Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

الفقراء و المهمشون بافريقية في العهد الحفصي
الفقراء و المهمشون بافريقية في العهد الحفصي
الفقراء و المهمشون بافريقية في العهد الحفصي
Ebook811 pages5 hours

الفقراء و المهمشون بافريقية في العهد الحفصي

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

كتاب الفقراء والمهمشون بأفريقية في العهد الحفصي، من أهم الكتب التي عُنيت بدراسة الفقر في المجتمع الإسلامي عامة وفي المجتمع الحفصي بشكل خاص، حيث اهتم مؤلفه بتبيان صورة الفقراء والمهمشين في ثقافة وذهنية العامة وفي ذهنية الفقهاء وعلماء الدين؛ من النواحي الاجتماعية والمهنية والأخلاقية. ومن خلال صفحات الكتاب يبين الكاتب موقف الفقهاء من سلوك الفقراء والمهمشين في المجتمع، والذي تمثل في المنع والإقصاء تارة والتعاطف تارة أخرى، كما اهتم الكاتب ببيان الدور الذي قام به المجتمع الحفصي في التكافل الاجتماعي للحد من ظاهرة الفقر؛ من خلال الصدقات والإحسان والأوقاف، ودور الأثرياء وأصحاب السلطة في الحد من انتشار الفقر والفقراء وكذلك دور الدولة.

Languageالعربية
Publishertevoi
Release dateAug 22, 2022
ISBN9789938230420
الفقراء و المهمشون بافريقية في العهد الحفصي

Related to الفقراء و المهمشون بافريقية في العهد الحفصي

Related ebooks

Reviews for الفقراء و المهمشون بافريقية في العهد الحفصي

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    الفقراء و المهمشون بافريقية في العهد الحفصي - العيد غزالة

    الفقراء والمهمّشون

    بإفريقيّة في العهد الحفصي

    الدكتور العيد غزالة

    تأليف

    د. العيد غزالة

    مدير النشر عماد العزّالي

    التصميم ناصر بن ناصر

    الترقيم الدولي للكتاب 978-9938-23-042-0

    جميع الحقوق محفوظة

    الطبعة الأولى

    1442 هـ / 2021 م

    العنوان: 5 شارع شطرانة 2073 برج الوزير أريانة - الجمهورية التونسية

    الهاتف: 58563568 +216

    الموقع الإلكتروني: www.lecteurtunisiencom

    البـريد الإلكتروني: medi.publishers@gnet.tn

    الإهداء

    إلى الذين يوجدون داخل طيّات البحث والذين احتلوا دائما المواقع السفلـى

    إلى «أرباب الحوائط»

    إلى زوجتي كوثـر التي تحملت شطحاتي الصوفية، لها كل الحب

    إلى ابني ومهجة قلبي طه ياسيـن

    إلى محمود ومريم، أبويّ ولهما كل حبي وشكري فلولاهما ما كنت

    إلى شقيقيّ، فاطمة وسفيان

    إلى كل من علّمني حرفا أهدي لهم كل حبي وتقديري.

    الشكر

    أتوجه بالشكر إلى أستاذي الدكتور ابـراهيم جدلة

    على تأطيره وتوجيهاته السديدة ونصائحه التي ما انفك يقدمها لي

    وعلى متابعته للموضوع خطوة... خطوة.

    اعتراف بالجميل:

    أفاد تأليف هذا العمل إلى حدّ كبير من أفكار ومجهود عدد كبير من الباحثين في شتى الاختصاصات، لذلك فشكري لهم جميعا.

    كما أتوجه بالشكر إلى مخبر النخب والمعارف والمؤسسات الثقافية في المتوسط.

    ولا يفوتني أن أتوجه بالشكر إلى كل من ساعدني لإنجاز هذا العمل.

    قائمة الاختزالات

    الاختزالات باللغة العربية:

    الاختزالات باللغة الأجنبية:

    أول الكلام:

    «يكمن الفقر في الحرمان من كافة أشكال حقوق الإنسان ولا يمكن لأيّ مجتمع أن يصمد ويسوده السّلام طالما تواصل الشّعور بالإحباط وظلّت حال العداوة والغضب قائمة بسبب الفقر المدقع.»

    محمد يونس، خبير اقتصادي من بنغلاديش

    متحصل على جائزة نوبل للسّلام

    التاريخ الاجتماعي المغربي

    تعتبر دراسة التاريخ الاجتماعي المغربي في العصر الوسيط من أشق المهام بالنسبة للباحثين وأصعبها. فمصادرنا الرئيسية اهتمت خاصة بالتاريخ السياسي وبالأحداث التي تهم الأمير أو الحروب والمعارك العسكريّة. وحتى إن حاولت هذه المصادر التطرق إلى المسائل الاجتماعيّة فهي لا تتعدّى استعراض النزر القليل من المعلومات التي تهمّ أساسا الطبقات المترفة. أمّا الفئات الاجتماعية الفقيرة والمهمّشة فهي مغيّبة تماما من أغلب هذه المصادر، ومن هنا تأتي صعوبة وأهمية العمل الذي قدمه الباحث العيد غزالة حول: «الفقراء والمهمّشون في العهد الحفصي».

    تعتبر أطروحة العيد غزالة من أهم ما كتب في السنوات الأخيرة حول الفقر والفقراء في المجتمعات الإسلامية في العصر الوسيط. فقد حاول تجاوز كل الصعوبات والعراقيل التي تهم المصادر، وبذل مجهودا مضاعفا لاستخراج ما نحتاج إليه من إضافات في هذا المجال، بالتعمق في دراسة المصادر الفقهيّة وخاصة كتب النوازل والأحكام والحسبة...

    ولم يكتف بالمعلومات الخام المبعثرة بين ثنايا الكتب بل اجتهد أيما اجتهاد في التعمق في التأويل واستنباط الأفكار معتمدا في ذلك على ما يوفره «تاريخ الذهنيات» من رؤى ومسالك جديدة في البحث التاريخي.

    وقد تناول البحث موضوعاته بصفة تدريجية، انتقلا من البحث المفاهيمي حول مسائل الفقر والتهميش في التراث الديني والأدبي والثقافي العربي، مستعرضا المصطلحات والمفاهيم، ومنتقلا بصفة سلسة ومنطقيّة من الثوابت الدينيّة إلى المتحوّلات الاجتماعيّة.

