Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

تحولات الامم والمستقبل العالمى
تحولات الامم والمستقبل العالمى
تحولات الامم والمستقبل العالمى
Ebook796 pages5 hours

تحولات الامم والمستقبل العالمى

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

حاول هذا الكتاب رسم خريطة معرفية لتحولات النظام العالمي ورسم ملامح الحضارة المعرفية التي تميز القرن الحادي والعشرين، وذلك من خلال رصد هذه التحولات على المستويين العربي والعالمي على حد سواء؛ فهو يعبر تعبيرًا صادقًا عن المفردات الرئيسية لقراءة المؤلف لتحولات الأمم ولصور المستقبل العالمي.
Languageالعربية
PublisherNahdet Misr
Release dateJan 1, 2009
ISBN9789771437789
تحولات الامم والمستقبل العالمى

Read more from السيد ياسين

Related to تحولات الامم والمستقبل العالمى

Related ebooks

Reviews for تحولات الامم والمستقبل العالمى

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    تحولات الامم والمستقبل العالمى - السيد ياسين

    الغلاف

    تحولات الأمم والمستقبل العالمي

    السيد يسين

    إشراف عام: داليا محمد إبراهيم

    جميع الحقوق محفوظة © لدار نهضة مصر للنشر

    يحظر طبع أو نشر أو تصوير أو تخزين

    أي جزء من هذا الكتاب بأية وسيلة إلكترونية أو ميكانيكية

    أو بالتصوير أو خلاف ذلك إلا بإذن كتابي صريح من الناشر.

    الترقيم الدولي: X ـ 3778 - 14 - 977

    رقم الإيداع: 2009 / 20794

    الطبعة الثانية: 2010

    تليفون : 33466434 - 33472864 02

    فاكس : 33462576 02

    خدمة العملاء: 16766

    Website: www.nahdetmisr.com

    E - mail: publishing@nahdetmisr.com

    Arabic%20DNM%20Logo_Colour%20Established%20Black.eps

    21 شارع أحمد عرابي - المهندسين - الجيزة

    Mokdema.tif

    يجمع المفكرون والعلماء الاجتماعيون في مختلف أنحاء العالم على أننا ونحن في بداية الألفية الثالثة، نمر بمرحلة تاريخية حاسمة تشهد تحولات الأمم في عصر العولمة.

    وليس هناك من شك في أن العولمة بتجلياتها السياسية التي تتمثل في الشعارات السائدة، وهي الديمقراطية واحترام التعددية وحقوق الإنسان، وبتجلياتها الاقتصادية التي كشفت عن نفسها بذيوع الرأسمالية المعولمة، وبتجلياتها الثقافية التي تبرز في الدعوة إلى صياغة ثقافة كونية، وبتجلياتها الاتصالية أخيرًا، قد أسقطت عديدًا من الممارسات التي سادت في القرن العشرين.

    وقد حل محل النماذج المعرفية التي هوت مع زوال النظام العالمي الثنائي القطبية، وبروز النظام الأحادي القطبية الذي تهيمن فيه الولايات المتحدة الأمريكية، نماذج معرفية جديدة في كل مجالات الحضارة الإنسانية، ونعني في السياسة والاقتصاد والثقافة والاجتماع.

    وقد أدت عملية سقوط النماذج المعرفية القديمة وصعود النماذج المعرفية الجديدة وخصوصًا بعد أن وصل المجتمع الصناعي إلى منتهاه، وبروز مجتمع المعلومات العالمي، إلى صراعات بالغة الحدة والعنف.

    وهذه الصراعات تقف في مقدمتها الصراعات بين القوى التقليدية القديمة والقوى الحديثة الجديدة. بعبارة أخرى شوهدت محاولات متعددة لمقاومة التغيير على المستوى المحلي والإقليمي والدولي.

    القوى الاجتماعية التقليدية تريد التشبث بمواقفها التي ضمنت لها السلطة والثروة والنفوذ بلا حدود، والمؤسسات القديمة تخشى من هبوب رياح التجديد، التي تفرض على قادتها مسئوليات جسيمة، أهمها على الإطلاق ضرورة التجديد المعرفي لمعرفة التحولات الكبرى، التي حدثت في بنية المجتمع العالمي. ليس ذلك فقط ولكن أهمية التعرف على المنطق الكامن وراء هذه التغيرات.

    ومن ناحية أخرى يمكن القول إنه فات أوان التركيز على الماضي كما هو الحال في المجتمعات التقليدية وأبرزها المجتمعات العربية المعاصرة، التي مازالت تجتر تراثها القديم وتخشى الدخول في مغامرة المعاصرة، والمجتمعات الحديثة التي ركزت طويلًا على مشكلات الحاضر.

    وأصبح استشراف المستقبل وفق المناهج الدقيقة لعلم المستقبل، مسئولية النخب السياسية الحاكمة، والمثقفين والعلماء الاجتماعيين.

    بعبارة أخرى أصبحت التنمية المستدامة لا تتصور بغير تخطيط يقوم على أساس صياغة رؤية استراتيجية للمجتمع، تحاول رسم لوحات شاملة للتطور السياسي والاقتصادي والثقافي المرغوب بعد عشرين عامًا. ولذلك ظهرت وثائق أمريكية وأوروبية وآسيوية تحمل كل منها صورة المستقبل التي ترجو تحقيقها النخب السياسية الحاكمة.

    ويمكن القول إننا في كتبنا المنشورة مؤخرًا، ومن أهمها كتاب «الخريطة المعرفية للمجتمع العالمي» (القاهرة: نهضة مصر، 2008)، وكتاب «الشبكة المعرفية للحضارة العالمية» (القاهرة: ميريت، 2009)، ركزنا تركيزًا أساسيًّا على أهمية قراءة سيناريوهات المستقبل العالمي. في الكتاب الأول نشرنا دراسة بعنوان «قراءة استشرافية لخريطة المجتمع الكوني الجديد»، تحدثنا فيها عن بنية هذا النظام والمؤشرات المتغيرة له وأهمها انهيار الأيديولوجية، وبزوغ سوق كونية اقتصادية، وزيادة تعقيد البعد العسكري، بعد ظهور نموذج الأمن القومي المعلوماتي، كما حددنا الفاعلين الأساسيين في المجتمع الكوني، ورسمنا صورة إجمالية له.

