Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

ما قبل الثورة: مصر بين الأزمة والنهضة
ما قبل الثورة: مصر بين الأزمة والنهضة
ما قبل الثورة: مصر بين الأزمة والنهضة
Ebook946 pages6 hours

ما قبل الثورة: مصر بين الأزمة والنهضة

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

ما قبل الثورة.. مصر بين الأزمة والنهضة
يَضم الكتاب مجموعة مترابطة من الكتابات التي تدور كلها حول نقد السلبيات التي شابت الممارسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العقود الأخيرة.
Languageالعربية
PublisherNahdet Misr
Release dateJan 1, 2011
ISBN9782041369643
ما قبل الثورة: مصر بين الأزمة والنهضة

Read more from السيد ياسين

Related to ما قبل الثورة

Related ebooks

Reviews for ما قبل الثورة

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    ما قبل الثورة - السيد ياسين

    CoverMisrMaKabl.jpg

    تأليف:

    السيد يسين

    إشراف عام:

    داليا محمد إبراهيم

    جميع الحقوق محفوظة © لدار نهضة مصر للنشر

    يحظر طبع أو نشر أو تصوير أو تخزين

    أي جزء من هذا الكتاب بأية وسيلة إلكترونية أو ميكانيكية

    أو بالتصوير أو خلاف ذلك إلا بإذن كتابي صريح من الناشر.

    أسسها أحمد محمد إبراهيم سنة 1938

    21 شارع أحمد عرابي - المهندسين - الجيزة

    الترقيم الدولي: 5-2044-14-977

    رقم الإيداع: 15005 / 2011

    الطبعة الأولى : يونيو 2011

    تليفون: 02 33472864 - 33466434

    فاكس: 02 33462572

    خدمة العملاء: 16766

    Website: www.nahdetmisr.com

    E-mail: publishing@nahdetmisr.com

    مقدمة

    حوار قديم جديد

    منذ سنوات بعيدة وبالتحديد في عام 1992، جمعت سلسلة مقالات كنت أنشرها بانتظام في مجلة الأهرام الاقتصادي في كتاب جعلت له عنوانًا هو مصر بين الأزمة والنهضة، يوميات باحث مصري.

    كنت قد قررت أن أتعرض لعديد من الظواهر السلبية في المجتمع المصري بأسلوب ساخر، وقررت في تمهيد الكتاب أن المقالات التي يضمها بين دفتيه والتي نشرت في الفترة من 21 نوفمبر 1988 إلى 27 أغسطس 1990 "أشبه ما تكون بيوميات باحث مصري متخصص في العلوم الاجتماعية، تتضمن تحليلات للوقائع والظواهر التي سادت هذه الفترة، بالإضافة إلى كتابات علمية موجزة لتأصيل عدد من المفاهيم، أو للتحليل المنهجي لبعض المشكلات المصرية التي برزت في إطار مسيرة التنمية.

    والحقيقة أن الباحث الأكاديمي في بلادنا عليه مسئوليات متعددة – إن كان واعيًًا حقًّا بدوره الثقافي الاجتماعي - أن ينهض بها. عليه أولًًا أن يرفع من مستواه العلمي باستمرار لكي يواكب التطورات النظرية والمنهجية في إطار تخصصه الدقيق، مع انفتاح على العلم الاجتماعي بالمعنى الواسع. فنحن نعيش في عالم معقد تختلط فيه الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وهذا بذاته يدعو إلى تبني منهج مترابط متعدد المداخل، حتى يستطيع الباحث الإحاطة بكل أبعاد المشكلات التي يتعرض لها بالدرس والتحليل.

    غير أنه عليه ثانيًًا أن يقوم بدور الناقد الاجتماعي، لكي يسهم في ترشيد الخطاب السياسي والثقافي في المجتمع، وهذه المهمة تدعوه إلى اصطناع خطاب يختلف عن خطابه العلمي التقليدي الذي يزخر عادة بالمصطلحات الفنية التي لا يستطيع استيعابها جمهور القراء. ومن هنا تأتي أهمية إنشاء وتأسيس خطاب علمي جماهيري – إن صح التعبير – ينهض على أساس توفير المعلومات، والدقة في التعبير، والسلاسة في الأسلوب، كل ذلك في إطار رؤية نقدية، تركز على السلبيات وتشخصها، وتطرح البدائل، مع عدم إغفال الإشارة إلى الإيجابيات؛ لأن الإشارة إلى الإيجابيات تكتسب أهمية مضاعفة، في مناخ يسوده الإحباط، نتيجة تراكم المشكلات. وذلك لأن هذه الإشارة يمكن أن تثبت اليقين في نفوس جماهيرنا أننا قادرون على الفعل والإنجاز، لو توافرت الشروط الضرورية لذلك. وهذا الاتجاه ينبغي أن يقاوم الاتجاه السلبي الذي يحترف دعاته التركيز على الأخطاء في النظرية أو الممارسة، والذي بلغ بعض محترفيه إلى حد تجريح الشعب المصري، والتشكيك في قدرته على مواكبة العصر.

    لقد حاولت في هذه المقالات أن أقوم بهذا الدور النقدي.

    فالمثقف – بحسب التعريف – ينبغي أن يكون ناقدًًا اجتماعيًّا في المقام الأول، لا يخضع لضغوط التخلف، ولا ينشر دعاوى اليأس، وإنما يتقدم بشجاعة أدبية لكي يشخص الأخطاء ويعطيها التكييف الصحيح، بغير تحيز أيديولوجي مقيت، يعميه عن النظرة المتوازنة للأمور.

    وأنا لا أجد في الواقع أفضل من هذا التمهيد الذي صدَّرت به كتابي السابق، لكي يكون مقدمة لكتابي الجديد.

    غير أن كتابنا الذي نقدم له وإن استعار العنوان القديم، إلا أنه يختلف

    من الناحية الكيفية عن كتاباتي السابقة، ويدل على ذلك عنوانه الفرعي

    «نقد اجتماعي ورؤية مستقبلية».

    وذلك لأنني عبر السنوات الماضية بلورت منهجًا محددًًا للنقد الاجتماعي، وقررت أن أخصص سلسلة مقالات أسبوعية تنشر بانتظام في جريدة الأهرام المسائي، ابتداء من 3 يناير 2009، وحتى الآن.

    والكتاب ينقسم إلى أربعة أقسام:

    القسم الأول : قواعد المنهج في التغيير الاجتماعي الشامل.

    القسم الثاني : أبعاد الأزمة المجتمعية.

    القسم الثالث : نقد ثقافي.

    القسم الرابع : أجندة للمستقبل.

    ونرجو أن يكون في هذه المقالات المترابطة ما يضيء للقارئ المهتم أبعاد الأزمة الاجتماعية، والسبل الفعالة لمواجهتها، في ضوء رسم رؤية مستقبلية للمجتمع المصري.