    وقد قسم العيد غزالة بحثه بصفة منطقيّة إلى ثلاثة أبواب كبرى متوازنة كما ومعرفة،

    الباب الأول: صورة الفقراء والمهمّشين في الثقافة والذهنيّة الدينيّة.

    الباب الثاني: الفقراء والمهمّشون فئة فاعلة في المجتمع الحفصي.

    الباب الثالث: المجتمع الحفصي بين التكافل والتفكك.

    ومن خلال هذه الأبواب الثلاثة قدّم الباحث الكثير من المعلومات حول مسائل الفقر والفقراء والفئات المهمّشة اجتماعيّا في إفريقية أثناء العهد الحفصي، كما تناول بالدرس والتحليل مختلف المظاهر العاكسة لذلك الوضع الاجتماعي، مثل: التسوّل والسرقة، والسحر والشعوذة، وإتيان الفواحش وغيرها.... وبيّن بوضوح نتائج هذا الوضع من خلال حرمان فئات كبيرة من المجتمع من حقوقها في العيش الكريم ومن حقوقها في التعلم وتولّي الخطط الدينية مثل القضاء والشهادة والإمامة...

    ولم يركز الباحث على فقراء المسلمين فقط بل تعدّى ذلك إلى البحث في أوضاع فقراء أهل الذمة من يهود ونصارى، وفي أوضاع العبيد وهم بطبعهم فاقدو الحرية. كما أنه حاول أن يتتبع جغرافية انتشار الفقر في السلطنة، داعما آراءه بأفكار طريفة حول مظاهر الحياة اليومية بخصوص المسكن والملبس والطعام، والأفراح والأتراح، وتعاطي المهن الخسيسة...

    أخيرا تمكن الباحث بكل جرأة من طرح العديد من المسائل التي تخص آليات التكافل في المجتمع ومدى نجاحها، انطلاقا من الزكاة ومرورا بالأوقاف وانتهاء بدور الدولة إن وجد. وقد تمكن من ربط العديد من مظاهر الحراك الاجتماعي والانتفاضات بهذه الأوضاع الاجتماعيّة المتردية بالنسبة لشرائح واسعة من المجتمع والتي تتأثر في الكثير من الأحيان أكثر من غيرها والجوائح الطبيعية والمجاعات والأوبئة.

    ومع شكرنا الكبير لهذا المجهود الكبير الذي بذله الباحث لإنجاز عمله، نثمن طريقته في تنويع مصادره من خلال بيبليوغرافيا واسعة ومتنوعة، ونثمن الفهارس المختلفة التي وشحت هذا العمل ليخرج إلى القارئ في أبهى حلّة.

    لقد نجح الباحث العيد غزالة في استعمال أدوات البحث العلمي وأساليبه في الكتابة والإحالة والنقد والتفسير، مما يجعل من قراءة هذا العمل متعة، وإفادة، فهو يمثل إضافة جدية للمكتبة التاريخية المختصة بالتاريخ الاجتماعي.

    أ. د. إبراهيم جدلة

    مدير مخبر النخب والمعارف والمؤسسات الثقافية بالمتوسط

    جامعة منوبة

    توطـئـة

    تطرقّنا في عمل سابق في شهادة الماجستير إلى موضوع «الفقر والفقراء في مدينة تونس من خلال نوازل البرزلي في القرنين الثامن والتاسع الهجري/14م-15م» واعتمدت في إنجازه على مصدر أولي كتاب الأحكام للإمام البرزلي. حيث تناولنا مسألة الفقر المادي والروحي وأنواع الفقراء، وتطرقنا إلى مسألة موقف العلماء - الذين عاصروا القرنين الثامن والتاسع هجري - من ظاهرة الفقر وفئة الفقراء استنادا لما ورد في كتاب الأحكام للبرزلي وموقف البرزلي من فقراء المتصوفة ومن المكوّنات الأخرى للفقراء والتي تراوحت بين التعاطف تارة والاقصاء تارة أخرى. وكان السؤال في ذهني دائما كيف يقرأ المختص في علم التاريخ المدوّنة الفقهية؟ هل أنّ هذه المدوّنة تقدّم صورة واضحة المعالم للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والذهنيّة للمجتمع بصفة عامة وللمجتمع الحفصي بصفة خاصة؟

    ونظرا لطرافة الموضوع ارتأينا المواصلة في نفس المبحث في رسالة الدكتوراه المسومة «الفقراء والمهمشون بإفريقية في العهد الحفصي» فتوسع مجال بحثنا - مجاليا وزمنيا - بالاستئناس لما كتبناه في الدراسة الأولى وأضفنا مقاربات أخرى منها ماهو سوسيولوجي، تاريخي، ديني، ثقافي وذهني وغيرها من المجالات الداعمة لحقل العلوم الإنسانية. اقتناعا منا بأنّ الاطلاع على مثل هذه المقاربات والعلوم سيكون مفيدا للبحث وبلوغ المنشود وبناء لبنة في كتابة تاريخ البلاد التونسية واماطة اللثام عن جوانب تاريخية تخصّ الفترة الوسيطة للحضارة الإسلامية وللدولة الحفصية ومحاولة منا تقديم عمل يمكن للاستفادة منه إلى العديد من القرّاء المهتمين بالتاريخ عامة وبتاريخ الدولة الحفصية خاصة، وهي استجابة منّا لجعل القارئ حلقة بين ثنايا البحث وليس خارج كتاب التاريخ.

    سنحاول من خلال هذا البحث التوقّف عند خصوصيّات فئة الفقراء والمهمشين في المجتمع الحفصي من خلال طبيعة ذهنيّة المرحلة والظروف التي جعلت من هذه الفئات الرثّة والمقصيّة اجتماعيا بعيدا عن أجراس الشعر وإيقاع الذات التي تغدق عليها العطف أو تسلبها حقّها في مسامتها في بناء المجتمع وتأثيرها على المشهد السياسي والاجتماعي واعتلاء المناصب وحقّها في العيش واثبات وجودها في دورة الحياة. ولهذا كان التحديد المفاهيمي مهمّة عسيرة وشاقة فالانطلاق من المفهوم ذاته على الرغم من اتصافه بسمتي التعقيد واللاتناهي وفر لنا مجالا واسعا للبحث مع ظاهرة الفقر والتهميش والاقصاء، فنحن إذا أمام ظاهرة يصعب حصرها.

