Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

أثر النقل على لغة العرب وفكرها قديماً وحديثاً
أثر النقل على لغة العرب وفكرها قديماً وحديثاً
أثر النقل على لغة العرب وفكرها قديماً وحديثاً
Ebook491 pages3 hours

أثر النقل على لغة العرب وفكرها قديماً وحديثاً

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

تعد اللغة أهم مقومات الوجود الحضاري والسِّمَة المميزة للأمم. ولا يخفى خطر اللغة في تشكيل هوية قوم ما وفي توثيق عرى انتمائهم إلى الأمة. إن اللغة وسيلة لفظية كتابية تُتوسل في تشكيل الفكر، وتطورها تابع لتطور العقل، إذ من المحال تطور الفكر ما لم يساوقه تطور لغوي يستوعب كل جديد فيه وحادث. والتطور المعرفي رهين بالتواصل الثقافي، فما من فكر نشأ وتدرج في مراتب الرقي بعيداً عن الترجمة والمثاقفة أدبية كانت أم علمية أو فلسفية. وما دامت اللغة نتاجاً بشرياً فهي تتفاعل مع محيطها تأثيراً وتأثراً، وموتها أو حياتها رُهِن بموت أهلها أو حياتهم. فالترجمة هي العامل الذي يمد جسور التلاقح المعرفي بين نتاج الآخر وخصوصيات الذات، حيث تجعل من نفسها أُولى وسائط التفاعل الحضاري، إذ كانت ولا تزال، إلى جنب وسائل أخرى، أبرز قناة لنقل المعارف بين الأمم. إنها الباب الذي يلج منه الوافد الأجنبي إلى الثقافة المحلية، فيكون لها كبير الأثر على توجيه فكرها وتطوير لغتها. وما أفرغنا فيه الوسع في كتابنا هذا هو تبيان أثر النقل والترجمة على لغة العرب وفكرها قديماً، وكذا تأثُّر اللغة والفكر العربيين بالترجمة حديثاً، كاشفين عن كيفية إقحام الترجمة ـ ماضياً وحاضراً ـ العرب في عوالم معرفية جديدة لم يكن لهم بها سابق عهد، وإيقافهم على نتاج عقول غيرهم من الأمم، وفتح أبواب المعارف العلمية لهم، وكيف طفرت بهم إلى ما وراء حدود أفقهم المعرفي، مبرزين للكيفية التي عمل بها النشاط الترجمي على توجيه الممارسة الفكرية عند العرب، وتغيير منحى فكرهم في القديم والحديث. ثم جهدنا بعد ذلك في التدليل على أثر الترجمة على العربية وكيف أدت إلى توسيع أفقها، وكذا كيف أورث أثر الترجمة عل نسق الفِكَر العربية تطوراً في ألفاظها وتغيراً في عمودها. كل هذا وما يندرج تحته من تفصيلات وتفريعات عملنا على بسطه وتوسيع القول فيه في ثنايا بحثنا هذا.
Languageالعربية
Release dateJun 30, 2022
ISBN9789948817598
أثر النقل على لغة العرب وفكرها قديماً وحديثاً
Author

د. جمال اقرورو

الدكتور جمال اقرورو من مواليد 1979. حاصل على الإجازة في القانون الخاص سنة 2003. وعلى الماستر في الترجمة من مدرسة الملك فهد العليا للترجمة بطنجة سنة 2011. وعلى الدكتوراه في الترجمة من جامعة علد الملك السعدي بتطوان سنة 2017 نشرت له مقالات في مجلة محكمة.

