Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

أزمتنا.. صراع بين الأصالة والاستنساخ
أزمتنا.. صراع بين الأصالة والاستنساخ
أزمتنا.. صراع بين الأصالة والاستنساخ
Ebook509 pages3 hours

أزمتنا.. صراع بين الأصالة والاستنساخ

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

بين إصرار على التقيد بماض اجتهد لعصره، وبين رغبة في محو التاريخ كله والأخذ
بكل ما هو حديث متغرب..
بين صراع أصحاب الماضي فقط، وأصحاب الحداثة فقط..
تأتي أزمة الفكر العربي لترصد حالة من فصام سلوك ورؤية نعيشها منذ قرون ولا تزال
تلقي بظلالها على حاضرنا المتأهل للمستقبل... نتساءل: لماذا تفوق الغرب وبعضنا
رهينة لهياكل الماضي؟ ونتعجب لغياب هويتنا وبعضنا رافض لجذور حضارته الراسخة،
دون أن ندرك أن مستقبلنا يتشكل بنا وفينا من خلال ما كنا عليه وما نصبو له من
نهضة لا تتأتى إلا بالأخذ بالحداثة المتسقة مع قيمنا وتاريخنا العريق.
هذا ما يطرحه الكتاب الهام الذي بين يديك عبر عرض وقائع التاريخ ومناقشتها
ومقارنتها بأزمات مرت بحضارات حولنا لنجيب عن تساؤل محدد: كيف نواجه أزمتنا
فنتبنى الحداثة دون الإخلال بهويتنا؟
Languageالعربية
PublisherNahdet Misr
Release dateJan 1, 2021
ISBN9789771457961
أزمتنا.. صراع بين الأصالة والاستنساخ

Read more from محمد عبد الستار البدري

Related to أزمتنا.. صراع بين الأصالة والاستنساخ

Related ebooks

Reviews for أزمتنا.. صراع بين الأصالة والاستنساخ

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    أزمتنا.. صراع بين الأصالة والاستنساخ - محمد عبد الستار البدري

    الغلافY9789771457961-new.xhtml

    أزمتنـــا..

    صراع الأصالة والاستنساخ

    د. محمد عبد الستار البدري

    Y9789771457961-new.xhtml

    إشـراف عام: داليا محمد إبراهيم

    البدري، محمد عبدالستار.

    أزمتنا.. صراع الأصالة والاستنساخ/ تأليف: محمد عبدالستار؛ الجيزة، ، 2019

    368 ص ، 19.5 سم

    تدمك: 9789771457961

    1- الثقافة

    2- الحضارة الإسلامية - مقالات ومحاضرات

    أ - العنوان

    جميــع الحقــوق محفـوظــة © لدار نهضة مصر للنشر

    يحظـــــر طـبــــــع أو نـشـــــر أو تصــويــــر أو تخـزيــــن

    أي جــزء مــن هــذا الكتــاب بأيــة وسيلــة إلكترونية أو ميكانيكية

    أو بالتصويـــر أو خــلاف ذلك إلا بإذن كتابي صريــح من الناشـــر.

    الترقيم الدولي: 978-977-14-5796-1

    رقـــم الإيــــداع: 19210 / 2019

    الطبعــة الأولى: يناير 2020

    Section0001.xhtml

    21 شارع أحمد عرابي - المهندسين - الجيزة

    تليفـــون: 33466434 - 33472864 02

    فاكـــــس: 33462576 02

    خدمة العملاء: 16766

    Website: www.nahdetmisr.com

    E-mail: publishing@nahdetmisr.com

    إهـــــداء

    إلى أمي الحبيبة..

    التي صبرت عليَّ منذ الصغر..

    وآمنت بقدراتي في الكبر..

    وتحاملت سنوات من تطبيقاتي للفكر النقدي..

    فإليكِ أُهدي هذا العمل..

