Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

مصر دولة طبيعية: السياسة والاقتصاد والعمران
مصر دولة طبيعية: السياسة والاقتصاد والعمران
مصر دولة طبيعية: السياسة والاقتصاد والعمران
Ebook779 pages5 hours

مصر دولة طبيعية: السياسة والاقتصاد والعمران

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

كرست‭ ‬العقدين‭ ‬الأخيرين‭ ‬من‭ ‬حياتي‭ ‬العملية‭ ‬والمهنية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬تصبح‭ ‬مصر‭ ‬دولة طبيعية‏‏‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭,‬‏‭ ‬بمعنى‭ ‬أن‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬عادت‭ ‬إليه‭ ‬الغالبية‭ ‬العظمى‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬العالم‭, ‬حيث‭ ‬استقرت‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬المبادئ‭ ‬الأساسية‭ ‬في‭ ‬علاقة‭ ‬الدين‭ ‬والدولة‏‭,‬‏‭ ‬والدولة‭ ‬والمجتمع‏‭,‬‏‭ ‬والدولة‭ ‬وأقاليمها‏‭,‬‏‭ ‬والدولة‭ ‬والعالم‏‭. ‬وبالطبع‭ ‬لا‭ ‬توجد‏‭ ‬روشتة‏‭ ‬جاهزة‭ ‬لكل‭ ‬مشكلة‏‭,‬‏‏‭ ‬ولكن‭ ‬هناك‭ ‬دائمًا‭ ‬خطوطًا‭ ‬عامة‭ ‬باتت‭ ‬مستقرة‭ ‬في‭ ‬إدارة‭ ‬حياة‭ ‬الناس‭ ‬ضاع‭ ‬الكثير‭ ‬منها‭ ‬وسط‭ ‬مخترعات‭ ‬مصرية‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬مثلها‭ ‬في‭ ‬العالم‏‭.‬‏‭ ‬ومن‭ ‬المدهش‭ ‬أن‭ ‬قادة‭ ‬الرأي‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬يعرفون‭ ‬كل‭ ‬ذلك‏‭,‬‏‭ ‬وهم‭ ‬لا‭ ‬يتورعون‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬المبدأ‭ ‬عن‭ ‬المطالبة‭ ‬بأكثر‭ ‬الأشكال‭ ‬والقوانين‭ ‬والقواعد‭ ‬مثالية‏‭,‬‏‭ ‬فيبدو‭ ‬حلم‭ ‬الغني‭ ‬المصري‭ ‬ممتدًّا‭ ‬حتى‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬المثال‭ ‬السويسري‏‭,‬‏‭ ‬أما‭ ‬حلم‭ ‬الديمقراطية‭ ‬فيمس‭ ‬الأعتاب‭ ‬الإنجليزية‏‭.‬‏‭ ‬
Languageالعربية
PublisherNahdet Misr
Release dateJan 1, 2011
ISBN9787009737571
مصر دولة طبيعية: السياسة والاقتصاد والعمران

Related to مصر دولة طبيعية

Related ebooks

Reviews for مصر دولة طبيعية

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    مصر دولة طبيعية - عبد المنعم سعيد

    الغلاف

    مصر دولة طبيعية!!

    السياسـة والاقتصـاد والعمـران

    د. عبد المنعم سعيد

    إشراف عام: داليــا محمــد إبراهيـــم

    جميع الحقوق محفـوظة © لدار نهضة مصر للنشر

    يحظـــــر طـبــــــع أو نـشـــــر أو تصــويــــر أو تخـزيــــن

    أي جــزء مــن هــذا الكتــاب بأيــة وسيلــة إلكترونية أو ميكانيكية

    أو بالتصويـــر أو خــلاف ذلك إلا بإذن كتابي صريــح من الناشـــر.

    الترقيم الدولي: 8-2034-14-977

    رقم الإيداع: 2010/19394

    الطبعة الأولى: يناير 2011

    Arabic DNM Logo_Colour _fmt

    21 شارع أحمد عرابي - المهندسين - الجيزة

    تليفـــون: 33466434 - 33472864 02

    فاكـــــس: 33462576 02

    خدمة العملاء: 16766

    Website: www.nahdetmisr.com

    E-mail: publishing@nahdetmisr.com

    مقدمة

    لا يملك مصري يشتغل بالعلوم السياسية والتحليل الاستراتيجي مهما كانت اهتماماته الأكاديمية ترف ألا تكون مصر في مقدمة اهتماماته تلك. وبالنسبة لي فقد جعلت رسالتي السياسية منذ فترة طويلة أن تصبح مصر دولة طبيعية بمعنى أن تعود كل الأمور في البلاد إلى أصولها الأولى كما يحدث في دول العالم المختلفة، أو في غالبيتها على الأقل، حيث استقرت مجموعة من المبادئ الأساسية في علاقة الدين والدولة، والدولة والمجتمع، والدولة وأقاليمها، والدولة والعالم، أو حتى كما كان يحدث في مصر قبل عقود حتى جاءتها البيروقراطية لكي تفرض عليها نظمًا وقوانين وقواعد معقدة وشاذة قامت كلها على معادلة سقيمة قوامها أن الدولة، أو الحكومة، سوف تفعل كل شيء للمواطن من المهد إلى اللحد مقابل الولاء والطاعة.