Related to أثر النقل على لغة العرب وفكرها قديماً وحديثاً

Related ebooks

Reviews for أثر النقل على لغة العرب وفكرها قديماً وحديثاً

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    أثر النقل على لغة العرب وفكرها قديماً وحديثاً - د. جمال اقرورو

    أثر النقل على لغة العرب وفكرها قديماً وحديثاً

    د. جمال اقرورو

    Austin Macauley Publishers

    أثر النقل على لغة العرب وفكرها قديماً وحديثاً

    الدكتور جمال اقرورو

    الإهــداء

    حقوق النشر©

    شكر وتقدير

    بينيديالكتاب

    المقدمة

    القسم الأول: أثر النقل والترجمة على لغة العرب وفكرها قديماً

    الفصــــل الأول:الشرعيـــــات بإزاء العقليـــــات

    المبحث الأول :تعارض العقل والنقل

    المبحـــث الثاني: التأويل بين المعقول والمأثور

    الفصل الثاني:النقــــل والعلوم الحادثة في الملة

    الفصل الثالث:من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الإسلامية

    المبـــحثالأول :الجمعبينالحكمةوالشريعة

    المبحــث الثاني :المباحث الشرعية في فلسفة الإسلاميين

    الفصل الرابع:من علوم الأوائل إلى إسلامية المعرفة

    المبحث الأول: أسلمة المنطق

    المبحث الثاني :من النقل والاتباع إلى التأليف والإبداع

    الباب الثاني: أثر النقل على اللغة العربية

    الفصل الأول:انفــعــــــال العـــربيــــــــة

    المبحث الأول: أثر المنطق الأرسطي على النحو العربي

    المبحث الثاني: ظهور المعاني الأدبية والعلميةوالفلسفية في الشعر

    الفصل الثاني:الترجمة وعمود العربية

    المبحث الأول :الدخيل واتساع المعجم

    المبحث الثاني :الوافد وتغير الدلالة

    الفصل الثالث:العلوم العقلية وموضوعات اللغة

    المبحث الأول :الخلافيات والمباحث اللغوية

    المبحث الثاني :الفلسفة والوضع اللغوي

    القسم الثاني: تأثر اللغة والفكر العربين بالترجمة حديثاً

    الباب الأول: الترجمة ومأزق الفكر العربي الحديث والمعاصر

    الفصل الأول:الفكر المنقول وإعادة تشكيل بنيةالعقل العربي

    المبحث الأول : الصراع بين القديم والجديد

    المبحث الثاني :تجديد الموروث

    الفصل الثاني:النقل وهوَس التأصيل

    المبحث الأول: تأصيل الوافد

    المبحث الثاني :الانفصام بين الوعي والواقع

    الباب الثاني: حركة الترجمة الحديثة ونشأة العربية الجديدة

    الفصل الأول:الألفاظ الحادثة في العربية

    المبحث الأول :الترجمة وتبدّل الدلالة

    المبحث الثاني :التعريب وإيجاد الألفاظ

    الفصل الثاني:تعريــــب الأساليـــــب

    المبحث الأول :سوء الترجمة وتهجين العربية

    المبحث الثاني :تداخل اللغات وعجمة الأساليب

    الفصل الثالث:الفنون الأدبية المستحدثة

    المبحث الأول: الترجمة والفنون النثرية الجديدة

    المبحث الثاني :الترجمة والصناعة الشعرية

    الخاتمة

    المصادر والمراجع

    الدكتور جمال اقرورو

    من مواليد 1979.

    حاصل على الإجازة في القانون الخاص سنة 2003.

    وعلى الماستر في الترجمة من مدرسة الملك فهد العليا للترجمة بطنجة سنة 2011.

    وعلى الدكتوراه في الترجمة من جامعة علد الملك السعدي بتطوان سنة 2017

    نشرت له مقالات في مجلة محكمة.

    الإهــداء

    إلى البشرية جمعاء.

    حقوق النشر©

    د. جمال اقرورو 2022

    يمتلك د. جمال اقرورو الحق كمؤلف لهذا العمل، وفقاً للقانون الاتحادي رقم (7) لدولة الإمارات العربية المتحدة، لسنة 2002 م، في شأن حقوق المؤلف والحقوق المجاورة.