    وفي نفس الكتاب دراسة عن «مستقبل المجتمع الإنساني»، عنينا فيها ببيان تيارات التغير العميقة، وإبراز الروح الجديدة للعصر، وقدمنا رؤية استشرافية للقرن الحادي والعشرين.

    أما في كتابنا «شبكة الحضارة المعرفية»، فقد قدمنا فيه نظرية متكاملة عن التغيرات الأساسية في المجتمع العالمي، والبنية العميقة لكل تغير، والآثار التي ستترتب عليها.

    وهذه الآثار هي التي تؤثر الآن على تحولات الأمم. لأنه ليس هناك مجال للشك في أن الأمم جميعًا في الشرق والغرب على السواء، تمر بتحولات كبرى تحت تأثير الثورة العلمية والتكنولوجية، والثورة الاتصالية، وفي قلبها شبكة الإنترنت، والعولمة بكل تجلياتها المتعددة.

    والكتاب الذي نقدم له يرصد هذه التحولات على المستوى العربي والمستوى العالمي على السواء. وهو عبارة عن سلسلة متكاملة من المقالات الفكرية التي نشرت في جريدة الأهرام وفي عدة جرائد عربية أخرى، وذلك في الفترة من 18 ديسمبر 2008 حتى 19 نوفمبر 2009. وسلسلة أخرى من المقالات نشرت في جريدة «الحياة» في الفترة من 18 يناير حتى 2009.

    والكتاب ينقسم إلى أربعة أقسام هي:

    القسم الأول: العروبة والعالم بين المراجعة والمستقبل.

    القسم الثاني: العولمة الرأسمالية والأزمة المالية.

    القسم الثالث: السلوك الأمريكي والعقل العربي.

    القسم الرابع: النظام الدولي وتحولات الأمم.

    والكتاب بأقسامه الأربعة يعبر تعبيرًا صادقًا عن المفردات الرئيسية لقراءتي لتحولات الأمم في ضوء الصور المتعددة للمستقبل العالمي.

    وأرجو أن يضيء الكتاب بأبحاثه المتعددة المسارات المستقبلية للمجتمع الإنساني في الألفية الثالثة.

    والله الموفق

    السيد يسين

    أستاذ علم الاجتماع السياسي

    مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية

    القاهرة في أول ديسمبر 2009

    القسم الأول

    العروبة والعالم بين المراجعة والمستقبل

    1 - إيقاع الزمن العالمي.

    2 - الزمن العربي وتحديات الإصلاح السياسي.

    3 - تحول ديمقراطي بغير وصاية غربية.

    4 - العولمة الثقافية الأمريكية.

    5 - تحليل للقيم الثقافية الأمريكية.

    6 - دوائر الصراع المعقدة.

    7 - مراكز البحوث الاستراتيجية والتغيرات العالمية.

    8 - ثقافة الحوار بين الحضور والغياب.

    9 - أزمة الحوار في المجتمع العربي.

    10 - الانحراف الشخصي وتزييف الوعي السياسي.

    11 - ثروات الأمم وثورات الفكر.

    12 - العروبة بين المراجعة والمستقبل.

    (1)

    إيقاع الزمن العالمي!

    سادت في التقاليد الأكاديمية الفرنسية حتى أوائل السبعينيات أعراف مستقرة بمقتضاها لا يستطيع الباحث أن يحصل على دكتوراه الدولة في تخصصات العلوم الاجتماعية المختلفة مثل التاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع قبل أن يستغرق في البحث لمدة عشر سنوات على الأقل قد تزيد إلى خمسة عشر عامًا!

    لأن تعريف هذه الدرجة الجامعية الرفيعة في هذه التقاليد يتضمن أن الرسالة ستغلق باب الاجتهاد في موضوعها لمدة جيل كامل لأنها ستكون بمثابة تحول أساسي في منهج دراسة الموضوع.

    ويمكن القول إن قلة من هذه الرسائل هي التي انطبقت عليها هذه الشروط؛ لأنها كانت بمثابة ثورة علمية في تخصصها.

    ومن أبرزها رسالة دكتوراه الدولة التي حصل عليها المؤرخ الفرنسي الكبير «بروول» زعيم مدرسة الحوليات في موضوع «البحر الأبيض المتوسط في عصر فيليب الثاني». وذلك لأنه قدم لأول مرة منهج التاريخ الشامل الذي لا يفرق بين التاريخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.

    وقد أثر هذا المنهج تأثيرًا بليغًا في أجيال متعاقبة من العلماء الاجتماعيين في مختلف بلاد العالم.

    ونظرًا لصعوبة الحصول على دكتوراه الدولة بهذه الشروط القاسية انصرف عدد من كبار الباحثين الفرنسيين في فروع متعددة عن كتابة هذا النوع من الرسائل الجامعية وآثروا أن يتفرغوا للإنتاج العلمي الأصيل، وأصبحوا بذلك نجومًا بارزة في تخصصاتهم.

    بعض هؤلاء الكبار كانوا يقومون بالتدريس في الجامعات، غير أن القانون الفرنسي كان يمنع أن يشغل كرسي الأستاذية من ليس حاصلًا على دكتوراه الدولة.

    كيف حلت الدولة الفرنسية هذه المشكلة؟ وخصوصًا أن تطبيق هذا القانون كان سيمنع أحد كبار المستشرقين وهو ماكسيم ردونسون من أن يشغل كرسي الأستاذية. وكذلك الفيلسوف الفرنسي الشهير لويس التوسير صاحب المشروع الفلسفي المعروف لتجديد الماركسية والذي بدأه بكتاب «قراءة رأس المال» قدم فيه مع عدد من زملائه منهجًا جديدًا لتأويل النصوص الماركسية.