    وعندما كتبت عن الدولة «الطبيعية» فقد كان قصدي تلك الغالبية من دول العالم التي أخذت مسارًا واحدًا تقريبًا بغض النظر عن التفاصيل والاختلافات التي خلقتها ظروف كل منها؛ ولكنها جميعًا سارت وبسرعة نحو اقتصاد السوق، وكلها أقامت نظامًا سياسيًّا قائمًا على المؤسسات، وشجعت كلها المجتمع والأفراد على السعي من أجل تراكم الثروة؛ وبالطبع لم يبق في أي منها من لا يحقق حدًّا أقصى من حرية التعبير، والديمقراطية، وتبادل السلطة بين أفراد وأفكار. القليل من دول العالم بقي على حاله وتخلفه من خلال تصور «للخصوصية» كان معناه خلق أوضاع «غير طبيعية» وتلفيقية على الأغلب لا أساس لها في نظرية أو فكر سياسي. وبرعت مصر في هذا المجال حيث لا يوجد في العالم كله من يعطي العمال والفلاحين مكانة خاصة في النظام السياسي بينما يعلم الجميع أن من أتى تحت هذا الاسم لم يكن لا عاملاً ولا فلاحًا في تاريخه. وعلى هذا المنوال تتراكم أوضاع للصحافة «القومية» تجعلها تقع بين مطرقة الحكومة وسندان السوق الإعلامية؛ ويكون ذلك في إطار دستور تتناقض مواده مع بعضها البعض حتى لا يمكن التأكد أبدًا مما إذا كانت الدولة مدنية أو أن خيال الدولة الدينية يداعبها فيعطي لجماعة منها أسسًا شرعية حتى ولو كانت في كل الأوقات محظورة وخارجة على القانون بينما هي وممثلوها في المجلس النيابي والحياة العامة. مثل هذه «الأكروباتية السياسية» تجعل مصر دولة غير طبيعية تظهر في أحيان كثيرة عندما يجري التعامل مع الدول الأخرى والعالم الخارجي في العموم حيث لا يكاد العالم يفهم عما إذا كانت شركة أو هيئة مملوكة للحكومة أو الشعب أو مجلس الشورى أو أنها خاصة يملكها أفرادها أو أنها تخضع لقوانين السوق.

    والحقيقة فقد كان هدفي الجوهري والأساسي من كل ما كتبت عن مصر هو كيف لمصر أن تصبح دولة متقدمة، إذ أن لدي قناعة، لم تتزحزح، في أن مصر أولًا تستحق أن تكون دولة متقدمة، بل إنني كتبت كتابًا منذ عدة سنوات بعنوان «مصر دولة متقدمة»، وأنها ثانيًا تمتلك الكثير من المقومات التي تجعلها كذلك. ومنذ كتابي «مصر دولة متقدمة» تولدت لدي قناعة مفادها أن مصر لن تكون كذلك ما لم تعد أولًا إلى الحالة الطبيعية، وكانت تلك القناعة حافزًا لإصدار عدة كتب أخرى تدعم هذا التوجه، كان من بينها «ثمن الإصلاح: أهمية التفكير الجاد في مستقبل مصر»، و«الدين والدولة في مصر: الفكر والسياسة والإخوان المسلمون»، و «إصلاح الساسة: الحزب الوطني والإخوان والليبراليون».

    أما الدافع الأساسي للدعوة إلى عودة مصر إلى الحالة الطبيعية توطئة للدخول في مصاف الدول المتقدمة فهو عملية التغير غير المسبوقة التي تمر بها مصر في الآونة الأخيرة، ليس على المستويين السياسي والاقتصادي فحسب، بل ـ وذلك هو الأهم ـ على المستوى الاجتماعي. ومن الثابت من التجارب العالمية أن الدول تتغير بوسائل شتى، فأولًا قد يأتي التغيير نتيجة ثورة سياسية واجتماعية، وثانيًا قد يأتي التغيير نتيجة التقدم التكنولوجي والاقتصادي الذي لا يبقي وضعًا ولا أمرًا على حاله، وثالثًا قد يأتي التغيير نتيجة غزو أجنبي أو هزيمة عسكرية تدفع إلى الاستسلام كما حدث مع ألمانيا واليابان، ورابعًا فقد يأتي التغيير، وهو النمط الشائع للتغيير في غالبية الدول، نتيجة تراكم تاريخي في عناصر اقتصادية واجتماعية وثقافية متنوعة تجعل البلد ليس كما كان.

    وتنتمي مصر إلى هذه الطائفة الأخيرة من الدول، وقيل في كتب كثيرة إن مولد مصر الحديثة في عهد محمد علي جاء من تراكمات جرت قبلها وقبل وقت طويل من الحملة الفرنسية على مصر إبان العصور المملوكية المتأخرة. فبعد ميلاد مصر الحديثة في 1805، وإشهارها دولة من دول العالم المستقلة في 1922، وتحريرها من كل حكم أو احتلال أجنبي في 1982، فإنه لا يوجد ما ينبغي السعي إليه قدر الوصول إلى تلك اللحظة الفارقة ما بين التخلف والتقدم حتى يكون للحداثة والتطور معنى ووجود. وخلال هذه المسيرة التي تزيد على مائتي عام جرت عملية التغيير في مصر وبطريقة متراكمة وفق نمط متردد يسير في فترات من النمو المتسارع لبضع سنوات تعقبها سنوات أو حتى عقود أخرى من الركود.

    وللحق فإن هذه اللحظة من الاختيار والحسم ما بين التخلف والتقدم، والاندماج في العالم المعاصر أو العزلة عنه، لم تكن قضيتنا وحدنا، بل كانت قضية كل الدول النامية التي وجدت نفسها تواجه العصر الحديث، وقد سبقتها بشدة شعوب وحضارات وأمم الغرب في مجالات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا والفنون والإبداع وحتى الاكتشافات الجغرافية الممتدة بين القطبين على الأرض حتى الفضاء الخارجي وصولًا حتى كواكب وأقمار بعيدة. وبعد عقود من المقاومة والرفض جاءت لحظة من لحظات الاختيار، ووقفت دول وشعوب وأمم أمام المرآة وتساءلت: إلى متى يبقى الحال على ما هو عليه؟ وإلى متى نظل في آخر المراتب العالمية؟ وإلى متى لا تكون لدينا مهمة في تاريخ البشرية سوى الاعتراض على السبق الغربي أو الهيمنة الغربية، سمها ما شئت؟