    جميع الحقوق محفوظة

    لا يحق إعادة إنتاج أي جزء من هذا الكتاب، أو تخزينه، أو نقله، أو نسخه بأية وسيلة ممكنة؛ سواء كانت إلكترونية، أو ميكانيكية، أو نسخة تصويرية، أو تسجيلية، أو غير ذلك دون الحصول على إذن مسبق من الناشرين.

    أي شخص يرتكب أي فعل غير مصرح به في سياق المذكور أعلاه، قد يكون عرضة للمقاضاة القانونية والمطالبات المدنية بالتعويض عن الأضرار.

    الرقم الدولي الموحد للكتاب 9789948817581) غلاف ورقي)

    الرقم الدولي الموحد للكتاب 9789948817598 (كتاب إلكتروني)

    رقم الطلب:MC-10-01-2545432

    التصنيف العمري:E

    تم تصنيف وتحديد الفئة العمرية التي تلائم محتوى الكتب وفقا لنظام التصنيف العمري الصادر عن المجلس الوطني للإعلام.

    الطبعة الأولى 2022

    أوستن ماكولي للنشر م. م. ح

    مدينة الشارقة للنشر

    صندوق بريد [519201]

    الشارقة، الإمارات العربية المتحدة

    www.austinmacauley.ae

    202 95 655 971+

    شكر وتقدير

    جزيل الامتنان للأستاذ الدكتور رشيد برهون لقبوله تأطير رسالتي وخالص الشكر له على حسن تعاونه.

    كما لا يفوتني في هذه الكلمة الإعراب عن شكري لكل من مدَّ يد العون وأسهم من قريب أو بعيد في إخراج هذا العمل.

    bismilah

    بين يدي الكتاب

    اللغة في المتعارَف هي عبارةُ المتكلمِ عن مقصودِه، وتلك العبارة فعل لساني ناشئ عن قصد الإفادة بالكلام¹، فتكون للغة، بهذا، وظيفة التعبير عن الأشياء والتبليغ إلى الغير. وقد جعل الفلاسفة واللغويون الغايةَ من اللغة التواصل مع الغير أولاً وتَمَثُّل الكون وتصنيف الأشياء باستخدام الكلمات ثانياً، الشيء الذي يجعل منها أداة تواصل تستقيم بها شؤون الحياة دون أن تكون غايةً في نفسها.

    وإذا كانت اللغة أصواتاً يُعبِّر بها كل قوم عن أغراضهم²، فإن الإدراك الحسي للعالم الخارجي تَحكُمه اللغةُ المُتواضَع عليها. فاللغة مستودع لتصوراتنا للعالم ولأنفسنا، فتكون بذلك الوعاء الحاوي للثقافة ووسيلة التفكير التي تُحدِّد رؤيتَنا للعالم ونواميسِه، إنها الأساس الذي يقوم عليه تخيّل الأمة عند أندرسون، وهي الحامل الأكبر للمنتج الثقافي³ والوعاء الذي تتجسَّد فيه الأفكار، وهي الوسيلة التي تعكس العلاقات الظاهرية بين الأشياء نحو التعميم والتفكير المجرد⁴.

    ولا يخفى ما للغة من مكانة في تشييد البنيان الحضاري لأمةٍ ما، حتى إنها تصير جزءاً من كيان هذه الأمة وحضارتها، إلى الحد الذي يصبح فيه من العسير فهْم مدنيتها حقَّ الفهْم، ما لم يوقَفْ على آلتها اللغوية في التعبير.

    من هنا نقف على مدى خطر اللغة في تشكيل هوية قومٍ ما وفي توثيق عُرى انتمائهم إلى الأمة، فتغدو اللغة بهذا، في وعي الفرد كما في وعي الجماعة، هي الرمز الأعلى المعبِّر عن الهوية ومُقوِّماً من أهم مقوّمات الوجود الحضاري، فهي بالمفهوم الأبيقوري السمة المميزة للأمم، إذ باللسان يتميز قومٌ ما عمّن عَداهم.

