Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

المنتظر
المنتظر
المنتظر
Ebook370 pages3 hours

المنتظر

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

رواية تتناول أزمنة لم تأت بعد، تقدم تصورًا لما سيكون عليه العالم بظهور المهدي المنتظر، ونزول المسيح عليه السلام وقتلهما للمسيخ الدجال، وما ستكون عليه أمم آخر الزمان.

Languageالعربية
Release dateJan 19, 2020
ISBN9781393553144
المنتظر

Related to المنتظر

Related ebooks

Related categories

Reviews for المنتظر

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    المنتظر - يوسف الرفاعي

    المنتظر (رواية)

    تأليف: يوسف الرفاعي

    رواية المنتظر، تأليف يوسف الرفاعي، الطبعة الثانية © 2019 رقم الإيداع 17334/2019 الترقيم الدولي 9789778541281 تصميم الغلاف: يوسف الرفاعي. جميع حقوق النشر الإلكتروني، وغير الإلكتروني لهذا المصنف محفوظة لدار لمار للنشر والتوزيع والترجمة. غير مسموح بإعادة نشر أو إعادة انتاج أي جزء من هذا المصنف بأي وسيلة إلكترونية كانت، بما في ذلك نظم تخزين واسترجاع المعلومات دون إذن كتابي مختوم من الناشر. أنتج هذا الكتاب بناء على عقد نشر مصنف إلكتروني بين المؤلف ودار لمار للنشر والتوزيع والترجمة ومقرها 7 شارع شريف، التعاون، الهرم، الجيزة، جمهورية مصر العربية. بريد إلكتروني  alrefaie2@yahoo.com تليفون: 00201020299125

    إهداء

    إلى روح أمي .. التي علمتني كيف أحيا

    إلى زوجتي وابنتي

    مع خالص الحب

    تنويه

    هذه الرواية ليست تأريخًا، بل تصور أدبي لما قد تكون عليه نهايات العالم، في حقبة المهدي المنتظر عليه السلام.

    (1)

    زلزال عنيف، يضرب صحراء قريبة من عاصمة مملكة سركونيا. تتهاوى صخور جبل شاهق عند أطراف الوادي، فينتفض متصدعًا. تتوالد سحب دخان من كهف يتوسط الجبل، فتغشى الأفق. ترتجف الأرض، فتخفق بشدة أفئدة فئام من البدو، ويسقط بعضهم صرعى. تنفر الأغنام هاربة من جحيم مُرتقب، وتهجر الطيور أوكارها في أسراب كثيفة.

    يهرع الشيخ عقيل متأملاً سماءً يخنقها سحاب مركوم، يصرخ مناديًا عشيرته، وقد تحلَّقت من حوله: بُشراكم اليوم، ظهر المُنتظر، ظهر قائم الأمة، ملك الزمان، على يديه تغرب شموس الظالمين، ويسقط الظالم سركون.

    احتدمت الدهشة في العيون، يؤججها خوف من الزلزال الذي يجتاح المكان. يتشبث بعباءته الصغار، ويُخفض الجميع نحيب أنفاسهم الخائفة، ينصتون بلهفة للنبأ العظيم. مدّ الشيخ عقيل يمينه مشيرًا إلى الجبل، يهتف: انظروا إلى الكهف المقدس، حيث يُشرق بهي الطلعة، حفيد الزهراء، يأتيكم بالخلاص.

    ورغم أن أحدًا لم ير ما يراه الشيخ ذي اللحية الرمادية، فإن ثقتهم في حدّة بصره، أسلمت عقولهم وقلوبهم لما يقول، وسرَت بينهم تساؤلات تنقلها نظرات مغموسة في القلق، يترقبون ما سيحل بأرضهم. هدَّأ الشيخ عقيل روعهم، ومضى ينقل إليهم ما تراه عيناه المُعلَّقتين بالجبل: سينزل بساحتكم في أي لحظة، تَحفّه الملائكة، يزلزل عروش الطغاة، لا ظلم بعد اليوم.

    حفرت كلمات الشيخ أثرًا في نفوس عشيرته، فتكاثفوا يتشبثون به كأفرع شجرة تغالب الموت، مُعلَّقةٌ عيونهم بمجهول، تكاد أنفاسهم لا ترتد إليهم، حتى لامس أعينَهم الخائفة وميض نجمة صولجان المنتظر تبرق وسط سحب الدخان، عند حافة الكهف، فتسمّر الجميع مبهوتين بما جعل قلوبهم وأرض الوادي تتصدع، وكسى الغبار عين الشمس، فصَغُرَت وتضاءل نورها، حتى بدت كعملةٍ فضِّية قديمة، وانداحت إلى الغرب، تاركة من خلفها ظلال تدهم الأرض.