    وهذا المنهج الجديد أثر في اتجاهات علماء اجتماعيين في فروع مختلفة مثل الثقة الأولى، وتاريخ الأفكار، والفلسفة.

    ابتدعت الدولة الفرنسية درجة دكتوراه جديدة أطلقت عليها «دكتوراه على مجمل أعمال الباحث» وشروط التقدم لها أن يتقدم الباحث إلى اللجنة المشكلة لمناقشته بتقرير علمي كامل يؤلف فيه بين نتائج أبحاثه المتفرقة المنشورة في شكل دراسات أو كتب.

    ووفقًا لهذا النص الجديد تقدم ماكسيم رودنسون للحصول على درجة الدكتوراه على مجمل أبحاثه، وكذلك فعل الفيلسوف الكبير لويس التوسير الذي ذهب خارج باريس لمناقشة تقريره العلمي عن إنجازاته في إحدى جامعات الأقاليم بواسطة لجنة مشكلة من تلاميذه!

    وقد غطت جريدة «ألموند» الفرنسية هذا الحدث الجامعي الفريد في مقال بعنوان «تلاميذ لويس ألتوسير يمنحونه درجة الدكتوراه على مجمل أبحاثه!».

    وقد أتيح لي أن أرى على الطبيعة طريقة تطبيق هذا النص الذي تنفرد به الجامعات الفرنسية في العالم، حين دعيت من جامعة السوربون للاشتراك في لجنة أكاديمية لمنح باحث فرنسي هو آلان روسيون - مدير مركز التوثيق الفرنسي السابق في القاهرة وأحد أبرز الباحثين في شئون المجتمع المصري - درجة الدكتوراه على مجمل أبحاثه.

    وللأسف الشديد توفي روسيون منذ عدة أشهر بعد تاريخ أكاديمي حافل، وكان صديقًا لي، تابعت عديدًا من دراساته الرائدة عن الفكر الاجتماعي المصري.

    وأذكر أن موعد المناقشة تزامن مع أسبوع ثقافي مصري نظمه مكتب الأهرام في لندن وكان يرأسه في هذا الوقت الأستاذ عاطف الغمري، الذي طلب مني أن ألقي محاضرة بالإنجليزية عن «العولمة وحوار الثقافات».

    وقد شاركت في هذا الأسبوع في يومه الأول وبعد أن ألقيت محاضرتي طرت إلى باريس للاشتراك في مناقشة التقرير العلمي الذي قدمه آلان روسيون.

    ومن بين الأبحاث الرائدة التي قدمها روسيون في تقريره بحث عن «الإصلاح والثورة في الفكر الاجتماعي المصري من خلال مقارنة كتابات الدكتور سيد عويس عالم الاجتماع المعروف والأستاذ سيد قطب الداعية الإسلامي الشهير».

    كان سيد عويس يؤمن بالإصلاح الاجتماعي المتدرج وساعده على تبني هذا الاتجاه أنه بدأ حياته أخصائيًّا اجتماعيًّا ومارس فن الخدمة الاجتماعية بعد تخرجه في مدرسة الخدمة الاجتماعية، وقبل أن يسافر إلى لندن للحصول على درجة الماجستير، وإلى الولايات المتحدة من بعد للحصول على درجة الدكتوراه.

    وعاد الدكتور سيد عويس من بعثته إلى أمريكا بعد تخصصه في علم الإجرام ليعمل خبيرًا بالمعهد القومي للبحوث الجنائية عام 1956، ويرأس قسم بحوث الجريمة. وقد أتيح لي أن أعمل تحت رئاسته حين عينت باحثًا مساعدًا بالمعهد عام 1957.

    أما الأستاذ سيد قطب فله تاريخ حافل حدثت فيه تحولات فكرية كبرى. كان سيد قطب ناقدًا أدبيًّا، وهو أول من اكتشف عبقرية نجيب محفوظ وكتب مقالًا نوه فيه بإبداعه الروائي، وكان ينشر مقالات متنوعة في الصحف كما كان مؤلفًا لكتب فكرية وأدبية مهمة.

    وقد نشر سيد قطب كتابه الشهير «العدالة الاجتماعية في الإسلام» عام 1949 والذي كان قراءة يسارية جسورة للفكر الإسلامي، لأنه ركز تركيزًا جوهريًّا على فكرة العدالة الاجتماعية، من خلال سيرة بعض الصحابة وأبرزهم «أبوذر الغفاري». وكان لهذا الكتاب وقع ضخم على الوعي الاجتماعي لجيل كامل من الشباب المصري الذين كانوا يواجهون مشكلة الافتقار إلى العدالة الاجتماعية في المجتمع المصري قبل ثورة يوليو 1952.

    ثم عبر مسارات معقدة تحول سيد قطب من مجرد مفكر إسلامي منفتح الفكر إلى نشاط سياسي بعد أن انضم إلى جماعة الإخوان المسلمين عام 1950 وبدأ ينشر تفسيره الشهير للقرآن «في ظلال القرآن» في أجزاء متتالية منذ عام 1954 وهو التفسير الذي شهد البذور الأولى لنظريته التكفيرية للمجتمع، ودعوته للثورة على المجتمع المصري الذي كان يعتبره مجتمعًا «جاهليًّا» ويدعو بطريقته إلى تحكيم الإسلام نظريًّا وعمليًّا في إدارة كل شئون المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبعد أن تعاون سيد قطب تعاونًا وثيقًا مع الضباط الأحرار في بداية الثورة، وقع الصراع التاريخي بينها وبين الإخوان المسلمين، واعتقل سيد قطب مع عشرات من أعضاء الجماعة، ثم دخل في صراع عنيف مع النظام الناصري بعد أن نشر كتابه الشهير «معالم على الطريق» عام 1964 الذي كان أشبه بمنافيستو أيديولوجي إسلامي يدعو للثورة على النظام وإسقاطه وتأسيس الدولة الإسلامية.