    عسى أن تدركي أن صبرك لم يذهب هباءً.

    ابنك الممتن: محمد

    مقدمة

    لماذا يُصر الكثيرون على أن يضعونا في تناقض بين ماضينا ومستقبلنا؟ لماذا يصرون على أن يضعونا في تناقض بين إسلامنا وبين الحداثة المنشودة؟... لماذا يُطلب منا أن نُطلِّق الماضي لنتزوج المستقبل؟ فهل الطلاق الفكري بين المُدخلات التي صنعتنا وبين أي مستقبل مستنير في حالة صراع؟ هل المطلوب منا أن يكون فكرنا استنساخًا لغيرنا دون الحفاظ على هويتنا؟

    ومن هذا المنطلق يسعى الكتاب لمناقشة بعض المسببات المؤدية لهذه الأسئلة من واقع مقالاتي بجريدة «الشرق الأوسط»، والتي هي نتاج لسنوات ممتدة من البحث والتدقيق في عدد من القضايا المرتبطة بذات السياق، فقمت بصياغة هذه المقالات مرة أخرى تحت أبواب وعناوين محددة، مضيفًا إليها بعض الملاحظات عند اللزوم؛ بهدف وضع نسق فكري يهدف لمحاولة فض الاشتباكات الفكرية والثقافية المتولدة لدينا إما بسبب ضعف قراءتنا لتاريخنا وتحليلنا له، وإما للتمسك بأحلام فُرضت علينا بالنقل وهي مستحيلة التنفيذ اليوم، أو لأسباب مرتبطة بمن يمكن وصفهم «بغربيي الهوى» ممن يسعون لاستنساخ أو استيراد نماذج «جاهزة التصنيع»؛ لتطبيقها علينا وهي لا تناسبنا في أجزاء منها، ولا تتفق مع تراثنا أو تركيبتنا الثقافية أو الفكرية، بل إن الأخطر من ذلك هو سعي بعض عناصر هذا التيار لفرض طريق محدد للوصول لهذه النماذج وفقًا لتجربة هذه المجتمعات التي يتم استيراد هذه النماذج منها... وعند هذا الحد يجب أن نتفهم جميعًا أن بين نقطة الانطلاق والهدف المنشود مسافاتٍ وأفكارًا وسلوكياتٍ ومحطاتٍ كثيرةً ومتعددةً تحتاج منا إلى يقظة وفكر قبل إدخالنا في نموذج غير عملي لصناعة مجتمع مشوه.