    ويخضع اختيارنا للموضوع لعوامل محددة: بعضها موضوعي والآخر ذاتي، لعلّ أهم هذه الأسباب الإعلان عن اليوم العالمي لمقاومة الفقر من قبل جمعية الأمم المتحدّة والذي يصادف يوم 17 أكتوبر من كل عام وما كتبه كل من «ستيفن بي جنكيز» Stephen P. Jenkins و«جون مايكلرايت» John Micklewright في كتابهما: «منظور جديد للفقر والتفاوت» Inequality and Poverty Re-Examined - والذي يتناول حول الجدل بشأن تحليل التفاوت والفقر وتقديم دليل إمبريقي جديد- وما كتبه عالم الاجتمــــــاع الأمريكـــــي «أوسكـار لويـس» Oscar Lewis حـــــول ثقافــــــة الفقـــــر في كتابــــــه: Les enfants de Sanchez.

    إضافة إلى سلك درب في البحث وخط مستقيم لبناء منهج ومجال لنكون من بين الباحثين المهتمين بالفئات المهمشة اقتصاديا والمغيّبة بين دفتي كتب التاريخ، ولا ندعي أننا كنا السبّاقين في مجال هذا البحث فقد سبقنا العديد من الباحثين المميزين وهذا للتذكير وليس للإحصاء، فالموضوعية الكاملة مسألة نسبية وتتوقف عن ايراد الحقائق والوقائع التاريخية، ولكن التحليل والتقييم لا يخلو من الذاتية وكما يقول حيدر إبراهيم علي: «وهي {الذاتية} لا تعني بالضرورة الانحياز أو التعصب أو الدخول بآراء مسبقة. فالذاتية قد تعني وجود ظروف خاصة بالباحث جعلته يأخذ بمنهج معيّن يتناول به موضوعه. فالعلوم الإنسانية مهما كان منهجها لا تخلو من مواقف ذاتية للباحث. والمهم ألا تنجرف الذاتية العاطفية والانفعالية والانحيازية التي تقلب الحقائق أو تخفي جزءا منها بطريقة مغرضة تحاول إثبات فرضيات أو ادعاءات مختلفة تماما. فالبحث العلمي والموضوعي يكتسب هذه الصفات من خلال ضبط نسبية الذّاتي وليس بإلغائه لأن ذلك غير ممكن في الدراسات الإنسانية والعلوم الاجتماعية والسياسية». وما نستشفه أنّنا عزفنا سنفونية في مجال بحثنا ونحن مثل الشعراء الهائمين والحالمين يحالفنا التوفيق أحيانا وتذهب بنا الأهواء والمذاهب والمشارب العديدة أحيانا أخرى، نحن نتوق بعملنا هذا إلى بلوغ الإبداع، لذلك نطلب من قرّاء العمل أن يصفحوا زلّاتنا وأن تكون مؤاخذاتهم دفعا لنا في مواصلة البحث العلمي وتنوير دربنا الطويل والشاق.

    المقدمة العامة

    ليس جزافا القول بأن الدراسات التاريخية لدراسة حياة الأمم وخاصة منها المتعلقة بدراسة الدول الإسلامية في الميادين الاجتماعية والاقتصادية نالت اهتماما عند الباحثين بعد منتصف القرن الماضي، بل نمت واتسعت في العقدين الأخيرين منه. فيما احتلت الدراسات السياسية في موضوعات التاريخ الإسلامي النصيب الأكبر من الاهتمام.

    يعود ذلك إلى جوهر تاريخي يعكس اهتمامات مؤرخي الإسلام الأوائل بأخبار الملوك والسلاطين والوزراء وقادة الجند، وهم الذين اصطلح عليهم بـ«الخاصة»(¹) من المجتمع. وكتاب الطبري (ت310هـ/ 922م) المعروف بـ تاريخ الرسل والملوك(²) دليل واضح على ذلك، كما وضعت كتب كثيرة في هذا الاتجاه وان اختلفت عناوينها مثل كتب التراجم والأعلام وكتب المناقب وكتب الطبقات والسيرة وكتب الوفيات، وأحيانا كتب تخصصت في سيرة شخصية كسيرة الرسول ومناقب لولي مّا. فقد ذهب علي الوردي إلى أن المؤرخين القدماء «دأبوا على النظر في التاريخ من ناحية واحدة وإهمال الناحية الأخرى منه. فهم ينظرون من ناحية الملوك ويهملون من ناحية الشعوب. والذي يقرأ التاريخ من هذه النّاحية «الملوكيّة» لا يفهم منه غير الإعجاب بما تمّ على يد السلاطين المترفين من فتح عريض وعمران باذخ... يأخذ المؤرخون وجهة نظر الحاكم وينسون وجهة نظر المحكوم. ولهذا يصحّ أن نصف التّاريخ القديم بأنه أعرج يمشي على قدم واحدة...والغريب أنّ معظم المؤرخين يكتبون التاريخ في هذا الضوء فهم يحمدون السلاطين ما فتحوا وما عمروا ويشحبون الشعوب المفتوحة على ما شكوا منه أو ثاروا له. فالتاريخ عندهم عبارة عن سجلّ للفتح والعمران»(³).

    أما بقية أفرد المجتمع الذين اصطلح على تسميتهم بـ«العامة»(⁴)، فكان الاهتمام بهم محدودا. وتعاملت المجتمعات الإسلامية منذ البداية على أساس هذه الثنائية بين العامة والخاصة وليس هذا التوجه حكرا على الفترة الوسيطة بل هو امتداد للفترة القديمة، كما أنه ليس حكرا على الحضارة الإسلامية بل هي نسقية موروثة عند جميع المجتمعات الشرقية منها والغربية.

    نجد بشكل خاص عند الجاحظ (ت255هـ/868م) في رسائله(⁵) على سبيل المثال من المصادر المبكرة التي تناولت حياة العامة وهو ما جعل الباحث لزاما عليه أن يستنطق بين سطور الكتب و«المسكوت عنه» حسب فوكو، وفي مقدمتها كتب التاريخ والأدب والفقه (كتب الأحكام وكتب الأحاديث) والرحلات وكتب المناقب ليقف على الحقيقة حيثما كان ذلك(⁶) وإماطة اللثام على جوانب عديدة من حياة العامة وفئة الفقراء والمهمّشين والضعفاء وأصحاب السؤال وأشكالهم من المساكين لأنّ الأمر ليس بالسهولة المعهودة عند دراسة أرباب السلطة وأرباب القلم وأصحاب السّيوف والوزراء.

