً يرفض فكرة التصادم والتمايز، فليس هناك من النّاس في المطلق من يستحقّ الكرامة ومن لا يستحقّها، والتقوى هي أعلى درجة في الكرامة. فالتثاقف الذي يدافع عنه هذا الكتاب يفترض منطقاً حوارياً حتى يتمَّ استبدال النموذج الحالي الذي يجعل -في إطار عولمة الأفكار- السوق والحقوق والعلوم والتكنولوجيا، كلـها خاضعة إلى منطق القوة والهيمنة بمعقولية جديدة، معقوليّة الكرامة التي لا تخضع إلاّ إلى مصلحة البشر العامة، فكلما توفّرت شروط التثاقف ونعني الاحترام المتبادل بين الأنا والغير، كلّما أصبح التعايش بالحوار متسالماً.

    فالعيش المشترك قيمة إنسانيّة لا غبار عليها ارتبطت بالوجود الإنساني حلّله الكثير من الفلاسفة والمفكّرين في اليونان وفي الحضارة الإسلاميّة وكلّهم تقريباً بيّنوا لنا أنّ كنه الوجود الإنساني بالنسبة إلى الحيوان العاقل يكمن في النمط الأخلاقي للعلاقات الاجتماعيّة، فالعيش معاً يمثّل ضرورة بيولوجيّة لا محالة ولكنّه إذا ما تجاوز حالة العنف وارتبط بالسلم أصبح تأنسا كما يقول ابن خلدون أو مؤانسة حسب أبي حيّان التوحيدي، والمؤلّف يقترح مفهوم التآنس ليعبّر عن عمق العيش معاً في كنف الكرامة والسلم والمحبّة.

    هذا الكتاب يدافع بعمق في عالمنا الحالي حيث يزداد التوتّر ويهمن مشهد العنف والمخاطر والأوبئة عن قيم التّعقّل والعيش المشترك في جميع مجالات الحياة الاجتماعيّة والثقافيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، لذلك قام المؤلّف بدراسة جملة من التّصوّرات والقيم والمفاهيم المتّصلة بالعيش المشترك مثل جدليّة الذّات والغير، وعلاقة الفرد والجماعة، ومثل الرّاهن والممكن، والمحلّي والكوني علاوة على المفاهيم التي تناولها المؤلّف في أعمال أخرى كالتعدّد والانفتاح والتنوّع والاختلاف، والضّيافة، والتّزاور، والتَّوادد، والمحبَّة، والتآنس، والألفة، والحياة في سعادة، والسَّخاء، والقبول بالغير، والسّلام، والإحسان، والكرم، والتّسامح، والتّضامن، والتّعاون... وقناعتي أنّ هذه المفاهيم والقيم هي التي ستكون حاضرة بكثافة في أشغال كرسي الإيسيسكو للعيش المشترك.

    المقدمة

    هل حقّا «الشعب يريد»؟ وماذا يريد؟ وكيف يريد؟ لابدّ في قناعتي من استئناف النظر في هذه المسائل المعقّدة لنفهم مقاصد التحوّلات الكبرى التي حدثت في العالم مع بدء انقراض فترة العولمة. إذ طفحت على السطح من جديد مفاهيم الثورة والشعب والإرادة كما برزت مفاهيم جديدة كالشعبويّة وما بعد الحقيقة والانقلابية وغيرها.

    لا محالة قد نلاحظ أنّ لفكرة «الشعب» صيت سيئ في بلدان الرأسماليّة والليبرالية المتوحّشة باعتبار أنّها حوّلت سكّانها إلى مستهلكين اقتصادا وسياسة وثقافة. ومع ذلك، كلّ القوى السياسية المتصارعة على الحكم في كامل الأوطان تقريبا تتكلّم باسم الشعب دون أن تحدّد معناه الدقيق. وفي تونس عندما يخرج إلى الشارع عدد هام من الناس غاضبا او متمرّدا أو مناضلا أو مساندا «يركب» حزب أو سلطة أو تيّار على الأحداث ليتكلّم باسم الشعب، وقد ينصّب نفسه وصيّا عليه وفي أفضل الأحوال ممثّلا عنه دون آليات يستند إليها مثل الانتخابات أو الاستفتاءات وغيرها. وبعد انتفاضة 25 جويلية بتونس قام رئيس الجمهوريّة المنتخب بأغلبية مريحة باستغلالها منهجيّا في خطاباته ودعائيّته وقراراته لدرجة أنّه يقدّم نفسه ممثّلا لإرادة الشعب ومدافعا عن سيادته واستقلاليّته.