    وبالطبع، فإن هناك أسبابًا كثيرة لفرض التغيير سواء أراده الناس أو رفضوه، أو سعى إليه الحكام أو حاولوا تجنبه، فهو سنة الحياة كما يقال، وحكمة الزمان هي أنه طوبى للذين عرفوا اتجاهات التغيير وتواءموا وتكيفوا معها وعرفوا كيف يطوعونها في اتجاه خير المجتمعات في حاضرها ومستقبلها. وإذا كانت النخبة المصرية تريد فعلًا لجامعات مصرية أن تكون ضمن قائمة الخمسمائة جامعة الأولى في العالم فهل هي على استعداد للقبول بما قبلته دول شرق ووسط أوروبا وتركيا وغيرها من وجود جامعات ذات حجم صغير، ويجري فيها الإنفاق العالي من قبل الحكومة والشعب؟ وهل يمكن الإنفاق على التعليم في كل المناطق المصرية دون ضرائب عقارية تسمح لهذا الإنفاق بالوجود على كل المستويات التعليمية؟ وهل يمكن وضع دستور جديد للبلاد دون أن تحسم النخبة السياسية والفكرية أمرها في أمور أساسية مثل علاقة الدين بالدولة، والدولة بالاقتصاد والمجتمع، والدولة ببقية العالم وقيمه وثقافته؟ وإذا كنا نحن المصريين نتطلع لأن نكون مثل ماليزيا وتركيا وكوريا الجنوبية والبرازيل والهند، فهل نحن على استعداد لأن نسلك نفس الطريق التي اتبعوها، وأن نتبع بعض الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية التي قد تكون مؤلمة على الصعيد الاجتماعي لكن سيكون لها في النهاية الكثير من التداعيات الإيجابية على مسيرة التنمية والتقدم؟

    ودائمًا ما طرح عليَّ التفكير في مستقبل مصر سؤالين أساسيين، أولهما، هل حانت هذه اللحظة في مصر؟ في البداية فإن هذه اللحظة ظلت مراوغة ومحبطة خلال العقود الأربعة الماضية، حيث بدت قادمة عام 1975 عندما جاءت ورقة أكتوبر وبدأت سياسة الانفتاح الاقتصادي، ولكنها جاءت ثم ذهبت لكي تظهر مرة أخرى عام 1991 مع إجراءات التكيف الهيكلي التي بدأت تعطي ثمارها مع منتصف التسعينيات من القرن الماضي، ومع ذلك ضاعت اللحظة ساعة الأحلام العظيمة للقرن الحادي والعشرين. وبعد أربع سنوات من الركود بدا أن منتصف 2004 قد شهد احتمالات لحظة أخرى استمرت على اندفاعها حتى واتتها أزمة الأسعار العالمية، ومن بعدها الأزمة الاقتصادية الدولية، لكي تتزايد الشكوك وتطرح التساؤلات عما إذا كان أوان غياب اللحظة قد حان وفقًا لنمط مصري سائد طوال العصور الحديثة كلها لا فارق فيها بين عهود خديوية أو ملكية أو جمهورية.

    وثانيهما، لماذا تخلفنا وتقدم الآخرون حتى أنهم أقبلوا علينا غزاة ومستعمرين؟ وكما هو واضح فإن السؤال يبدو قاسيًا لأن الاعتقاد السائد هو أنه ما دمنا أمة الحق والديانة الخاتمة للديانات والرسالات فلابد أن لدينا مناعة خاصة تجاه هؤلاء القوم من الغربيين الذين باتت لديهم القدرة والمنعة حتى أنه أصبحت لديهم القدرة على تقسيم أراضينا وتوزيعها في معاهدات دولية. وإزاء هذا السؤال الصريح فقد جاءت إجابتان مانعتان؛ الأولى جاءت لأننا ـ أي المصريين والعرب والمسلمين ـ لم نفعل كما فعل الغربيون من امتلاك ناصية العلوم والتقدم، وتكوين المؤسسات وتغيير ثقافة الشعوب لكي تترك تخلفها وشعوذتها. والثانية جاءت لأننا لم نكن مخلصين لثقافتنا وأصولنا وخصوصياتنا وما فيها من حق الكنوز، وأكثر من ذلك انحرفنا بها بالبدع ونقص الاجتهاد. ومن هذين التيارين نبتت السياسة المصرية والعربية فكان السعي نحو الدولة المدنية الحديثة المقتربة من الغرب هو الترجمة العملية للإجابة الأولى، والسعي نحو الدولة الدينية المجاهدة للغرب هو تجسيد الإجابة الثانية؛ وكان لكل اتجاه جماعته من المفكرين والأحزاب السياسية معًا.

    وكما أنني على يقين من أن مصر قد تغيرت كثيرًا خلال العقود الماضية وبشكل أكثر وضوحًا وأكثر عمقًا خلال السنوات القليلة الماضية، فإنني على يقين أيضًا من أن التقدم لن يكون إلا عبر العودة إلى الحالة الطبيعية، والتجربة ماثلة في دولة التشيك التي فاجأني رئيسها «فاتسلاف كلاوس» عندما قال لي في حديث أجريته معه في براغ والقاهرة إن أعظم إنجازات بلاده هو أنها أصبحت دولة أوروبية طبيعية، بمعنى أنها أصبحت مثل كل الدول الأوروبية الأخرى ديمقراطية ومتقدمة وصناعية وحديثة، وتخضع لكل القواعد والنظم المتعلقة بالتطور والتغيير، أو دورات الانكماش والتوسع، وحتى النكسات أحيانًا، التي تتعرض لها الدول الرأسمالية في العموم.

    وإنني إذ أضع هذا الكتاب أمام الرأي العام والنخبة المصرية بكل أطيافها، بما يضم من أفكاري التي ناديت بها في مقالاتي الصحفية خلال السنوات الماضية طارحًا من خلالها مسارًا جديدًا أراه واقعيًّا وممكنًا للغاية للانطلاق نحو التقدم، الذي لا شك عندي في أنه يمثل غاية النخبة المصرية مهما اختلفت توجهاتهم، لآمل أن يكون كتابي هذا دعوة للجميع للتفكير في كيفية العودة بمصر إلى حالة الدولة الطبيعية.

    أولاً: السياسة

    في شأن قضية التغيير في مصر!!

    ذهبت إلى الإسكندرية في الأسبوع الماضي (27 إلى 31 مارس 2010) لكي ألقي محاضرة عن مستقبل مصر بدعوة كريمة من صالون الأوبرا الثقافي الذي صار بفضل جهد الزميل أسامة هيكل علامة من علامات الحياة الثقافية؛ حيث يناقش الكثير من القضايا المحورية في الحياة المصرية. وبالتأكيد لم يكن الموضوع سهلًا، وما كانت المهابة والفخامة التي تظهر عليها الأوبرا في مسرح سيد درويش تزيل رهبة الموضوع بل تضيف عليه تلالًا من الإضافات. فقد كان طبيعيًّا أن يثار قبل اللقاء بالجمهور كيف كان ممكنًا عام 1918 بناء مثل هذا المبنى العريق الذي تكاد جنباته وزخارفه الغنية تنطق بنغمات وألحان وترانيم جاءت من الشرق والغرب تحكي قصة التطور المصري الفريد خلال القرنين الماضيين.

