Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

كتاب دفاعاً عن العقل - الجزء الأول 2022
كتاب دفاعاً عن العقل - الجزء الأول 2022
كتاب دفاعاً عن العقل - الجزء الأول 2022
Ebook1,294 pages9 hours

كتاب دفاعاً عن العقل - الجزء الأول 2022

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

كتاب «دفاعاً عن العقل» عمل  معرفي موسع تشارك فيه الزملاء في فريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع لمحاولة تكثيف نتاج اجتهاد الزميل والصديق مصعب قاسم عزاوي وتوثيقه،  و هو الذي ظل على مدار العقود الثلاثة الأخيرة يبذل قصارى جهده لتأصيل الاستنارة والرشاد والتنوير وإظهار الحقائق المعماة والمتلطية وراء أستار الهيمنة والاستبداد وأدوات التزويق والتنميق الإعلامية  والدعائية التي تمتلكها الفئات المتحكمة بمصادر السلطة والثروة والإعلام المتسيد في كل أرجاء الأرضين، وبشكل خاص في عالمنا العربي الذي يتميز بكونه قلعة الفاسدين المفسدين من الطغاة والمستبدين المتغولين على حيوات وأحلام وقوت كل المواطنين العرب بدرجات وحِدَّات  و تلاوين مختلفة.


ويغطي الكتاب بين دفتيه مواضيع متعددة تشمل مناح كثيرة كلها يمس معاناة بني البشر المعاصرة في حقبة الرأسمالية المعولمة بشكلها البربري المتوحش، ويتطرق إلى مناحٍ تاريخية واقتصادية ومجتمعية متنوعة يجمعها أهميتها وضرورة الإلمام بها كمفاتيح أساسية لتمكين كل إنسان مقهور من تكشف أسباب معاناته وتلمس الأدوات التي لا بد من إدراكها لأجل البدء بالخطوة الأولى اللازمة في رحلة الألف ميل التي لا بد من الانخراط بها لأجل إدراك حق البشر جميعهم بغض النظر عن جنسهم أو عرقهم أو لغتهم أو معتقداتهم أو لونهم أو مرجعيتهم الفكرية بحياة حرة عادلة وعيش كريم.


 

Languageالعربية
PublisherPublishdrive
Release dateSep 15, 2022
كتاب دفاعاً عن العقل - الجزء الأول 2022

Read more from مصعب قاسم عزاوي

Related to كتاب دفاعاً عن العقل - الجزء الأول 2022

Related ebooks

Reviews for كتاب دفاعاً عن العقل - الجزء الأول 2022

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    كتاب دفاعاً عن العقل - الجزء الأول 2022 - مصعب قاسم عزاوي

    مقدمة الناشر

    قد يستقيم القول بأنه لا خير من الحوار والنقاش وتبادل الأفكار وسيلة لاستنهاض قدرات العقل البشري في التفكير والاجتهاد واستنباط الحقائق وتَكَشُّفِ علائق الأمور على خلاف ما يبدو ظاهراً منها للمدقق غير المتمعن. وكتاب «دفاعاً عن العقل» يأتي في هذا النسق، فهو يمثل خلاصة حوارات مطولة امتدت على بضع سنوات منذ بداية الربيع العربي في العام 2011، وحتى خواتيم العام 2021، قام من خلالها فريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع بإجراء لقاءات متعددة مع الزميل والصديق مصعب قاسم عزاوي، الكثير منها متقطع وعلى عدة أجزاء وحلقات بسبب الالتزامات المهنية القاهرة للزميل والصديق مصعب قاسم عزاوي بسبب ظروف عمله اليومي الضاغط كطبيب وأكاديمي ومجتهد في الحقل الفكري في آن معاً، يعمل في مدينة طاحنة مثل لندن، إيقاع الحياة فيها يكاد يحول الكل إلى بشر لاهثين فقط للبقاء متزنين أسوياء، وهم يحاولون الإلمام بمتطلبات الحياة المعقدة والسريعة فيها.

    والكثير من الحوارات المدرجة في هذا الكتاب تم تسجيلها على مسجل صوتي صغير وتم تفريغها وتنضيدها لاحقاً بجهود زملاء وأصدقاء ومتطوعين آخرين، ومن ثم عرضها على الزميل والصديق مصعب قاسم عزاوي من أجل تنقيحها، وهو ما أخذ أمداً زمنياً طويلاً وصل إلى سنوات في بعض الملفات، ليتم تجميع الجزء الأول منها لتقديمه في صيغة الكتاب الأول من سلسلة حوارات فريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع مع الزميل والصديق مصعب قاسم عزاوي، والتي بدأت منذ عقد ونيف، ولا زال الاجتهاد لإكمالها جارياً على قدم وساق.

    ويحق لفريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع الفخر بهذا الجهد الكبير الذي تشارك فيه الزملاء في فريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع لمحاولة تكثيف نتاج اجتهاد الزميل والصديق مصعب قاسم عزاوي وتوثيقه،  و هو الذي ظل على مدار العقود الثلاثة الأخيرة يبذل قصارى جهده لتأصيل الاستنارة والرشاد والتنوير وإظهار الحقائق المعماة والمتلطية وراء أستار الهيمنة والاستبداد وأدوات التزويق والتنميق الإعلامية  والدعائية التي تمتلكها الفئات المتحكمة بمصادر السلطة والثروة والإعلام المتسيد في كل أرجاء الأرضين، وبشكل خاص في عالمنا العربي الذي يتميز بكونه قلعة الفاسدين المفسدين من الطغاة والمستبدين المتغولين على حيوات وأحلام وقوت كل المواطنين العرب بدرجات وحِدَّات  و تلاوين مختلفة.

    ويغطي الكتاب بين دفتيه مواضيع متعددة تشمل مناح كثيرة كلها يمس معاناة بني البشر المعاصرة في حقبة الرأسمالية المعولمة بشكلها البربري المتوحش، ويتطرق إلى مناحٍ تاريخية واقتصادية ومجتمعية متنوعة يجمعها أهميتها وضرورة الإلمام بها كمفاتيح أساسية لتمكين كل إنسان مقهور من تكشف أسباب معاناته وتلمس الأدوات التي لا بد من إدراكها لأجل البدء بالخطوة الأولى اللازمة في رحلة الألف ميل التي لا بد من الانخراط بها لأجل إدراك حق البشر جميعهم بغض النظر عن جنسهم أو عرقهم أو لغتهم أو معتقداتهم أو لونهم أو مرجعيتهم الفكرية بحياة حرة عادلة وعيش كريم.

    فريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع في لندن

    لندن في 08/08/2022

    نص الكتاب

    س: وددت أن أسألك عن رأيك بصدد تغييب الأهداف الاجتماعية من جل منظومات الإنتاج والبحث العلمي على المستوى الكوني، وانعدامها شبه المطلق في نسق اقتصاد السوق الوحشي المعولم؟

    ج: من الناحية المنهجية هناك ترابط عضوي تفاعلي بين كل أنشطة البشر تحكمه بشكل جمعي شروط التفاعل الاجتماعي بين البشر التي لا بد أن ينتج عنها منتجات تعيد التأثير على معطيات اجتماعية أخرى، وتغير من مسار تآثر تلك الأخيرة بما ترتبط به من مؤثرات أخرى في المحيط الاجتماعي. وذلك التآثر التفاعلي الذي لا ينقطع في الحيز الاجتماعي مثل جوهر وخلاصة عمل ابن خلدون الطليعي تاريخياً ومعرفياً بمقدمته التي لا تزال أطروحاتها ثاقبة في قدراتها على تحليل ذلك النموذج من التآثر. وكمثال واقعي مبسط على نموذج التآثر ذلك باتكاء على جوهر سؤالك يمكن التفكر بين العلاقة الجوهرية بين قيمة العلم والبحث العلمي في مجتمع ما، وبين نموذج نضج مستوى التعاقد الاجتماعي بين أولئك المتشاركين فيما بينهم كأعضاء في ذلك المجتمع. وتلك الملاحظة المبسطة تشير عملياً إلى واقع انحدار قيمة العلم مشخصاً بكم ومستوى البحث العلمي الذي ينتج عن الجامعات في الدول ذات المجتمعات المنهوبة تاريخياً عبر استعمارها إمبريالياً فيما مضى، أو عبر وكلاء ذلك الأخير بعد رحيله شكلياً عن تلك المجتمعات بسبب تغير الظروف التاريخية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية وصعود موجة الانعتاق من الاستعمار التقليدي الذي عززه بشكل كامن توازن القوى في تلك المرحلة ممثلاً بوجود الاتحاد السوفييتي.