    وإذا كانت اللغة عاملاً محورياً في تشكيل هوية الأفراد كما في تأسيس هوية المجتمعات، فإن أهميتها بهذا الشأن، تفوق أهمية العوامل الأخرى من عِرقٍ ودينٍ وثقافة.

    واللغة وسيلة لفظية كتابية تُتَوَسَّلُ في تشكيل الفكر، وتطوُّرها تابع لتطور العقل، إذ إن خصائصها هي عين خصائصه لأنه يسوغها على هيئته ومثاله¹. فكلما قطع الفكر أشواطاً في تقدُّمه، جَدَّتْ فيه مفاهيم طالبت لنفسها بتجسيد لغوي يدفع اللغة أيضاً نحو التطور. فمن المحال تطوّر الفكر ما لم يُساوِقه تطور لغوي يستوعب كل جديد فيه وحادث.

    وقد أثبتت الدراسات اللغوية الحديثة أنَّ العالم مُحدَث بوساطة اللغة، فجميع عناصر السلوك والإدراك والحقيقة والمنهج والعقل تتوسّل جميعها باللغة، أي تتوسل بما استقر في اللغة من عادات في الاستعمال وما احتوته من مقولات التصنيف والتفريع وبنيات الترتيب والتنظيم².

    فاللغة ليست مجرد وسيلة لنقل معارف خارجية وموضوعية بل هي أداة تؤثر بمقولاتها وصيغها في إدراكاتنا وتجاربنا وأفكارنا تأثيراً يحدِّدُ مضامينَ وصور هذه الإدراكات والتجارب والأفكار¹. فلا وجود للمعنى إلا إذا ميَّزته اللغة، حيث إن المعنى يتجلَّى ويتّضح بعلامة يدركها الإنسان، سواء كانت لفظاً أو إشارة، بمقدور الغير معرفتها ودَرْكُها.

    واللغة ظاهرة اجتماعية تُذعِن لقوانين التاريخ بخضوعها لناموس النمو والتجديد، وبسيرها على سُنة الارتقاء بأنْ تموت ألفاظ وتحيا أخرى. فالظاهرة اللغوية ظاهرة طبيعية، بمعنى أنها تسير من تلقاء كينونتها وِفْق نواميس خفيّة بشكل مطلق يَصْدُق على كل الألسنة البشرية². فالتطور أصلٌ أصيل في حياة اللغة التي تنمو مع النمو التدريجي للواقع ولصيرورة التاريخ. لهذا توجد اللغة مع الفرد وجوداً كينونياً³، وتخضع في تطورها لتأثير البيئة الطبيعية وكذا الظروف النفسية والعاطفية والعقلية لمتكلميها⁴. ومادامت اللغة نتاجاً بشرياً، فهي تتفاعل مع محيطها تأثيراً وتأثّراً، وموتُها أو حياتُها رَهْنٌ بموت أهلها أو حياتهم.

    وتُوصف اللغةُ بأنها كُلٌّ ثابت في الزمان⁵، وهي لها القدرة على استيعاب أكثر من ثقافة. ولما كانت طرائق تفكير الأمم وأنظارها متباينة، وكانت المعاني يمكن التعبير عنها باللغات الأجنبية، على اختلاف مقدارٍ في الدقة والإيجاز من لسان إلى لسان، فإن بعض الكلمات في لغةٍ ما تُعبّر عن أفكار ومفاهيم ليس لها معادل دقيق في لغة أخرى¹. فلكل لسان قواعده المخصوصة به وجملةُ ألفاظ لا يَشْرَكُه فيها غيُره، ومَرجِع ذلك إلى أن الناس لا يُسَمُّونَ إلا ما يحتاجون إليه والتجاربُ لا تنفد إلا بنفاد العصر، فتَقْصُرُ لغتُهم دون تسمية تجارب غيرهم، ما يجعلها قاصرة عن أن تطال مناحي فكر البشرية في كليته². وحين التصدي للترجمة يتبيّن صدق دعوى ضِيقِ اللغة عن الفكر.