    وبشكل لم أكن أتخيله كان المكان مناسبًا تمامًا لما كنت سوف ألقيه على الحاضرين من أهل الإسكندرية الكرام، فقد كانت الساحة المصرية ممتلئة حتى الحافة بصورتين متناقضتين للمستقبل المصري: صورة ترى في الحالة المصرية من الجمود ما يجعلها غير قابلة للتطور، ومن الفقر والتخلف ما لا يبدو معه إمكانية للإصلاح وفي الصورة تدور العلامات والإشارات والأرقام عن نسبة 40% من الفقراء حتى لو كذبتها كل المصادر المدعى الرجوع إليها وهو ما أشرنا إليه من قبل في مقالات أخرى. والصورة الأخرى عكس الأولى تمامًا؛ إذ ترى مصر ليست جامدة ولا قاعدة، وإنما تراها تمور وتفور بحركات احتجاج منذرة سوف تنفجر قبل بزوغ فجر اليوم التالي، فإن لم يكن ففي فجر اليوم الذي يليه، وهكذا سوف يأتي التغيير مع الأيام مهما طالت وبعدت.

    بدت الصورتان لا تلهمان قناعة، ولا تستندان إلى أدلة وبراهين يمكن الركون إليها، وعلى العكس تمامًا بدت لي مصر تسير في طريق التغيير كما هي الحال في دول كثيرة تدريجيًّا وتراكميًّا وكميًّا ونوعيًّا عبر ساحات كثيرة من التكنولوجيا وقوى الإنتاج والقوانين والإجراءات والمراسيم. وهذه كلها يمكن رصدها بسهولة منذ قيام الدولة المصرية الحديثة في عام 1805 مع تولي محمد على الكبير السلطة في مصر. ما حدث بعد ذلك ذكرته في مقالات عدة من قبل، ولكن ما يهمنا في اللحظة الراهنة أنها تأتي هي الأخرى ضمن عملية تطورية ذات أبعاد تكنولوجية وإنتاجية واجتماعية تراكمت عبر العقود القليلة الماضية، وبالتحديد منذ أن تولى الرئيس مبارك السلطة، بعد الرئيس السادات الذي كانت نبوءته الثاقبة هي أنه سوف يكون آخر الفراعنة. وهكذا، وكما هي الحال في كل الدول والأمم التي أخذت طريقًا تدريجيًّا تراكميًّا في التغيير والتقدم، فإن العقود الثلاثة الماضية تقريبًا شهدت مرحلة ما بعد الدولة الفرعونية من خلال تغييرات شتى ربما كان أخطرها ما جرى من تعديلات في المادة 76 من الدستور وأدت إلى انتخاب رئيس الجمهورية ـ أي رأس الدولة ـ بالانتخاب المباشر ومن بين قوى مدنية تنافسية. وكان صديقي الدكتور طه عبد العليم ـ المدير العام للأهرام ـ هو الذي لفت نظري إلى أن جذور نهاية الحقبة الفرعونية ربما وضع أساسها الموضوعي بناء السد العالي الذي أعطى المصريين القدرة الكاملة للتحكم في نهر النيل، ومن ثم انتهت ضرورات السلطة الفرعونية كما عرفناها لأزمنة طويلة، وربما احتاج الأمر عقدًا آخر بعد بناء السد لكي تظهر النتائج السياسية ويعتقد السادات أنه سوف يكون آخر الفراعنة.

    والآن ومع اقتراب لحظة مفصلية من التطور المصري مع الانتخابات التشريعية والرئاسية الجديدة فإن الساحة السياسية المصرية تبدو كما لو كانت خالية إلا من هؤلاء الذين لم يجدوا سوى المواد 76 و77 و88 من الدستور على أهميتها لكي يجعلوها الحاكمة في التغيير والتطور المصري كله. وعلى العكس تمامًا فإن الحزب الوطني الديمقراطي الذي لم يشغل الساحة بكثير من الضجيج كان يقوم بالفعل بعملية تغيير واسعة في مصر من خلال سلسلة من القوانين التي تغير من العلاقات الاقتصادية والاجتماعية المصرية، بالإضافة إلى تغييرات تجري على الأرض من خلال إجراءات للامركزية لم تعرفها مصر منذ العهود الفرعونية الأولى، مضافًا إليها بنية أساسية تضع لبنة إعادة تشكيل الجغرافيا والديمغرافيا المصرية من جديد حينما تمتد محافظات الصعيد إلى ساحل البحر، وتمتد خطوط وشرايين الغاز إلى كل القطر.