    وبشكل أكثر دقة في التوصيف يمكن النظر إلى أن تلك العلاقة التفاعلية تجد تمظهرها الفعلي والحقيقي أيضاً في الدول التي تسمى نامية، وهي في جوهرها مجتمعات تمكنت من تحقيق تقدمها الاقتصادي بشكل فعلي عبر تكوين قاعدة تصنيعية قامت أساساً على استغلال لا لجام له لموارد المجتمعات المنهوبة إمبريالياً السالف ذكرها، وعبر اعتمادها الذي لم يتغاير لحد الآن -على الرغم من تبدل شكله التزويقي الظاهري- متمثلاً باستعمال قوة العمل الرخيصة لأولئك المظلومين المستعبدين بالسلاسل في أوائل مرحلة التكوين الإمبريالي لتلك المجتمعات النامية، وصولاً إلى مرحلة الاستعباد بالوكالة كما يحدث في استغلال نفس تلك المجتمعات لقوة العمل المظلومة المستلبة في الصين نموذجاً، والمرغمة على العمل بشروط لا تتغاير عن تلك القائمة في نموذج الاستعباد التقليدي سوى بأنها أكثر وحشية وقسوة، حيث كان السيد إبان مرحلة العبودية التقليدية ملزماً من الناحية العرفية بتقديم المأكل والمأوى الملائم لعبده لكي يتمكن من الاستمرار بالعمل والإنتاج، وسوى ذلك فإن اندثاره ورحيله عن الحياة الدنيا يمثل خسارة فعلية من الناحية المادية لذلك السيد بنكوصه عن واجبه الطبيعي في الحفاظ على ممتلكاته.  بينما الحال راهناً وفق النموذج «الصيني»- وما كان على شاكلته في غير موضع من خارطة العالم المفقر المنهوب- هو «إرغام العامل على عرض» قوة عمله والتي تعني كل كينونته لردح من الوقت خلال يوم العمل لمن يرغب باستغلالها دون إلزام ذلك المستغل على تقديم أي من واجبات السيد «مالك العبد» التقليدي من قبيل مأوى ملائم ومأكل كاف وعلاج عند الحاجة. وجماع ذلك الحال المأساوي كله أنتج مجتمعات من الشغيلة الهامشيين هيكلها مجتمعات الصفيح والبناء العشوائي الذي أصبح شبه الحالة الطبيعية في كل مدن العالم المفقر المنهوب- أو ما يسمى الثالث أو النامي أو دول الجنوب-على الرغم من اندثار العالم الثاني من واقع الخارطة السياسية الكونية، وتآكل كل آفاق النمو الحقيقي في تلك المجتمعات المنهوبة في سياق تمترس معادلة اقتصاد السوق، والطغيان الكوني للكتلة الإمبريالية متمثلة بالغول العولمي الذي كون نفسه على شاكلة «الميدوزا الأسطورية الإغريقية» برؤوس لا تنتهي هي الشركات العابرة للقارات التي تحكم العالم، وتحرك القدرات العسكرية لدول بأكملها عبر تحكمها بعملية تخليق الساسة في تلك الدول؛ ومثالها الوصفي ما سماها أيزنهاور الرئيس الأمريكي الأسبق «المجتمع الصناعي العسكري» والذي أصبح منظومة معقدة راهناً تضمن في طياتها الصناعات الحاسوبية، والدوائية، وتلك المرتبطة بالتقانات الحيوية «Biotechnology» والتي يرى صناع القرار في العالم الإمبريالي بأنها عماد تمكنهم من تثبيت سيطرتهم عن المجتمعات المنهوبة في قابل الأيام من خلال الإمساك بمفاصل حيوات أبنائها في صحتهم واحتمال اندثارهم من الحياة الدنيا إن لم يحصلوا على الترياقات الدوائية التي يحتكرها ذلك المجتمع الإمبريالي بقوة الترهيب وما يدعى حقوق الملكية الفكرية التي تسري على الفقراء فقط.

    س: لماذا تعتقد بعدم أخلاقية حقوق الملكية الفكرية في سياق الإنتاج العلمي على المستوى الكوني، بشكلها المبتنى في تكوين منظمة التجارة العالمية؟

    ج: العمل العلمي في جوهره مرتبط بطموح الإنسان الفطري إلى اكتشاف الجديد، وإيجاد حلول للمشاكل التي تواجهه وجودياً. وفي المجال العلمي الذي صرفت وأصرف فيه جل وقتي في حياتي اليومية وهو الدراسات المورثية للأمراض وخاصة الأورام، فإن الغالبية الساحقة من الكشوفات في هذا الحقل ولدت و نهضت في الجامعات ومراكز البحث العلمي الممولة بأموال دافعي الضرائب، وهذا يعني من الناحية العيانية المشخصة الطبقة العاملة حيث أن الشركات العابرة للقارات تكاد لا تدفع أياً من ضرائبها المتوجبة عليها في أي من بقاع المعمورة؛ وهو ما يقتضي بأن يعود النفع من تلك الأبحاث إلى المجتمعات التي قام أبناؤها بسداد فواتير ونفقات الجهد العلمي الاستثنائي الذي سبق و أسس لكل اختراق علمي من علماء لم يفكر أي منهم على حد معرفتي اللصيقة بالكثير منهم بأي ربح سوء ذلك المعنوي الذي قد يتمثل بتكريم أو جائزة أو حتى بطاقة شكر صغيرة من رئيس القسم الذي يعمل فيه.

    ولكن المعادلة الأخلاقية المقلوبة رأساً على عقب بقوة مفاعيل هيمنة الأقوياء على المفقرين المستضعفين على المستوى الكوني تقتضي بأن يتم تحويل كل تلك الكشوفات بعد تمام تكوينها في الرحم الجامعي على حساب دافعي الضرائب، إلى براءات اختراع تشتريها بأثمان بخسة - تكاد أن تكون شبه مجانية- نفس الشركات العابرة للقارات التي تتحكم بمصير كل من يعيش في أرجاء الأرضين، لتصنع منها سلعة تتحكم في حق احتكارها كما هو الحال في معظم أدوية الأورام وخاصة تلك الحديثة منها التي يجب أن يكون دليل تصنيعها حقاً للبشرية جمعاء لتنقذهم من براثن المرض والألم، وأن لا تكون مدخلاً لاستنزاف مقدرات الشعوب المنهوبة أصلاً، ومصدراً لشفط الرمق الأخير من أولئك الذين يعانون شر الأورام على المستوى الكوني سواءً في المجتمعات المفقرة المنهوبة، أو حتى في عقر دار تلك المجتمعات الإمبريالية التي لا فرق في منظارها بين إنسان مسحوق من مجتمع منهوب أو مجتمع إمبريالي سوى في الشكل الإخراجي لآلية استخراج الربح الشيطاني من ذلك الجسد الضامر بطريقة لا تختلف إلا تزويقياً عن تلك التي شخصها شكسبير في شخصية «شايلوك» في مسرحية تاجر البندقية.

    س: هل ترى بأن هناك استقلالية للعلماء في العالم الإمبريالي وفق توصيفك الآنف الذكر، وما هو رأيك بالنسبة للعلماء في الدول الجنوب المنهوبة؟

    ج: أولاً بالنسبة للعلماء في العالم المنهوب فقد تحولت الغالبية الساحقة منهم مرغمين إلى أساتذة على شاكلة أولئك المشتغلين في المدارس الثانوية يعمل معظمهم في جامعات تحولت معظمها إلى مدارس ثانوية كبيرة جوهر آليات العمل فيها مستند إلى الاسحتفاظ والاستذكار وتعزيز مهارات الذاكرة القصيرة والمتوسطة المدى لدى الطالب، ودون أن يكون للبحث العلمي والاستكشاف التنقيبي عن المعرفة أي دور فعلي في آليات العمل الداخلية في تلك الجامعات. وقد يستثنى من تلك المجموعة رهط صغير يعمل في الصناعات العسكرية في بعض الدول النامية – كما هو الحال في القوتين النوويتين الهند وباكستان- التي تجافي في جوهرها الهدف الأسمى للعلم وهو تحسين شروط حياة الإنسان كليانياً، حيث أن هدفها الأسمى هو صناعة الموت بغض النظر عن المبررات الأخلاقية أوغير الأخلاقية لذلك الهدف كما هو في النتاج العلمي الذي تمخض عن تصنيع الأسلحة النووية في الهند والباكستان والصواريخ الباليستية في غير موضع من أرجاء العالم المنهوب.

    أما في العالم الإمبريالي فالموضوع أكثر تعقيدًا ومخاتلة إذ يتوجب على من يساهم بإنتاج علمي منتظم ورفيع أن يحافظ على إمكانية استئجار قوة عمله كعامل ذي ياقة بيضاء، أو بمعنى آخر عبد صالح للاستئجار المؤقت في مركز علمي مرموق في جامعة أو مركز متخصص في البحث العلمي. ولكي يحقق تلك المعادلة فلابد له من الحصول على تمويل من أموال دافعي الضرائب للأبحاث التي يعتزم القيام بها، وهنا يكن مربط الفرس. فالتمويل الذي يحتاجه العالم لما يكن غير مشروط في أي لحظة موضوعية من تاريخ البحث العلمي في العالم الإمبريالي إلا شكلياً؛ حيث تقوم الجهات المانحة للتمويل والتي يشرف عليها نظرياً الساسة المنتخبون ومن ينتدبونه من موظفين عموميين في مفاصل بنيان الدولة في العالم الإمبريالي. ولكن أولئك الساسة وخيارتهم جميعها مشروطة بمصادر تمويل حملاتهم الانتخابية، والحفاظ على صورتهم المنمقة إعلامياً، وجميعها تصب في المآل الأخير في جعبة نفس الشركات السرطانية العابرة للقارات الحاكمة الفعلية في العالمين الناهب والمنهوب. وبالتالي يحدد ويؤطر الساسة أولئك الحقول المعرفية التي يحق للعالم طلب التمويل للبحث العلمي فيها. وكمثال على ذلك يمكن لعالم الحصول على تمويل لإنتاج دواء جديد لمرضى نقص المناعة المكتسب، ولكن ليس لقاحاً يستأصل ذلك المرض جذرياً إذا أن ذلك قد يؤثر على أرباح شركات الأدوية التي تتربح من معاناة أولئك المصابين به، ولا يمكن له أبداً طلب تمويل لإيجاد لقاح ناجح لمرض الملاريا إذ أن الذين يقضون به من المعدمين في غياهب القارتين الصفراء والسمراء الذين ينطبق توصيف جورج أورويل لهم بأنهم في المنظار الإمبريالي «لا بشر» «Unpeople».

    وبالتالي تحدد تلك الشركات المتغولة نفسها حقول وحدود وآفاق البحث العلمي على المستوى الكوني على حساب دافعي الضرائب في الدول التي تتحكم بصناعة القرار السياسي فيها  بشكل غير مباشر عبر من تصعد به إلى دفة الرياسة بتمويل حملاته الدعائية و الانتخابية، لتقتنص ذلك النتاج العلمي البحثي بعيد نضوجه وتعتقه و تشربه بخلاصة كد واجتهاد العلماء المرغمين على البحث في ذلك الموضوع دون سواه، وتحوله إلى مدخل مستحدث لنزح مدخرات الفئات المسحوقة على المستوى الكوني التي لا حول لها ولا قوة في حيز الصحة و المرض مثلاً سوى طرق كل الأبواب، وبذل كل غال ورخيص في سبيل الاستحصال على علاج ناجح حينما يحل السرطان أو غيره من الأمراض المستعصية بين حناياها، وهو الذي لم يكن يريده أو يتمناه الغالبية من العلماء الخُلَّص الذين أسهمت جهودهم الجمعية على المستوى الكوني في اكتشاف ذلك الترياق. وهي معادلة شيطانية تعيد إنتاج صيرورة القهر والاستغلال الكوني في حيز البحث العلمي الذي يبدو أن العلماء يشاطرون فيه أقرانهم من المسحوقين في استعبادهم الكوني باختلاف الشكل الإخراجي التزويقي لكل حالة مستعبد دون أن تفترق في جوهرها عن حال أولئك المستعبدين الآخرين إلا قليلاً.