    والله ولي التوفيق ،،

    السيد يسين

    أستاذ علم الاجتماع السياسي

    مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية

    القاهرة في 21 مارس 2011

    القسم الأول: قواعد المنهج في التغيير الاجتماعي الشامل

    1 - تحديات التنمية في عصر العولمة.

    2 - مشكلات التعليم والبحث العلمي.

    3 - منطق السياسات البديلة.

    4 - أزمة ثقافة الأمن القومي.

    5 - الصراع الفكري حول الحرب.

    6 - الوطنية المصرية في مواجهة التدخل الأجنبي.

    7 - عصر الفوضى غير الخلاقة.

    8 - فن صناعة الأزمات!

    9 – تقاليد الإضراب واستراتيجية التفاوض.

    10 – الشخصية المصرية بين السلبية والإيجابية.

    11 – استنجاد هزيل بالرئيس الأمريكي.

    12 – قراءة مصرية للأزمة الاقتصادية العالمية.

    13 – الإصلاح السياسي في عالم واحد.

    14 – التدهور اللغوي والتخلف الثقافي.

    15 – أوهام الإضراب الفاشل!

    16 – معركة الأمن القومي المصري!

    17 – المجتمع المصري في مواجهة عصر العولمة.

    18 – أمراض الديموقراطية.

    19 – المناخ الثقافي والممارسة السياسية.

    20 – تقاليد قديمة وأحزاب جديدة.

    21 – خطابات سياسية متصارعة.

    22 – الخروج من الأزمة.

    23 – رسالة أوباما وتحديات التغيير الأمريكي.

    24 – الزيارة وتناقضات الخطاب السياسي!

    [1] تحديات التنمية في عصر العولمة

    بغض النظر عن الخلاف في الرأي حول مفاهيم التنمية وهل هي مستقلة كما تدعو إلى ذلك أوراق مؤتمر السياسات البديلة[1]، أو تنمية في ظل الليبرالية الجديدة التي فرضتها موجات العولمة السائدة، فإن المحك هو: هل الوسائل التي تتبع في تحقيق التنمية فعالة أو لا لتحقيق الأهداف التي لا خلاف بشأنها، وهي أن تؤدي إلى ترقية أحوال البشر.

    وهذا الهدف هو الذي أشارت إليه بوضوح أدبيات العلم الاجتماعي المعاصر حين صاغ خبراء التنمية مصطلح نوعية الحياة.

    بعبارة أخرى هناك مقاييس ومؤشرات على فعالية جهود التنمية وآثارها الإيجابية على الإنسان في مجالات الغذاء والصحة والتعليم والسكن، واكتساب المعارف الحديثة، والقدرة على التعلم مدى الحياة، وذلك كله بالإضافة إلى الآثار الإيجابية للتنمية الثقافية فيما يتعلق برفع مستوى الوعي الاجتماعي، والقدرة على التعامل مع أدوات الثورة الاتصالية والانفتاح على العالم المتغير.

    وهذه الأهداف جميعًًا لا يمكن تحقيقها في ظل سياسة الليبرالية الجديدة التي تدعو إلى أن تكف الدولة يدها عن التدخل في الاقتصاد، وترك أمور التنمية لتكون مسئولية القطاع الخاص.

    وقد رأينا في مصر الآثار السلبية لهذه التوجهات، والتي أدت في الواقع إلى قيام فجوة طبقية كبرى بين من يملكون ومن لا يملكون، وشيوع البطالة، وانتشار الفقر.

    وفى إطار مناقشتنا النقدية للورقة البحثية الهامة التي قدمها د. نادر فرجاني في مؤتمر السياسات البديلة والتي اختلفنا مع عدد من آرائه فيها، وخصوصًا فيما يتعلق بمفهوم التنمية المستقلة، إلا أن له آراء صحيحة تمامًًا فيما يتعلق بوسائل التنمية على وجه الخصوص.

    وأهم فكرة يدعو إليها هو ضرورة إنشاء اقتصاد مختلط، بمعنى أنه بالإضافة إلى القطاع الخاص الذي لا بد أن يعمل تحت إشراف دقيق من الدولة، لا بد من إنشاء قطاع أعمال يتسم بالكفاءة والقدرة على التجديد، ويعمل وفق خطة مدروسة لإشباع الحاجات الأساسية والكمالية للناس.

    ولاشك أن الحاجة تدعو إلى مواجهة السياسة التي هدفت إلى تصفية أصول قطاع الأعمال العام. وهذه السياسة التي لم تتسم بالشفافية الكاملة، أدت في الواقع إلى سلبيات شتَّى، تمثلت في إحالة العمال إلى المعاش المبكر أو تسريحهم، كما أن عديدًا من الأصول بيع بأثمان بخسة، وفي حالات عديدة أدى سوء إدارة القطاع الخاص لهذه الأصول إلى أن تستردها الدولة لتديرها بمعرفتها، وهذا مؤشر على التسرع في برنامج الخصخصة، بغير دراسة كافية.

    غير أننا لا نوافق على اقتراحات ورقة التنمية المستقلة حين تدعو إلى تأميم المشروعات الاحتكارية التي أضحت مملوكة للقطاع الخاص المحلي والأجنبي والتي اقتنصت بأثمان بخسة في حمى الخصخصة، وأفضت إلى مثالب مجتمعية عديدة، من دون أن تسهم في خلق فرص العمل أو تعظيم الناتج أو ترقية الإنتاجية.

    وخطورة هذا الاقتراح الذي يدعو إلى تأميم بعض مشروعات القطاع الخاص التي تم شراؤها من الدولة، أنها قد تكون مؤشرًًا للعودة مرة أخرى إلى اقتصاد الأوامر الذي ساد خلال الحقبة الاشتراكية في مصر وكانت له سلبيات شتَّى. كما أنه سيعطي إشارات للمستثمرين المصريين والعرب والأجانب بأن هناك عودة مرة أخرى للأساليب الاقتصادية القديمة التي ألغت دور القطاع الخاص، وجعلت الدولة بمفردها هي التي تقوم بالإنتاج.

    وفي تقديرنا أن سياسة التأميم، حتى ولو كان جزئيًّا، لا تصلح في مناخ اقتصادي عالمي يدعو للحرية الاقتصادية. والدكتور نادر فرجاني محق تمامًًا في الانتقادات التي وجهها إلى قطاع الأعمال فيما مضى، الذي عانى –كما يقول- في سياق سياسات اقتصادية واجتماعية غير رشيدة، من سوءات تردي الإنتاجية والبطالة المستترة وضعف العائد الاقتصادي.