    وببساطة فإن الحزب الوطني الديمقراطي يكاد يكون القوة السياسية الوحيدة في مصر التي لديها خطة واضحة للتغيير الاقتصادي والاجتماعي المصري كانت كل جذورها موجودة فيما عرف ببرنامج الرئيس مبارك في الانتخابات الرئاسية الماضية. هذا البرنامج تضمن ستة أقسام رئيسية: الأول ركز على تبني تعديلات دستورية أساسية يمكن من خلالها إتاحة مزيد من التوازن بين السلطات الثلاث، وتوسيع نطاق المشاركة في اتخاذ القرار بين رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء، وتفعيل دور البرلمان في الحياة السياسية، وضمان تبني النظام الانتخابي الذي يكفل زيادة فرص تمثيل الأحزاب، ودعم تمثيل المرأة بالبرلمان، وتفعيل دور المجتمع المدني، وضمان وضع قانون جديد للإرهاب كبديل عن مكافحته بالعمل بقانون الطوارئ بما يعزز حقوق المواطن. والثاني هدف إلى توفير 4.5 مليون فرصة عمل في الأعوام الستة في مختلف القطاعات، إلى جانب تبني سياسات لتحفيز البنوك على توفير 60 ألف قرض سنويًّا للمشروعات الصغيرة، وتمويل 2000 مشروع صغير ومتوسط جديد، وتحفيز شراكات مع القطاع الخاص والقطاع المصرفي من أجل بناء ألف مصنع كبير جديد؛ لتوفير 250 ألف فرصة عمل للشباب سنويًّا، فضلًا عن استغلال الأراضي الصحراوية واستصلاحها، لتحويلها إلى مجتمعات زراعية جديدة، وتحسين فرص الفلاح المصري في زيادة دخله، والعمل على دعم قطاع السياحة من خلال زيادة عدد الغرف من150 ألفًا إلى 240 ألفًا. والثالث عمل على توفير آليات لمد خدمة التأمين الصحي إلى 100% من المواطنين بحلول عام 2010 أيًّا كانت قدراتهم المالية، وإنشاء 3500 مدرسة جديدة وتدريب 400 ألف معلم، وتوفير هيكل أجور متميز لأكثر من 400 ألف مدرس، وتطوير 250 مدرسة فنية خلال 6 سنوات، فضلًا عن إنشاء نصف مليون وحدة سكنية للشباب، وإعادة تخطيط 4000 قرية من خلال توفير 1.5 مليون جنيه لكل قرية، بواقع 250 ألف جنيه سنويًّا للقرية. والرابع تضمن زيادة الأجر الأساسي لـ3.5 مليون موظف حكومي في الدرجات الوظيفية الأقل بنسبة 100%، وزيادة رواتب العاملين في الدرجات الوظيفية الأعلى بنسبة 75% في الأعوام الستة، وتشجيع إنشاء 1000 صندوق خاص للمعاشات تحت مظلة رقابة الدولة. الخامس اهتم بقضايا السياسة الخارجية، حيث يشدد على ضرورة أن تظل مصر قوية وآمنة ويضع خمسة محاور أساسية لسياسة مصر الخارجية هي مساندة بناء الدولة الفلسطينية، والتكامل مع السودان، والتضامن مع العراق حفاظًا على استقراره ووحدة أراضيه، وتفعيل النظام العربي، وتعميق التعاون الاقتصادي والتجاري مع القوى الكبرى لخدمة الاقتصاد المصري. أما الأخير فهدف إلى رعاية الطفولة المبكرة، وتشجيع ودعم إنشاء المدارس التعاونية، وإعطاء دفعة كبيرة لإنشاء الجامعات الخاصة، وتسهيل عملية تملك الوحدات السكنية من خلال تفعيل قانون التمويل العقاري، واستمرار إتاحة أراضٍ حول المدن الرئيسية، وتشجيع البنوك على منح تمويل للسلع المعمرة، ولأغراض الاحتياجات الاستهلاكية، والإسراع بتنفيذ مشروع تاكسي العاصمة.

    هذا البرنامج كان هو الأساس لعملية التغيير التي جرت خلال الفترة الماضية، ومن المدهش أنه لم يلق اهتمامًا جادًّا من قبل النخبة السياسية المعارضة في مصر سواء عندما طرح أو عندما جرى التطبيق للخطوات والمشروعات المختلفة. وعندما طرحت في محاضرة الإسكندرية ضرورة الاهتمام الجاد بالدكتور محمد البرادعي وصحبه من الجماعات السياسية فقد كان ذلك واقعًا في إطارين: الأول الإطار الدستوري الذي يرى في الدستور ليس فقط قضية جوهرية لا يمكن أخذها بالخفة التي تجري بها، ومن ثم فإن الوقت لا ينبغي أن يكون مسألة ضاغطة في قضية تحتاج النظر إلى جميع جوانبها وأركانها لما فيها من مواد أخرى في الدستور لا يمكن تجاهلها وتهتم بها قطاعات مهمة في المجتمع. والثاني هو أن التركيز على القضايا الدستورية لا ينبغي أن يكون وسيلة للهروب من قضايا جوهرية تتعلق بسياسات وقوانين معروضة بالفعل على المجالس التشريعية، ومشاريع يجري تطبيقها بالفعل. ومن المذهل في عملية سياسية يريدها البعض أن تكون متقدمة وديمقراطية ألا يعرف أحد ما هو موقف معارض نشط مثل الدكتور البرادعي من قانون الضرائب العقارية، أو قانون المعاشات، أو سياسات الدعم، أو مشروع الألف قرية الفقيرة، أو المشروع القومي لربط الصعيد بالبحر الأحمر، أو السلام مع إسرائيل أو التعامل مع السودان وغيرها من قضايا السياسة الخارجية.

    إن تغيير المجتمعات بطريقة سلمية لا يجري فقط من خلال تغيير مواد بعينها من الدستور، أو حتى الدستور كله، وإنما من خلال عمليات شاملة لها علاقة بالتغييرات والتطورات التكنولوجية في البلاد، ومن خلال تغيير العلاقات بين أطراف كثيرة في المجتمع والدولة. ومثل ذلك لا ينطبق فقط على المعارضة وإنما ينطبق أيضًا على الحزب الوطني الديمقراطي الذي عليه أن يضع برنامجًا لا يقتصر على مجموعة السياسات التي سوف يطبقها، وإنما يمتد أيضًا إلى الإطار الدستوري والقانوني الذي تقوم فيه. وبصراحة فإن الحزب يقوم فعلًا بتغيير في البلاد لم يحدث قطُّ في كل البلاد الأخرى، ثم بعد ذلك بقي الإطار القانوني على حاله؛ لأن احتياجات المجتمع والدولة تتغير هي الأخرى.

    تغيير حالة الوطن

    كان الوقت في نهاية السبعينيات عندما شاركت زميلًا بريطانيًّا في حجرة جماعة الدارسين للدكتوراه، والذين يقومون بالتدريس للطلبة في الوقت نفسه بجامعة شمال إلينوي بمدينة ديكالب الصغيرة، والقريبة من شيكاغو في ولاية إلينوي بالولايات المتحدة الأمريكية.