    س: أشرت في إحدى مقالاتك عن التغييب المتعمد للوضوح المفهومي في مستنقع المصطلحات التقنية بمختلف تنويعاتها السياسية والعلمية... إلخ. هل يمكن أن توضح ماذا تعني فعلياً بذلك؟

    ج: في الواقع كنت أشير إلى مسلمة أولية يشترط تحققها في أي اجتهاد عقلي إبداعي تتمثل في ضرورة الاتفاق على مدلول أي مفهوم، وحمولته الفكرية بشكل مسبق لتأسيس أي حوار لاحق على أرضية واضحة يمكن البناء عليها بطريقة تراكمية قابلة للتمخض عن منتوج فعلي يتعدى حالة السجال والعراك الفكري الذي لا طائل منه.

    والواقع المعاش على المستوى المعرفي الجمعي يشي بعدم تحقق ذلك المطلب في الغالبية الساحقة من حالات الإنتاج الفكري لعلة مضمرة قصدها تخليق وعي ضبابي مشوش لكل ما يمكن أن يقال بطريقة مسبطة يستطيع أي طفل في المراحل المتأخرة من المرحلة الابتدائية فهمها. والمثال الفعلي على ذلك هو خلط المفاهيم المتعمد وتحميلها بما لا يرتبط فيها فكرياً أو وظيفياً، إذ تصبح الحرية مثلاً في النسق المفهومي للنظم الشمولية ومنظريها تحرراً من الاستعمار دون أن تومي بشكل مباشر أو غيره لحرية البشر المقهورين الذين تتحكم بحيواتهم تلك النظم الاستبدادية. وتصبح المقاومة والممانعة للغاصب مرادفاً لتحويل كل من سولت له نفسه التفكر بالانعتاق من حبائل النظم الاستبدادية عميلاً وخائناً للوطن المقاوم الممانع. وهي نفس الحال التي تصبح فيه الاشتراكية ممثلة بابتلاع مقدرات الوطن في جيوب النهابين من الطغم الاستبدادية الحاكمة بكونها «الطليعة الثورية وقائدة الدولة والمجتمع»، واعتبار كل من تجرؤ عينه على مقاومة مخرزها مداناً بجرم «مقاومة النظام الاشتراكي» .... إلخ.

    وفي الحقل العلمي فإن جلبة خلط المفاهيم ليست بأفضل حال من ذلك القائم في حقل السياسة وإدارة المجتمع، إذ ترى من يوصفون بالخبراء في حقولهم مولعين باستخدام المصطلحات التقنية التي يراد منها فقط تعقيد كل ما هو بسيط وقابل للشرح بعبارات ميسرة، لكي يكون هناك مبرر لذلك الخبير بأن يتنطع ويعرف عن نفسه بكونه خبيراً يصول ويجول في الساحات الإعلامية الجوفاء التي لابد من إملاء ساعات بثها برطانة ما حتى لو كانت دمدمة حصيلتها فعلياً معدومة، أو تكاد تكون كذلك. فتجد خبيراً اقتصادياً يصب جام عنفوانه على مستمعيه بإلقاء التفاصيل الرقمية لنمو اقتصاده الوطني أو غيره دون أن يشير فعلياً إلى حقيقة عدم انعكاس تلك الأرقام بأي شكل محسوس في حياة المقهورين في مأكلهم ومأواهم ومستقبل أبنائهم وصحتهم.

    س: هل تعتقد بأن المفاهيم تحمل في طياتها بعداً أخلاقياً ومعرفياً أم أنها تقنية توصيفية محضة؟

    ج: أعتقد بشكل مطلق بصوابية مقولة المفكر المعلم طيب تيزيني بأن الخطوة الأولى لتحقق الوضوح الفكري هي الوضوح المنهجي. والخطوة الأولى في الوضوح المنهجي هي وضوح المفاهيم التي بانتظامها يتحقق ذلك الوضوح ويترسخ. ومن ناحية أخرى أظن بشكل شبه يقيني بأنه لا حياد من الناحية المعرفية الأخلاقية عندما يتعلق الأمر بالحمولة الفكرية لأي مفهوم. فكل مفهوم يستقي تشكيله الفكري من وعي صاحبه تجاه وجوده ككائن عاقل في وسط اجتماعي يتفاعل ويتآثر معه، وينبثق بشكل ضمني عن منظار صاحبه تجاه مفهوم قيمة وجود الإنسان ككل، وحريته في الانعتاق من الاستعباد بكل أشكاله متضمناً اضطراره السرمدي «لعرض قوة عمله، وبالتالي جسده وروحه للإيجار المؤقت» كعامل ذي أجر بغض النظر عن لون ياقته.

    وكمثال عياني مشخص على المفاهيم حمالة الأوجه أخلاقياً ومعرفياً قد تجد هناك من يظن بأن المعدم مادياً في مجتمعه هو كذلك لقلة حيلته أو تكاسله، مما يجعله غير جدير بمبارحة موقعه الاجتماعي البائس. وتجد على المقلب الآخر من يرى بأن الفقر الاجتماعي ظاهرة شواه في المجتمع تنم عن انمحاء حالة التكافل الاجتماعي من نسيج المجتمع الذي من واجبه التكفل بأولئك الذين لهم تكن ظروفهم الاجتماعية ملائمة لتفتح طاقاتهم، أو كان تواضعها نتيجة مباشرة لتقصير محيطهم الجمعي بواجبه الرعائي تجاههم، وهو ما يستوجب من المجتمع تصحيح خطيئته والعودة لواجبه الطبيعي والفطري في القيام بحمايتهم ورعايتهم كحد أدنى كما تفعل فئات الثدييات الأقل في مستوى التطور الدماغي من البشر كالفيلة والدلافين في مجتمعاتها.

    س: ما هي برأيك المرتكزات الأساسية للميول البيولوجية الغريزية والتكوينية الوراثية للإنسان، وهل تعتقد بأن الميل للتحرر والانعتاق هو حالة فطرية لدى البشر، أم التكاسل والخنوع والقبول بالأمر الواقع؟

    ج: خلال مسيرة نهوض سلالة البشر الحاليين التي تعرف باللغة اللاتينية «Homo Sapiens»، و التي قد يستوي ترجمتها إلى اللغة العربية بسلالة «الإنسان الحكيم»، وحلولهم في مكان أسلافهم من السلالات البشرية الأخرى من جنس «هومو»، وهي الرحلة التي امتدت على حوالي مئتي ألف سنة في غالب التقديرات، فإن عمر البشرية كله قد انقضى في مرحلة الجمع والالتقاط التي سبقت مرحلة التوطن الحضري في شكل المجتمعات الزراعية التي لا تتجاوز في عمرها بضعة آلاف من السنين، و هي المرحلة التي استتبعها نهوض أنماط الحضرية المدنية التي لا تتجاوز في أمدها الزمني بضع مئات من السنين.

    و ذلك الواقع البيولوجي التطوري و التاريخي في آن معاً اقتضى تكيفاً مورثياً منبثقاً من ضرورة حفاظ البشر على مورثاتهم من الاندثار البيولوجي في حمأة قوانين الطبيعة القاسية التي تشترط دائماً البقاء المورثي للأصلح والأكثر قدرة على التكيف مع شروطها، و هو التكيف الذي أفصح عن نفسه بتمركزه حول الصيرورة التاريخية التطورية لبني البشر و المتواشجة العرى مع الحقيقة بأن البقاء و حفظ النوع البشري من الانقراض كان دائماً مرهوناً بتعزيز الميل الفطري لاكتشاف كل جديد عليه يمثل مدخلاً ملائماً لتعزيز فرص البقاء البيولوجي، بالتوازي مع معدلات أعلى للبقاء على قيد الحياة و فرص أعلى لإنجاب ذرية تخلفهم من بعدهم لأولئك البشر الذين تحلوا بميول فطرية للالتحام بالمجموعات البشرية التي يعيشون في كنفها؛ إذ أن العمل الجماعي مثل الوسيلة الوحيدة لمواجهة قسوة الظروف الطبيعية والصعوبات المهولة على امتداد التاريخ التطوري لبني البشر في تأمين القوت والسلامة من كل أشكال الضواري في مجتمع تحكمه قوانين الغابة. وهو الواقع الذي أفرز أهمية استثنائية لتلك الطفرة المورثية التي تسمى «FoxP2» المسؤولة عن إمكانية التصويت والنطق على شكل لغة، والتي تفتقدها الأوليات الأخرى من قبيل قردة الشمبانزي وغوريلا الجبال والبابون، على الرغم من أن تلك المجموعات الأخيرة تتماثل في البنية الوراثية لخلاياها مع تلك الموجودة في جسم الإنسان إلى درجة تتجاوز 98%. وقد يستقيم التوصيف بأن التصويت والقدرة على الكلام وتخليق اللغة كأداة للتفكير والتواصل والتفاعل مع المحيط الجمعي كانت في كليتها الزناد القادح لنهوض جنس بني البشر وتربعهم على عرش مملكة الكائنات الحية خلال أمد زمني قصير بالمقارنة مع الرحلة التطورية للحياة على كوكب الأرض التي امتدت على ما لا يقل عن أربع مليارات من السنين.

    وتلك الحاجة البيئية الضاغطة لتحقيق تواصل فعال بين أفراد البشر للحفاظ على بقائهم هي المسؤولة عن بقاء البشر المعاصرين من جنس «هومو سابينس» وانقراض أبناء عمومتهم وأسلافهم من جنس «هومو نياندرتاليس» الذي لم تتح البنية الوراثية لأفراده إمكانية التصويت والنطق بالشكل الذي تمكن من الوصول إليه سلالة البشر الحاليين.