    وهكذا استطاع الباحث الفرنسي المتميز «آلان روسيون» أن يلخص في هذا البحث الفريد الاتجاهين الرئيسيين في الفكر المصري الحديث والمعاصر وهما اتجاه الإصلاح واتجاه الثورة والذي يمكن تصنيف كل السياسيين والمثقفين المصريين في ضوء هذا التصنيف الأساسي. خلاصة الموضوع أننا ناقشنا «آلان روسيون» مناقشة مستفيضة استمرت ثلاث ساعات كاملة، وفي النهاية اقترحت لجنة الحكم منحه درجة الدكتوراه على مجمل أبحاثه العلمية، وقدم الاقتراح لجامعة السوربون التي وافقت على تقرير اللجنة.

    لماذا أكتب هذه الذكريات التي تبدو متناثرة إلى حد ما؟

    لسبب واحد لكي أثبت أن الباحثين في العلوم الاجتماعية حتى أواخر السبعينيات كانوا يعيشون في مناخ عالمي مستقر نسبيًّا. فقد كان النظام الدولي ثنائي القطبية، في أحد أطرافه «الولايات المتحدة الأمريكية» ممثلة لما كان يطلق عليه «العالم الحر»، وفي الطرف المقابل «الاتحاد السوڤيتي» ويحكم «العالم الاشتراكي».

    وكان يطلق على المعسكر الأمريكي والغربي عمومًا العالم الأول، وعلى المعسكر الاشتراكي العالم الثاني، أما العالم الثالث فقد كان يضم أشتاتًا متنوعة من البلاد في بلاد أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا.

    وكانت الحرب الباردة تقوم بحفظ التوازن الدولي وتحقق الاستقرار النسبي في ضوء مبدأ «الردع المتبادل». لأن كلًّا من الاتحاد السوڤيتي والولايات المتحدة الأمريكية كان يمتلك السلاح الذري ولذلك حل «الخطاب» عن الحرب محل الحرب الفعلية نظرًا لجسامة الآثار التي يمكن أن تنجم عن استخدام الأسلحة الذرية.

    بعبارة موجزة كان إيقاع الزمن في العقود الأخيرة من القرن العشرين بطيئًا نسبيًّا، مما سهل مهمة الباحثين في علم «المستقبل» الناشئ على أن يتنبأوا بالأوضاع العالمية في الأجل المتوسط وأحيانًا في الأجل الطويل.

    ظل الوضع هكذا حتى بدأت بوادر العولمة في بداية الثمانينيات، ثم تسارعت العملية التاريخية الكبرى التي تتمثل في الانتقال من نموذج المجتمع الصناعي إلى نموذج مجتمع المعلومات العالمي. والذي أسهم في هذا التسارع هو ثورة الاتصالات الكبرى، والتي تتمثل في البث التليفزيوني الفضائي وظهور شبكة الإنترنت.

    وقد أدت هذه التحولات العميقة إلى تغير جوهري في إيقاع الزمن من ناحية، وفي تغيير طبيعة المجتمع العالمي من ناحية أخرى.

    أصبح العالم كله بفضل شبكة الإنترنت «متصلًا» غير أنه أصبح - وفق عبارة كلاسيكية ذائعة في أدبيات العلاقات الدولية - يفتقر إلى اليقين وإلى القدرة على التنبؤ!

    في ضوء كل هذه التحولات الثورية لم تعد الظواهر السياسية والاقتصادية والثقافية التي يزخر بها المجتمع العالمي تتسم بالثبات القديم، بل أصبحت في حالة حركة دائمة وتغير مستمر.

    يصدق هذا على العولمة ذاتها وانعكاساتها في الميادين المتعددة للنشاط الإنساني، كما يصدق على شخصيات الأفراد وهويات الشعوب ورؤى العالم في الثقافات المختلفة. ولذلك نتائج مهمة في مجال البحث العلمي؛ لأنه مهما بلغت دقة صياغة النظريات التي يتبناها الباحثون لتغير الظواهر المختلفة، فإنها نتيجة وقائع معينة مفاجئة يمكن أن تسقط ويثبت زيفها!

    ألم تبشر «الليبرالية الجديدة» بأن الرأسمالية المعولمة ستكون هي دين الإنسانية إلى أبد الآبدين؟! وها هي قد سقطت سقوطًا مدويًّا، مما يدعو إلى تفكير إبداعي جديد للتأليف الخلاق بين واجبات الدولة ومطالب السوق.

    (2)

    الزمن العربي وتحديات الإصلاح السياسي

    منذ سنوات بعيدة وعلى وجه التحديد عام 1989، نشرت كتابًا في دار المستقبل العربي بعنوان «الزمن العربي والمستقبل العالمي». وأشرت في مقدمته إلى التحولات الكبرى التي لحقت ببنية المجتمع العالمي، وأبرزها تعمق آثار الثورة العلمية والتكنولوجية، وبزوغ الثورة الاتصالية العظمى بما أحدثته من آثار بالغة العمق، مما جعلنا نعيش حقًّا في زمن عالمي سريع الإيقاع وزاخر بالتحديات الكبرى.