    وحقيقة الأمر أن الهدف لدى الكثير صار مشوشًا؛ ومن ثم فلابد لوسائل تحقيقه أن تضطرب أو تتضارب، ولكن لا مناص من مرورنا بهذه المرحلة الانتقالية التي مر بها كثير من المجتمعات الأخرى، والسبب وراء ذلك هو تعدد التيارات الفكرية المختلفة منذ القرن التاسع عشر حتى اليوم، والتي تسعى لوضع الأسس المفاهيمية لصياغة المجتمع المصري والعربي، إلا أنها لم تتجسد تارة، أو أصابها العوار الفكري أو الزمني تارة أخرى، أو تم نعتها بالكفر، أو دخلت حيز الكبت الفكري لأسباب مختلفة، فجيلي لمس في مطلعه نهاية فرية ما أُطلق عليه «الاشتراكية الإسلامية»، ومن قبلها مشاريع عديدة تمت وفقًا لرؤى فكرية متشددة، أو لأهواء سياسية مختلفة، وقد شابَتْها مشاكل لا مجال لحصرها في هذه المقدمة، ولكننا سنتعرض لبعضها في متن هذا الكتاب، وقد خلصت إلى أننا بحاجة إلى قواعد لتنظيم الحوار بين كل هذه التيارات الفكرية ومنطلقاتها يكون هدفه الوصول لكلمة سواء على أساس التوافق، وليس بالضرورة الاتفاق، بحيث تقتنع الأغلبية المطلقة بها فتكون نموذجًا تطبيقيًّا للريادة المصرية ولمن حولها من المجتمعات والدول، خاصة أننا بدأنا هذا الطريق منذ زمن بعيد ولكنه أخذ الزخم المطلوب منذ ثورة 2013، وتقديري أن هذه مسئولية الطبقة المثقفة بالدرجة الأولى التي آثر بعضها إما استيراد المفاهيم دون النظر في مناسبتها أو حتى لم يسعَ لوضع اللائحة التنفيذية لتطبيقاتها، فنحن لن نستطيع استنساخ النموذج الليبرالي الغربي حرفيًّا بمشتقاته أو تاريخه؛ لأنه - ببساطة - لا يتناسب كما هو مع ظروف مجتمعاتنا وتطورها ومفاهيمنا وتقاليدنا؛ تمامًا مثلما لا أستطيع فعل الشيء نفسه بإعادة إحياء هياكل فكرية تاريخية في مجملها قد لا تكون عملية في عالمنا اليوم؛ مثل مفهوم «الخلافة» - على سبيل المثال وليس الحصر- وتركيبته السياسية التي قرأنا عنها دون نظرة موضوعية ناقدة لجدواها اليوم، وليس الأمس بطبيعة الحال، فقد كانت بالفعل أفضل النماذج السياسية المتاحة منذ قرون طويلة مضت، ولكن السؤال هو «هل نحن فعلًا بحاجة لإعادة إحيائها اليوم ولو بطرق مختلفة؟» ناهيك عن استحالة تطبيقها لأمور لا علاقة لها بالعقيدة، ولكن بالسياسة المُطبقة في كل المجتمعات الإسلامية بلا أي استثناء... خلاصة القول أن أخطر ما يُصيبنا هو أن نبني رؤيتنا للمستقبل على أسس مفاهيمية هشة في سبيل الحصول على صك «الحداثة» من الغرب، أو عندما نسعى للحصول على صك «القرب من الله» ممن ليس لهم صفة منح هذا اللقب من الأساس وفقًا لكتاب الله - سبحانه وتعالى - وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام.

    لقد كانت كل هذه الأفكار تختمر في ذهني على مدار زمن طويل، ولكنها ازدادت بقوة خلال السنوات السبع الماضية، وتحضرني هنا تجربة مفصلية عندما شاركت وآخرون من مجالات مختلفة في فبراير 2013 لمناقشة مسودة «مفهوم استراتيجي للسياسة الخارجية المصرية» تضمن إشارة لضرورة بناء السياسة الخارجية المصرية على «الإسلام الوسطي»، وتغيير مفهوم الأمن القومي المصري ليصبح «الأمن القومي الإنساني»، وقد تم التصدي لهذا المفهوم لأن السياسة الخارجية للدولة -أيًّا كانت- تُبنى وتدار على أسس «المصلحة القومية» ولا مجال للخلط الأيديولوجي فيها، أما بالنسبة لمفهوم الأمن القومي فهو مفهوم جماعي التركيب، بينما حقوق الإنسان تعد حقوقًا فردية، وبالتالي يكون ذلك تفتيتًا لمقاصد أمن المجتمع ككل، وهذا ليس انتقاصًا من حقوق الفرد مطلقًا، وفي كل الأحوال لم نسمع عن هذه الورقة مرة أخرى.