    وكما هي العادة في مثل هذه الأحوال كانت هناك مناقشات كثيرة حول ما ندرسه، وما نحاضر الطلاب به، وعن تاريخ بلادنا وما جرى فيها من أحوال قريبة وبعيدة.. وكان طبيعيًّا أن يحضر بين طالب مصري وآخر بريطاني تاريخ العلاقة بين مصر وبريطانيا؛ ولما كنت مشبعًا في ذلك الوقت بالرؤية المصرية وحدها القائمة على أن الاستعمار الإنجليزي كان السبب في تخلف مصر، وأن الغنى البريطاني جاء نتيجة استنزاف ثروات الشعوب المستعمرة، فقد فاجأني زميلي بغضبه الشديد. وكان منطقه يقوم على أن تقدم المملكة المتحدة راجع أساسًا إلى التضحيات التي قدمها شعبها، وراح يعدد ليس فقط المنجزات التكنولوجية التي حققتها بلاده في فجر الثورة الصناعية وإنما التضحيات التي بذلها الشعب البريطاني من أجل الوصول إلى ما وصل إليه. وكانت التفاصيل كثيرة من أول المدن التي ازدحمت وانهارت مقوماتها، حتى القرى التي هجرها أهلها بحثًا عن ثروات مزعومة حتى انتهى بهم الأمر إلى الفقر والتسول والانهيار الخلقي المعنوي، والنساء والأطفال الذين عملوا لساعات طوال دون شفقة أو رحمة أمام أفران الصلب المنصهر دون حماية أو وقاية فسقطوا في سن مبكرة صرعى للأمراض والمجاعات.

    والحقيقة أن هذه الصورة الدرامية لم تكن بعيدة تمامًا عن الذهن، فكنت قد قرأت بالطبع روايات مهمة مثل دافيد كوبرفيلد وأوليفر تويست اللتين صورتا الأحوال البريطانية إبان الثورة الصناعية، ودرست أيضًا خلال المرحلة الجامعية في مادة التاريخ الاقتصادي في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية الكثير عن التضحيات المختلفة التي قدمتها الشعوب التي سبقتنا خلال مراحل متنوعة من التطور؛ ولما كان بحثي في مادة الفكر السياسي يدور حول مفهوم دكتاتورية البروليتاريا لدى كارل ماركس فقد كان لابد من قراءة الكثير من كتبه، وكلها غنية بآلام عمليات التحول في المجتمعات الصناعية.

    وعلى أي حال فقد استمرت المناقشات والحوارات، وربما توصلنا إلى نقطة وسط بشكل أو آخر، ولكن النتيجة المهمة كانت أن للتقدم ثمنًا وتضحيات نادرًا ما نتحدث عنها في مصر، حيث تبدو الأمور بسيطة للغاية ولا تتعدى تعديلات دستورية في المواد 76 و77 و88، وانتخاب واحد من أقطاب المعارضة، ومن بعدها تصبح مصر بلدًا مثل سويسرا، أقل أو أكثر قليلًا!.

    وحتى لا يسيء أحد فهم القصد والنية فإن تعديل هذه المواد كان مطلبًا للعديد من المثقفين والسياسيين المصريين، منذ التعديلات الدستورية الأخيرة في عامي 2005 و2007؛ ولعلي كنت واحدًا منهم كتابةً وحديثًا ومشاركةً في المحافل السياسية المختلفة، وضمن قلة تطلب البحث في دستور جديد كلية.

    ولكن قضية التغيير في مصر أكبر من ذلك بكثير؛ لأنها لا ترتبط فقط بالبنية القانونية والدستورية ولكنها ترتبط بالسياسات العامة والثمن الذي نحن على استعداد لدفعه حكومةً وشعبًا.

    وقد كان الأسبوع الماضي (20 إلى 25 فبراير 2010) بلا جدال هو أسبوع الدكتور البرادعي؛ حيث ظهر ست ساعات كاملة أو أكثر على شاشة التلفزيون، بالإضافة إلى سلسلة من المقابلات والتصريحات الصحفية التي انتهت ـ حتى وقت كتابة هذا المقال ـ بلقاء القمة مع السيد عمرو موسى الأمين العام لجامعة الدول العربية حيث اتفقا على أهمية التغيير في مصر، وقبل سفره إلى الخارج أعلن عن تشكيل جمعية وطنية للتغيير أيضًا.

    المسألة إذن هي التغيير، أي الانتقال من حالة إلى حالة أخرى مختلفة تمامًا ولكنها أكثر تقدمًا مما نحن عليه الآن؛ ولكن ما يحدث للأسف بعد ذلك هو قياسات غير دقيقة للواقع المصري الراهن، ومقارنتها بما تحقق في دول أخرى، وبعد أن تصبح الحالة فاضحة فإن الصمت يهبط ثقيلًا حول الخطوة التالية أو يتم الانتقال إلى قياسات أخرى لإثبات النقطة ذاتها. قد كان مدهشًا قليلًا أن كثيرًا من الأرقام التي ذكرها الدكتور البرادعي لم تكن صحيحة، فلم يكن متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي 1200 دولار، وإنما هو في كل تقرير دولي 2180 دولارًا، وهو فارق ليس قليلًا، وإذا ما حسب باعتبار القوة الشرائية للدولار فإن المتوسط يصل إلى 5347 دولارًا.

    بالنسبة لمكانة مصر في تقرير التنمية البشرية الصادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة فهي بالفعل متدنية ومخجلة؛ إذ إنها تحتل الترتيب 123 من 177 دولة وليس 175 دولة، ولكن التدقيق هنا واجب أيضًا؛ حيث تتقدم مصر في مقياس الفقر لكي تصبح مكانتها 82، وعند التدقيق أكثر في التقرير نفسه فإن نسبة من يعيش من المصريين على أقل من 1.25 دولار أقل من 2% من السكان، أما من يعيشون بأقل من دولارين فهم 18.4%. هذه الأرقام رفعها الدكتور البرادعي ليس فقط إلى 42% من السكان، وإنما جعلها عند أقل من دولار واحد، وهو ما لم يأت من قريب أو بعيد في تقرير عالمي منشور على شبكة المعلومات الدولية. وهذا التقرير يقيس أيضًا درجة العدالة الاجتماعية في بلدان العالم المختلفة من خلال ما هو معروف بمقياس جيني، وفيه فإن المقياس المصري هو 32.1 وهو أفضل كثيرًا من دولة أكثر غنى من مصر مثل جنوب إفريقيا ومقياسها 57.8، والصين الشيوعية 41.5، وإيران الإسلامية 38.3، وفنزويلا الثورية والبترولية 43.4 وإذا نظرنا للمسألة كلها ليس من حيث الترتيب ولكن من خلال مقارنة مصر بنفسها فإن مقياس التنمية البشرية المصري ارتفع من 0.496 عام 1980 إلى 0.703 عام 2007، وعندها توجد آخر الأرقام المتاحة؛ لكنها تشير إلى تحسن في الحالة المصرية رغم زيادة عدد السكان من 40 مليونًا إلى نحو 80 مليونًا؛ أي ضعف ما كانوا عليه منذ ربع قرن.