    وقد طرحت سؤالًا رئيسيًّا مؤداه: هل نحن نعيش الزمان العالمي، أم أننا نعيش زمانًا عربيًّا مفارقًا للزمان العالمي؟

    والواقع أن موضوع الزمن يثير مشكلات فلسفية شتى. وقد حاول أحد ثقات الباحثين (جون زرزان) في مقالة جامعة له عن الزمن، أن يجمع أشتاتًا من الأفكار حول الزمن من مصادر شتى، قديمة وحديثة. غير أنه في الحقيقة لم يزد طبيعة الزمن إلا غموضًا، لأنه جنح إلى صياغات مجردة من قبل «إننا مع الزمن نحن نجابه معضلة فلسفية وسرًّا سيكولوجيًّا ولغزًا منطقيًّا». وفي محاولة منه لبيان استعصاء تحديد مفهوم الزمن يستشهد بالفيلسوف الفرنسي «بول ريكور» حين ذكر «إننا عاجزون عن إنتاج مفهوم للزمن يكون كونيًّا وبيولوجيًّا وتاريخيًّا وفرديًّا في الوقت نفسه» ويعقب عليه قائلًا «إن «ريكور» فاته أن هذه الأنماط من الزمن تختلط مع بعضها اختلاطًا شديدًا بحيث لا يمكن الفصل بينها».

    وأيًّا كانت مشكلة الزمن فلسفيًّا، فمما لا شك فيه أن الثقافات المختلفة في العالم تنظر إليه نظرات قد تتشابه في جوانب، ولكن من المؤكد أنها تختلف اختلافات جسيمة من جوانب أخرى. وإذا اعتمدنا على الثلاثية الكلاسيكية الماضي والحاضر والمستقبل، وحاولنا أن نفحص، كيف تنظر كل ثقافة لها، لأدركنا على الفور التأثير الثقافي الواضح على مدلولات الزمن بالنسبة لهذه الوحدات الثلاث.

    فمن المؤكد أن نظرة كل ثقافة إلى الماضي تكاد تحدد موقفها من الحاضر، وتشير في الوقت نفسه إلى صورة المستقبل الذي تسعى إلى تشكيله وتحقيقه على أرض الواقع. ولو نظرنا إلى الثقافة العربية الراهنة، وحللنا الفكر العربي في اتجاهاته الغالبة الآن، لأدركنا أن مشكلة الماضي تكاد تستغرق إحساسه بالحاضر، وتغلق في الوقت نفسه أبواب المستقبل.

    في ضوء هذا التشخيص الحضاري طرحنا سؤالًا هو: في أي زمن نعيش؟ وحاولنا أن نجيب عنه في ضوء تتبعنا للموضوعات الكبرى التي أثارها المفكرون العرب في عصر النهضة العربية الأولى، لكي نعرف هل سايرنا مقتضيات العصر بالنسبة لقضايا الحرية والديمقراطية والعقلانية، والاعتماد على العلم والتكنولوجيا، واحترام حقوق الإنسان؟

    والواقع أن هذه هي مفردات الحداثة الأوروبية التي بنت المجتمعات الغربية تقدمها على أساسها، والواقع أننا لو حاولنا تقييم وضع المجتمع العربي من كل جوانب الحداثة الغربية السياسية والفكرية والاجتماعية، لاكتشفنا أننا فشلنا في اختبار الحداثة وقمنا بمشاريع متعددة في مجال التحديث الجزئي لبعض النظم والمؤسسات.

    وأيًّا ما كان الأمر فهذه قضية كبرى لا يمكن لنا أن نوفيها حقها من البحث في هذا الحيز الوجيز؛ ولذلك نريد أن نركز في مجال مقارنة الزمن العربي بالزمن العالمي على مشكلة أساسية وهي الأسباب العميقة لتعثر محاولات الإصلاح السياسي العربي.

    ويمكن القول إن الزمن العالمي بالنسبة للدول الغربية المتقدمة يتسم أساسًا بالتراكم التاريخي؛ ذلك أن هذه الدول منذ بدأت عصر النهضة والتنوير في ظل رأسمالية ظلت تنمو باطراد، وتزيد قدرتها على إشباع الحاجات الأساسية للجماهير العريضة، وهي تسير في طريق التقدم الحضاري، الذي شمل النظم والمؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. صحيح أنه حدثت بعض الانقطاعات التاريخية الكبرى، وأهمها على الإطلاق الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، إلا أنها استطاعت - وخصوصًا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 - أن تواصل مسيرة تقدمها الحضاري.

    ولذلك حين جاء عصر العولمة في بداية الثمانينيات، بعد أن عبرت المجتمعات الغربية عصر الثورة العلمية والتكنولوجية، التي أصبح فيها العلم هو جوهر عملية الإنتاج، كانت جاهزة للانتقال من نموذج المجتمع الصناعي إلى نموذج مجتمع المعلومات العالمي، الذي يتقدم - ببطء وإن كان بثبات - إلى مجتمع المعرفة.

    والعولمة - كما أكدنا أكثر من مرة - لها تجليات سياسية هي الديمقراطية والنقدية واحترام حقوق الإنسان. وتجليات اقتصادية تتمثل في إطلاق حرية السوق وكف يد الدولة عن التدخل في المجال الاقتصادي، ورمزها البارز هو منظمة التجارة العالمية التي نشأت لكي تحرس مبدأ حرية التجارة على المستوى العالمي.

    للعولمة أيضًا تجليات ثقافية تبرز من خلال محاولة صياغة ثقافة كونية تكون نسقًا من القيم يطبق في كل مكان بالرغم من تعدد الثقافات. ولها أخيرًا تجليات اتصالية تتمثل في أن العالم أصبح كله متصلًا Connected.

    والسؤال هنا: ما موقف المجتمع العربي من كل تجليات العولمة، وخصوصًا تجلياتها السياسية في الديمقراطية والتعددية واحترام حقوق الإنسان؟ والإجابة أن المجتمع العربي ككل - وبغض النظر عن تعدد واختلاف أنظمته السياسية - وقف موقف الممانعة من تحقيق الأهداف «السياسية العولمية».

    وهذه الممانعة تمت بالرغم من ازدياد مطالب الداخل وتصاعد ضغوط الخارج.