    لقد تأثرت بهذه الجلسة أيما تأثر؛ فقد أدركت خطورة إدخال إدارة الدولة – آنذاك - في صراعات فكرية مرتبطة بالوضع على الساحتين الداخلية والخارجية، فالطرح الأول للورقة كان تجميلًا أيديولوجيًّا لاسترضاء دوائر إسلامية على أساس أن السياسة ستُبنى على الإسلام، وهو أمر غير وارد في هذا المجال، ليس لضعف في العقيدة ولكن للطبيعة الخاصة بممارسة السياسة الدولية؛ بينما الطرح الثاني الخاص بتعديل مفهوم الأمن القومي المصري كان لتجميل النظام الحاكم في المرآة الغربية بسعيه ليصبغ حقوق الإنسان في أعز ما تملكه الدولة وهو أمنها القومي، وذلك في الوقت الذي لا توجد فيه دولة واحدة، بما فيها الغربية، تصف أمنها القومي بأنه إنساني بحت.

    واقع الأمر أننا اليوم بحاجة لوضع إطار فكري يكون جسرًا للعبور نحو الحداثة؛ حتى لا نكون تارة غير واقعيين، وتارة أخرى غير عمليين؛ لأنه يكون مبنيًّا على رؤية متجملة لماض سياسي عانى من مشاكل جمة وبعض الحقائق التي يسعى البعض لطمسها، ومنبع ذلك - في تقديري - خلطنا الواضح والصريح بين الإسلام كدين رحمة وهداية؛ بل هدية المولى عز وجل إلينا، وبين سلوك المسلمين عبر التاريخ، فأضفنا القدسية على من لا قدسية لهم أو لسلوكهم؛ لأنهم بشر مثلنا أصابوا وأخطئوا، فكانت النتيجة هي تقديس هياكل سياسية وفكرية من صناعة اجتهادات آبائنا على مر الأجيال، وأنا لا أقصد هنا مذهبًا إسلاميًّا بعينه على الإطلاق، ولكنني أقصد ما نتج عن تفاعلاته على مر العصور والتي أصبح علينا قبولها على اعتبارها جزءًا من العقيدة، وهو غير صحيح، وذلك في الوقت نفسه الذي يفرض علينا آخرون تطبيق نماذج غيرنا بكل مشتقاتها وهي تتعارض مع قناعاتنا ومبادئ ديننا التي هي جزءٌ لن يتجزأ من تكويننا... فإلى متى سيستمر هذا التشتت؟!

    إن ما أريد الوصول إليه من هذا الكتاب يحتاج إلى مجلدات ممتدة ومناقشات واسعة حتى يمكن تجميع ما كُتب عنه؛ لذا فقد آثرت أن يكون مجرد «ومضات من الفكر» من الماضي والحاضر وبعض التفسيرات لها (والتي بكل تأكيد تحتمل الصواب والخطأ)، فهي مقالات تمثل -في تقديري- وقفات إما فكرية أو تاريخية أو تأملية نحتاج للتفكر والتأمل فيها وحولها... وهنا أؤكد أن الكتاب لا يقدم نموذجًا فكريًّا غائبًا، ولكنه يسعى لوضع بعض المبادئ العامة للحوار في مجتمعاتنا على حقائق ثابتة بهدف الوصول إلى نوع من الوفاق، وليس بالضرورة الاتفاق.

    وفي هذا الإطار، فإن الفصل الأول يؤكد استحالة قياس التجربة المسيحية الكاثوليكية في أوروبا على التاريخ الإسلامي السني أو مستقبله، والهدف هنا واضح؛ وهو التصدي لمن يسعون للخروج بتعميمات فكرية عن الدين من واقع هذه التجربة المسيحية؛ سعيًا لفرضها على الدين الإسلامي، فتجربة الإسلام السني السياسي تختلف كل الاختلاف عن هذا النموذج، ومن ثم خطورة السعي لتطبيق تعميمات على الإسلام مشتقة من هذه المغامرة الكنسية، وذلك ليس دفاعًا عن الإسلام ولكن إقرارًا للواقع والتاريخ، كذلك يسعى الفصل لوضع أسس نقد - بل نقض - القياس الخطأ على التجربة المسيحية الغربية في مشروعها القومي الأول نحو الوحدوية تحت شعار «إله واحد وملك واحد» تكون فيه الكنيسة الحكم النهائي للاهوت والإمبراطور حاكم الأرض، بما في ذلك من تعارض واضح وصريح أدى إلى فشله المزري.