    وخلاصة ذلك النموذج التطوري لبني البشر هو أن الإنسان مبرمج وراثياً لتحقيق أهداف ثلاثة: الميل للاكتشاف والتجريب، الإحساس بكينونته من خلال الجماعة التي ينتمي إليها، والحافز الغريزي للتواصل الفعال والمستمر مع أعضاء تلك الجماعة التي يمثل استمرارها شرطاً بيولوجياً لبقائه. وهو ما يعني في نهاية المطاف بأن الميل الغريزي لدى الإنسان بشكله المضبوط وراثياً مبرمج غريزياً لمقاومة كل ما يقيد ميله الفطري للتحرر والانعتاق من كل ما يقيده في اكتشاف كل ما هو جديد، وكل ما قد يسلبه من إمكانيات التواصل المستمر مع مجموعة بشرية يشعر بالانتماء إليها. وهو ما قد يفسر ذلك الإحساس المرير بخيبة الأمل الجمعية في غالب المجتمعات الغنية التي يتنعم أبناؤها بكل تلاوين الثروة المادية مقترنة بعزلة شبه مطبقة من على حيوات كل منهم التي تحولت إلى جزيرة منعزلة حتى أصبح في بعض تلك المجتمعات أكثر من نصف البالغين يتناولون عقاقير مضادة للاكتئاب، حيث أنهم يشعرون بأنهم يمتلكون كل ما يظنون بأن الإنسان يحتاج إليه، ولكنهم في أعماقهم يشعرون بأنهم لا يمتلكون شيئاً على الإطلاق؛ لأن واقع حيواتهم الفعلية يتنافى مع الميل البيولوجي الغريزي التكويني الوراثي للإنسان، و هو ما يمكن تكثيفه بأن الإنسان حيوان اجتماعي بامتياز، ليس له من فرصة للبقاء الوجودي في مملكة الكائنات الحية دون تلك الصفة الجوهرية في بنيانه الوراثي و صيرورته التطورية.

    س: هل تعتقد بأن شواه المفاهيم والرؤى الجمعية فيما يتعلق بمدلول الحرية، والتمدن، والسعادة ... إلخ أسهم في تعزيز الشواش المعرفي لدى البشر على المستوى الكوني وأسس لتلك الحالة التي سميتها في غير مرة «الاكتئاب الجمعي»؟

    ج: إن الاتفاق على دلالة وحمولة كل مفهوم في سياق صوغ الأفكار، وصناعة المعرفة البشرية هو الركيزة الأساسية التي دونها من الصعب تحقق شرط الوضوح الفكري المنهجي القادر على تحويل تلك الأفكار من حالة الأفكار الفرادى إلى أفكار متسقة ذات قيمة معرفية لجهة من أنتجها متفاعلاً ومتآثراً مع أولئك الآخرين المتلقين لذلك النتاج الفكري.

    والواقع المعرفي المعاش المر راهناً هو أن معظم المفاهيم السائدة في حيواتنا اليومية لم تسلم من ماكينة الدعاية السوداء «البروباغندا» التي تستخدمها كل مراكز الهيمنة سواء بشكلها الكوني ممثلاً بالشركات الاحتكارية العابرة للقارات، أو من يمثلها من عملاء محليين على اختلاف تمظهراتهم التي تتفاوت بين تجار الكمبرادور، والطغم الاستبدادية الحاكمة القائمة بدور نواطير الحفاظ على استقرار عملية النهب الممنهج لاقتصادات المجتمعات المفقرة في دول الجنوب ومن يعيش فيها. وجوهر عمل مطحنة الدعاية السوداء يكمن في المقام الأول في عملية تشويه المسلمات البسيطة التي يبني العاقل بتشبيكها رؤاه ومفاهيمه عن واقعه، وعلاقته التفاعلية بمحيطه الاجتماعي والمعرفي. وكمثال على ذلك تستطيع النظر إلى مفهوم السعادة ذي القيمة المحورية في تشكيل منظومات القيم ومعايير البشر في تحديد أهدافهم من حيواتهم العابرة، فتجد أن ماكينة الدعاية السوداء الكونية ووكلاءها المحليين يعملون جاهدين لإعطاء معنى السعادة مدلولاً يرتبط بالوعي الاستهلاكي الإدماني الذي يقرن تحقق السعادة بتعظيم الاستهلاك لكل ما هو سطحي؛ فيصبح شراء سيارة فارهة، أو هاتف جوال مبتكر سدرة المنتهى لتحقق السعادة، والتي هي من الناحية العلمية الفيزيولوجية مرتبطة فعلياً بناقلين عصبيين رئيسيين في الجهاز العصبي المركزي السيروتونين والدوبامين، والذين لا يرتبط أي منهما بعملية الاستهلاك سوى ذلك المرتبط بتناول الأطعمة التي تفلح في رفع سكر الدم صاروخياً، وخاصة تلك التي تمزج الدهون بالسكريات وفق لعبة مطاعم الوجبات السريعة الماكرة في تسويقها لكل ما أسهم ويسهم في احتزاز حيوات البشر قبل أن تطول آجالهم.

    وإذا استثنيت ذلك المثال الضيق الأخير فإن الدوبامين والسيروتونين مرتبطان بالإحساس بوجود قيمة فعلية لكينونة الشخص عبر تثمين أقرانه الاجتماعيين لفعل ما قام به أساساً، أو عند التواصل الحميم الإنساني مع البشر الآخرين تعاطفاً ومحبة صرفة تولد طمأنينة استثنائية في عقل الإنسان ناجمة عن إشباع الجهاز العصبي المركزي بذينك الناقلين العصبيين، وهو ما يفسر تلك الراحة والسكينة التي يعرفها الكثير من النساك في غير بقعة من العالم، ولما يستطيع تحقيقها حتى أباطرة صناعة الاستهلاك والنهب الكوني الممنهج، حيث لم يحقق تعظيم ثرواتهم واستهلاكهم المنفلت من كل عقال سعادة حقيقية لهم، و هو ما يستحيل تحقيقه عبر ذلك المدخل لتناقضه الجذري من التكوين البيولوجي الوراثي التطوري للإنسان ككائن اجتماعي وليس استهلاكياً على الإطلاق.

    س: ما هو برأيك الوظيفة الأساسية للبروباغندا في مجتمعاتنا المعاصرة؟

    ج: قد يستقيم القول بأن الوظيفة الأولى للدعاية السوداء «البروباغندا» هي تخليق حالة فردية وجمعية من حصار العقل والفكر في مجتمع ما، وهو ما ينعكس في المآل الأخير على تضاؤل إمكانيات التواصل الفعال بين البشر الغارقين في حالة كليانية من السلبية الانفعالية والاستغراق في استشراب ما يتم زرعه في عقولهم عنوة، في حالة أشبه بالاستسلام الشامل لاستبطان التشويه المتعمد للحقائق في شكله الذي تقدمه البروباغندا، وهو الخيار الأقل معاناة من الناحية النفسية للإنسان المتلقي، فالتفكير خارج الجوقة، و تبني خطاب معاكس لنسق الهيمنة المنتج للدعاية السوداء، مكلف من الناحية العقلية النفسية كحد أدنى، إن لم يكن مهدداً حقيقياً لإمكانيات البقاء على قيد الحياة في المجتمعات الاستبدادية الصارخة كما هو الحال في الكثير من دول الجنوب المفقرة، والتي يندرج فيها نسق الدعاية السوداء في غالب الأحايين بخطاب شعبوي رغائي سطحي أجوف، أقل براعة في صناعة الخبث والتشويه والتزييف مقارنة بذلك القائمة في المجتمعات الغربية التي تقتضي البنيات التزويقية الديمقراطية الشكلية فيها حبكة أكثر مواربة ومخاتلة في تشكيل الدعاية السوداء وخطابها.

    والمثال الأكثر وضوحاً وإيلاماً في جل المجتمعات المفقرة المنهوبة أسيرة الطغاة والمستبدين على عنف الدعاية السوداء فيها القبول الجمعي شبه المطلق على إعادة تعريف الخواء السياسي شبه المطبق بأنه سلم أهلي وعلى أنه أقل الشرور التي لا بد من التعايش معها. وذلك في جوهره يختزل العسف التراكمي والتاريخي الذي تمكنت من خلاله الماكينة الاستبدادية الوحشية وأدواتها الإعلامية الدعائية من خلق وعي زائف متنكس إلى تلك الدرجة من عدم القدرة على التفكير بواقع آخر غير ذلك المدقع المعاش يومياً وعلى امتداد عقود طويلة من تاريخ المجتمعات «النامية» المنهوبة منذ رحيل مستعمريها الشكلي عن حدودها الجديدة المصنعة بما اتفق مع مصالحهم الاستراتيجية، واجتراحها استقلالاً لما يتعدى أن يكون شكلياً عن نفوذهم.

    س: تحدثت في غير مرة عن «ميوعة مصطلح الإرهاب وتحوله إلى «مطرقة جلمودية بربرية لتهشيم المجتمعات العربية على سندان الاستبداد العربي المقيم»، هل يمكن لك التوضيح أكثر عن رؤيتك بذلك الصدد؟

    ج: قد يكون مصطلح الإرهاب والحرب على الإرهاب بشكل أساسي نتاجاً للغول الإمبريالي المعولم، وآلته الوحشية الكونية مشخصة بإرادة وخطاب الناطقين باسم الحكام الفعليين في الولايات المتحدة الأمريكية ومن لف لفها من دول الشمال، وأعني هنا المجمعات الصناعية العسكرية التقانية في تلك الدول، ومن لف لفها من نواطير في أرجاء الأرضيين من طغاة ومستبدين يعملون بالوكالة عن السادة المقيمين في بلاد العم سام وشركاه، والكثير منهم في أرض العرب.