    لا شك أنّ المتأمل في الدراسات التاريخية لإفريقيّة في العهد الحفصي يلاحظ أنّ مجملها انصبّت على دراسة الجوانب السياسية لكثرة المصادر، في حين تمّ السكوت عن الفئات المهمّشة والمغيّبة في إفريقيّة لندرة المصادر المباشرة، على عكس الدراسات التاريخية الغربية التي قطعت أشواطا مهمة، لما توفر لها من ثراء مصدري وأرشيف محفوظ في خزائن الكنائس والخزانات العامة والمكتبات الخاصة والمستندات الإدارية الرسمية، مما ساعدهم على دراسة هذه الفئات المهمّشة والفقيرة ورصد جميع الجوانب الحياتيّة والمعاشيّة. وإن كان التاريخ الاجتماعي قد لقي اهتماما فهذا لا ينفي اهتمام الباحثين بالتاريخ الاجتماعي رغم المادة المصدريّة، فإن دراسة فئة الفقراء والمهمّشين لم تحظى بدراسة واهتمام كبير في الفترة الوسيطة خاصة في العهد الحفصي.

    فإننا نحاول في عملنا أن نسلّط الضوء على فئة لا تنتمي إلى نخب المال والدين والسلطة السياسية، وإنما ترزخ تحت وطأة تلك النخب التي احتلت المواقع السفلى في مختلف التشكيلات الاجتماعية والاقتصادية.

    لقد تضافرت عدة أسباب سياسية، كالصراع الداخلي في البيت الحفصي وعدم الاستقرار الأمني والتهديدات الخارجية من قبل قوى الإفرنج، وأسباب اقتصادية، لتواتر المجاعات وارتفاع المكوس وتسليطها المشخّص وغلاء الأسعار ونقص في الغذاء والغشّ، أدت إلى انهيار اجتماعي مكّن من بروز فئة من الفقراء وجموع المهمّشين احتلت الدرجة السفلى من العامة عاشت البؤس والإقصاء من قبل الخاصة والعامة.

    وسنحاول من خلال هذه الدراسة الاهتمام بالتاريخ الاجتماعي والاقتصادي للدولة الحفصيّة وليس إحداث بالمعنى العام ما يشبه بالثورة الكوبرنيكية حسب جون كلود سميث(⁷) في كتابة تاريخ جديد يؤرخ للفئات الفقيرة والمهمّشة التي أهملتها كتب التاريخ وذابت صورتها في صلب المجتمعات قديما وحديثا وخاصّة زمن العولمة وإنما إثراء للمكتبة التاريخية. فالوعي بخوض تجربة تحرّر علم التاريخ من القيود القديمة في سرد الأحداث، لذلك نسعى بهذا العمل إلى إضافة لبنة إلى ما أنجزه من سبقنا إليه ولا ندّعي السبق فيه فقد تناول بعض الجوانب عديد الباحثين نخصّ بالذكر الأستاذ محمد حسن في المدينة والبادية في الجزء الثاني الذي تناول بالأساس حياة البؤساء والمهمّشين ودور الزوايا التي أحدثت جدلية بين العلماء والمتصوفة حول أحقية الشرعية الدينية والسياسية.

    اهتم الأستاذ الكراي القسنطيني في كتابه الاحتياج والمحتاجون(⁸) خلال الفترة المعاصرة في مدينة تونس بالتركيبة الاجتماعية لشريحة الفقراء والكشف عن أسباب ظهورها وأماكن وجودها علما بأن الفترة الزمنية التي تناول فيها البحث هي فترة الاستعمار الفرنسي بالبلاد التونسية ولم يتعرض إلى فقراء المتصوفة.

    كما تجدر الإشارة إلى الباحث المصري آدم صبره(⁹) وكان تناوله للموضوع في الفضاء المملوكي بمصر وكان عمله بعنوان الفقر والإحسان في مصر فمقاربتنا شبيهة بمقاربته، سمحت لنا بالمقارنة مع ما كان واقعا بمصر خلال نفس الفترة من حيث الخطوط العريضة إلا أننا نختلف في المكان وليس في الزمان وفي خصائص مجتمع الغرب الإسلامي.

    واهتم الأستاذ عبد الحميد الأرقش في كتابه Les Ombres de la ville (¹⁰) بالفقر والفقراء والأسباب الاجتماعية التي أدت إلى تفشي ظاهرة الفقر وتزايد عدد الفقراء والمهمّشين وأماكن وجودهم في مدينة تونس خلال القرنين 18م و19م مبرزا أنه من الصعب تحديد مطلق لمفهوم الفقر.

    وتعتبر مدينة بجاية إحدى المدن الهامة للدولة الحفصيّة رغم خصوصياتها الفريدة والمتمثلة في بعض خصوصيات التمتّع بالاستقلال الداخلي على حكم بني حفص. فقد تعرض الأستاذ صالح بعيزيق في دراسته بجاية في العهد الحفصي: دراسة اقتصادية واجتماعية إلى العامة وفاقدي السند خاصة الفئات الدنيا وأعمالها الخسيسة ووضعها الاجتماعي المزري الذي أفرز حركات تمرّد على نظام الحكم وعلى نظام المجتمع الذي يحمل نظرة ازدراء للفئات الفقيرة والمهمّشة وإلى نعت صنائعهم بالخسيسة.

    كما نضيف الدراسة القيّمة التي قامت بها الباحثة جميلة بن ساسي بعنوان الحياة الاجتماعية في تونس من خلال فتاوى البرزلي(¹¹) فقد درست مجتمع إفريقيّة وبالتحديد مجتمع مدينة تونس والقيروان خلال الفترة التي عاشها البرزلي، واصفة بكلّ دقة الظروف الاجتماعية والاقتصادية لفئات المجتمع الحفصي آخذة بعين الاعتبار الوضعية المتأزمة للفئة السفلى التي تمثّل السّواد الأعظم للمجتمع.