    ويسعى الفصل الثاني لمحاولة شرح التجربة الوحدوية الأوروبية الثانية المتمثلة في الاتحاد الأوروبي، وهذا النموذج الذي لم يُبن على المسيحية برغم تسيدها المشهد الثقافي الأوروبي، فالصرح الأوروبي الذي نحن بصدده اليوم تم بناؤه على مفهوم «المصلحة المشتركة» في الأساس، وتوحيد القيم السياسية والفكرية المشتركة، مع الإبقاء على هامش الهوية المنفردة لأعضائه، وهو يمثل ردًّا على مقولات ترددت بأن الوحدة الإسلامية على أساس سلطة «فوق الوطنية Supra-national» في صيغة إعادة الخلافة الإسلامية هي الحل، وهذا الفصل يؤكد إمكانية التكامل العربي أو الإسلامي في حالة خلق الأساسيات المؤدية لذلك، وليس باعتماد سلطة فوقية ممثلة في إعلان الخلافة، فإذا ما أردنا أن نتعلم من نجاح التجربة الوحدوية الأوروبية فالفصل يقدم بعض الرؤى لإنجاح مفاهيم التكامل كخطوة نحو الوحدوية - إذا ما كانت ممكنة - بعيدًا عن إطلاق الشعارات العاطفية.

    بينما يهدف الفصل الثالث لمناقشة بعض المفاهيم الأساسية التي كثيرًا ما يُصاغ عليها مشروع الفكر السياسي العربي وارتباطها بالإسلام؛ مثل الشرعية والقومية، فضلًا عن نقد بعض المفاهيم المتولدة على مدار التاريخ الإسلامي ومحاولة فصل العقيدة عن التطبيق الفعلي لبعض الخلفاء والقيادات السياسية، إضافة إلى بعض جوانب أزمتنا الفكرية إما في التحاور مع الخارج، وإما في صياغة خطابنا الفكري والثقافي.

    أما الفصل الرابع فهو موجَّه للرد على الاتهامات الباطلة التي أطلقها بعض المستشرقين والمفكرين ضد الإسلام، سواء في إطار رفض الدين بصفة عامة ومحاولة إخراجه من المعادلة الإنسانية، أو في إطار خصوصية الهجوم على الإسلام ذاته استنادًا لحقائق تم تحريفها وإخراجها عن مضمونها، أو لأغراض أخرى ليست بالضرورة فوق مستوى الشبهات، فهو يفند بعض هذه الادعاءات، خاصة المرتبطة منها بأن الإسلام مبعث العنف بصفة عامة وفي الشرق الأوسط بصفة خاصة، وذلك إلى جانب صياغة عدد من المفاهيم الكفيلة بالدفاع جزئيًّا عن الإسلام أمام من يدعون أنه أساس العنف، فتتم صياغة الرد التاريخي/ السياسي على أسس علمية لمواجهة هذا الافتراء، إضافة إلى التعرض لبعض حركات العنف في التاريخ الإسلامي ووضعها في حجمها الطبيعي؛ حتى لا تُخلق القاعدة على أساس النتوء.

    في حين يستعرض الفصل الخامس بعض الرموز الفكرية والمحطات المهمة في التاريخ الإسلامي، مع تركيز خاص على حركة الإصلاح في العصر الحديث، وتبعاتها الفكرية، وما ولدته من نماذج لبناء الدولة، مثل الثورة العرابية، والنموذج التركي العلماني على أيدي الزعيم «أتاتورك» الذي خرج عن نطاق ماضيه تمامًا للسعي لتطبيق نموذج غربي بحت، والهدف من الفصل هو طرح بعض الرؤى لنستخلص منها ما يفيدنا اليوم في واقعنا، والهدف من هذا الفصل - أيضًا - ليس سردًا للحركات؛ بل مرة أخرى مجرد إشارات لتجارب أو توجهات فكرية تسمح لنا بالتأمل، وتكون محطة يمكن للقارئ الكريم أن يستند إليها لمزيد من القراءة حول مدلولاتها.