    وذلك النتاج المفهوي قد تلبس شكله الراهن في المرحلة التي تلت سقوط جدار برلين، واندثار «البعبع الشيوعي»، الذي ظل يستخدم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية كفزاعة لتخويف الشعوب في الدول ذات النظم الديمقراطية الشكلية في الغرب، لكيلا تتجرأ على المطالبة بمساهمة أكبر في الحلبة السياسية لوعورتها  «النووية» التي يجب ترك التعامل معها محصوراً بالخبراء في «سرية مطلقة»، و هو ما عنى تآكلاً  للشفافية السياسية و للديمقراطية حتى بكينونتها الشكلية ، و تعاظماً لهيمنة الأثرياء على الطبقة العاملة في دول الشمال، و هو المفتاح الذي أدى لتعاظم ثروة تلك الزمرة الأولى بشكل مضطرد على حساب تلك المجموعة الأخيرة التي ما فتئت تهبط في سلم الثروة منذ خواتيم العقد السابع من القرن المنصرم و حتى اللحظة الراهنة دون تغاير.

    وما كان لا بد منه في حقبة ما بعد انهيار حلف وارسو هو تخليق و استنهاض بعبع مستحدث أطلق عليه اسمه «الإرهاب»، وما تلون على مقامه في فيضان صناعة المصطلحات الرنانة إعلامياً من قبيل «الإرهاب العالمي»، و«مكافحة التطرف» و«الحفاظ على السلام العالمي» و«حماية السلم الأهلي» والتي لا زالت تفعل فعلها المطلوب فيها في الغرب. وهو الواقع الذي تمظهر سياسياً وواقعياً بالازدياد المضطرد في ميزانية حلف شمال الأطلسي منذ انهيار الاتحاد السوفيتي ومنظومته، على الرغم من أن المبرر الموضوعي لتشكيل الحلف نفسه بحسب الاتفاقية الأصلية التي تمخضت عن تخليقه هو «مقاومة خطر التمدد الشيوعي على المستوى العالمي»، والذي تم استبداله في مرحلة ما بعد تلاشي حلف وارسو «بمهمة محاربة ومكافحة الإرهاب والتطرف العالميين».

    وذلك النسق المفهومي الذي تم صناعته وإخراجه في كواليس آلة الدعاية السوداء الإمبريالية في الغرب، ثم تلقفه من قبل كل الطغاة العرب ونظمهم القمعية، وتبنيه بنيوياً كما يتبنى التابع النجيب تعليمات مؤدبه ومعلمه دون اضطرار لتزويق ذلك الخطاب برطانة الدعاية السوداء في الغرب لغاية التكيف مع متطلبات اللعبة الديمقراطية الشكلية فيها، فكان التبني فظاً وفجاً في كل تلاونيه التي أصبحت شاملة عمقاً وسطحاً في كل تلافيف الخطاب والفعل السياسيين للنظم الاستبدادية العربية.

    وبشكل عياني مشخص قامت الطغم العربية الحاكمة بإعادة تعريف القمع الوحشي لمواطنيها، والتغول على كل مفاصل حيواتهم، والإبادة الاستئصالية الجماعية لكل ما يرتبط بالمجتمع المدني ونتاجاته، وكل ما لا يتطابق مع حالة الخواء السياسي المطلق في الفضاءات الجغرافية التي تتحكم بها كما لو أنها «سجون عملاقة»، لتصبح جزءاً من جهودها في «مكافحة للإرهاب والتطرف»، ويصبح كل من تخول له نفسه التفكر بالتفارق قيد أنملة عما تراه الطبقة الحاكمة وتعرفه بأنه «سلم أهلي» إرهابياً لا دية له. والأمثلة العيانية اليومية المؤلمة لا حصر لها في ذاكرة كل ذي عقل لما يستسلم بعد لطوفان الخواء السياسي والمجتمعي الذي تراكم تاريخياً في ظل الاستبداد العربي المقيم.

    وهو نفسه مصطلح «الحرب على الإرهاب الدولي» المغرق في ميوعته، أصبح رافعاً، و مسوغاً للنظم الاستبدادية العربية ليس فقط لتبرير عدوانها الذي لا ينقطع ضد مواطنيها، وإنما لتبرير تعملقها السرطاني تجاه جوارها في مجتمعات عربية أخرى، لا بد من «مكافحة الإرهاب» المقيم فيها، عبر التجويع، وتهشيم بناها التحتية المتهالكة أصلاً، والوقوف ساكناً في وجه جوائح الأمراض السارية بين مواطنيها، وتعذيب كل من سولت له نفسه رفض تلك المهمة «التبشيرية التنويرية»، والظن بأنها «عدوان و بغي يستحق إقامة الحد على من قام به»، حتى بز جلادو النظم الاستبدادية العربية كل جلادي «أبو غريب» الأغرار الذي كان لا بد لهم من الانتظام في المدارس «الأمنية» العربية للنهل من معينها الأمني الثرِّ، و التي إن كان هناك تصنيف عالمي لتلك الأكثر وحشية وبربرية بين مدراس الأرضين، فلا بد أن تتقلد منصب «الرئيس» دون منازع، بينما المدارس والجامعات العربية التي يراد بها تنشئة الأجيال القادمة في حالة سقوط حر تجاه القاع لما يتوقف لعقود طويلة.

    وعلى مستوى الإعلام العالمي هناك تجل خاص لكل ما يقع تحت يافطة «الإرهاب»، فهو بالتعريف مُقتَرف من قبل ذلك الآخر الذي تصادف عدم تطابقه مع إرادة المؤسسات الإعلامية العالمية الصانعة للمادة الإعلامية الخام، والمحددة لمعايير اختيار ما يستحق أن يكون خبراً إعلامياً، أو ذلك الذي يستحق الوقوع في بئر «النسيان الذي لا قرار له» وأخاديد «الذاكرة المثقوبة» التي لا رتق لها.

    والخبر الجدير بالتصعد إلى المنافذ الإعلامية الكبرى لا بد أن يكون وفق «قوانين الطبيعة» التي يعمل بموجبها نسق الإعلام العالمي المتسيد «إرهاباً» إذا تم اقترافه من معذبين مسحوقين يتظاهرون سلمياً على سياجات الأسلاك الشائكة التي تفصلهم عن أرضهم التي استلبها غزاة محتلون، ويصبح فعل القتل الصارخ «مع سبق الإصرار والترصد» من قبل قناصي جيش المحتلين «دفاعاً مشروعاً عن النفس» مكفولاً بقوة «مجلس الأمن الدولي» الذي تسري عليه القوانين التي يحددها «الأقوياء» فقط، وليس القوانين الدولية التي مصيرها إلى نفس البئر السالفة الذكر إن لم توافق مصالح وإرادات أولئك «السادة» أنفسهم ظاهرة أو مبطنة.

    س: كيف تنظر إلى منظومات الدعاية السوداء في العالم الغربي، وتلك القائمة في العالم العربي؟

    ج: في العالم الغربي، تم تعضي منظومات الدعاية السوداء لتتسق في كينونتها الإخراجية مع متطلبات الديكور الشكلي للعبة الديمقراطية في الغرب، بحيث أصبح جل عمل ماكينة الدعاية السوداء مرتهناً بيد مؤسسات خاصة، تتبع سواء بشكل مباشر أو غير مباشر لنسق مصالح الفئات المهيمنة على المجتمعات الغربية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ممثلة بالمجمعات الصناعية العسكرية التقانية وشركاتها العابرة للقارات في تلك الدول، وبحيث ارتقى ذلك التعضي المؤسسي خلال صيرورة تكونه وتطوره التاريخي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى درجة عالية من المخاتلة والدهاء والخبث في آلية استبطانه للحقائق وهضمها معرفياً وإعادة إنتاجها عبر وسائل الإعلام الخاصة بطريقة مفرطة في الانتقائية والتفسير الأحادي الاتجاه، بما لا يخالف النسق الضمني المتفق عليه بين كل المشتغلين في عملية صناعة الدعاية السوداء المواربة كجزء محوري من دور وسائل الإعلام في الغرب، وهو العرف المهني الذي يدركه سواء بشكل واع أو استبطاني كل مشتغل في الحقل الإعلامي في الغرب، إذ أن كل من يخفق في تفهمه أو استبطانه سعيداً أم مرغماً، مصيره اللفظ من بنيان العمل الإعلامي؛ حتى أصبح في المآل الأخير نموذج نتاج الدعاية السوداء الإعلامي في الغرب مفرط الحرفية وبالغ التبئير في قدرته على الفتك في انتقائيته وتزييفه للحقائق بطريقة شبه عصية على الاختراق. مع ضرورة الإشارة إلى بعض الاستثناءات لشخوص وهامات فكرية وصحفية خارجة عن الجوقة، دون أن يشكل أي منهما فعلاً حقيقياً موازياً بأي شكل من الأشكال لقدرة الفتك الإعلامي للوسائل الإعلامية المتسيدة في الغرب.

    وكمثال مبسط تحتاج إلى النظر إلى التوصيف في وسائل الإعلام الغربية المسيطرة لأي فعل يقوم به مقهورو العرب تجاه الغرب ومصالحه، سواء في مظاهرة على حدود الاحتلال العنصري في غزة، أو في قوافل المهجرين المظلومين الذين لم يبق لهم من خيار للبقاء الكريم على قيد الحياة سوى في المخاطرة المهولة في رحلة هجرة مضنية إلى أوربا، لترى الرهاب والرعب الهذياني من طوفان الإرهاب الذي ينتظر على الأبواب ليبتلع مجتمعات غربية بأسرها حاضراً في التحليل وسرد آراء الخبراء والساسة المطلعين ضمن أي تغطية لذلك الخبر سرداً، أو تحليلاً، أو تنظيراً. أما أي سياسات إبادة جماعية يتبناها وكلاء المجمع الصناعي العسكري التقاني الغربي وشركائه العابرة للقارات ممثلة بالغول الصهيوني الارتزاقي بنيوياً ووظيفياً، فهي دائماً تقع في حيز الحق المشروع في «الدفاع عن النفس» وحماية المجتمعات الغربية من «طوفان المهاجرين» وما يحمله في طياته من خطر «تسلل الإرهابيين والمتطرفين بين أرتالهم وجحافلهم».