    وتجدر الإشارة إلى البحث الذي قدّمه ثلة من الباحثين حول فئة الفقراء والمغيبون في التاريخ تحت إشراف الهادي التّيمومي المسوم المغيبون في تاريخ تونس الاجتماعي. وقد اختار أعضاء الفريق الاهتمام – لا بنخب المال والدّين والسّلطة السّياسيّة – وانما بالعناصر الاجتماعية التي رزحت تحت سيطرة تلك النخب، وهي العناصر التي احتلّت دائما المواقع السفلى والوسطى من مختلف التشكيلات الاجتماعية والاقتصادية التي تعاقبت على البلاد منذ أقدم العصور.(¹²)

    وآثرنا الاهتمام ببعض الدراسات التي اهتمت بأوربا الغربية في نفس فترة بحثنا للوقوف على مظاهر التشابه بين العالم الإسلامي والعالم المسيحي من حيث الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية. والمقارنة بين وضعية الفئات الفقيرة والمهمّشة في المجتمعات الإسلامية والفئات الفقيرة والمهمّشة في المجتمعات المسيحية بأوروبا ومن بين هذه الدراسات نذكر:

    كتاب لـNessu(M) بعنوان La pauvreté cachée فقد خصصه لمفهوم الفقر حديثا وقديما متلازما بمفهوم الإقصاء، وارتباطه بالمجالات التاريخية والسياسية والاقتصادية وحتّى الاجتماعية. وﭐهتم بمشكل الفقر ظاهرة اجتماعية استوجب تدخّل الدولة والناس من خلال تقديم الإحسانات للفقراء.

    أما Geremek فقد تناول في كتابه Les Marginaux Parisiens aux XIVe et XVe siècles الفئات الدنيا والمهمّشة في الحياة الاجتماعية مبينا الأعمال الخسيسة للعديد من المهمّشين مستعينا بالأرشيف البوليسي والقضائي وما توفّر له من ثراء مصدري وأرشيف محفوظة في ربائد الكنائس والخزنات العامة والمكتبات الخاصة ومستندات إدارية رسميّة ووثائق دينيّة. وقد أدّى الشعور بالفقر والتهميش وسوء المعاملة إلى القيام بثورات من قبل المهمّشين في مدينة باريس زمن حكم لويس التاسع.

    بالنسبة إلى Mollat(M) نذكر أهم دراستين في مجال بحثنا: Les Pauvres au Moyen-âge: étude sociale و Etudes sur l’Histoire de la pauvreté عكف الباحث في البحثين حول خصائص الفقر كالفقر الاختياري والفقر الوقتي والفقر المزمن، وعلاقة الفقراء بالإحسان المقدّم من قبل العامة والخاصة وأماكن وجود الفقراء الذين لا مأوى لهم. وتناول ردود فعل العامة ومنهم الفقراء ضد الجباية التي أحدثت بعد مجاعة 1375م وهو ما أفرز الغضب العارم لفقراء الوسط الفرنسي بين سنوات 1378م و1383م.

    هذا إلى جانب الدراسة العميقة للأستاذ محمد قريسة حول Pouvoirs et Marginaux à Paris sous la règne de Louis XIV (1661-1715)، فدرس أوضاع مدينة باريس من الناحية الجغرافية التي مكنته من تحديد الأماكن المهمّشة والحياة الاجتماعية المزرية للعديد من الفقراء والمهمّشين وهو ما جعل من مدينة باريس مدينة غير آمنة لتفشّي العديد من الظواهر السلبية كالسرقة والخطف والعنف وتجارة الجسد. كما تعرض في بحثه إلى الإجراءات التي استعملتها السلطة من خلال نفوذها للحدّ من الظاهر السلبية التي أصبحت متفشية في مجتمع مدينة باريس.

    ولم يكن اختيارنا للزمان والمكان اعتباطيا فمن حيث:

    الفترة الزمانية

    تعتبر الفترة الزمنية للدولة الحفصيّة التي امتدت على ثلاث قرون ونصف، من 625هـ/1228م إلى 981هـ/1574م، فترة مشجعة للبحث. فقد شهدت الدولة الحفصيّة خلال هذه الفترة مراوحة بين فترات ازدهار وفترات حالكة على صعيد الحياة السياسية والأمنية التي انعكست بدورها على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والدينية على مدن إفريقيّة وقراها وأريافها وعلى الفئات الفقيرة الضعيفة، إما سلبا لعدم استقرار حكم السلاطين الحفصيين ومن مظاهر الضعف مدة حكم الأمير أبي يحي الملقّب بـ«الشهيد» وكانت مدة خلافته 16 يوما ثم خلفه الأمير أبو البقاء الذي مكث سنتين ثم قتل، أو إيجابا لطوال مدّة حكم بعض مشاهير سلاطين بني حفص مما أشاع فترة استقرار نسبية، خاصة بعد الأزمات التي عاشتها البلاد، ومن أبرز سلاطين تلك الفترة أبو العباس أحمد (772هـ- 796هـ/1371م- 1394م) والسلطان أبو فارس عبد العزيز (796هـ-837هـ/1394م-1434م) والسلطان أبو عمرو عثمان (839هـ– 893هـ/1436م-1488م).

    ومن ناحية أخرى عرف التصوف خلال هذه القرون انتشارا واسعا واتساعا لموارد الزوايا الحفصيّة ويرجع ذلك إلى المساهمة الفعالة للسلاطين في تركيز هذه المؤسسة كفضاء خصّص لإيواء الفقراء والمساكين كما جاء ذلك في كتاب الأستاذة نللي سلامة العامري، الولاية والمجتمع: مساهمة في التاريخ الديني، والاجتماعي، لإفريقيّة في العهد الحفصي.