    هذا، وتتضمن الخاتمة عددًا من النقاط التي أراها محورية بما فيها سبل إدارة الحوار الفكري بعيدًا عن النماذج المتجمدة، أو سابقة التجهيز، أو الفكر الضيق الذي لا يفتح المجال للتقدم، وذلك كبديل عن التراشق الذي نراه سائدًا، والذي لا أرى منه فائدة، بل إنه يكرس القطبية الفكرية ولا يخدم قضايا الوطن، إضافة إلى خطورة إدارة الدولة على أسس أيديولوجية بحتة.

    إن الأمل يداعبني في أن أكون قد قدمت للقارئ العزيز عصفًا ذهنيًّا يكون وسيلة لاستقاء العبر منه، بما يساعدنا في صياغة حوار فكري نبتغيه، فهو لا يمثل انتقاصًا من أحد أو من أية أيديولوجية، فأنا ممن سيظل يُصر على أهمية تفهم الطبيعة الخاصة للشعب المصري، وأهمية صياغة حوار يحترم عقائده، ويضعها في المقدمة... وفي الختام فإنني أؤكد أن هذا الكتاب - مثل عنوانه - مجرد «ومضات من الفكر»، وليس تتبعًا أو سردًا لكل الأطروحات الفكرية المختلفة في تاريخنا، فهي كثيرة وتمت معالجة أغلبها من خلال كتب وأبحاث مختلفة يمكن الرجوع إليها، ولكن الهدف هنا هو مجرد وضع بعض الأفكار والأطر المفاهيمية لإدارة الحوار الفكري.

    والله ولي التوفيق

    د. محمد عبد الستار البدري

    القاهرة، مايو 2019

    شكـــر وتقــديـــر

    أود أن أتقدم بخالص الشكر والتقدير لكل من ساعدني في الانتهاء من هذا الكتاب، خاصة أستاذي ومعلمي السفير «عاصم مجاهد» الذي راجع ونقَد كل أجزاء الكتاب، تمامًا مثلما كان يفعل معي وأنا دبلوماسي حديث في سفارتنا في أنقرة؛ فقد ساعدني - بشكل كبير- في تبويب فصول كاملة ومراجعة المسودة مراجعة دقيقة، كما أتوجه بالشكر للعديد من زملائي الدبلوماسيين الأعزاء في القطاع العربي؛ خاصة المستشار أحمد الشندويلي، وشريف بدير، وسكرتير ثالث هيثم العشماوي والزميلة يارا نوار، فلكم جميعًا خالص شكري وتقديري.

    كما أود التقدم بالشكر لدار نهضة مصر ومهنيتها المتأصلة، وأخص بالذكر السيدة «داليا إبراهيم»، والسيدة «نشوى الحوفي» على كل مجهوداتهم.

    مصـــــر المحمية الإلهية(1)