    أما في العالم العربي، فالدعاية السوداء، لا زالت في طورها الجنيني المسخي الأول، الذي لما يبارح مستوى وحشية وصلف الدعاية السوداء النازية إبان الحرب العالمية الثانية، والتي تستند في أسها المنهجي والتكويني على علاقة لا تنفصم عراها بين آلية عمل أدوات الدعاية السوداء وكينونة الاستبداد المقيم في العالم العربي، وبحيث تكون الدعاية السوداء استطالة طبيعية للاستبداد العربي، وأحد تمظهرهاته المتعددة المتمثلة في استيلائه الكلياني على «السلطة والثروة والإعلام والمرجعية الفكرية» وفق توصيف المفكر الراحل طيب تيزيني.

    وكما يسهر على توطيد دعائم الاستبداد بشكله العربي البائس مؤسسات أمنية وقمعية وسجون وعسس وبصاصون وجلاوزة وجلادون، فهناك طبقة متخصصة من الأبواق والمثقفين الخلبيين، والكتاب المرتزقة في مؤسسات إعلامية شكلية جوهرها مؤسسات أمنية متخصصة بالدعاية السوداء يقوم بتشغيلها رقباء متخصصون في ترسيخ هيمنة الطغاة والمستبدين إعلامياً، حتى لو كان بطريقة فجة، همجية، هذيانية في كثير من الأحيان، تخجل منها رقاعة الإعلام النازي في غير موضع زماني ومكاني من الخارطة العربية. وأمثلة التفتقات الأسطورية لتلك المؤسسات الإعلامية الأمنية العربية في التهم الفكرية الجاهزة لكل من سولت له نفسه بانتقاد الاستبداد وزبانيته، لتنهال عليه كل التهم «بالنيل من هيبة الدولة»، و «الاستقواء بالخارج»، و«التعامل مع جهات معادية لمصالح الوطن»، و «إضعاف الثقة بالاقتصاد القومي»، و«وهن عزيمة الأمة»، و«إقلاق السلم الأهلي»، وما شابهها من تخرصات أمنية بلبوسات إعلامية أو صحفية أو قضائية لا تبارح جوهرها الثابت في كونها تمظهرهات ولبوسات لاستبداد وحشي متغول على كل فضاءات الحياة العربية المختنقة عمقاً وسطحاً.

    س: ما هو برأيك حجر الزاوية في صناعة الدعاية السوداء عربياً؟

    ج: ينتظم فعل الدعاية السوداء عربياً في النسق الوظيفي للدعاية السوداء وأهدافها الموضوعية المرتبطة عضوياً بتكوينها كأداة لتشويه الحقائق وتوطيد الاستبداد، وإن كانت على المستوى العربي لا زالت تراوح في غالب الأحيان في حيز أكثر بدائية في سلم تطور الدعاية السوداء عالمياً وتاريخياً؛ وهي أقرب في فجاجتها لنهج الكوميديا السوداء في كثير من الأحايين، ولما تبارح مستوى الدعاية السوداء في سياق الهيجان النازي والفاشي إبان الحرب العالمية الثانية.

    وقد يستقيم القول بأن مثلث العناوين الكبرى للأهداف الموضوعية لصناعة الدعاية السوداء في سياق تكوين الاستبداد المهيمن عربياً يكمن في نقاط ثلاثة؛ أولها هو احتكار مفهوم الوطن والمواطنة في الخنوع لسلطة وهيمنة الاستبداد وممثليه من الطغاة والمرتزقين من تكوينه المستأسد على كل تفاصيل الحياة المجتمعية العربية، واعتبار كل مارق على ذلك القبول الضمني اللازم قناً مارقاً من عديد الكتلة البشرية حبيسة السجون الكبيرة التي يدعوها المستبدون أوطاناً، بعد أن سولت له نفسه «الأمَّارة بالسوء» ضمنياً أو فعلياً سواءً بالقول أو العمل لرفض التوصيف الاستبدادي الموطد يومياً عبر ماكينة الدعاية السوداء للوطن والمواطن الصالح، ليصبح ذلك القن المارق «إرهابياً لا دية له»، ومعادياً لمصلحة الوطن العليا والدنيا و كل ما يقع بينهما، والتي يجب أن تتطابق وفق قاموس الدعاية السوداء مع مصالح النظم الاستبدادية وأركانها من الطغاة والنهابين والمرتزقة والجلادين، و ردفائهم من فيالق المثقفين الطبالين على شاكلة أتياس مستعارة فكرياً واجبها الوطني تحليل وشرعنة الاستبداد، وتصوير تهشيم المجتمع المدني والبشر المحاصرين في حدوده الوطنية على أنه دفاع مقدس عن الوطن وسيادته.

    والعنصر التكويني الثاني في مثلث الأهداف الموضوعية الكبرى لآلة الدعاية السوداء العربية، يتمثل في الاستئصال الجذري والكامل لكل إمكانيات الحراك الاجتماعي، واعتبار أي منها خيانة لمصالح الوطن العليا، وفعلاً يستحق التهشيم الكلياني قبل أن يتفاقم شره ويصبح شراً مستطيراً لا لجام له. ويدخل في هذا السياق شيطنة كل بنيات المجتمع المدني التي تحاول النهوض جنينياً في غير موضع عربي من بين رماد الهشيم الاجتماعي الشامل عمقاً وسطحاً في الخارطة العربية، فترى العدوان المستمر لتقزيم واحتلال كل الهيئات النقابية والجمعيات المدنية التي قد تكون عصية على الاستيلاء عليها بشكل خاطف ماحق، و هو ما أفضى لأن يصبح أس الحراك الاجتماعي العربي افتراضياً على شبكة الإنترنت، وهو واقع محسور إن دل على شيء فهو يدل على بؤس المجتمع العربي، إذ أن الحراك يجب أن يكون عيانياً مشخصاً ممثلاً ببشر قادرين على التواصل والتفكر جمعياً لصياغة فعل جمعي مفيد، و هو ما قد يتسحيل القيام  في ظل معادلات و شروط الطغيان و الاستبداد الذي يرى في ذلك الاحتمال فعلاً شيطانياً يستحق الويل والثبور وعظائم السراديب و الدهاليز الأمنية وكل أدوات التعذيب المشرئبة فيها.

    والمحور الثالث في منظومة الأهداف التكوينية العليا لماكينة الدعاية السوداء عربياً يتمثل في ضرورة خلق حالة من الشواش الفكري المتعمد على المستوى الوطني يجعل من شبه المستحيل على المواطن البسيط الذي لا يمتلك الأدوات الفكرية الضرورية لتفكيك طوفان الإغراق المعرفي بالحقائق المشوهة، فيصبح غير قادر على التفريق بين الغث والسمين، وبين الحق والباطل في حمأة تخرصات الدعاية السوداء وخبرائها الخلبيين، فيصبح خيار الاستقالة الاجتماعية أو الابتعاد عن أي احتمال للانخراط في أي فعل جمعي الخيار الأسلم في معمعة الغبار الفكري الذي يراد به اغتراس بصيرة عمياء لدى كل المواطنين الأقنان غير قادرة على التعرف على ملامح الصالح من الطالح، و يصبح خيارها الأوحد هو الاستكانة والخنوع والقبول بالأمر الواقع المر اعتقاداً بأنه شر مستطير أصغر تبزه شرور عظام أكبر هي في الواقع وعي زائف أشوه من تخليق آلة  الدعاية السوداء و أبواقها التضليلية. 

    س: ما هي الطريقة الأكثر نجاعة في تقوية الجهاز المناعي الفكر للمواطن العربي بحيث يتمكن من تفكيك أدوات الدعاية السوداء، وإبطال مفاعيلها من قبيل استقالة العقل الفردي والجمعي التي أشرت إليها؟

    ج: من الصعب دائماً تقديم نصيحة شاملة جامعة مانعة، فالواقع اليومي المعاش يختلف حسب كل حالة فردية وشروطها الذاتية والموضوعية المرافقة لها. ومن الصعب أيضاً في الكثير من الأحايين الحفاظ على العقل السليم حينما يعم الجنون، فيصبح الخطل والشواه الحالة العمومية الطبيعية في المنظار الجمعي، وخاصة حينما يتعلق ذلك بالغرائز البدائية الانفعالية التي يعززها إحساس الفرد بالخطر الوجودي الداهم المرافق له كظله ممثلاً بهراوات العسس ووشايات البصاصين وأحابيل مرتزقة الدول الأمينة.

    وقد يستقيم للإجابة على ذلك السؤال المتعرج الاتكاء جوهرياً على مبدأي الصبر والمصابرة في الحقل الفكري، كما هو الحال الذي أدمنه كل المواطنين العرب مشارقاً ومغارباً في حيواتهم اليومية المضنية على اختلاف أشكال وتلاوين ذلك الضنى المقيم. ويهدف نهج الصبر والمصابرة هنا على تبني نموذج من التفكير النقدي الرافض لمبدأ استقالة العقل، والتحول إلى مواطن مُرَوَّض عمقاً وسطحاً، منهجه العرفاني الأسمى «المشي بجوار الحائط والدعوة بالستر» فقط. وذلك فعل إرادي واع لا خيار بديل عنه في مقاومة أي سلطة فكرية تحاول السيطرة على النهج الفكري لأي فرد بغض النظر عن ظروفه الذاتية والموضوعية الخاصة. وذلك المنهج هو حجر الزاوية في المدرسة الأكثر نجاعة في العلاج السلوكي على المستوى الكوني ممثلة بمدرسة العلاج المعرفي السلوكي Cognitive Behavioural Therapy والتي تستند في جوهر منهجها على مبدأ عمومي وعلمي فحواه أن العقل البشري يمتلك حمولة استثنائية من قدرات التكيف مع الضغوطات النفسية والمعرفية والفكرية، والسبيل الوحيد لاستنهاض تلك القدرات هو حض العقل بشكل واع على التفكر والتأمل في كل مسألة ومعضلة وقرار يتوجب اتخاذه بشكل عميق يمكن العقل نفسه من إيجاد الحلول للمشكلات التي يواجهها بالشكل الأمثل له، ولصحته النفسية، دون الوقوع في أسر الانفعالية والاستكانة لما قد يبدو بأنه السلوك المقبول أو الأشيع اجتماعياً لمواجهة تلك المعضلة.