    الحدود الجغرافية

    جدلية الحدود والمجال لإفريقيّة زمن الحفصيين هو مصطلح متغير بين الكتابة الجغرافية والكتابة التاريخية. فمجال إفريقيّة اعتمد على المعيار السياسي فيذكر يا قوت الحموي صاحب معجم البلدان أنّ إفريقيّة تمتد من برقة إلى بجاية(¹³). أما الدولة الحفصيّة تمتد على رقعة جغرافية واسعة من مسراتة(¹⁴) من بلاد طرابلس الغرب شرقا نحو بجاية في المغرب الأوسط غربا. وقد ساهمت هذه المساحة الشاسعة في تنوع القبائل مثل الذواودة وأولاد كعوب وغيرهم، وتنوع العادات والتقاليد وتعدد المهن والأجناس والأعراق. فهو مجال رحب يهيئ للدّارس مادة خامة للتنقيب على جزء كبير من فقراء وجموع مهمشي الدولة الحفصيّة، التي ورثت عدة أقاليم من الحكم الموحدي التي أصبحت تحت تأثيرها السياسي لعدة سنوات، رغم أنّ هذا النفوذ يتمدّد ويتقلّص حسب قوة الدولة فأحيانا لا يمتد نفوذ الدولة الحفصيّة أبعد من قصبتها. وهو ما جعل مدينة تونس تسيطر على المدن الأخرى لكونها المدينة الأولى والرئيسية وعاصمة الدولة الحفصيّة ومرآة إفريقيّة، كما أنها منطقة التقاء للجانب الأكبر من الوافدين عليها لسبب أو لآخر بعد أن تحولت مدينة القيروان إلى مركز ثقافي وديني، هذا إلى جانب الدور الاقتصادي الذي تلعبه مدينة تونس لانفتاحها على البحر» فهي مدينة كبيرة محدثة بإفريقيّة على ساحل الروم»(¹⁵) ويذكر كل من Adorne وليون الإفريقي أن ميناءها مزدهر لكثرة البضائع الواردة والصادرة وكثرة بناءاتها الفاخرة وأسواقها التي تضم عددا كبيرا من التجار الأغنياء(¹⁶) وهو ما جعلها تسيطر على السهول الواقعة في الشمال مما جعلها تواصل ازدهارها عكس مدن بلاد المغرب وهو ما جعلها قبلة النازحين.

    وفي هذا السياق سنقوم تسليط الضوء على الفئات الفقيرة والمهمشة وبالخصوص خلال الفترة الوسيطة. كما أن هناك مشاكل واجهت هذا النوع من الأبحاث في إرهاصاته الأولى، ومنها: الاصطدام بغياب تصورات منهجية واضحة حول الإشكاليات الواجب تتبعها، ونوعية المقاربات التي وجب تبنيها ووجب علينا الانتقال من مجال الإشكاليات النظرية في التاريخ المنظور إليه من أسفل إلى مجالات التطبيق، من خلال استعادة حياة نماذج دالة تهم فئات مقصيّة من التاريخ الرسمي في الفترة الوسيطة، حيث أقدمنا على دراسة حالات عينية من الفئات الفقيرة والمهمشة اجتماعيا في تاريخ افريقية زمن الدولة الحفصية، من قبيل حركة الثائرين والسحرة والأيتام والمتسولين والفقراء والعبيد وفقراء ومساكين أهل الذمة وفقراء المتصوفة الذين يشكون الخصاصة والحرمان ودراسة مجالهم الجغرافي... ولعل بين أهم مميزات هذا العمل الذي قاربنا فيه موضوع الفقراء والمهمشين بإفريقية في العهد الحفصي وتسلحنا بعدّة منهجيات وحس تاريخي، ويبدو هذا الحس في انفتاحه على المقاربات الجديدة، وبالخصوص في بعدها النظري.

    لذا فإننا سنحاول إضافة لبنة في مجال التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، وأهو ما جعلنا نسلط الضوء على بعض الإشكالات المطروحة، وأزاحت النقاب عن فئات اجتماعية ظلت غير مصنّفة لدى المؤرخين الرسميين ممن تناولوا فقط الأحداث السياسية والعسكرية لدولهم. من بين الأهداف المهمة التي نسعى إلى تحقيقها، إبراز جزء من تاريخ العامة، الذي يمثل وجها رئيسا من ملامح الفترة الوسيطة المغيبة. فبالإضافة إلى استحضارنا الرؤى المنهجية التي شكلت تحديا رئيسا أمامنا وأمام الباحثين؛ نقف مع هذا العمل أمام عوائق أخرى ساهمت بدورها في التعثرات التي رافقت هذه الأبحاث، وما تزال، ويتعلق الأمر بإقصاء الفئات المهمّشة في مصادر التاريخ الإسلامي الرسمي للحقبة الوسيطة والتي اهتمت بالأساس بتسجيل حوليات السلاطين وما يرافقها من الأحداث السياسية والعسكرية. مما نتج عنه وجود فجوات كثيرة تغطي مراحل كثيرة من التاريخ الوسيط للغرب الإسلامي، حيث تسكت خلالها المصادر سكوتا يكاد يكون تاما عن أخبار الفئات المهمشة وأحوال عامة الناس، ويرجع غياب ذكر هذه المجموعات عن كتابات المؤرخين إلى النظرة الدونية التي كان ينظر بها هؤلاء في الماضي إلى العامة باعتبارهم «رعاعا» و«سوقة» و«جهلة» و«سافلة» و«دهماء»، إذ ألصقت بهم العديد من النعوت السلبية، وإذا ما اصطدموا بالسلطة المركزية وأوامرها فهم «عصاة» و«فسقة» و«مفارقون للجماعة» بل «خارجون عن الشرع». ولذا ففيما يخص الناس العاديين، وبخلاف الشخصيات المشهورة؛ يصطدم المؤرخ مع صمت النصوص، إذ لا توجد أي كتابات لها علاقة بالذات، فهم أشخاص غير مرئيين، ولا تعطى لهم أية قيمة ولا أية رمزية، إلا إذا ارتكبوا جرائم خارقة، أو نالوا عقوبات قاسية، حينئذ فقط يسلّط عليهم بعض الضوء، وتلصق بهم النعوت القادحة. يسبّب تعاقب فترات تضاؤل الأخبار إلى درجة الانعدام مشاكل كبيرة للباحثين، الذين يجدون صعوبة في مواصلة أبحاثهم بخصوص هذه الفئات الاجتماعية، إذ يتطلب البحث توافر مصادر ونصوص مكتوبة، فالوثائق هي التي تشكل الذخيرة الحية التي تنبثق منها الأبحاث الناجحة، فكان اللجوء إلى المصادر الأخرى، من قبيل كتب التراجم والمناقب والنوازل والرحلات، حلا بديلا، ساعد في الكشف عن جزء مهم من الغموض الذي أحاط بهذه الفئات المنبوذة، حيث نجد إشارات ومعلومات بشأنها في معرض حديث هذه المصادر التي لم يكن هدفها التعريف بهم بالضرورة، وإنما اقتضى سياق الحديث ذكرهم.