    ومن ثم إذا أردنا دورًًا جديدًًا وضروريًّا لقطاع الأعمال العام، فلا بد لذلك من رؤية حديثة تقوم على أساس الإلمام العميق بفنون الإدارة الحديثة، وأهم من ذلك الاختيار الدقيق لطبقة المديرين، ووضع نظام خاص للمرتبات والحوافز يكفل لهم الاستقرار، ويشجعهم على التنافس الخلاق مع القطاع الخاص. والمقترحات التي تدعو لها ورقة د. نادر فرجاني بصدد تبني أشكال جديدة من الملكية العامة جديرة بالدراسة، وخصوصًا في مجال استحداث أنواع جديدة من الملكية العامة، توسع نطاق الملكية من الحكومة إلى الشعب وتكرس الملكية التعاونية.

    والواقع أن هذه ليست مقترحات نظرية فقط، والدليل على ذلك أن دول أوروبا الشرقية التي تحولت من اقتصادات التخطيط إلى الاقتصاد الحر، استحدثت أنواعًًا متعددة من الملكية كان لها أثرها الإيجابي في رفع معدلات التنمية، وفي زيادة إحساس الجماهير بأنها مشاركة بشكل فعال في جهود التنمية. ومن بين هذه الأنواع الملكية التعاونية وملكية العاملين في المشروعات لكل أو بعض الأصول، بالإضافة إلى أنواع أخرى تستحق أن تدرس دراسة متعمقة.

    بعبارة أخرى في مجال مراجعة البنية الاقتصادية المصرية نحن نحتاج حقًّا إلى قطاع أعمال يتسم بالحيوية والفعالية والقدرة على التنافس مع القطاع الخاص، في إطار من الشفافية والحكم الصالح، بالإضافة إلى الجهود الخلاقة للقطاع الخاص التي ظهرت آثارها الإيجابية في بعض المجالات الحيوية، ولكن تحت إشراف دقيق من قبل الدولة.

    ويقتضي ذلك البحث عن صيغة مناسبة للفصل بين الثروة والسلطة. فقد ثبت بما لا يدع مجالًًا للشك أن غياب المعايير المقننة في هذا المجال له آثار سلبية.

    والاقتصاد المختلط لا بد من أن يقوم على أساس تخطيطي سليم. وليس معنى ذلك بالضرورة العودة إلى التخطيط الذي كانت تحتكره الدولة بالكامل من قبل، ولكن هناك التخطيط التأشيري الذي تتبعه بعض الدول الرأسمالية، والذى يتمثل في تحديد آليات ائتمانية أساسًًا للتشجيع في مجال الاستثمار في مجالات حيوية".

    غير أنه في تقديرنا بالرغم من كل المقترحات الإيجابية التي أثيرت بصدد تأسيس اقتصاد مختلط يقوم على أساس قطاع أعمال كفء من جانب، وقطاع خاص نشط وفعال من جانب آخر فإن أهداف التنمية المستدامة لا يمكن تحقيقها بغير صياغة رؤية استراتيجية للمجتمع المصري.

    وهذه الفكرة المحورية أكدنا عليها عديدًا من المرات في مقالاتنا وأبحاثنا وكتبنا المتعددة.

    والرؤية الاستراتيجية- بحسب التعريف- هي صورة مجتمع ما في العشرين عامًا القادمة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

    وهذا المفهوم حل في الواقع محل مفهوم المشروع القومي الذي كان ذائعًا استخدامه في أدبيات النقد الاجتماعي، باعتبار أن غيابه هو المسئول عن تعثر جهود التنمية.

    ومن سلبيات هذا المفهوم غموض الفكرة التي يقوم عليها وتصور أنه يحتاج إلى فترة زمنية طويلة حتى يتحقق، بعبارة أخرى هو يتحدث عن الأجل الطويل، في حين أن ميزة مفهوم الرؤية الاستراتيجية أنه يتحدث عن الأجل المتوسط.

    وأهمية هذه التفرقة ترد إلى أننا نعيش في عالم يفتقر إلى اليقين ويستحيل التنبؤ بمساره على الأجل الطويل. ولذلك لم يكن غريبًا أن تركز مشاريع الاستشراف العالمية والإقليمية والمحلية على الأجل المتوسط، وهذا هو لب تعريف الرؤية الاستراتيجية.

    والدليل على ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية أصدرت في شهر نوفمبر 2008 تقريرها الاستشرافي البالغ الأهمية بعنوان الاتجاهات العولمية 2025 وله عنوان فرعي هو عالم تغير.

    وهذا التقرير يأتي في سلسلة تقارير كانت كلها تركز على حقبة العشرين عامًا.

    ومعنى ذلك أننا لو أردنا أن نضع رؤية استراتيجية للمجتمع المصري فلا ينبغي أن تتعدى عملية الاستشراف حد العشرين عامًا المقبلة.

    ولكن يثور السؤال المحوري: كيف توضع الرؤية الاستراتيجية؟

    وفي الرد على هذا السؤال أكدنا في أكثر من مرة أن هذه عملية مجتمعية لا ينبغي أن ينفرد بوضعها الحزب الوطني الحاكم باعتباره حزب الأغلبية ولا الحكومة، ولكن ينبغي أن تشارك في وضعها كل مؤسسات المجتمع ومراكز الأبحاث والجامعات والمثقفين من خلال حوار ديموقراطي واسع، يشارك فيه الجميع، حتى يتم الاتفاق على الأولويات والأسبقيات في مجال التنمية، وأهم من ذلك على الوسائل الفعالة لتحقيقها من خلال الحكم الرشيد من ناحية والمشاركة الجماهيرية الفعالة في مجال صنع القرار.

    نحن نفتقر إلى رؤية استراتيجية للتنمية، وهذا ما يفسر التخبط الملحوظ في سياسات التنمية، والإخفاقات الملحوظة في إشباع الحاجات الأساسية للناس.

    لقد آن أوان الحسم، لا بد من صياغة رؤية استراتيجية يشرف على تنفيذ رؤاها مجلس أعلى للتخطيط الاستراتيجي برئاسة رئيس الجمهورية. وتلك فكرة بالغة الأهمية تستحق أن نتابعها بعد ذلك في مقالات قادمة.

    ٭ ٭ ٭

    [1] إشارة إلى مؤتمر نظمته مجموعة من الأحزاب السياسية المعارضة في القاهرة.

    [2] مشكلات التعليم والبحث العلمي

    حين طالعت مليًّا الأوراق البحثية للمؤتمر الوطني الذي عقدته بعض الشخصيات العامة لتقديم سياسات بديلة لسياسات الحزب الوطني الحاكم، أدركت على الفور أن هذه الأوراق جميعًًا - وبلا استثناء - لا تعبر عن قوى سياسية محددة، وإنما هي تعبير عن الآراء الشخصية البحتة لعدد من الأساتذة والمثقفين.

    وأهم من ذلك أن هذه الأوراق البحثية التي ناقشت مفاهيم التنمية المستقلة، ومشكلات التعليم والبحث العلمي، وقضايا الزراعة، لا تصدر عن رؤية مشتركة بين الباحثين الذين شاركوا في المؤتمر، وإنما طلب من كل باحث أن يقدم ورقة ما في موضوع ما، بالرغم من اختلاف توجهات كل باحث.