    وفي الحقل الاجتماعي العياني المشخص، لا بد من اتخاذ قرار إرادي بالخروج من شرنقة الذات الضيقة التي يمثل الانحباس فيها ضالة كل النظم الاستبدادية الأمنية سواء بشكلها الفظ الفج عربياً أو بنموذجها المزوق المنمق غربياً، ومحاولة إعادة تلمس قيمة ومعنى التواصل الإنساني الفعال والإيجابي المعطاء بين الفرد ومحيطه الاجتماعي، والتي تمثل الجوهر الفطري لكل البشر، والوسيلة الوحيدة التي تمكن بها الجنس البشري من التغلب على هزاله الجسدي في مواجهة ضواري الطبيعة وعسف ظروفها البيئية. وكمثال مبسط على الأهمية القصوى لتلك الأطروحة الفكرية العلمية في آن معاً، لا بد من الإشارة إلى أن المليارات من البشر في كل أرجاء الأرضين يدمنون على التدخين ضالتهم الوصول إلى حالة من «المزاج المرتفع» عبر زيادة مستوى الناقل العصبي الدماغي «الدوبامين» من خلال فعل النيكوتين الموجود في التبغ على أدمغتهم، وهو «الدوبامين» نفسه الذي يرتفع بشكل طبيعي وإلى مستويات أعلى من تلك التي يحققها التدخين في دماغ المدخن عند قيام أي إنسان بفعل إيجابي على المستوى الاجتماعي، كمساعدة ملهوف، أو أي فعل يقع في دائرة التعاضد الاجتماعي، و هو الفعل الذي يتمتع بقدرة استثنائية على مساعدة من يقوم به على التلمس بشكل عياني مشخص لمعنى وجوده الإنساني، وتحقيق تلك الحالة من الرضا المعنوي و«المزاج المرتفع» التي يفتقدها كل أولئك المليارات من مدمني التدخين، لأنها ضالة البشر عضوياً وبيولوجياً خلال صيرورة تطور الجنس البشري عبر ملايين السنين، و التي إن لم يقدر لهم تلمس و تكشف قدراتها الاستثنائية المرتبطة عضوياً بمفاعيل التعاضد الاجتماعي بين بني البشر على المستوى النفسي، يصبحون فريسة سهلة و لقمة سائغة للإدمان على التدخين وغيره من العناصر الإدمانية الكارثية، لتلبية حاجة بيولوجية عضوية متبناة في أس تكوين الدماغ  البشري  و صيرورة الإنسان التطورية كحيوان اجتماعي بامتياز.

    وعند تكشف الفرد سواء بشكل جنيني أو معمق للقدرة الهائلة للتعاضد الاجتماعي على مساعدة الفرد في إدراك معنى الوجود الاجتماعي للفرد وتحقيق ذاته معنوياً بشكل ملموس، مع الصبر والمصابرة على الالتزام بذلك المبدأ وعدم الارتكاس إلى الآليات المرضية الذاتية المبسطة في إشباع الحاجة العضوية المستمرة «للدوبامين» بالشكل السالف الذكر، تأتي المرحلة اللاحقة وهي الانخراط في سياق عقل جمعي، ونموذج تفكير جمعي مع أقران يتعاضد الفرد معهم اجتماعياً ويتفقون فيما بينهم حول منظار معين لتفسير علاقتهم بالمجتمع الأكبر الذي يعيشون فيه، وحدود التزاماتهم تجاه ذلك الأخير، وهو ما يعني بشكل مبسط انخراط الفرد في منظومة لمجتمع مدني يتفاعل فيها الفرد لحماية وتحقيق أهداف تلك المنظومة، بغض النظر عن بساطتها أو تعقيدها، و تقوم المنظومة بدورها في تشكيل سياج الحماية الفكري للفرد، و ميدان تحقيق ذاته بشكل عياني مشخص وحمايتها من التنكس.

    وعلى المستوى الشخصي، يمكن للفرد أن ينخرط في محاولة لازمة ومبسطة للقبول فعلياً بأن «العقل الحر والمنطق سيدا كل الأحكام»، في علاقاته الأسرية و المهنية و الاجتماعية، وتدريب الذات على منهج فكري نقدي انعتاقي، لا يضيره الاعتراف بالخطأ، والتعلم منه، جوهره استدماج الحوار الحر حجر زاوية في كل أقنية التواصل مع الآخرين، دون التمترس أو التلطي بين تلافيف ما قد يبدو صحيحاً من الناحية الشكلية الاجتماعية، أو العرفية، أو غيرها؛ وهي خبرة ومنهج في مقاربة العالم بشكل نقدي حر من المفترض أن يكون للنظام التعليمي الدور الأساسي في توطيدها، ولكنه مع الأسف الشديد دور شبه معدوم التحقق في كل الأنظمة التعليمية على المستوى العالمي بدرجات مختلفة، لأسباب إيديولوجية تتعلق بتناقضها مع مصالح الفئات المهيمنة سواء بشكل استبدادي فج كما هو في الحالة العربية، أو بلبوس ديمقراطي شكلي كما هو الحالة في الغرب، و التي تعتبر «استنهاض العقل الحر وأدواته» الخطر الوجودي الأكبر على ديمومتها، إذ أنه الأداة الوحيدة التي تمكن الفرد الاجتماعي، من اكتشاف أسباب البؤس في حياته اليومية، والأدوات الاجتماعية الهائلة التي بمقدوره الإمساك بتلابيبها حينما يتحول إلى فرد اجتماعي ضمن «كتلة تاريخية» قادرة على إلغاء وتحييد كل أسباب وأدوات الهيمنة عبر فعلها الجمعي الذي أثبت التاريخ بأنه الطاقة الجبارة الوحيدة القادرة على إحداث التغيير الاجتماعي المنسجم مع مصالح البشر المتشاركين زمانياً ومكانياً في حدود ذلك المجتمع.

    س: هل ترى بأن هناك تناقضاً بين مفهوم وواقع الدولة الأمة من جهة ومفهوم وممارسة الديموقراطية الحقيقية؟

    ج: من الناحية المنهجية قد يصعب استمراء توصيف أي من الدول العربية بأنها دولة-أمة، مع استثناء محدود جداً للحالة المصرية، نظراً لإلحاحية الحاجة الموضوعية للفرد والمجتمعات العربية على حد سواء لإيجاد تعريف ما لهويتهم الوطنية بأي شكل كان حتى لو كان جنينياً، وهو لما يتحقق بعد.

    وقد يستوي التوصيف العمومي بأن مفهوم الدولة-الأمة لما يتحقق فعلياً بأي شكل فعلي حتى راهناً في أي من دول العالم الغربي، و هو ما يفصح عن نفسه بالتفارقات العضوية الكامنة في الهوية الوطنية في أوربا المشتتة بين مشروع هيمنة مركز الثقل الألماني على القارة الأوربية، والذي فشل في تحقيقها عسكرياً عبر الحرب العالمية الثانية، و هو ما يتم إعادة إنتاجه بشكل مستحدث من خلال مشروع الاتحاد الأوروبي، و بين الحقيقة الواقعية بأنه على الرغم من العقود الطويلة التي تراكمت في عمر ذلك الأخير فهي لما تفلح بعد في توطيد قبول جامع مانع لذلك المشروع في المجتمعات الأوربية، و في إنتاج هوية وطنية كليانية عابرة للحدود ممثلة بمواطن هويته أوربية خالصة، تترفع عن الشوائب الدينية و المذهبية و الوطنية التي مازالت ترفض إخلاء الساحة لذلك المشروع، و في بعض الأحايين تتقدم لطرده منها بعنف و صلف نكوصي مهول، مثاله الصعود الذي لم يعد مخاتلاً لتيارات اليمين المتطرف التي لم تعد مضطرة لتورية ولعها بالأفكار الفاشية و النازية .

    أما بالنظر لصيرورة ارتقاء الدولة-الأمة في العالم الغربي، وخاصة في فضاء القارة الأوربية، فهي كانت مقترنة تاريخياً بالحروب الوحشية الهائلة التي خاضها الأوربيون فيما بينهم، وتفننوا فيها بتقتيل بعضهم، وكان آخرها الحربين العالميتين الأولى والثانية، والتي كان محركها السرمدي هو السعي المعلن وغير المضمر لزيادة نصيب كل من الأفرقاء المقتتلين من مصادر الثروة في القارة. وهو السعي المحموم الذي أثبت بشكل عياني غير قابل للنقض ارتباط مفهوم الدولة-الأمة بشكل ثابت أيضاً بالميول الإمبريالية التوسعية، المشوبة دائماً بوعي عنصري ضروري لتبرير البربرية المنفلتة من كل عقال في التعامل الفوقي مع ذلك الآخر الذي قيض له أن يكون الطرف الأضعف في علاقة الغول الإمبريالي الغربي بالشعوب المنهوبة المظلومة في أصقاع الأرضين، والتي تنطوي بالطبع على كل الأرض العربية، والكثير من الأقوام المظلومة الأخرى.