    ومع ذلك فإن ما قال به الدكتور البرادعي فيه ـ على وجه العموم ـ بعض من الصحة؛ ففقراء مصر كما تقول فعلًا التقارير الدولية ـ أقل من 20% ـ يقترب منهم نحو 20% آخرين ربما كانوا أعلى من حد الفقر ولكنهم ليسوا بعيدين عنه. وربما كانت الأرقام في مجملها غير دقيقة، وفيها قدر كبير من الاختيار، وتتجاهل أن 60% من المصريين ليسوا فقراء أو قريبين من الفقر، ولكنها صحيحة في أن مصر لا تزال قابعة في دائرة الدول المتخلفة، وهناك كثير من الدول سبقتها، وهو ما يجعل المقارنة مشروعة في كل الأوقات. ولعلنا في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام كنا أول من نشر على نطاق واسع تلك المقارنات بين مصر والدول الأخرى باعتبارها تمثل مقياسًا لمدى التقدم المصري حتى صار من الأمثال القومية تلك المقارنة الذائعة بين مصر وكوريا الجنوبية عند نقطة السباق الأولى عام 1960، حتى وصلنا إلى بداية العقد الثاني للقرن الحادي والعشرين حيث بلغت المفارقة حدودًا مفزعة.

    وهنا نصل تحديدًا إلى لب القضية كلها، فالمقارنة تتيح مقياسًا للتقدم والتغيير، ولكن مقارنة النتائج لا تصح دون الاستعداد للمصارحة بالثمن الواجب دفعه للوصول إلى النتائج نفسها، والتضحيات التي لا يمكن تجنبها حتى يكون التقدم ممكنًا. وهذا يعيدنا مباشرة إلى مقدمة المقال، فسواء تعلق الأمر بالدول التي تقدمت منذ القرن التاسع عشر مثل بريطانيا والولايات المتحدة، أو الدول التي تقدمت خلال النصف الأول من القرن العشرين مثل ألمانيا واليابان، أو تلك الدول الآسيوية والأمريكية اللاتينية، أو في شرق أوربا، في النصف الثاني من القرن الماضي، كلها قدمت تضحيات بالغة، ربما كان أهمها تغيير ثقافات سائدة، وسياسات متمكنة. وهناك قول ذائع لعالم الذرة الشهير ألبرت أينشتان إنه من قمة الغباء أن تفعل ما تفعله مرارًا وتكرارًا ثم تحصل بعد ذلك على نتائج مختلفة!

    وببساطة إنك لا تستطيع أن تحافظ على سياسات للدعم تخلت عنها كل الدول التي تسعى للمقارنة بها، ونظم للتعليم والتربية لم يعد أحد في الدنيا المتقدمة يقبل بها، وتقيم نظامًا للصحة لا يشعر أحد أن له ثمنًا من نوع أو آخر، ويركز فيه المجتمع على توزيع الثروة قبل خلقها، وتعطي النخبة السياسية في البلد من الاهتمام بالخارج ما يفوق الداخل، وإذا اهتمت بالداخل فإنها تريد نظامًا سياسيًّا يختلط فيه الإفتاء بالتشريع؛ ثم بعد ذلك كله تتصور أن تحصل على مكانة متقدمة في عالم اليوم حتى تصل إلى كوريا الجنوبية أو تركيا وتتجاوزهما أيضًا.

    وقد كان مدهشًا للغاية أنه خلال ست ساعات من المحاورات التلفزيونية مع الدكتور البرادعي لم يكن هناك إلا سؤال واحد حول سياسة الدعم؛ وكانت الإجابة لا تقل بعثًا للدهشة، حينما قال إنه من البدهي الحفاظ على دعم رغيف العيش، ولكن يمكن التفكير في تغيير دعم الطاقة؛ وهي الإجابة نفسها التي يقدمها الدكتور أحمد نظيف رئيس مجلس الوزراء لأسئلة مماثلة، وربما الأغلبية الساحقة من أركان النخبة المصرية داخل الحكومة وخارجها، حيث يبقى نظام للدعم لم يعد موجودًا في بلد متقدم في العالم. وما ينطبق في الحقيقة على الدعم ينطبق على كل السياسات الأخرى التي تقوم في جوهرها على إدارة المعركة مع الفقر وليس إدارة السعي نحو الثروة، وهو الفارق الأساسي بيننا وبين الدول التي سبقتنا.