    وإذا كانت اللغة تكسو منتجاتِ الثقافة رداءً دلالياً، تَعذَّر توافقُ لغةٍ مع أخرى من كل الوجوه واختلفت قدرة التعبير فيها.

    والاختلاف بين اللغات يكون سبباً في خفاء المعنى، إذ حيثما تقررت المباينة تعثرت الإبانة³، ولا سبيل إلى التفاهم البعيد، الذي لا يعترضه الاختلاف بين لغات متباينة في مبانيها ومعانيها، إلا بسلوك طريق الترجمة التي سوف تتولى تهذيب الفروق في المباني، وتذليل الخفاء في المعاني⁴.

    * * *

    ليس الفكر والمعرفة حِكراً على أمة دون أخرى، فالنظر في العلوم العقلية عرفته كل الأمم، والمعارف موجودة فيهم منذ غابر الأزمان⁵، إذْ الفكر الإنساني إرثٌ مشاع كلُّ أمة تضرب فيه بنصيب. ففكر البشرية بمثابة الفضاء الذي لا يُوقَف له على حد، والذي فيه تُلغى كل الحواجز، جغرافية كانت أم لغوية أم عقدية أم عرقية، فتكون المعرفة عديمة الهوية لأنها عامة في الناس غير مخصوصة بقوم، تتناقلها الأجيال في حضارات الأمم، فيدخلها التغيُّر ويلحقها التطور على مر الأزمان وتطاول الأعصُر.

    والتطور المعرفي رهين بالتواصل الثقافي، إذْ ما مِن فكرٍ نشأ وتدرَّج في مراتب الرّقي بعيداً عن الترجمة والمثاقفة، أدبيةً كانت أم علميةً أم فلسفية.

    فالترجمة هي العامل الذي يمدُّ جسور التلاقح المعرفي بين نتاج الآخر وخصوصيات الذات، جاعلة بذلك من نفسها أُولى وسائط التفاعل الحضاري، إذ كانت ولا تزال، إلى جنب وسائل أخرى، أبرز قناة لنقل المعارف بين الأمم.

    إن الترجمة نشاط كوني في الزمان كما في المكان، لقد كانت ضرورية لكل العصور.¹ فالاقتباس عن ثقافات مغايرة أمر مألوف منذ القِدم. ولَشَدَّ ما كانت الترجمة الباب الذي يَلِج منه الوافد الأجنبي إلى الثقافة المحلية، فيكون لها كبير الأثر على توجيه فكرها وتطوير لغتها.

    ولما كانت الترجمة المثالية بين اللغات متعذرة وكانت، على الدوام، فعلاً يعتريه النقص بالضرورة،² فإن العمل الترجمي يسعى جاهداً إلى إلغاء فوارق اللغة وإظهار ما بين المنظومات الفكرية المختلفة من قرابة أو بُعد، فالغرض منه هو التوسل بخصوصيات الألسنة لتبليغ ما تتضمنه من مقاصد إلى بعضها البعض³ بإلباس المعاني المنقولة ألفاظاً في اللسان المنقول إليه.

    إن الترجمة بهذا تكون أهمَّ عوامل التحوّل اللغوي¹، إذ قرّر اللغويون أن اختلاط اللغات وتداخلها هو أساس التطور اللغوي، حيث تتأثر اللغة من جرّاء اتصالها بغيرها من اللغات ومداخلة أهلها لغيرهم من الأمم، فيأخذون من عاداتهم وآدابهم بالمخالطة والملابسة، فيستتبع ذلك اقتباساً لألفاظهم وأخذاً لكيفيات تعبيرهم عن المقاصد، فتكثر الألفاظ وتتولد المعاني على ما تقتضيه الأحوال، فتنشأ ألفاظ حادثة وتظهر معانٍ جديدة².