    في كثير من الأحيان تطغى عليَّ مصريتي، وتخرجني في مناسبات كثيرة -مثل الآن- عن الرؤية العلمية أو التجريبية المتبعة في كتابة مقالاتي، ولكن اليوم أشعر بحنين غير تقليدي نحو مصر ومصريتي، فإذا كانت الأولى أفترق عنها بحكم الغربة، فالثانية تظل تلازمني؛ فهي جزء من هويتي، ولكنني أسعى لوصفها اليوم على اعتبارها الدولة الوحيدة التي صنعها المولى عز وجل منذ الخليقة، ومنحها أركانها المادية الثابتة إلى يومنا هذا، فكل دول العالم بنيت بالسياسة، وتأثرت ديموجرافيتها بالأحداث التاريخية، وتشكلت هويتها بالطموحات أو الانتصارات أو الهزائم بشكل أو بآخر، ولكن مصر -في اعتقادي- هي الاستثناء، فأساسها «الجيو-سياسي» Geopolitical لم يتغير حتى لو تغيرت حدودها بحكم التوسع أو الانكماش عبر الزمن، فمصر -ككيان سياسي وإقليمي- هي الدولة الوحيدة التي أدعي أن الساسة لم يشكلوها، بل وحدوها فقط، وبعد التوحد فإنها قد تتسع جغرافيًّا ولكن أساسها دائمًا ثابت في إطار جغرافي محدد منذ أن وحدها الملك مينا، وإذا ما حاولنا أن نفهم هذه الحقيقة من الناحية السياسية أو الجيو-سياسية أو التاريخية أو التحليلية فلن يصعب علينا ذلك، فكتاب «شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان» يظل -في تقديري- أفضل مرجع لهذا الغرض، كذلك كتابات عالِم السياسة حامد ربيع، ولكنني اليوم أريد تناولها من مفهوم غيبي أو ميتافيزيقي يختلف تمامًا عن المنهج المتبع في هذا الباب، فأنا على قناعة تامة بأن في الكتب السماوية دلالاتٍ كاملةً بأن تناول مصر فيها يؤكد أنها كيان سياسي يكاد يكون وحيدًا.

    يتضح من خلال إشارات القرآن الكريم في كثير من الأحيان أننا نغفل حقيقتين أساسيتين، لصالح إما عدد المرات التي ذكرت فيها مصر، أو أسبابها، أو المباركة الإلهية الممنوحة إياها والتي دأب كثير من المدققين وغيرهم على ترديدها، ولكنني أسعى هنا للإشارة إلى حقيقة جوهرية هي أن ذكر مصر في القرآن له دلالتان أساسيتان من الناحية السياسية- التحليلية- الجغرافية، فمصر هي الكيان «الجيو-سياسي» الوحيد الموصوف في القرآن الكريم وبشكل قاطع ومانع وجامع، أما الحقيقة الثانية المنبثقة عن الأولى فهي أن مصر - كما وردت في القرآن الكريم - تضمنت العناصر الأساسية التي ترتكن إليها نظرية الدولة في القانون الدولي وعلم العلاقات الدولية الحديث، كما لو أنها رسالة إلهية لحاضرنا تمامًا كما كانت لماضينا، وهو ما يجعلها شيئًا فريدًا متفردًا يضيف إلى مقصد المولى -عز وجل- لها وبها.

    فالحقيقة الأولى والمرتبطة بكون مصر الكيان الجغرافي- السياسي الوحيد في القرآن ثابتة وواضحة، ففي كتاب الله -عز وجل- نجد ذكرًا لكيانات مختلفة، مثل قوم «عاد» و«ثمود» و«لوط».. إلخ، كما أننا نسمع عن كيانات أخرى مثل «الروم» أو قبائل محددة، ولكن مصر هي الكيان الوحيد المحدد في كتاب الله، فلقد ورد ذكر مصر في القرآن الكريم في 5 مناسبات هي على النحو التالي:

    = ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ﴾. [البقرة: 61]

    = ﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ..﴾. [يوسف: 21]

    = ﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾. [يوسف: 99]

    = ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ..﴾. [يونس: 87]

    = ﴿وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾. [الزخرف: 51]

    وتعكس هذه الآيات وجود كيان سياسي جغرافي ممتد وواضح، فذكر مصر هنا ليس على اعتبارها مكانًا لقبيلة أو أرضًا مفتوحة الهوية والمكان، ولكنها كيان جغرافي سياسي واضح، فمصر مُعرفة في القرآن كما لو أنها كانت موضحة لكل العيان لا تحتاج إلى إشارة مكانية أو حدود لتعريفها؛ فهي مرتبطة بمكان يعرفه الخطاب الإلهي بوضوح ويدركه القارئ بشكل يكاد يكون من خلال الحدس، فالقرآن يتحدث عنها على اعتبارها تمثل كيانًا متكاملًا معروفًا في مكان معلوم.