    وواقع الدول الأقرب في تكوينها الموضوعي لمفهوم الدولة- الأمة بشكلها التنيني المتغول على كل تفاصيل حيوات البشر اتساقاً مع النهج الفكري لتوماس هوبز وجورج فيلهم هيغل، بشكلها القائم في الدول وريثة الإمبراطوريات الإنجليزية والفرنسية، وإلى حد كبير تلك الألمانية، دول قامت في أس تكوينها الموضوعي تاريخياً وحتى راهناً على كم هائل من العنف البربري، والاستغلال الوحشي للمجتمعات المستعمرة المنهوبة، وحتى مواطنيها المفقرين الذي استخدموا كوقود للآلة الحربية الغازية في المرحلة الأولى من تكوين الغول الإمبريالي في القرنين السادس والسابع عشر، وهو ما أسهم في تراكم ثروة غير مسبوقة في الغرب، مثلت الدعامة والأرضية التي تمكنت بناء عليها تلك الدول من توطيد تفوقها التقاني والعلمي والمعرفي والاجتماعي، وتخليق خزان الثروة الفياضة التي شكلت أرضية تكوين بنيان دولة الرفاة الاجتماعي، و نهج ذر الفتات النفعية المادية على مواطنيها هنا وهناك -وهي في جوهرها فوائد مباشرة لما تم نهبه من خيرات المستعمرات- لرشوة الطبقات الوسطى والعاملة في الغرب للقبول بذلك التوازن الغرائبي في الدول الغربية الكبرى القائم على ديموقراطية شكلية شوهاء مشاركة المواطنين فيها محصورة بتلك المشاركة الدورية كل بضع سنين في انتخابات رئاسية أو برلمانية شكلية لانتخاب أحزاب أو شخصيات لقيادة مجتمعاتها الفارق الإيدلوجي والمشروعي فيما بينها شبه واه، ومصطنع إلى حد كبير، و دون أن يغير وجود أي من أولئك الشخصيات فعلياً في السياسة المتبعة في ذلك البلد أو ذاك، و القائمة على أن الهدف الموضوعي من ممارسة السياسة وعمل السياسيين هو توطيد سلطة الأغنياء على الفقراء. و مفهوم الأغنياء في الواقع المعاصر يعني في المقام الأول الشركات العملاقة العابرة للقارات، التي تمثل هيئة تشخيص مصلحة الأنظمة في الغرب، و مجمع أهل الحل و العقد الذي يختار فعلياً الشخوص الأكثر ملائمة للمشاركة في اللعبة الديموقراطية السياسية الشكلية بإصدارها الغربي النكهة، عبر تحديد من يستحق أن يحظى بتمويل لحملته الانتخابية، ليقوم بواجبه المطلوب منه بعد ذلك في الحفاظ على الإمكانيات اللامحدودة لتلك الشركات في استغلال نفس الطبقات الوسطى والعاملة التي أوصلت أصواتها الانتخابية أولئك الساسة إلى مواقعهم، دون أن ينسى أولئك الساسة واجبهم الضروري في رشرشة فتات فوائد النهب التاريخي والراهن لمجتمعات العالم المفقر في الجنوب على أفراد تلك الطبقات عبر أقنية دولة الرفاه، لتبقى تلك الطبقات في العالم الغربي راضية وقابلة لذلك التوازن الأشوه، والذي أشار له الكاتب جون سميث في كتابه الذي حمل عنوان «الإمبريالية» و صدر في العام 2018، ملخصاً الوعي التفارقي لدى تلك الطبقات بأنها لا ترى ضيراً في وحشية شركات بلدانها في استغلال و اعتصار المفقرين حتى الرمق الأخير في دول الجنوب لتقديم منتجات رخيصة يتنعم بها مواطنو الدول الغربية، دون أن يعيروا اهتماماً لأي من شعارات حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية كونها جزء عضوي من متطلبات اللعبة الديموقراطية الشكلية في المجتمعات الغربية والرشوة المستمرة لمواطنيها للقبول بالنموذج الاجتماعي المشوه للدور الوظيفي لبنيان الدولة-الأمة بشكله الغربي التنيني في عالمنا الراهن.

    س: هل يمكن أن توضح أكثر تفسيرك للأسباب التي ساهمت وتساهم في عسر تشكل هوية وطنية جامعة للمواطن العربي في أي دولة عربية بالشكل الذي تتمظهر فيه تلك الهوية في العالم الغربي؟

    ج: خلال صيرورة تطور سلالة الإنسان الحكيم (هومو سابينس)، التي ينتمي إليها كل البشر، وعمرها التطوري حوالي 200 ألف سنة، قضى البشر معظمها في مجموعات صغيرة واجبها الأساسي الحفاظ على النوع، ومهنتها الوحيدة الجمع والالتقاط. وهي مرحلة تمثل أكثر من 95% من العمر التطوري للإنسان، حيث لم يشغل الاستقرار في مجتمعات زراعية أكثر من 15 ألف سنة مضت في أكثر التقديرات. أما المجتمعات الصناعية وما بعد الصناعية الراهنة فعمرها مجهري مقارنة بتلك السالفة الذكر، حيث عمرها هو عمر الثورة الصناعية منذ اكتشاف المحرك البخاري في أواخر القرن السابع عشر. وبالنظر إلى ذلك التوصيف التطوري باتساعه الزمني بمنظار الاصطفاء الطبيعي، واشتراطه لكون البقاء هو لذلك الكائن البيولوجي الأكثر تكيفاً مع ظروفه البيئية، والتي غالبيتها المطلقة مقترنة بشروط حياة البشر في مرحلة الجمع والالتقاط نظراً لوزنها الزمني الأكبر في صيرورة تطور الإنسان بيولوجياً.

    وبالبناء على ذلك النسق العلمي يمكن تقبل الاستنتاج العلمي والبحثي المقنع بأن البنى العقلية الإدراكية النفسية للبشر تطورت تكيفياً لتجعلها أكثر ميلاً للاندماج في مجموعات بشرية صغيرة عددها الوسطي 30 فرداً دون أن تتجاوز 60 شخصاً خلال العمر الطويل لتطور البشر في مرحلة الجمع والالتقاط، وهو ما يعني في المنظار الاجتماعي اعتبار ذلك العدد المحدود من الأفراد هو العدد الأقصى للمجموعة البشرية المتسقة مع البنية البيولوجية التطورية للبشر، والتي تمكنهم من الشعور بالارتباط الاجتماعي والوجداني معها بشكل طبيعي، وأن كل عدد يفوق ذلك يحتاج إلى جهود فكرية عقلية عليا لاستبطانه معرفياً كمجموعة بشرية ينتمي إليها الفرد، وهي عملية معقدة تحتاج إلى كثير من الوعي المركب للقبول بها، والتي يسهل النكوص عنها في أي مرحلة مقترنة بالتعرض إلى شدة نفسية تقتضي وفق آليات عمل الدماغ التي تطورت تاريخياً، بتفعيل آليات الدماغ القديم الذي يشترك به البشر مع كل أسلافهم من الفقاريات والتي تقتضي النكوص إلى سلوكات دفاعية بدائية للحفاظ على النوع، بالتوازي مع إقصاء غالب فعاليات الدماغ الجديد «القشرة الدماغية ما قبل الجبهية» التي تمنح البشر من سلالة «الإنسان الحكيم» القدرة على العقلنة، والاستبطان المعرفي، و الرشاد، و الاستبصار، و التي تميزهم أسلافهم و أقرانهم  في مملكة الحيوانات.

    وتلك العقلنة و ما ارتبط بها من قدرات فائقة للعقل البشري مثلت المدخل الأساسي الذي من خلاله كان لمفكر من جان جاك روسو في كتابه «العقد الاجتماعي» أن يقترح نموذجاً موسعاً ينظم العلاقة بين مجموعات كبيرة من البشر يوحدهم الميل الطبيعي لتحسين ظروف حياتهم وأولئك المقربين منهم في مجموعتهم المصغرة التي يمكن النظر إليها بأنها أسرة كبيرة مؤلفة من ثلاثة أو أربعة أجيال، مع مجموعات بشرية مصغرة أخرى يتشاركون معها في نفس الفضاء الجغرافي، بحيث ينظم العلاقات الداخلية بين تلكن المجموعات اتفاقها على شكل منطقي من تقاسم الواجبات وبالتالي المنافع بشكل مبني على مبدأ «الغنم بالغرم» الذي يشكل اللحمة الأساسية لأي عقد اجتماعي صالح للبقاء و للمجتمع الأكبر الذي يمكن أن ينبثق عنه.

    ونظراً لأن واقع تطور المجتمعات الإقطاعية الملكية في أوربا في العصور الوسطى والحديثة لم يكن ليسمح بذلك النموذج من «العدالة الاجتماعية» الفطرية المنبثقة من ذلك التصور لطبيعة «العقد الاجتماعي» بالتحقق فعلياً لعدم تطابقه مع مصالح الفئات المهيمنة التي لم تكن لتقبل بحصة عادلة من المنافع المتولدة عن وزن مساهمتها في القيام بواجباتها، وهنا كان لا بد من اختلاف وعي جمعي مصطنع، رائده الأساسي شارلمان الملك الجرماني الذي حكم فرنسا من مدينة آخن الألمانية راهناً في القرن الثامن الميلادي، فحاول اصطناع هوية مسيحيانية جامعة لكل الأعراق والتجمعات البشرية المصغرة التي وقعت تحت سيطرة الإمبراطورية الجرمانية بتقمصها الروماني الغربي - بعد أن دمرت القبائل الجرمانية البربرية روما الحقيقية و قضت على إمبراطوريتها في أواخر القرن الخامس الميلادي- ضالتها الجوهرية تذويب هويات تابعيها و رعاياها الخاصة في سياق خضوع كلياني للسلطة الكنسية التي مثلت وفق منظار تلك الهوية المصطنعة المدخل الوحيد لأولئك المعذبين للوصول إلى أبواب الجنة الموعودة بعيد الرحيل من رحلة العذاب التي لا تنتهي في الحياة الدنيا. وهي نفسها السلطة الكنسية التي كانت الهيكل والإطار العام الذي مثل الشكل العياني المشخص لتلك الهوية الجديدة المختلقة، فأصبحت الرافعة الجلمودية التي جعلت من السلطة الملكية سلطة «منزلة من السماء» عبر وسيطها المعتمد في الأرض ممثلاً بطبقة الإكليروس أي «وعاظ السلاطين»، وجعل من الخروج عنها، تجديفاً وزندقة جزاؤه الهول والثبور والإمحاء من وجه الأرض.

    وذلك النموذج من الهيمنة وتشكل المجتمعات في قوالب مبنية على الخوف مما في جعبة الغيب والعسف الأرضي أفرز حالة من الاستكانة شبه المطلقة، لم يتعكر صفوها بشكل فعلي حتى الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر، أدى إلى تكريس نموذج فريد من العلاقات الداخلية بين مثلث

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1