    ولا شك أن هذه الأوراق البحثية بهذا الوصف الذي قدمناه، تفقد في الواقع قيمتها الفعلية إذا نظرنا إليها باعتبارها سياسات بديلة.

    وذلك لأن السياسات البديلة لما هو قائم، من المفروض أن تقوم بها أحزاب سياسية أو ائتلاف من هذه الأحزاب، تقدم رؤى متكاملة تتضمن أفكارًًا اقتصادية واجتماعية أكثر فعالية من الأفكار التي قامت على أساسها السياسات الراهنة من ناحية، وقادرة على أن تلبي الاحتياجات الأساسية للجماهير من ناحية ثانية.

    وليس فيما نسوقه من ملاحظات أي إقلال من قيمة وقدر الباحثين الذين قدموا أوراقًًا بحثية في هذا المؤتمر، فهم يضمون بين صفوفهم قامات علمية عالية، بالإضافة إلى مجموعة من الباحثين الذين يمثلون جيل الوسط.

    وقد قدم الورقة البحثية الخاصة بالتعليم والبحث العلمي واحد من كبار أساتذة الطب، وهو الدكتور محمد غنيم صاحب التجربة الرائدة في مستشفى المنصورة. والدكتور غنيم مؤهل تمامًًا لاقتراح مجموعة من الأفكار الخاصة بموضوعه، بحكم خبرته الطويلة في التدريس الجامعي، واهتمامه بالبحث العلمي.

    ويمكن القول إن أغلب الآراء والمقترحات التي قدمها الدكتور غنيم في ورقته يمكن الموافقة عليها، وبعضها آراء جديدة لم تطرح من قبل.

    ومشروع النهوض بالتعليم الذي يقترحه الدكتور غنيم يتضمن خمس مراحل وهي:

    1 - مرحلة ما قبل التعليم الأساسي.

    2 - التعليم الأساسي.

    3 - التعليم الجامعي العام.

    4 - التعليم الجامعي المتخصص.

    5 - البحث العلمي.

    وأهم نقطة في المشروع النهضوي المقترح للتعليم الأساسي أنه يقوم على تحديد الوظائف الرئيسية له بشكل مستحدث، مما يكون نسقًًا متكاملًًا من القيم يستحق أن نركز الضوء عليه.

    وأول وظيفة يراها الدكتور غنيم للتعليم الأساسي هي أن الغرض منه أساسًًا القضاء على الفقر، باعتباره يعد الطفل من خلال التعليم لمراحل أرقى مما يؤهله فيما بعد لامتهان مهنة أو شغل وظيفة وذلك يكفل له حياة مادية مستقرة بعيدة عن أجواء الفقر. أما الوظيفة الثانية فهي أن التعليم الأساسي وأي تعليم لاحق عليه، عنصر مهم من عناصر زيادة الإنتاجية.

    وتفسير ذلك أن الإنتاجية مرتبطة ارتباطًًا وثيقًًا بالتعليم، لأن العامل المتعلم قادر على التعامل مع أدوات التكنولوجيا الحديثة، التي تقدمت للغاية في ظل ثورة الاتصالات الكبرى.

    والتعليم الأساسي- في نظر الدكتور غنيم- يساعد على رفع مستوى الصحة العامة لأنه يزيد من الطلب على الخدمات الصحية.

    وهو - بالنسبة لتعليم الفتيات - يساعد على تنظيم النسل وتخفيض معدل الزيادة السكانية.

    وأخيرًًا - وقد يكون أولًًا - فالتعليم الأساسي هو أساس التمتع بالممارسة السياسية الحقيقية، لأن نجاح النظام الديموقراطي يحتاج إلى حد أدنى من التعليم.

    وأهم أفكار الدكتور غنيم أن مسئولية التعليم الأساسي تقع على عاتق الدولة بالكامل، وعليها أن توفره مجانًًا لكل أفراد الشعب، من سن السادسة ويجب أن يستغرق اثنتي عشرة سنة.

    وبغض النظر عن بعض المقترحات الفرعية، فإن أهم المقترحات هو التأهيل السليم للمعلمين، وضرورة توحيد المنهج العام للتعليم الأساسي في المدارس العامة أو الخاصة المدنية أو الدينية.

    ويقرر الدكتور غنيم أن هناك أربعة احتمالات تمثل قنوات لنهاية التعليم الأساسي وهي الالتحاق بسوق العمل، والالتحاق بالتعليم الفني المهني، أو الالتحاق بمعاهد التعليم الفني العالي أو الالتحاق بالتعليم الجامعي العام.

    وفي رأي الدكتور غنيم أن التعليم الجامعي من أهم وظائف الدولة وأكثرها خطرًًا، لأن الجامعات هي معقل الفكر الإنساني في أرفع مستوياته، ومصدر الاستثمار وتنمية ثروات المجتمع وأغلاها وهي الثروة البشرية.

    ومما تم التأكيد عليه أن الجامعة ليست مدرسة لتخريج الفنيين والمهنيين، وإنما هي مكان لإحياء الروح العلمية والبحث العلمي، وأن الهدف من التعليم الجامعي هو ثلاثة أمور أساسية وهي:

    1 - نقل المعرفة.

    2 - نشر المعرفة.

    3 - صناعة المعرفة من خلال البحث العلمي؛ لأن العصر الحالي سيكون هو عصر إنتاج المعرفة.

    وأريد أن أقف عند هذه الوظائف الثلاث، التي ينبغي أن يقوم بها التعليم الجامعي.

    «نقل المعرفة» هي الوظيفة الأولى الأساسية. والمشكلة أننا لسنا مجتمعًًا منتجًًا للمعرفة، ومن هنا الأهمية الكبرى في نقل المعرفة من مصادرها الأصيلة. ويمكن القول إن الثورة الاتصالية الكبرى وفي قلبها شبكة الإنترنت جعلت مسألة نقل المعرفة ميسورة إلى حد بعيد وخصوصًا بعد نشوء المكتبات الرقمية.

    ويرتبط بنقل المعرفة ضرورة تأسيس برنامج وطني متكامل للترجمة، وخصوصًا في مجال العلوم الطبيعية.

    وقد استطاع مشروع الترجمة الذي أشرف عليه د. جابر عصفور في المجلس الأعلى للثقافة، سد ثغرة المعرفة إلى حد بعيد في مجال العلوم الاجتماعية، بالإضافة إلى المؤسسة العربية للترجمة، والمشاريع الجديدة بهذا الصدد في دبي وأبو ظبي.