    أما الحقيقة الثانية فهي المرتبطة بتفسير الدولة وأركانها في القانون الدولي وعلم العلاقات الدولية، فالدولة -وفقًا للقانون الدولي- ترتكز على أربعة محاور رئيسية، أهمها في هذا الإطار «الشعب» أو مجموعات من البشر مجتمعون على فترات زمنية ممتدة، والثاني هو «الإقليم» أي المكان أو الحدود التي يعيش فيها هذا الشعب بصفة دائمة، والثالث هو «السلطة» أي وجود سلطة سياسية مُنظمة قادرة على ممارسة السيادة، أو بمعنى إدارة البلاد على فترات زمنية، ويضاف لهذه العوامل الثلاثة وجود اعتراف دولي بها، وإذا ما نظرنا لتناول القرآن لمصر فسنجد المولى عز وجل قد وضع أركانها بشكل يكاد يكون مؤسسيًّا، فالإقليم مُعرف كما أشرنا، وهو أرض الكيان المصري، فالجميع يعرف أين تقع مصر ونيلها الذي وصف في الآية الأخيرة، والمكان هنا ثابت وواضح المعالم، وهذا هو الإقليم وفقًا لأركان الدولة، وإن كانت وسيلة تعريفه تختلف -بطبيعة الحال- عن الآن، أما العنصر الثاني الخاص بالشعب المصري المقيم فيها فهو أيضًا مُعرف في القرآن، فالآية الخامسة تشير بوضوح إلى قوم مصر الذين نادى فيهم فرعون؛ أي الشعب المصري، الذي ربطته الآيات الأخرى بالمكان الجغرافي، أما العنصر الثالث والأخير في المعادلة، فهو السلطة السياسية المنظمة القادرة على ممارسة السيادة فهي واضحة ومُعرفة أيضًا، فالآية الخامسة تشير إلى فرعون الذي يعد ممثلًا لهذه السلطة السيادية، خصوصًا قوله تعالى على لسانه: ﴿وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾، فالسلطة واضحة وهي لفرعون على الأرض، كما أن هناك آيات كثيرة تعكس هذه الحقيقة، خاصة تلك الآيات المرتبطة بخروج بني إسرائيل من مصر، كقوله تعالى لسيدنـا موسـى: ﴿اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ﴾، أو: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ..﴾ وغيرها من عشرات الآيات التي تُذكرنا دائمًا بالسلطة السياسية في مصر، وهنا تبرز السيادة بشكلها الواضح ممثلة في شخصية فرعون التي ليست مقصورة على شخصية موحدة وفريدة؛ ولكنها مستخدمة في القرآن بشكل أقرب للتعريف السياسي منها إلى الشخصية الفردية لفرعون، وكل هذه الإشارات القرآنية –بالتأكيد- لها دلالاتها التي تعكس أن مصر دولة منذ القدم، وهي أول وآخر كيان سياسي مُعترف به في القرآن الكريم.

    وفي هذا الإطار لا يختلف العهد القديم أو الجديد كثيرًا عن هذا النهج القرآني، بل إنه قد يعيد تأكيد هذه المعاني من خلال غزارة الاستخدام المستقل لمصر من نفس المنطلق، فهناك من الإحصائيات ما يشير إلى أن مصر ورد ذكرها في الكتاب المقدس قرابة 559 مرة، كما أن هناك إشارات واضحة للشعب المصري فيها يحصيها البعض بقرابة 120 مرة، بل يرى آخرون أن مصر ذُكرت بشكل واضح وغير واضح في أكثر من 750 موضعًا، كما أن بها إشارات

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1