    وبما أنّ كلمة شعب غامضة المعنى تفيد الشيء وضدّه فإنّ الخطاب الشعبي سيظهر مسرحيّة الغموض مما يجبرك على التأويل والتظنّن والتفهّم والتعارض، وفي كلّ الأحوال يصيب الالتباس الفكر والمواقف فينتج عن ذلك مجموع من المغالطات بل وحتّى التلاعب السياسي. ألم تؤدّي كلمة شعب إلى أقوى الدكتاتوريات التي شاهدها العالم المعاصر كالنازيّة والفاشيّة والبلشفية وغيرها؟

    في واقع الأمر هذا الغموض ملازم لكلمة شعب في أكثر دلالاتها انتقالا من لغة إلى أخرى. فمن الغرابة بمكان أن يحمل معنى كلمة شعب في اللسان العربي وهي من الأضداد التشتت والفرقة من ناحية والتجمّع والتعايش من جهة أخرى، كما يفيد الإفساد والإصلاح والنزوع والاشتياق والابتعاد والانزياح.

    تقول الآية 13 من سورة الحجرات ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾، لتفيد لا محالة التعارف والتناصر والتسالم بتجنّب التفاخر والعنف، ولكن ما يهمّنا هو أنّ كلمة الشعوب هنا أفادت تجمّع القبائل أي الجمّاع والجمهور في الأمصار لتشير فيما بعد إلى مجموعة من الأفراد التي تعيش في بلد واحد ولها تقاليد تعرف بها وتكوّن مجتمعا واحدا. أمّا اللسان اليوناني القديم فهو يميز الديمو démo عن العرق ، ليجعل من الشعب هو جمع من المواطنين لهم السلطة على مجتمعهم وعلى بقيّة السكّان من فقراء وأطفال ونساء وعبيد والعدد الكبير، هذا الأخير polloi هو تهديد لنظام الديمو السياسي. أمّا اللاتينيّة فهي تتجه أيضا نحو إعطاء كلمة بوبيلوس populus في العصر الإمبراطوري مفهوم العوام.

    ولابدّ أن نلاحظ هنا أنّه، من خلال همّها في توضيح المفردات والمفاهيم والتصوّرات، تُعطي الفلسفة ،معاني مرتبطة بالعمل السياسي إما من أجل الذهاب بمعنى كلمة الشعب إلى العدد كبير، مع أفلاطون مثلا، وهو عدد غير قادر على حكم نفسه بنفسه وإمّا لتمييز الشكل السياسي وتعارضه مع الكتلة التي لا شكل لها مع شيشرون.

    فغموض مصطلح الشعب يعبّر، في واقع الأمر، عن غموض السياسة التي هي أيضا تضمّ الأضداد بما أنّها صراعات ووحدة، تكتّلات واستبعادات، وهي أيضا تبرز هيكلا متميّزا لكبار القوم ضدّ الشعب أحيانا وتضع الشعب ضدّ الكبار أحيانا أخرى. وقد بيّن ذلك ماكيفللي بإسهاب. فلابدّ من الانتباه إلى أنّ التضاد هنا هو أساس السياسة نفسها وانّ مفهوم الشعب مهما كانت درجة تجريده وتعاليه عن الواقع يضمّ هو أيضا صراعات عديدة من بينها تطاحن الطبقات. نفهم لماذا حاولت الفلسفة السياسية المعاصرة إخضاع مفهوم الشعب إلى المقاربة الحقوقيّة وإخضاع السياسة إلى تدبير ضرورات الحياة بواسطة قوانين السوق. ذلك أدّى منطقيّا إلى تكوين مجموعة من السكّان (من المستهلكين) استحوذت لنفسها كلّ امتيازات تصور الشعب واستبعدت مجموعة أخرى من السكان اعتبرتها مخطرة أو بدون منفعة، هؤلاء الذين سمّيتهم في أبحاثي «البدونيين»، بدون مسكن، بدون جنسيّة، بدون هويّة، بدون كرامة، بدون سند، بدون وطن كالمهاجرون، كما استبعدت الفئات الهشّة والفقيرة، وبذلك اعتبرت نفسها هي الدولة عملا بالقاعدة التي تقول لا شعب بدون دولة ولا دولة بدون شعب.