    * * *

    وقد كانت الترجمة هي الأس الذي انبنت عليه الثقافة الإسلامية، مخلّفة خصوبة وتنوعاً في كل فروعها، ومؤسِّسة لمنطلقات جديدة في تاريخ الفكر الإسلامي، مُعلنة ميلاد حضارة عربية إسلامية دامت قروناً عدة.

    إن كثرة النقول والترجمات عن اليونانية والفارسية والهندية أوْرَثَتْ اتساعاً في مضامين الفكر الإسلامي وتوسيعاً لنطاق المعارف في فضاء الثقافة الإسلامية.

    فبفضل الترجمة تمكنت الثقافة الإسلامية من الوقوف على نتاج عقول الحضارات السابقة وتمثّلها، كما عملت على إيناس المسلمين والعرب بأفكار غيرهم وفتحت لهم أبواب المعارف العلمية وطفرت بهم إلى ما وراء حدود أفقهم المعرفي.

    إن أثر الترجمة هذا على نسق الفكر أورث العربية تطوراً في ألفاظها وتغيّراً في عمودها فازداد معجُمها غنى وألفاظُها وضوحاً.

    وما صدق على أثر الترجمة على لغة العرب وفكرها قديماً يصدق على أثرها حديثاً، إذ كانت الترجمة، إلى جنب المدارس الحديثة والبعثات، الباب الذي ولج منه العرب إلى حقل الثقافة العالمية، والقناة الرئيسية لانتقال الأفكار والنظم الحديثة إلى البلدان العربية، حتى إن الثقافة في عالمنا العربي باتت لا تنفصل عن الترجمة التي أضحى لها كبير إسهام في تشكيل فكر ووعي الإنسان العربي، بل بلغت الحد الذي باتت فيه تمدُّ الفكر العربي بأسباب البقاء وتمد اللغة العربية بأسباب النماء والتجدد.

    إنه وبفضل الترجمة أصبحت اللغة العربية تشهد ولادتها من جديد، إذ جدت فيها أساليب لم تكن إلا وليدة النقل والترجمة، وصارت نتيجة تأثرها باللغات الأوربية الحديثة واقتباسها من طرائقها في التعبير جديدة من حيث دلالاتها ومجازاتها وإن احتفظت من القديم بقسط وافر.

    بعد كل هذا نتساءل: كيف أقحمت الترجمةُ – ماضياً وحاضراً العرب في عوالم معرفية جديدة لم يكن لهم بها سابق عهد؟ وكيف عَمِل النشاط الترجمي على توجيه الممارسة الفكرية عند العرب؟ وكيف أدَّت الترجمة إلى توسيع أفق اللغة العربية بدفعها إياها إلى بعث الكامن من رصيدها؟ وما كان دورها في الكشف عن طاقات اللغة التوليدية؟ وكيف كانت هي تكريساً لتطلُّع اللغة إلى الخروج عن ذاتها واكتشافها ذاتَها، بعد أن أخضعتها للدفع العنيف الذي يتأتّى من اللغات الأجنبية؟

    ولتناول ما أوردناه من سؤالات بشيء من البيان والتفصيل، رتَّبنا الكتاب على مقدمة وأقسام وخاتمة.

    أما المقدمة ففي ذكر نبذة يسيرة عن تاريخ النقل في دولة الإسلام والأطوار التي تقلّبت فيها الترجمة وكذا الأسباب الباعثة على ازدهارها ومَن أشرف عليها من الخلفاء والرجالات ومن تقلَّد أمرَها من النَّقَلة والتراجمة؛ كل ذلك عل سبيل الإيجاز والاختصار، وذكرنا فيها تمهيدات نتطرق منها إلى ما بعدها.

    أما الأقسام فاثنان: الأول في بيان أثر النقل والترجمة على لغة العرب وفكرها قديماً. والثاني في تفصيل كيفية تأثر اللغة والفكر العربيين بالترجمة حديثاً.