    ونعرف جميعًا أن الولايات المتحدة الأمريكية ومعها الاتحاد الأوروبي أعلنت عن خطط متنوعة لتشجيع التحول الديمقراطي في العالم العربي، بل وفرضه فرضًا إن لزم الأمر من خلال الضغوط السياسية والاقتصادية. ولابد لنا أن نقدم تفسيرًا لممانعة المجتمع العربي في تحقيق هذه الأهداف.

    وهذا التفسير - فيما نرى - ينبغي أن يكون تاريخيًّا من ناحية، وسياسيًّا من ناحية أخرى.

    أما التفسير التاريخي فإنه يقوم على فكرة رئيسية مؤداها أن الزمن العربي يختلف حقيقة عن الزمن العالمي!

    وذلك لأن العالم العربي تم احتلاله واستعماره من قبل الدول الأوروبية العظمى، وفي مقدمتها بريطانيا وفرنسا وإيطاليا. واستمر هذا الاستعمار في بعض الحالات عشرات السنين.

    واقعة الاستعمار ذاتها بما تتضمنه من إيقاف النمو السياسي والاقتصادي والاجتماعي للدول المستعمرة، من شأنها أن تجعل الزمن العربي مغايرًا للزمن العالمي.

    ذلك أنه في الوقت الذي أجبرت فيه البلاد العربية على أن تعيش في أجواء شبيهة بمرحلة ما قبل الحداثة الغربية، من حيث شيوع الاستبداد السياسي، ومحاصرة الإرادة الوطنية المستقلة، وتخريب الاقتصاد الوطني وجعله تابعًا وخادمًا لأهداف اقتصادات المراكز الاستعمارية.

    ومعنى ذلك تجميد الزمن العربي ومنع آفاق التطور التي بلغتها الدول الغربية المتقدمة، من أن تؤثر على الأوضاع السياسية العربية وعلى الأنساق الاقتصادية والاجتماعية. وقد أدت الظاهرة الاستعمارية إلى نشوء حركات تحرر عربية في المشرق والمغرب على السواء. وقد نجحت هذه الحركات في الحصول على استقلال بلادها، سواء بالمفاوضات كما فعلت ثورة يوليو بقيادة «عبد الناصر» حين أنجزت جلاء الإنجليز عن مصر عام 1954، أو عن طريق حرب التحرير الشعبية كما فعلت الجزائر التي حصلت على استقلالها بعد معركة بطولية ضد الجيش الاستعماري الفرنسي.

    ونتيجة للتحولات الكبرى التي حدثت في المجتمع العربي منذ الخمسينيات تعددت صور الشرعية السياسية في العالم العربي.

    فأصبح لدينا شرعية «الثورة» كما حدث بالنسبة لمصر بعد ثورة يوليو 1952، وكما حدث في سوريا والعراق. صحيح أن بعض هذه الثورات لم تكن سوى مجرد انقلابات عسكرية اتشحت بأردية الثورة، ولكن أهم من ذلك أن أصبحت «فكرة الثورة» إحدى مصادر الشرعية الأساسية في المجتمع العربي.

    ونتيجة لنجاح بعض حركات التحرر العربية في الحصول على استقلال بلادها مثل تونس على وجه الخصوص والمغرب، أصبح لدينا نوع جديد من الشرعية السياسية في العالم العربي هي شرعية «النضال».

    وذلك بمعنى أن القيادات الوطنية مثل «الحبيب بورقيبة» الذي قاد جهود بلاده بالكفاح السياسي وبالمفاوضات حتى حصل على الاستقلال، أصبحت تستند في شرعيتها إلى تاريخها النضالي وإلى دورها البارز في عملية الاستقلال.

    وبقيت لدينا من أنماط الشرعية السياسية الشرعية «التقليدية» التي تتمثل في النظم الملكية مثل النظام السعودي، أو النظام الكويتي.

    وإذا نظرنا إلى هذه الأنماط المتعددة من الشرعية السياسية، أدركنا سر ممانعة النظم السياسية العربية في تحقيق التحول الديمقراطي.

    فالنظم السياسية التي تستند إلى شرعية «الثورة» من الصعوبة بمكان للحكام الذين ورثوا هذه الشرعية أن يسلموا بتداول السلطة، ويسمحوا لانتخابات حرة على الطريقة الغربية أن تزيحهم من أماكنهم.

    ومن ناحية أخرى فإن النظم السياسية التي قامت شرعيتها على أساس «النضال الوطني» مثل تونس على وجه الخصوص، من أصعب الأمور أن يتخلى الحزب السياسي الحاكم الذي حقق الاستقلال عن السلطة من خلال انتخابات حرة.

    وتبقى الشرعية «التقليدية» والتي هي بحسب التعريف لا تقوم من ناحية المبدأ على نظرية تداول السلطة.

    في ضوء هذا التحليل التاريخي والتفسير السياسي، نستطيع أن نفهم سر ممانعة النظام العربي في تحقيق التحول الديمقراطي، الذي تضغط الدول الغربية لكي يتم في أسرع وقت ممكن!

    لقد تناست الأوهام الغربية بصدد الإصلاح السياسي العربي، أن الزمن العربي لا يتطابق إطلاقًا مع الزمن العالمي!

    (3)

    تحول ديمقراطي بغير وصاية غربية!

    تهبط على مدينة القاهرة جماعات شتى من الأجانب الذين ينتمون إلى جنسيات أمريكية وأوروبية متعددة. وهؤلاء الأفراد أو الجماعات قد يمثلون الحكومات أو بعض الهيئات الدولية أو مجرد ممثلين لجماعات أهلية ممن يطلق عليها مؤسسات المجتمع المدني المتعددة. يأتي هؤلاء الناس تباعًا وبلا انقطاع لمتابعة سير التحول الديمقراطي في مصر والحث على الإسراع به، وأحيانًا لإلقاء محاضرات سطحية تافهة عن كيف يمكن تحقيق الديمقراطية في أسرع وقت بناء على التراث الغربي العظيم في هذا المجال.