    لا يخلو مجتمع إنساني على وجه البسيطة من روابط تصل بين أفراده وتحدد ملامح المشهد الاجتماعي والثقافي فيه الذي يتأثر بالوضع السياسي، فظاهرة انتشار الفقر وتزايد الفقراء والمهمّشين في مدن إفريقيّة وقراها خلال الفترة الحفصيّة لم تكن وليدة الصدفة بل كانت وليدة ظرفية اقتصادية واجتماعية محددة.

    هل يمكن اعتبار موقف العلماء والمتصوفة (علماء الظاهر وعلماء الباطن) موقفا أخلاقيا بالاستناد إلى النّصوص القرآنية والنّصوص الشرعية الأخرى أم هل أنّ ابن عرفة والبرزلي والونشريسي وغيرهم يكتفون برصد مشاهداتهم؟

    هل يمكن تحديد مفهوم واضح لمصطلح الفقر والتهميش وفئة الفقراء والمهمّشين كما يبرز من خلال أدبيات الفترة؟ وهل يوجد نمط واحد من الفقراء؟ وهل يمكن الحديث عن فقراء العامة دون الحديث عن فقراء المتصوفة من المستضعفين من خلال العديد من مصنفات الفترة؟

    كيف عرّف علماء الباطن وعلماء الظاهر فئة الفقراء والمهمّشين؟ وكيف كانت نظرتهم إليهم؟ وكيف ساهمت مصنفاتهم في الكشف عن أماكن وجودهم ونمط عيشهم من مأكل وملبس؟

    أين تكمن مساهمة المجتمع الحفصي من العامة والخاصة في التخفيف على حدة بؤس الفقراء والمهمّشين؟ ماذا كان يرجو أصحاب السلطة من مساعدة الفئات الفقيرة الضعيفة؟ هل كان لشراء الآخرة بالدنيا أم لاكتساب شرعية دينية – سلطوية؟

    ماهي أنواع الصدقات وأهم أشكال الإحسانات التي تصرف لفائدة الفئات الفقيرة وجموع المهمّشين من المساكين والمستضعفين؟

    هل أن المجتمع الحفصي كان يعاني من أزمة طوال الفترة الحفصيّة أو من أزمة تتخللها فترات انتعاش؟ هل شكّلت هذه الأزمة أرضية سانحة لبروز ظاهرة الفقر والتهميش وبروز فئات الفقراء للعيان داخل المجتمع الحفصي؟

    تلك هي الإشكاليات الرئيسية التي سنتناولها بالبحث والتحليل. وأمّا فيما يتعلق بالتخطيط الذي اتبعناه في تبويب فصول هذه الدراسة، فقد قسمنا عملنا إلى ثلاثة أبواب تتصدرها مقدمة عامة، ووزّعنا كل باب إلى فصول فرعية وأنهينا العمل بخاتمة عامة. والأبواب هي:

    صورة الفقراء والمهمّشين في الثّقافة والذهنية الدّينية.

    الفقراء والمهمّشون فئة فاعلة في المجتمع الحفصي.

    المجتمع الحفصي بين التكافل والتّفكك.

    اهتممنا في الباب الأول بصورة الفقير والمهمش في ثقافة المجتمع الحفصي وفي الذهنية الدينية لدى علماء الدين والمؤرخين من الناحية المهنية والأخلاقية والاجتماعية ونظرتهــم التــي راوحــت بيـن الإقصــاء تــارة والتعاطــف تــارة أخـــرى. وقسّمنـــا هذا البـــاب إلى فصلين:

    - الفصل الأول تناولنا فيه البعد المفاهيمي لمصطلح الفقر والتهميش من الناحية اللغوية والناحية الاصطلاحية لدى علماء الاجتماع والأنتروبولوجيا وعلماء التاريخ وغيرهم، وهو ما جعل من الصعب تحديد مفهوم التهميش والهامشية التي تعكس موقعا شكليا داخل المجتمع والتي ارتبطت بمصطلح الإقصاء أي القطيعة مع الجسم الاجتماعي وبالواقع الاقتصادي. ولم يكن مفهوم الفقر سهلا في التحديد، بل كان يحمل في طياته العديد من الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والدينية المتعلّقة بالفقر الإرادي والروحي التي وردت في المصادر الدينية. والصعوبة في تحديد المفاهيم جعلت من البحث في المصطلحات المرادفة للفقر وفئة الفقراء من خلال مصنفات حفصيّة متنوعة وقد استعنا بالمنهج الكمّي للأستاذ Pierre Chaunu من خلال كتابه Histoire quantitative, histoire sérielle، الذي يعتبر مؤسس التاريخ الكمّي وهذا لم يثنيه عن دراسة التاريخ الاجتماعي والديني.

    - الفصل الثاني تميّز بموقف فقهاء الفترة الحفصيّة وعلمائها استئناسا بفقهاء آخرين، حول سلوك الفقراء والمهمّشين في الحياة العامة كظاهرة التسول والسرقة وإيتاء الفواحش وتعاطي السحر. كما أنّ موقف الفقهاء مع هذه الفئات الضعيفة راوح تارة بين التعاطف من خلال بعض المناسك الدينية واخترنا مناسك الحج وفريضة الزكاة، والإقصاء تارة أخرى في المسائل المتعلّقة بالخطط والوظائف الحسّاسة كخطّة القضاء والشهادة والإمامة، ولعلّ في استعراض مجالات الإقصاء جعلنا نهتم بنوعيّة التدريس التي كانت سببا في إقصاء الفئات الفقيرة والمهمّشة اجتماعيا من الخطط التي توارثتها بيوتات الحسب والنّسب في المجتمع الحفصي.