    غير أن النقص الفادح هو الترجمة في مجال العلوم الطبيعية، وذلك لأنها تحتاج إلى تمويل ضخم من ناحية، وإلى مترجمين علميين أكفاء من ناحية أخرى. وقد نجحت بعض البلاد العربية مثل سوريا ممن تمارس تدريس العلوم باللغة العربية، في إنتاج جيل من المترجمين الأكفاء في مجالات الطب والكيمياء والطبيعة والبيولوجيا والفلك.

    هذا فيما يتعلق بنقل المعرفة واستيعابها، غير أن التعليم الجامعي لا بد له أن يساعد على نشر المعرفة. وهناك في هذا المجال إبداعات لا حدود لها، وخصوصًا بعد زيادة معدلات النشر الإلكتروني، والاعتماد على شبكة الإنترنت، وإنتاج الأقراص المدمجة وغيرها من الوسائل التكنولوجية التي يمكن نشر المعرفة من خلالها.

    غير أن الدكتور غنيم في تحديده الدقيق لوظائف التعليم الجامعي يتحدث عن أهمية إنتاج المعرفة من خلال البحث العلمي.

    وتبدو صحة هذه الملاحظة من كون إنتاج المعرفة سيصبح هو العملية الأساسية التي ستنشغل بها المجتمعات في القرن الحادي والعشرين، بحيث ستصبح التفرقة السائدة هي التمييز بين من يعرفون ومن لا يعرفون!

    غير أن عملية إنتاج المعرفة تقتضي مجموعة متكاملة من السياسات التعليمية وأساليب التنشئة الاجتماعية.

    أهم ما في السياسات التعليمية المطلوبة لعصرنا الحاضر، هو العمل على إنتاج العقل النقدي وليس العقل الاتباعي!

    وتربية العقل النقدي تقتضي في المقام الأول مناخًًا ديموقراطيًّا يسمح بالتعددية والحوار والاختلاف.

    ومن ناحية أخرى فإن ذلك يتطلب إعداد أجيال من المدرسين في المدارس الإعدادية والثانوية، وأساتذة جامعيين في المرحلة الجامعية، قادرين على التفاعل الديموقراطي مع التلاميذ والطلبة، وإتاحة الفرصة أمامهم للتعبير عن أنفسهم.

    كما أن عملية إنتاج المعرفة تحتاج إلى توفير مناخ اجتماعي يشجع على الإبداع. ويمكن القول إن تنمية الإبداع لدى الأطفال والبالغين أصبحت الآن من اهتمامات علماء النفس الاجتماعي، الذين وضع بعضهم في مصر مقررات خاصة لتنمية الإبداع في المدارس الثانوية.

    ويمكن القول إن الأفكار الأساسية التي يمكن لعملية إنتاج المعرفة أن تعتمد عليها هي الإبداع وتكوين العقل النقدي، ووضع برنامج طموح للبحث العلمي.

    وهذا البرنامج يحتاج إلى رؤية استراتيجية متبلورة تحدد ملامح وسمات التنمية المستدامة في المجتمع.

    غير أن هذا الموضوع يحتاج إلى تفصيلات متعددة لا يسعها هذا المقال.

    ٭ ٭ ٭

    [3] منطق السياسات البديلة

    ناقشنا في المقالات الماضية عددًًا من السياسات البديلة التي اقترحها عدد من المثقفين في مؤتمر القوى الوطنية الذي عقد لعرضها من باب نقد الممارسات الحكومية الراهنة في مجالات متعددة.

    ولقد حللنا نقديًّا مفهوم التنمية المستقلة الذي قدم كبديل لمفهوم التنمية السائد الآن في مصر، كما عرضنا لسياسات التعليم والبحث العلمي التي اقترحت لتطوير الأنظمة المطبقة.

    ولعله قد آن أوان أن نطرح أسئلة هامة تتعلق بمنطق السياسات البديلة حتى قبل أن ننتهي من عرض وتحليل باقي الأوراق البحثية في المؤتمر.

    ولعل السؤال الأول الذي يتبادر للأذهان: ما الذي يعنيه مفهوم السياسات البديلة؟ وهل هذه السياسات مجرد تعديل في السياسات الراهنة أو تطوير في بعض أجزائها أم هي إعادة نظر شاملة وصياغة جديدة تمامًًا لمجموعة من المنطلقات النظرية التي يمكن ترجمتها في شكل سياسات ممكنة التنفيذ؟

    والواقع أن ما عرضناه من أفكار السياسات البديلة حتى الآن يؤكد أن بعضها كمفهوم التنمية المستقلة ليس سوى صياغة مثالية غير قابلة للتطبيق في العالم المعاصر الذي تسوده ظاهرة العولمة بتجلياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

    والعالم المعاصر تسيطر عليه ظاهرة الاعتماد المتبادل في مجالات الاقتصاد على وجه الخصوص، مما لا يسمح لبلد ما – حتى لو توافرت الإمكانيات - أن يمارس «تنمية مستقلة» بعيدًًا عن التشابكات الاقتصادية العالمية، والتي أصبحت تحكمها اتفاقيات ومعاهدات مثل معاهدة منظمة التجارة العالمية لا يمكن للممارسات الاقتصادية أن تدور بعيدًًا عن قواعدها وقوانينها. ويشهد على ذلك أن دولًًا لم توقع في المرحلة الأولى على المعاهدة تحاول الآن جاهدة الانضمام للمنظمة.

    غير أن المؤتمر عرض في بعض أوراقه البحثية لمقترحات عملية قابلة للتنفيذ في مجالات التعليم عمومًًا والتعليم الجامعي خصوصًا وفي مجال البحث العلمي.

    وقد عرضنا لهذه الأفكار من قبل، غير أن المشكلة الحقيقية أن هذه الأفكار والمقترحات تدور في نفس دائرة السياسات الراهنة المطبقة، وهي بذلك لا تضيف في الواقع جديدًًا.

    وفي تصورنا أن أي سياسة بديلة في المجالات المختلفة لا بد - لكي تستحق هذا الوصف - أن تكون منطلقاتها جديدة تتجاوز ما هو مطبق فعلًًا، مما يتيح اقتراح سياسات مختلفة نوعيًّا عن الموجود.

    ولنحاول أن نشرح هذه الفكرة في مجال التعليم والبحث العلمي.

    والواقع أن التعليم ومستقبله في القرن الحادي والعشرين أصبح إحدى أهم المشكلات التي تعنى بها المؤسسات الدولية مثل اليونسكو وغيرها وكذلك المؤسسات الإقليمية والوطنية.

    ونقطة الانطلاق في رسم سياسات جديدة للتعليم هي القراءة الواعية للتغيرات الكبرى التي لحقت ببنية المجتمع العالمي، وأهمها على الإطلاق الانطلاق من نموذج المجتمع الصناعي إلى نموذج مجتمع المعلومات العالمي.