    والحقيقة أن هذه الجهود المتعددة تعكس ضروبًا شتى من التدخل السياسي المرفوض، ومن التطفل، ومن الادعاء! وذلك لأن عديدًا من هؤلاء الأجانب الذين يحضرون للعالم العربي لكي «يحاضروا» عن الديمقراطية ومزاياها، حين يتطرقون إلى تفاصيل الحياة السياسية للبلاد التي يزورونها يكشفون عن جهل عميق بتاريخها وبمشكلاتها المعقدة، وبتراثها السياسي المعقد!

    وقد أتيح لي بحكم مسئولياتي في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية أن أقابل مئات من الخبراء في العلوم السياسية والاجتماعية وذلك عبر أكثر من ثلاثين سنة.

    وأشهد أن عددًا منهم يمتلك من العلم ومن الثقافة ومن المعرفة بالعالم العربي زادًا يجعل المناقشة معهم متعة فكرية حقيقية، ويسمح بحوار علمي بالغ الغنى والثراء.

    غير أن عددًا منهم لا تسمح لهم إمكانياتهم بالمناقشة المتعمقة لأحوال البلاد والعباد لنقص شديد سواء في المستوى الفكري أو في الخبرة بالأوضاع العربية.

    وقد أتيح لي التفاعل عبر ثلاثة أيام كاملة مع وفد أمريكي يمثل معهدًا أمريكيًّا هامًّا في ندوة حول أوضاع الديمقراطية في مصر شارك فيها عدد من أعضاء أحزاب المعارضة الذين قاموا بروح المسئولية بأداء رفيع المستوى عن منطق معارضتهم لبعض سياسات النظام المصري. كما كان مستوى الخبراء المصريين عاليًا مما أدى إلى ثراء الحوار الفكري.

    غير أن الذي لفت نظري هو أن بعض هؤلاء الخبراء السياسيين الأمريكيين قاموا بنقد أوضاع حقوق الإنسان في مصر بلهجة الذين يقومون بحراسة حقوق الإنسان في العالم، تحت تأثير أن الولايات المتحدة الأمريكية تصدر سنويًّا تقريرًا عن حقوق الإنسان ترصد فيه مخالفات الدول وترفعه وزارة الخارجية إلى رئيس الجمهورية الأمريكية لكي يقرر العقوبات المناسبة للدول! ويبدو أن صدور هذا التقرير السنوي قد أقنع وهمًا عديدًا من الخبراء الأمريكيين أن الولايات المتحدة هي راعية حقوق الإنسان في العالم! مع أن الممارسات العملية الأمريكية في العراق وغيرها من دول العالم تثبت أنها هي التي تخرق حقوق الإنسان بشكل منظم وفاضح!

    وتكفي الإشارة إلى وقائع التعذيب في سجن أبو غريب في العراق أو في معتقل جوانتانامو.

    لكل ذلك ضقت ذرعًا بأحد الأدعياء من الخبراء الأمريكيين في إحدى الندوات وهو يتشدق بأهمية مراعاة حقوق الإنسان وسألته عن موقفه من التشريع الذي أصدره الرئيس بوش والذي يبيح فيه للمحققين الأمريكيين ممارسة تعذيب المتهمين في قضايا الإرهاب وذلك لاستنطاقهم!

    لم يحر الرجل جوابًا، لأن الواقعة ثابتة وأثارت ضجة كبرى في الولايات المتحدة الأمريكية لدرجة أن المدعي العام الأمريكي استقال احتجاجًا على هذا التشريع مقررًا بأنه يمثل فضيحة صارخة في مجال العدالة الأمريكية.

    ووصلت حالة خرق حقوق الإنسان بصورة متعمدة خدمة لأهداف السياسة الأمريكية في محاربة الإرهاب حد مناقشة صور التعذيب المقبولة والمرفوضة وذلك في الكونجرس الأمريكي!

    وبيان ذلك أن إدارة الرئيس بوش كانت مصممة على ممارسة تعذيب المتهمين بطرق مستحدثة أبرزها إيهام المتهم أنه سيتم إغراقه في حوض ممتلئ بالمياه، وفي الوقت المناسب يرفعون رأسه حتى لا يختنق ويكررون ذلك عدة مرات حتى يعترف!

    ويمكن القول إن مناقشات هذا الموضوع في الكونجرس الأمريكي والخلاف حول التعذيب المقبول والمرفوض تعد من عجائب المناقشات السياسية في المجالس النيابية العالمية!

    وبعد ذلك كله يأتي هذا الخبير الأمريكي المتحذلق لكي يتنطع وينقد حقوق الإنسان في مصر أو في غيرها من البلاد العربية!

    وأرجو ألا يظن القارئ أنني أدافع عن ممارسات الأنظمة العربية في مجال حقوق الإنسان، لأن الأوضاع في العالم العربي في هذا المجال تحتاج إلى إصلاحات جذرية سواء على مستوى التشريع أو على مستوى الممارسة. بل إن ثقافة حقوق الإنسان لم تترسخ بعد في العالم العربي، لأن المواطنين العرب تعتبرهم عديد من الأنظمة السياسية وكأنهم رعايا وليسوا مواطنين.

    لقد قام المثقفون العرب في ندوات ومؤتمرات شتى بممارسة نقد أوضاع حقوق الإنسان وسجلوا ذلك في مقالاتهم المنشورة وكتبهم. ولذلك فهم ليسوا في حاجة لنقد هؤلاء الأجانب وخصوصًا الأمريكيين الذين لا يجرءون على نقد أوضاع حقوق الإنسان المتردية في الوقت الراهن داخل الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها!