    الرسالة هنا هي أنه إذا أرادت مصر أن تصبح مثل النماذج الاقتصادية الموجودة على مستوى العالم، مثل تركيا وكوريا الجنوبية وماليزيا والبرازيل والهند، فلابد أن تنتهج سياسات وإجراءات شبيهة بما قامت به هذه الدول، كما أنه من الضروري دراسة خبرة هذه الدول في التعامل مع بعض القضايا ذات الطابع الاقتصادي الخاص بتشجيع الاستثمارات الداخلية والخارجية حتى يمكن تحقيق التراكم الرأسمالي، وذات الطابع الاجتماعي كمكافحة الفقر وترشيد الدعم ومجانية التعليم، مع الوضع في الاعتبار أنها انتهجت في البداية إجراءات اقتصادية واجتماعية ربما تكون مؤلمة على الصعيد الاجتماعي لكنها في النهاية أنتجت تداعيات إيجابية عديدة كان لها أثر كبير في ارتفاع مستوى معيشة مواطنيها. وتمثل ماليزيا واحدة من أكثر الدول نجاحًا في استخدام الحوافز لجذب الاستثمار الأجنبي، حيث أصدرت قانون تشجيع الاستثمار في عام 1968، قام على السماح للأجانب بالاستحواذ على 100% من حقوق الملكية في شركاتهم عند قيامهم بتصدير 80% من منتجات تلك الشركات، والسماح للشركات التي تصدر ما بين 51% و79% من منتجاتها بنسبة مماثلة من حقوق الملكية لتلك الشركات، والسماح للشركات التي تصدر نسبة تتراوح بين 20% و50% من منتجاتها بتملك حتى 51% من أسهم تلك الشركات. وقد اتهمت الحكومة في هذا السياق بالتمييز، لكنها كانت ترد على ذلك بأن الاقتصاد موجه للتصدير بما يؤدي إلى توافر العملة الصعبة وجذب التكنولوجيا، والأهم من ذلك حل مشكلة التوصل إلى شركاء محليين. ولعل ذلك هو الذي يمثل الفارق بيننا وبين دول مثل فيتنام التي نجحت العام الماضي في اجتذاب 63 مليار دولار، بينما كان ما حصلنا عليه لا يزيد إلا قليلًا على 8 مليارات دولار؛ لأن الهدف الفيتنامي الواضح هو الحصول على مكانة في أسواق العالم من خلال الشركات الدولية الكبرى التي تقدم التكنولوجيا والقدرة على النفاذ للمستهلك على مستوى العالم كله.

    وفي العموم فإن فيتنام والدول الآسيوية استندت كلها إلى النموذج الياباني الذي سعى إلى اقتناص أسواق عالمية من خلال الجودة والسعر ومن ورائهما العمل الشاق واكتساب الخبرة الدولية. وفي تركيا لم تكن الحال مختلفة كثيرًا؛ حيث قامت التجربة على المزج بين تشجيع الاستثمارات الداخلية والخارجية؛ ولذلك عملت على تقليص دور وحجم القطاع العام في الاقتصاد ومنح هامش واسع من الحرية للقطاع الخاص، وعلى ضوء هذه السياسة تحول القطاع الخاص التركي ليصبح المحرك الرئيسي في الاقتصاد وأحد أهم أسباب ارتفاع معدلات النمو، بالتزامن مع إصلاح القطاع المصرفي، وقانون الاستثمار الأجنبي، وقانون حماية الملكية الثقافية والصناعية. أما في الهند فقد وضعت الحكومة الهندية برنامج إصلاح اقتصادي واسع، اعتمد على تقديم حوافز عديدة للمستثمرين بهدف تفعيل مشاركتهم في عملية التنمية وتقليص الجهاز البيروقراطي في الدولة، وتبسيط نظام الضرائب.

    في هذه الدول كلها مضافًا إليها دول أوربا الشرقية في مرحلتها الشيوعية والاشتراكية كان يوجد فيها نماذج مختلفة عما هو لدينا الآن، ووجدت هذه الدول أنه يستحيل دخول دائرة التقدم دون تمويل كافٍ للتعليم، وإذا كان لا يوجد غذاء بالمجان فلم يحدث في التاريخ أن كان هناك تعليم حقيقي بالمجان أيضًا؛ كما وجدت أنه يستحيل تحقيق تقدم اقتصادي متواصل مع وجود أسعار مختلفة للسلع بعضها مدعوم وبعضها الآخر ليس كذلك، أو دون فتح الأبواب على مصاريعها للمستثمر الأجنبي، ووجدت أنه لا يمكن إقامة الديمقراطية دون أن يكون معها دولة مدنية حديثة دون تردد أو مماحكة.

    وخلال المرحلة المقبلة حتى الانتخابات الرئاسية في العام المقبل فإن جوهر القضية السياسية في مصر سوف يبقى حول: أي مصر نريد؟ وهل هي جزء من القرن الحادي والعشرين كما تعكسه الدول المتقدمة في العالم المعاصر، أم أنها سوف تبقى على حالها بأشكال محسنة لما كان يجري فيها خلال العقود الستة الماضية؟ وهل يمكن البحث في شكل النظام السياسي دون استقرار على المهمة التي على هذا النظام السياسي القيام بها؟

    حديث هادئ عن الديمقراطية!

    من الرائع أن تتحدث جميع القوى السياسية عن الديمقراطية باعتبارها المثال السياسي الذي ينبغي الوصول إليه، ومن المشروع تمامًا أن تعترض جماعات منا على الطريقة التي تدار بها العملية السياسية في البلاد ومدى توافقها مع المثال المرجو والمطلوب. بل لعلي أتفق معها في معظم الأوقات سواء تعلق ذلك بالقوانين الاستثنائية، أو الانتخابات الدورية التي لم تنته قطُّ على اتفاق بنزاهتها، أو الأوضاع غير الطبيعية التي تعطي للعمال والفلاحين مميزات خاصة لم يعد ممكنًا وجودها في نظام ديمقراطي.

    ومع ذلك فإن المعضلة الكبرى أن كل القوى المطالبة بالديمقراطية الكاملة عن حق تتجاهل مجموعة من المقومات المطلوب العمل من أجلها بنفس الحماس الذي يجري من أجل آليات الديمقراطية. فدون هذه المقومات فإن ما يتم السعي إليه يصير وصفة جاهزة ليس لتقدم الدولة والمجتمع، وإنما إلى تدميرهما. وربما آن للجميع في مصر أن يعلموا أنه بقدر ما توجد تجارب ديمقراطية ناجحة في العالم قد تصل إلى أكثر من 74 دولة فإنه توجد تجارب فاشلة تصل إلى أكثر من هذا العدد نتيجة عجز النخبة السياسية، على اختلاف أطيافها، عن توفير المقومات الموضوعية والفكرية والثقافية اللازمة لقيام نظام قابل للاستمرار والنمو. وبينما تقوم الديمقراطية بإنقاذ اليونان من الكارثة الاقتصادية التي ألمت بها بحيث يكون في مقدورها اتخاذ قرارات صعبة، فإن الديمقراطية فشلت في موريتانيا والعراق حينما انتهى بها الأمر إلى انقلاب عسكري في الأولى وإلى عجز الدولة

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1