    لقد ابتدع المجتمع الصناعي نظام التعليم الأساسي كآلية متميزة تتيح إمداد المصانع بعشرات الآلاف من العمال والفنيين والإداريين المتعلمين الذين يستطيعون التعامل بسهولة مع الآلات. كما ركز على تطوير التعليم الجامعي حتى يسهم ذلك في البحث العلمي الذي يمكن لنتائجه أن تطور من المجتمع الصناعي ذاته بكل أبعاده.

    غير أننا في عصر العولمة - الذي تميزه ثورة الاتصالات الكبرى ومن قبلها شبكة الإنترنت - أصبحنا أمام إمكانيات القيام بثورة كبرى في مجال التعليم.

    ولو راجعنا بحوث اليونسكو الهامة في هذا المجال لأدركنا أن التعليم في القرن الحادي والعشرين سيسيطر عليه نوع خاص من التعليم هو التعليم عن بعد من ناحية، وتطبيق مبدأ التعليم المستمر مدى الحياة من ناحية أخرى.

    والتعليم عن بعد يقوم على أساس الاستفادة القصوى من ثورة الاتصالات التي تقدم لأول مرة في تاريخ البشرية إمكانيات هائلة لنقل المعلومات وممارسة التعليم عن بعد من خلال ما يطلق عليه «الجامعات المفتوحة».

    وهذا النوع من التعليم من بين مزاياه حل مشكلة الأعداد الكبيرة من طلبة الجامعات التي فشلت السياسات الراهنة في حلها حتى الآن.

    ليس ذلك فحسب فقد ثبت أن نوعية التعليم ذاتها يمكن أن ترتفع معدلاتها في هذا النمط من أنماط التعليم لتعدد الوسائط التعليمية، وأهمها استخدام كل من الصوت والصورة وعرض النماذج.

    ومن مزايا هذا التعليم أيضًًا أنماط الاتصال التفاعلية بين الدارسين والأساتذة.

    وقد شهدت جامعة القاهرة تجربة رائدة هي «الجامعة المفتوحة» التي حاولت أن تطبق بعض الآليات الجديدة في التعليم الجامعي وحققت في مرحلتها الأولى نجاحًًا ملحوظًًا قبل أن تلحقها الآفات المصرية التقليدية والتي تتمثل في عدم التطوير لملاحقة آفاق التقدم التكنولوچي والعلمي الجديدة.

    والمبدأ الثاني الذي سيحكم التعليم في القرن الحادي والعشرين هو «التعليم المستمر».

    وأهمية هذا المبدأ أن تسارع التجديد العلمي والاكتشافات الجديدة التي ينشر عنها في المجالات العلمية كل يوم تجعل عملية تجديد المعارف العلمية مسألة ضرورية، ينبغي أن تستمر – خلال وسائل متعددة - مدى الحياة. انتهى العهد الذي كان فيه المتعلم «يختم» تعليمه بالحصول على الشهادة؛ وذلك لأن المعلومات الجديدة تنبثق كل يوم، كما أن النظريات العلمية في حالة تطور مستمر، مما يجعل عملية الإلمام بها مسألة ضرورية.

    إذا طبقنا سياسة التعليم عن بعد من ناحية، ومبدأ التعليم المستمر من ناحية ثانية، فمعنى ذلك أننا نحتاج في الواقع، ليس فقط إلى سياسات تعليمية بديلة ولكن إلى ثورة تعليمية شاملة.

    وهذه الثورة تحتاج أولًًا إلى تخطيط تعليمي شامل مستمد من رؤية استراتيجية للتنمية تحدد أهدافها ووسائلها. وإذا نظرنا نظرة مقارنة للدول النامية التي نجحت في عبور هوة التخلف والانطلاق بقوة في ميدان الاقتصادات الناشئة القومية مثل ماليزيا على سبيل المثال، أدركنا بدقة معنى ما تشير إليه.

    كانت البداية في ماليزيا: صياغة رؤية استراتيجية للتنمية. وهذه الرؤية قامت على أساس التقدير الموضوعي للإمكانيات والقدرات الماليزية أولًًا، ورسم مجموعة من الأهداف الواقعية التي يمكن بالجهد والإصرار تحقيقها ثانيًًا، وتحديد الوسائل العملية للتنفيذ ثالثًا.

    صيغت الرؤية الاستراتيجية وتم بناء عليها رسم السياسات في مجالات التنمية المتعددة مع التركيز الشديد على الارتقاء بمستوى التعليم كمًّا ونوعًًا، مع الحرص على متابعة أحدث التطورات التعليمية والعلمية.

    وتحولت الرؤية الاستراتيجية من خلال وسائط شتَّى في التعليم والإعلام إلى عقيدة شعبية تؤمن بها ملايين المواطنين، بل ووضعت مقاييس للتقدم حتى يتابع المواطنون معدلات الإنجاز من سنة إلى أخرى. وارتفع الوعي الاجتماعي إلى معدلات قياسية، بحيث أصبحت التنمية المستدامة ومتابعة برامجها المختلفة هي قضية كل مواطن.

    بعد عشرين عامًا من بداية خطة التنمية الشاملة، استطاعت ماليزيا أن تجني الثمار، فأصبحت في مقدمة الدول الصناعية الناشئة، وتجاوزت صادراتها كل المعدلات العالمية المتوقعة لبلد صغير محدود الإمكانيات مثل ماليزيا. هذا مجرد مثال على كيفية نجاح «السياسات البديلة» في ماليزيا في الانطلاق بها إلى آفاق التطور العالمية.

    والمشكلة أن سياسات التعليم والبحث العلمي البديلة - التي قُدمت في مؤتمر القوى الوطنية الذي نُناقش أوراقه البحثية - تدور في نفس الدوائر القديمة، ولم تستطع أن تحلق بعيدًًا عن الممارسات البالية الراهنة المسئولة عن تخلف كل من التعليم والبحث العلمي على السواء!

    وفي تقديرنا أن أي سياسات بديلة حتى تستحق هذا الاسم لا بد لها أولًًا من التتبع الدقيق للأفكار العالمية الجديدة في مجالات التعليم والبحث العلمي، وكذلك من الضروري دراسة تجارب الدول الأخرى بصورة مقارنة فعالة.

    فهذه التجارب العملية تقدم نماذج حية من الخبرة الإنسانية التي استطاعت تحويل الأفكار المجردة إلى سياسات واقعية.

    وبالرغم من أن بعض الدوائر التعليمية الرسمية في مصر قامت بترجمة وثائق اليونسكو الهامة في مجال تطوير التعليم في القرن الحادي والعشرين، فإن هذه الوثائق لم تنجح حتى الآن في تغيير العقلية التربوية الرسمية السائدة.

    وهذه العقلية الرسمية تقنع باقتباس بعض المصطلحات الجديدة مثل «جودة التعليم» على سبيل المثال، وتحاول تطبيقها من خلال سياسات جديدة. غير أن هذا التطبيق يتم بشكل عقيم، لأنه يقنع بالشكل ولا يستطيع النفاذ إلى الجوهر.