    وعكفنا في الباب الثاني على دراسة مكونات الفقراء والمهمّشين فئة فاعلة في المجتمع من حيث التقسيم الإثني والديني والوظيفي وأمام فقر النصوصارت مهمّة بحثنا صعبة ولكنّها ليست مستحيلة فقمنا باستنطاق مصادرنا المختلفة إلى درجة التعسف عليها لنبش بعض المعطيات التي تكون في نظر بعض الباحثين ثانوية ولكننا استفدنا منها لقلة المعلومات عن الفئات الفقيرة والمهمّشة. فقمنا بتقسيم الباب الثاني إلى فصلين:

    - الفصل الأول درسنا فيه العناصر الاجتماعية والدينية المكونة للفئات الفقيرة والمهمّشة علما وأن المجتمع الحفصي بطبعه مقسما دينيا وعرقيا بمعنى وجود مجموعات منفصلة عن بعضها البعض لكنها تشترك في نفس الوضعية وفي نفس الظروف بحكم وجودها في نفس الرقعة الجغرافية. ورغم التشابه في وضعية الفقراء وجموع المهمّشين إلا أنّ هناك بعض الاختلافات في وضعية الفقراء بصفة عامة وبصفة خاصة فقراء المسلمين من السّكان المحلّيين الذين يمثلون السّواد الأعظم للمجتمع الحفصي مقارنة بوضعية فقراء أهل الذمة ومساكينهم والفقراء القادمين من الأندلس إثر الهجرة الأولى والثانية.

    - الفصل الثاني اهتممنا بأماكن وجود الفقراء وجموع المهمّشين ونمط عيشهم فقد استعنّا بمناهج الاتنوغرافيا، التي تهتم بوصف الشّعوب وهو أحد علوم الإنسان وينصبّ على دراسة المظاهر المادية للنشاط والعادات والتقاليد كالمأكل والمشرب والملبس. وكان من الصعب تحديد أماكن وجود الفقراء والمهمّشين في المدن والقرى الحفصيّة، لكن من خلال التّمعّن في بعض المصادر المناقبيّة وكتب الأحكام والرحلات تمكنّا من تحديد أماكن وجودهم ونوعية المسكن والأماكن التي كانت تأويهم. الإشارات القليلة جعلتنا ندرك معرفة نمط عيش الفقراء من مأكل وملبس وحياتهم عند المرض وكيفية العلاج نظرا لفقرهم وبؤسهم. ففي هذا الفصل تناولنا أفراح الفقراء وأتراحهم مقارنة بالفئات الميسورة، وهو ما جعلنا نتساءل عن حقيقة الموت عند الفقراء. هل يعتبر درجة عدالة ومساواة أم أنّه إقصاء اجتماعي جديد؟

    رصدنا من خلال الحياة اليومية للفقراء وجموع المهمّشين الصنائع التي كانوا يمتهنونها، مثل الصنائع الرديئة وإن كان هذا الوصف أخلاقيّا أكثر منه موضوعيّا عند العديد من الباحثين إذا ما قارنه بالأعمال النفيسة، لكن هذه الأعمال الرديئة هي من كدّ اليد، إضافة إلى الصنائع الخسيسة التي استنكرها الفقهاء والمجتمع الحفصي.

    قمنا في الباب الثالث، بالتركيز على الصّلات الاجتماعية بين أفراد المجتمع الحفصي -الخاصة والعامة- بالفقراء والمستضعفين من المهمّشين من خلال العديد من مظاهر التكافل. إضافة إلى تركيزنا أيضا على الأسباب العميقة والمباشرة التي أدّت إلى تدهور وضعية الفئات الفقيرة وأدت إلى تعميق الهوّة بين أغنياء المجتمع وفقرائه وهو ما ولّد العديد من الثورات والتمرد على الأوضاع السائدة زمن الحكام الحفصيين فقمنا بتقسيم الباب الثالث إلى ثلاث فصول:

    - الفصل الأول أردنا من خلاله التركيز على التكافل الاجتماعي همزة وصل بين فئات المجتمع الحفصي. فانطلقنا من التكافل الشرعي باعتباره أحد روافد التشريع الإسلامي، فالزكاة تعتبر الركن الثالث في الدين الإسلامي وهي تخفف من حدة الهوة بين الفقراء والميسورين، وقد تمثلت في العديد من الأشكال مثل الصدقة الشرعية والصدقة الاختيارية. إضافة إلى التكافل الاجتماعي من خلال تقديم الإحسانات والهدايا لكسب الثواب وتعززت هذه المظاهر زمن المسغبة التي تعرض لها المجتمع الحفصي، وهي أحد مظاهر التآزر بين أفراد المجتمع عامة وبين أفراد المجتمع الإسلامي خاصة حسب ما أورده Denis Gril(¹⁷) فأنتج ذلك تشكل الهياكل الذهنية لـ«ثقافة الفقر»(¹⁸) حسب Oscar Lewis انطلاقا من وضعية الفقر والتهميش الاقتصادي والاجتماعي.

    - الفصل الثاني انطلقنا من ثقافة التآزر الاجتماعي فبحثنا عن المتدخلين في خدمة الفقراء مثل الأولياء الذين لعبوا دورا هاما في تخفيف حدة البؤس لدى فقراء العامة والضعفاء من فقراء المتصوفة، علما وأن مؤسسة الزاوية تدخلت في توفير المأكل والمسكن وفي بعض الأحيان في الملبس من خلال الرمز والمؤسس «الولي».

    كما لعب الأثرياء دورا هاما رغم غياب المعطيات في المصادر عكس المعلومات المتوفرة على أرباب السلطة. فالسلاطين الحفصيون كانت لهم العديد من التدخلات لفائدة الفقراء والمستضعفين من المهمّشين في العديد من المجالات كرفع المظالم والتخفيف من الجوع زمن المجاعات. ولم يكتف أمراء بني حفص بالتدخل السياسي والاقتصادي بل تدخلوا في نشر التعليم وإعالة الطلبة الفقراء وفي الصحة من خلال مؤسسة البيمارستان.

    - الفصل الثالث يتمحور حول الأسباب العميقة والمباشرة في تدهور وضعية الفقراء وإلى تفقير فئات كانت أحسن حال في زمن ليس ببعيد. ويعود ذلك إلى الأوضاع السياسية والأمنية بالدولة الحفصيّة وعدم استقرار العديد من المدن الخاضعة للدولة. فالصراع داخل البيت الحفصي من أجل الحكم كان له تأثير على عدم الاستقرار الاقتصادي وهو ما انعكس سلبيا على الأوضاع الاجتماعية والمعاشية للمجتمع عامة وللفئات الفقيرة والمهمّشة خاصة.

    طفحت على الساحة

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1