    وقد جاءت تحت كل قسم أبواب اندرجت تحتها فصول، وكل فصل اشتمل على مباحث، حتى نأتي على بسط وتفصيل المسائل الواردة في كل باب، كي يتسنى لنا الإتيان على الأغراض التي يتضمنها.

    أما الخاتمة فهي جماع الأقسام كلها وفيها إجمال ما عالجناه وخلوص إلى نتائج تقررت عندنا.

    muqadmaat

    ابتداء حركة النقل

    لم يُؤْثَر عن العرب في جاهليتهم نظرٌ في العلوم ولم تتقدم لهم سابقة بالصنائع. فهم كانوا غُفْلاً منها، إلا ما كان من كلام الحكماء وتصرّف البلغاء في أجناس الفصاحات، فكانت لهم الرسائل البليغة والحِكم البديعة والأشعار الرقيقة والأمثلة السائرة والخطب الشريفة والمواعظ البالغة. فكانوا يرون أنفسهم فرسان الفصاحة وسادة البيان بما كان لهم مِن تصرّف في الكلام وبلاغة في المنطق.

    على أن منهم مَن كانوا يعاشرون الأحبار والكهنة ويجلسون إليهم، ومنهم مَن كان يتردّد على أهل الآثار وحملة الأخبار للتعلّم منهم¹. وكان في عرب الجاهلية حكماء ومُتَطَبِّبُون، كان كثير منهم يرحلون إلى بلاد الفرس والهند والروم أخذاً للعلوم من أهلها واطّلاعاً على ما لديهم، مِن مثل ما كان مع الحارث بن كلدة الذي رحل إلى أرض فارس وأخذ الطِّب عن أهل تلك الديار من أهل جنديسابور وغيرها في الجاهلية وقبل الإسلام²، والبلاذري الذي كان يجيد الفارسية وترجم عنها عهد أردشير¹، وكذا عدي بن زيد التميمي الذي كان أول من كتب بالعربية في ديوان كسرى، اتخذه في خاصته وجعله ترجماناً بينه وبين العرب².

    وفي صدر الإسلام، كانت العرب لا تزال أمة أمية عامية بدوية³ لا تُعنى بشيء من العلم إلا بلغتها ومعرفة أحكام شريعتها، حاشا صناعة الطب⁴. فهم لم يكونوا يعانون العلوم ويتعاطون الفحص عن الموجودات على ما جرت به عادة الأمم المصاقبة لهم⁵.

    ولم تدخل علوم الأوائل إلى المسلمين إلا في القرن الأول لمّا فتحوا بلاد الأعاجم، لكنها لم تكثر فيهم ولم تنتشر بينهم لِمَا كان السلف يمنعون من الخوض فيها⁶.

    والمشهور أن أول نقل كان في الإسلام من لغة إلى لغة كان على يد خالد بن يزيد بن معاوية الذي كان يحب الحكمة والكلام والنظر. وكان مُولعاً بالكيمياء، فأمر جماعة من فلاسفة اليونانيين المتفصحين بالعربية، بنقل الكتب في الصنعة من اللسان اليوناني والقبطي إلى العربي⁷. ثم نُقِل الديوان وكان باللغة الفارسية إلى العربية في أيام الحجاج، ثم نقل ديوان الشام – وكان بالرومية – في زمن هشام بن عبد الملك¹.

    هكذا نجد أن رجالات الدولة الأموية لم يُعنوا بنقل العلوم الدخيلة ونشرها، إلا ما كان من تعريب خالد بن يزيد لكتب الصنعة وتعريب بعض الخلفاء للدواوين وإخراج عمر بن عبد العزيز لكناش أهرن في الطب، الذي ترجمه ماسرجويه على عهد مروان بن الحكم².