    لقد أصدر الرئيس بوش في سياق حربه ضد الإرهاب «قانون الوطنية» الأمريكي الذي يبيح للسلطات الأمريكية أن تتنصت على مكالمات الأمريكيين وأن تقبض على من تريد في حالات الاشتباه إلى غير ذلك من الأحكام المقيدة للحرية، وهو ما يجعل المواطن الأمريكي غير آمن على نفسه. كما أن نفس هذه الإدارة المنحرفة كانت تتهم بعدم الوطنية المنتقدين للحرب ضد العراق وذلك في سياق حملة التعبئة الشعبية وتمهيدًا للغزو العسكري بزعم امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل، والتي اعترف الرئيس بوش مؤخرًا أنها لم تكن معلومات دقيقة!

    في ظل هذه الأوضاع جميعًا من الصعوبة بمكان أن نقبل بهؤلاء الخبراء الأدعياء الذين يبشرون بالديمقراطية، مع أن بلادهم تمارس أبشع ألوان الاحتلال في العراق. بل إن الاتفاقية الأمنية التي تم التوقيع عليها مؤخرًا بين العراق والولايات المتحدة الأمريكية وسط رفض شعبي كامل ليست إلا تقنينًا للاحتلال الأبدي الأمريكي للعراق!

    وبعد ذلك كله يأتي هؤلاء الخبراء الأدعياء المتطفلون لكي يبشروا في العواصم العربية بالديمقراطية وحقوق الإنسان!

    وإن أنس لا أنسى أن أحد هؤلاء الأدعياء - وكان يشغل منصبًا وزاريًّا في بلده الأوروبي قبل أن يحال إلى المعاش - جاء ضمن وفد لزيارة القاهرة للتبشير بالديمقراطية وحقوق الإنسان. وفي مناقشة لي معه سألني ببراءة شديدة: لماذا لا توافقون على أن يكون للإخوان المسلمين حزب سياسي؟

    والتفت إلى الرجل باندهاش شديد، لأنه يتحدث عن موضوع لا يعرف عنه أي شيء إلا بالسماع! الرجل يجهل التاريخ المصري جهلًا شديدًا، ولا يعرف تعقيدات الصراع بين جماعات الإسلام السياسي التي تريد قلب النظام السياسي المصري العلماني وإقامة دولة دينية محله تقوم على الفتوى وليس على التشريع تحت رقابة الرأي العام. ومع ذلك هو يردد - كالببغاء - أقاويل سياسية مرسلة سمعها هنا وهناك.

    وقد حاولت أن أشرح له الموضوع لأن الرجل - وهو شخصية محترمة في بلاده - كان يتحدث بسذاجة عن موضوعات مصرية معقدة لها تاريخ إذا استخدمنا عبارة أحمد بهاء الدين الشهيرة!

    وليس معنى ذلك أننا راضون عن الأوضاع السياسية في العالم العربي، لقد دعونا منذ سنوات طويلة كمثقفين عرب وقبل أن تتصاعد الدعوات الأجنبية لضرورة تحقيق التحول الديمقراطي إلى ضرورة تطبيق الديمقراطية، وذلك بعد عقود طويلة من الممارسات غير الديمقراطية، والتي تمت في أجواء الانقلابات العسكرية، وبتأثير «الثورات» المتعددة بسلبياتها وإيجابياتها.

    ويشهد على ذلك المؤتمر الكبير الذي نظمه مركز دراسات الوحدة العربية والذي انعقد في قبرص بعد أن رفضت العواصم العربية استضافته وذلك عام 1982 لأن موضوعه كان «أزمة الديمقراطية في العالم العربي». وقد شارك في هذا المؤتمر نخبة من المثقفين العرب الذين يمثلون التيارات القومية والاشتراكية والماركسية والإسلامية والذين أجمعوا في قرارات المؤتمر التاريخية على ضرورة تطبيق الديمقراطية باعتبارها الخيار الديمقراطي الأمثل.

    كما تم في نفس المؤتمر إعلان إنشاء الجمعية العربية لحقوق الإنسان بعد أن تم اعتبار أعضاء المؤتمر جمعية تأسسية.

    وتأسست الجمعية وقامت حتى الآن بمجهودات رائعة في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان.

    كما أن مكتبة الإسكندرية دعت إلى المؤتمر العربي للإصلاح الذي صدرت عنه وثيقة الإسكندرية والتي كانت محل اجتماع المثقفين العرب في ضرورة التحول الديمقراطي.

    لقد مارسنا النقد الذاتي للأوضاع غير الديمقراطية في الوطن العربي، وقمنا بتشخيص السلبيات، ولم نقف عند حدود ذلك، بل إننا قدمنا في اجتهادات متعددة البدائل للسياسات الموجودة.

    في ضوء ذلك كله لسنا في حاجة إلى وفود المتطفلين الأجانب الذين يجيئون ليبشروا بالديمقراطية في الوقت الذي يعجزون فيه عن النقد الصريح للهيمنة الأمريكية وللسياسات العدوانية للدولة الإسرائيلية العنصرية على الشعب الفلسطيني.

    لقد آن أوان القضاء نهائيًّا على ظاهرة ازدواجية المعايير.

    (4)

    العولمة الثقافية الأمريكية

    دعتني وزارة الثقافة والفنون والتراث في قطر لكي أشارك في الفعاليات الثقافية المصاحبة لمعرض الدوحة الدولي التاسع عشر للكتاب يوم 24/12/2008، وذلك لكي ألقي محاضرة عن «العولمة الثقافية الأمريكية».

    والذي قام بالاتصال بي للقيام بهذا البحث هو الصديق الدكتور عبد الله إبراهيم، مستشار الوزارة وهو باحث عربي مرموق، أخرج في السنوات الأخيرة مجموعة مراجع أساسية، من أبرزها مجلد عنوانه «المطابقة والاختلاف» عن «المركزية الغربية» و«المركزية الإسلامية».

    وكتابات عبد الله إبراهيم عن أصول المركزية الغربية وتجلياتها غير مسبوقة، وتعد المرجع الأساسي في الموضوع. كما أن وضعها في مقابل ما أطلق عليه «المركزية الإسلامية» يعد مقارنة إبداعية بين المركزيتين.

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1