    فالمفارقة الناتجة عن هذا الغموض قد تؤدّي إلى الانتفاضات عندما يزداد الشرخ بين الطبقة الحاكمة المستحوذة على امتيازات مفهوم الشعب وبقيّة الفئات عمقا، وبذلك يعبّر الشعب في أغلبيّته المتروكة عن إرادة الحياة والبقاء.

    في واقع الأمر إرادة الحياة أصبحت في الوضع الرّاهن هدفا أوّليّا من أهداف الإنسان الفرد، لاسيّما وأنّ ضعف حالته طوال حياته وهشاشتها يتزايدان يوما بعد يوم في ظلّ التطوّر التكنولوجي والرقمي الهائل الذي يشهده العالم الآن. فالأخطار بتنوّعها تتهدّده من كلّ النواحي، وأسباب ذلك كثيرة نذكر منها انتشار البطالة وتعدّد الحوادث المختلفة، وتفاقم العزلة الفرديّة وتنوّع الأمراض والأوبئة، وانسياب التلوّث في الطبيعة والمجتمع، وتطوّر الأسلحة النّووية والمدمّرة بنفاياتها وترهيبها. ومن بين هذه الأخطار التي أصبح الفرد يتعايش معها نذكر العنف الاجتماعي المتصاعد يوميّا وتفشّي الإرهاب الذي أوشك أن يصبح أمراَ مألوفاً منتشراً في مجمل دول العالم.

    فعلاً، وكما كتب عالم الاجتماع الألماني ايلريتش باك1 يبدو «الإنتاج الاجتماعي للخيرات مرتبطاً على نحو دقيق بالإنتاج الاجتماعي للمخاطر»2. ولا تأتي هذه المخاطر المتفاقمة كما كانت عليه الحالة فيما مضى من خارج الإرادة الإنسانية على غرار الكوارث الطبيعية، وإنّما تتأتّى بالأساس من تعقّدات المجتمع نفسه ومن نّتائج تطوّرات العلوم والتّكنولوجيات في جانبها السلبي وهي نتائج غير منتظرة تكون غالبا ناجمة عن عدم الوعي بالعلاقة الوجوديّة للإنسان مع الطبيعة: وهذا ما يُولّد القلق والكآبة والخوف، ولا يعرّض، فقط، حريّة الفرد وحياته إلى الخطر، وإنّما أيضا المجتمع ذاته والطبيعة والكون.

    ويمكننا في هذا المستوى الحديث عن تفاوت الخطر، داخل مجتمع معيّن أو على مستوى العالمي طالما أنّ تصوّر النّظام الاقتصادي والسّياسي في المجتمعات الرّأسماليّة يحمي بصورة أفضل الطّبقات الميسورة والطّبقات الحاكمة.

    ويمكننا أن نتحدّث اليوم، وفق منطق ما يسمّى بـ «المورد البشري»، عن إنسان «المناولة» الذي يُمْنَح مثلاً عقد شغل محدود، ليُتْرك بعد ذلك لبؤسه. لم يعد يوجد في هذا التّكوين المجتمعي الجديد، سوى حقيقة أنّ الحياة غير ممكنة، إلاّ وفق منطق تأمين أو نظام تأمين على كلّ مستويات الحياة الفردية والاجتماعية يزداد نموّه باطّراد، ويصبح مهيمناً أحياناً في النّظام المالي.

    هكذا تصبح الرّغبة في الحياة شعارا ثوريا طالما أنّه يدعو باستمرار إلى النّضال اليومي من أجل محيط سليم وحياة اجتماعيّة عادلة ومجتمع خال من الخوف ومن الخطر.