    وأبلغ مثال على ذلك مشروع كادر المعلمين وربط رفع الأجر بمستوى أداء المعلم، من خلال قياس قدراته في امتحانات ذاعت سلبياتها المتعددة.

    وكذلك مشروع رفع أجور أساتذة الجامعة من خلال سياسات عقيمة تتعلق بملء استمارات شكلية متعددة تظهر مساهمات كل أستاذ في العملية التعليمية وفي النشاطات الجامعية المختلفة.

    ويمكن القول - بناء على دراسة ما نشر حتى الآن من ردود أفعال كل من أساتذة التعليم العام وأساتذة الجامعة - إن ما سوق للناس باعتباره سياسات حكومية بديلة، هو مشاريع فاشلة لأنها تجاهلت الواقع الاجتماعي، وحدود الإمكانيات الضيقة المتاحة أمام المدرس والأستاذ الجامعي.

    وهكذا يمكن القول إن الفشل كان من نصيب كلٍّ من «السياسات الحكومية البديلة» من ناحية، والسياسات البديلة التي اقترحتها قوى المعارضة من ناحية أخرى، لعدم الانطلاق من رؤية استراتيجية شاملة للتنمية، وعدم متابعة الآفاق الجديدة للتعليم والبحث العلمي في القرن الحادي والعشرين.

    ٭ ٭ ٭

    [4] أزمة ثقافة الأمن القومي!

    أثبتت الحرب الهمجية التي شنتها الدولة الإسرائيلية العنصرية على الشعب الفلسطيني في غزة، وما أدت إليه من تصريحات سياسية أطلقها عدد من الناشطين السياسيين العرب والمصريين أن ثقافة الأمن القومي غائبة تمامًًا عنهم.

    ونحن نعرف مقدمًًا خريطة الاتجاهات السياسية العربية وتوزعها بين اتجاهات إسلامية وقومية وماركسية.

    ومن الطبيعي أن تنعكس هذه الاتجاهات على تصريحات أنصارها فيما يتعلق بغزة بوجه عام، وبالموقف المصري بوجه خاص.

    ونستطيع أن نفهم تصريحات بعض الساسة العرب المعادية لمصر والتي حاولت بدأب تشويه الموقف المصري بناء على معلومات كاذبة وإشاعات مفضوحة، وجهالة مستحكمة بالمبادئ الأولية للأمن القومي عمومًًا والأمن القومي المصري خصوصًا.

    نفهم ذلك في ضوء تعقب تاريخ عداء بعض التيارات السياسية وبعض الدول العربية لمصر منذ أن وقعت اتفاقية كامب دافيد، وبعدها معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية.

    ولا ننسى أن الدول العربية المعادية لمصر شكلت جبهة الصمود والتصدي التي عقدت مؤتمرًًا شهيرًًا لها في بغداد، كان الهدف منه مهاجمة مصر وعزلها عربيًّا.

    ومصير هذه الجبهة كان – كما هو معروف لنا جميعًًا – الفشل الذريع. وذلك لسبب بسيط هو أن الدول التي شكلت هذه الجبهة لم تقدم أي بديل واقعي لخطة السلام التي اقترحتها مصر على هذه الدول.

    ولا ننسى أيضًًا أن مصر دعت منظمة التحرير الفلسطينية لحضور مؤتمر مينا هاوس الشهير لكنها رفضت حضوره.

    وبعد انفراط عقد دول جبهة الصمود والتصدي لم توقع معاهدة سلام مع إسرائيل سوى الأردن، وبقيت الجولان السورية محتلة حتى الآن. وتحاول القيادة السورية بوساطة تركية المستحيل للدخول في مفاوضات مع إسرائيل لحل مشكلة عزلتها عربيًّا ودوليًّا.

    وحين بدأت أحداث غزة المفجعة حاولت دول شتَّى وتيارات سياسية متعددة استدراج مصر للانزلاق في حرب لم يخطط لها مع إسرائيل. بل إن زعيم حزب الله حسن نصر الله الذي تدافع عنه في مصر أقلام صحفية غوغائية دعا ملايين المصريين للانقلاب على النظام عن طريق مظاهرات مليونية، بل وتجاسر وتخطى كل الخطوط الحمراء حين دعا القوات المسلحة المصرية إلى الانقلاب على قيادتها السياسية.

    وظهرت تصريحات تهدف إلى تحميل مصر المسئولية عن حصار غزة. وأصبحت المسألة المطروحة هي فتح المعبر، وكأن فتح هذا المعبر سيحل في ذاته قضية الشعب الفلسطيني. مع أن مصر فتحت المعبر مرارًًا لإمداد سكان غزة بالغذاء والدواء.

    ومما يبعث على الدهشة أن بعض الأصوات المصرية الشاردة شاركت الدول والجماعات السياسية المعادية لمصر حملتها على الموقف المصري.

    ولم تجرؤ هذه الأقلام الصحفية الغوغائية أن ترد أصل تدهور الموقف الفلسطيني إلى غوغائية حماس ورفعها شعارات جوفاء لا معنى لها.

    من حق أي حركة تحرير وطنية أن ترفع سلاح المقاومة ضد المحتل، بشرط أن تكون لديها خطة واستراتيجية لذلك. ولكن أن تناطح حماس إسرائيل مع عدم التوازن الضخم في التسلح، فمعناه كما حدث في غزة إقامة مذبحة للشعب الفلسطيني الأعزل، الذي تقوده قيادات احترفت رفع الشعارات الثورية بدون جدية حقيقية في مجال الاستعداد للصراع المسلح.

    وليس معنى ذلك أن المسئولية تقع على عاتق حماس بمفردها، بل إنها تقع أيضًًا على عاتق السلطة الفلسطينية التي عجزت عن الاتفاق مع حماس في خطة للحد الأدنى في مواجهة إسرائيل، والإجماع على طرق المقاومة وسبل المفاوضة.

    ولم يكن غريبًا لممثلي اتجاه الإسلام السياسي، سواء كان ذلك حزب الله أو حركة حماس أو جماعة الإخوان المسلمين، أن يدعوا لفتح الحدود بين غزة ومصر بلا أدنى قيود! ذلك أن توجهات هذه الحركات الإسلامية جميعًًا مفادها أن حدود الأوطان بما فيها الوطن المصري مصطنعة وضعها الاستعمار، وأننا جميعًًا أمة إسلامية واحدة. وبالتالي وافقوا على أن يتدفق مئات الآلاف من الفلسطينيين من غزة إلى سيناء بعد أن اقتحموا الحدود على أساس أن ذلك هو حقهم المشروع.