    فالناس في ذاك الزمن، لم يكونوا يشتغلون بالترجمة إلا آحاداً، وأعمال النقل لم تَطَل إلا ما كان للناس بهم إليه حاجة في أسباب المعيشة، دون أن تتجاوزه إلى العلوم العقلية كالمنطق والفلسفة، لانتفاء الحاجة إليها آنذاك ومصادمتها لنصوص الشرع.

    إن القسم الكبير مما ترجم في العهد الأموي كان وثائق تتصل بتسيير شؤون الدولة، في السياسة والتجارة والحكم، حين اتسع نطاق دولة الأمويين ودخلت الشعوب والأجناس – المخالفة لهم في اللسان والمباينة لهم في العادات – تحت حكمهم³.

    حاصل القول أن القرن الأول للهجرة كان بداية اطّلاع المسلمين على علوم اليونان خاصة، ولم يتعدّ النقل كتباً يسيرة، قبل أن تنطلق حركة الترجمة الكبرى في العصر العباسي.

    النقل على عهد العباسيين

    سبق قيامَ الدولة العباسية ترجماتٌ شتّى قام بها آحاد، وهي الترجمات التي مهَّدت السبيلَ لقيام حركة ترجمة من لغات الأمم إلى لسان العرب في بغداد. وقد شكَّلت هذه النقول مرحلة حاسمة في تاريخ فكر البشرية.

    فقيام حركة النقل وازدهارها كان من ورائه أحوالٌ مادية هيّأت الأسبابَ لبداية حركة علمية لدى العرب نحو سنة 85 هـ (بداية القرن السابع الميلادي)، إذ لم يُشرَع في نقل كتب اليونان في الطبيعة والطب والمنطق إلى اللسان العربي إلا في عهد المنصور¹ الذي كان أول مَن عُنِيَ مِن خلفاء بني العباس بالعلوم²، وكان أول خليفة تُرجِمت له كتب أرسطو طاليس من المنطقيات وغيرها. حيث كان كَلِفاً بعلوم الفلسفة راغباً فيها، وخاصة في صناعة النجوم³ فأمر طبيبَه جورجيس بن بختيشوع النسطوري بترجمة كتب الطب إلى العربية، والتي كانت كتب أبقراط – من بينها – أقدمَ الكتب المنقولة إلينا⁴.

    وعلى عهد المنصور تُرجم كتاب السند هند لبرهمكويت الذي قَدِم به الرجلُ الهندي في أيامه، وبنى عليه الفزاري – الذي كان أول من عُني في الملة الإسلامية بعلم النجوم – في تأليف كتاب السند هند الكبير الذي اتخذه العرب أصلاً في حركة الكواكب⁵، قبل أن يعرفوا كتاب المجسطي لبطليموس. وازدادت بعد ذلك عناية العرب بهذا العلم وبحثوا عنه ورحلوا في طلبه إلى الآفاق¹.

    وقد نُقلت بعض كتب العلوم عن اللغة الفهلوية، وتُرجمت أعمال علمية وفلسفية تعود إلى ما قبل الإسلام كان الفرس قد نقلوها من اللسان اليوناني. وأخذ ابن المقفع بنصيب وافر في ترجمة كتب المنطق وغيره، ولم يختلف عنه من جاء بعده إلا بإصلاحات انفردوا بها².

    ومن الدليل على دخول علوم المنطق وغيرها إلى المسلمين في صدر الدولة العباسية، اطّلاع أوائل المعتزلة على هذه الكتب وورود ذكر مسائل الجوهر والعرض والماهية في تواليفهم.

    على أن حركة الترجمة والنقل التي ابتدأها المنصور لم تَلْقَ الاهتمامَ ذاته عند الخليفتين المهدي والهادي، ما كان سبباً في ركود نشاطها³.

    وإذا كان المنصور أول من عُني بنقل الكتب القديمة وصرف عنايته إلى النجوم والهندسة والطب، فإن الفلسفة والمنطق وسائر العلوم العقلية

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1