    «إذا الشّعـب يومـاً أراد الحيـــاة ** فــلا بـدّ أن يستجيـب القـدر

    ولا بـــــدّ للّيــــل أن ينجلــــــي ** ولا بـدّ للقيد أن ينكســــر»

    لقد أصبح هذان البيتان الشّعريان للشابي شعاراً للتحدّي في الكثير من بلدان العالم، وذلك منذ الثّورة التونسيّة في 17 ديسمبر 2010. فشعار «الشّعب يريد» لا يعبّر فقط عن موقف لفرض الذّات وطريقة إثبات القدرة على النّضال أو قوّة المشاركة في حكم البلاد والمجتمع. وإنّما يعبّر أيضاً عن شكل من المُكْث3، وفق التّعبير العزيز على داريدا، في الحياة المهدّدة من السياسة العالميّة القائمة أساساً على الموت. فعلاً، يمثّل البقاء على قيد الحياة، وعلى حالة وعي ويقظة وحركيّة بالنّسبة إلى الشّعب وإلى الفرد أيضاً وسيلة مقاومة ضدّ الفناء والتّهديدات بالموت. فالقتل الذي يُتَرْجم على نحو مزدوج بالتعرّض إلى الموت وحذف الآخرين، أصبح بطريقة ما عملة من عملات عصرنا، لأنّ السّلطات الاستبداديّة والدّكتاتوريات والكلّيانيات تمارس يوميّا الاستبعاد في مجتمعاتها مستخدمة أكثر تقنيات التّعذيب تطوّراً من جهة أولى، ويشكّل الإرهاب النّاجم أساساً عن التطرّف، أحد آليات القتل الأكثر ترويعاً فيما عرفته البشريّة من جهة ثانية. و من جهة ثالثة أصبحت الدبلوماسيّات عند القوى العظمى عنيفة لا تساعد في شيء على التسالم. لهذا غدا تأكيد الرّغبة في الحياة بمثابة النّضال الدّائم ضدّ تكنولوجيا العنف والهيمنة مهما كان مصدرها. وإذ اختارت مسارات الثورة التونسيّة شعار «عمل، حريّة، كرامة»، فإنّها عبّرت بوضوح عن الهمّ الأقصى لعصرنا ونعني الرّغبة في الحياة فعليّا، من خلال العمل بصفة حرّة، وبالتّالي العيش بكرامة.

    تمثّل الرّغبة في الحياة في النّهاية، وسيلة مقاومة ضدّ عزلة الفرد المعاصر، الذي بانضوائه داخل التّشكيلات الاجتماعيّة المكوّنة لعالمه يجد نفسه في مواجهة أنانة4 مقلقة. فإنسان تكنولوجيّات الاتّصال الجديدة المتسمّر أمام تلفازه، والمتحاور مع هاتفه الذّكي أو كذلك المنغمس في قراءة جريدته، ينفلت من الحضور في عالم الإنسان، لينغلق أكثر فأكثر في ضرب من الأنانة السّيبرنيّة المكبّلة. وإذا أضفنا إلى ذلك ما تنمّيه يوميّا الآلة الإعلاميّة الرّهيبة من مشاعر العزلة (الوحدة) والخوف والقلق، عبر ما تقدّمه من أخبار وما تعرضه من أفلام وألعاب موجّهة، إلخ... فإنّ هذا المنفى يتحوّل بالضّرورة إلى سجن قوامه الخوف والقلق. لا أدافع هنا عن الأطروحة المتهافتة لرغبة في العيش دون تكنولوجيا ودون مكاسب الثقافة العلميّة والتّقنية. وإنّما أقول بكلّ بساطة ينبغي إعادة النّظر في أسلوب استخدام هذه المكاسب وإرساء هدف إنساني للعقل والتّقنية. وهذا ما يتوقّف تحقيقه على «تعقّل» يزاوج على نحو منسجم بين العقل والانفعال، وبين الحجاج والخيال. وبين العلم والإبداع الفني. كما يتوقّف تحقيقه أيضاً على ضرورة العيش معاً في كنف الكرامة، بما هو وسيلة النّفاذ إلى الإنساني في نقاوته والنفاذ في الأخير إلى الكونيّة المنشودة.

    والرغبة في الحياة هي أيضا وفاء للذّات يسمح للفرد

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1