    والسؤال هنا: أليس في ذلك تنفيذ للخطة الإسرائيلية «الترانسفير» بمعنى إزاحة الفلسطينيين إلى سيناء أو الأردن لخلق الوطن البديل؟

    وهل كان مطلوبًًا من القيادة السياسية المصرية أن توافق على هذه المقترحات الفوضوية التي اقترحها حزب الله أو حماس مؤيدين في ذلك بتصريحات إيران؟

    لقد أثبت الكتاب المصريون الذين أيدوا هذه التصورات الباطلة أنهم يجهلون أو يتجاهلون أساسيات الأمن القومي المصري.

    ومما يؤكد ذلك أن بعضهم – ومن بينهم أساتذة جامعيون للأسف الشديد – يدعون صراحة لإلغاء اتفاقية كامب دافيد، أو تجميدها.

    وفي هذا المجال هناك محاولات يائسة لإعادة إنتاج الخطاب النقدي القديم لكامب دافيد، والتي انتقدت لأن مصر – حسب قولهم – قد خرجت من الصراع المسلح مع إسرائيل بتوقيع هذه الاتفاقية، وأنها شقت الصف العربي!

    والسؤال هنا هل كان مطلوبًًا من مصر أن تبقى في دائرة الصراع المسلح مع إسرائيل إلى الأبد، حتى ولو أضر ذلك ضررًًا جسيمًًا بمصالح الشعب المصري؟

    هل صحيح أن مصر بتوقيعها اتفاقية كامب دافيد والمعاهدة المصرية الإسرائيلية شقت الصف العربي، أم أن هذا الصف لم يكن لدى دوله أي خطة للتعامل الفعال مع حل الصراع العربي الإسرائيلي؟

    والواقع أن المنتقدين لكامب دافيد سواء من الكتاب العرب والمصريين تجاهلوا أهم ميزة من ميزات كامب دافيد والمعاهدة المصرية الإسرائيلية، وهي أنها سمحت بتحرير الأرض المصرية شبرًًا شبرًًا.

    حررنا سيناء بالكامل، وحصلنا على طابا بالتحكيم الدولي، وكان من حق الشعب المصري أن يتفرغ للتنمية الشاملة بعد كل الحروب التي خاضها دفاعًًا عن القضية الفلسطينية منذ حرب عام 1948، ودفاعًًا عن القضايا العربية.

    ولا يستطيع المنتقدون لكامب دافيد أن يجابهوا هذه الحقائق التي تتعلق بأن مصر حلت عقدة الصراع مع إسرائيل بعد حرب أكتوبر المجيدة عام 1973 والتي أثبتت بما لا يدع مجالًًا للشك رفض الشعب المصري للهزيمة، وأبانت عن القدرة الفائقة لطلائعه المسلحة [والتي هي تعبير بليغ في تكوينها عن كل فئات الشعب المصري] على تحرير الأرض المحتلة، وانتزاع السلام بالقوة المسلحة وبالتفاوض معًًا، كما فعل كل حركات التحرير الوطنية.

    طبعًًا هناك انتقادات للمعاهدة على أساس أنها نصت على تحديد مناطق في سيناء ليس فيها أسلحة ثقيلة، ولكن مهما كانت هذه الشروط التي كانت ضرورية لتوقيع المعاهدة واستخلاص الأرض المحتلة من البراثن الإسرائيلية، فإن ذلك لا ينفي أنها حققت سلامًًا ضروريًّا حتى لو كان سلامًًا باردًًا، محدود التطبيع.

    ومن هنا يمكن القول إن من ينادون بإلغاء كامب دافيد أو تجميدها يجهلون قواعد العلاقات الدولية التي تعني في هذه الحالة أن مصر جاهزة – بعد إلغاء الاتفاقية والمعاهدة- لخوض حرب مع إسرائيل.

    فهل مصر في خطتها شن حرب على إسرائيل انتصارًًا لحماس في غزة التي مارست مذابح متعددة ضد أنصار فتح في انقلابها الشهير على السلطة الفلسطينية؟

    وهل مصر يمكن أن تستدرج – كما حدث فعلًًا في حرب يونيو 1967 – إلى حرب خاسرة مع إسرائيل بدعوى الدفاع عن سوريا؟

    إن من يظنون أن القيادة السياسية المصرية يمكن أن تستدرج لحرب لم يخطط لها مع إسرائيل واهمون، ومهما خرجت المظاهرات التي ينظمها أنصار التيار الإسلامي داعية لفتح الحدود وإعلان الجهاد، فإن سيناريو هزيمة يونيو 1967 لن يحدث أبدًًا.

    لقد تعلمنا جميعًًا – قيادة وشعبًًا – الدروس القاسية في هذه الهزيمة التي لم تكن تستحقها القوات المسلحة المصرية أو الشعب المصري ذاته.

    لقد كانت حربًًا استدرجت لها القيادة السياسية المصرية بعد أن وجهت إليها اتهامات مغرضة عن تقاعسها في الدفاع عن القضايا العربية. واندفعت هذه القيادة السياسية، بالرغم من أنه كان على رأسها زعيم قومي عربي عظيم هو جمال عبد الناصر، في إصدار قرارات سياسية عشوائية غير مدروسة، وأرسلت القوات المسلحة المصرية لكي تحتشد في سيناء بدون أي خطة عسكرية!

    وساعد على الهزيمة قيادات عسكرية فاسدة وفاشلة لم تكن ترقى بأي معيار لقيادة قوات مسلحة باسلة مثل القوات المصرية.

    والدليل على ذلك أنه بعد أن تغيرت القيادة السياسية وتم التخطيط العلمي المتقن لحرب أكتوبر 1973، وبعد تغيير القيادات العسكرية الفاشلة، وتولية مجموعة من كبار القادة العسكريين أمور الحرب، استطاع الشعب المصري كله وليس قواته المسلحة فقط عبور خط بارليف المنيع وإلحاق الهزيمة بالجيش الإسرائيلي، وهذه الحرب المجيدة هي التي كانت المقدمة الضرورية لتحقيق السلام، بعدما أثبتت مصر أنها قادرة على قطع اليد الطويلة لإسرائيل!

    مطلوب من الكتاب العرب والمصريين الذين يهاجمون الموقف المصري ويريدون دفع القيادة السياسية المصرية إلى حرب مع إسرائيل، أن يراجعوا القواعد الأساسية للأمن القومي المصري، وأن يسترجعوا الخبرات الثمينة التي اكتسبتها مصر قيادة وشعبًًا من حروبها المتعددة مع إسرائيل.

    وستظل القوات المسلحة المصرية هي درع الدفاع عن التراب الوطني المصري، وستبقى القيادة السياسية المصرية الواعية حارسة أمينة على حدود مصر واستقلالها الوطني.

    ٭ ٭ ٭

    [5] الصراع الفكري حول الحرب

    أثارت حرب الإبادة التي شنتها الدولة الإسرائيلية العنصرية على الشعب الفلسطيني في غزة صراعًًا فكريًّا عنيفًًا بين أطراف متعددة.

    وليس

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1