    جثا الشيخ على ركبتيه خالطاً البكاء ببسمة انتصار لامعة، يردد: ويل للظالمين من المُنتظر، ويل لهم من ملك آخر الزمان. ولم يفق مما كان فيه إلا حين جذبه حفيده نائل من طرف ثوبه يسأله بإلحاح: هل سيذبحنا كما فعل سركون؟

    أجابه بصوت مُبلل بدموع الرجاء: بل سَيُحيينا يا ولدي. ثم عاود النظر باتجاه الكهف، وأردف: نحن شعبه المُختار، فلا تبتئسوا بما حل بنا على أيدي الطغاة.

    تلاصق الجميع كخراف مذعورة، يرتجفون، ينظر كل منهم في اتجاه مختلف، تستقرئ عيونهم نوايا سماء شاحبة، رسم الغبار على صفحتها خيالات أخافتهم. وضَوّى بريق النجمة مجددًا، يكاد يخطف الأبصار، فأمر عقيل عشيرته بأن يغضوا أبصارهم، ويخفوا رؤوسهم في ثيابهم، ففعلوا، مُترقبين زوال لحظات متباطئة، كانت تمضي زحفًا لا يُسمع للكون فيها ركزًا.

    خشعت الأصوات، فغشي المكان ما يشبه سكرة الموت، حتى التقطت الآذان زلزلة أقدام قادمة من حضن الجبل، فظلوا يلهجون بأدعية رفع البلاء، دون أن تجرؤ عيونهم على استطلاع هوية القادم. لم يجرؤ على النظر إليه سوى عقيل، تدفعه اللهفة، فتجمدت مقلتاه حين التقتا بعيني القادم البَهيّ، وأسرَت النجمة المُشِعّةُ عقله، فتثاقل الرأس، واتسعت حدقتاه وألقت أذناه أثقالها، وانكشف عنه غطاء الغفلة.

    فقد الشيخ سيطرته على عقله حينها، أو هكذا خُيّل إليه، لكن قلبه بقي يقظًا، ليستقبل دفق نور سلّطه عليه المُنتَظر، فتعالى وقع نبضاته، حاملة سنا البصيرة إلى جوارحه، فألجمه الصمت، وبدأ يتواصل مع المنتظر على نحو لم يألفه، فإذا بنفسه المضطربة تهدأ، وعاد قلبه يخفق مطمئنًا، فَخُيِّل إليه أنه لم يعد يرى في الوجود سوى البَهيّ الواقف أمامه، وإذا بالصحاري تكتسب خُضرة بعد جدب، وألحّ على عقله هاجسٌ بأن المُنتظر سحرها.

    وتخاطرت الأفكار بين عقليهما، بلغة غير منطوقة، وخُيّلَ إليه أن الواقف أمامه يسأله عن عشيرته قائلًا: هل أنت شيخهم؟

    أومأ عقيل دون أن ينبث بكلمة، راسمًا على محياه ابتسامة، وبقي يلقي السمع صامتًا، فاستطرد المُنتظر: اسمع واحفظ وبَلِّغ عني، لقد بعثني الرب لأطهر هذه الأرض، فمن تبعني فإنه منِّي، فهل ستفعل؟

    أومأ عقيل متلهفًا، ولسان قلبه يهتف: سمعًا وطاعة يا ابن الحسن العسكري". 

    فأردف الواقف أمامه: بل أنا ابن عبد الله، ولست من يلحِدون إليه، وستنجيك الطاعة وعشيرَتَك، فالزموها ولا تسألني عن شيء حتى ترى حكمته.

    أجابه عقيل بكلمات لم ينطق بها لسانه: أنا رجلك الوفي، وعشيرتي خُدامك.

    قال: أحسنت صنعًا يا عقيل الحافي. ثم شمله بوميض نجمته، فإذا بدروع حديدية لامعة تكسو جسده، شعر على إثرها بقوة خارقة تسري في أوصاله، كما لو كان فارسًا أسطوريًا. وقبل أن تستبد به الدهشة، سأله المُنتظر في كبرياء: من يحكم هذه الأرض؟

    قال: أسرة من فرسانٍ قُساة القلب، يشد قلوب بعضهم إلى بعض هاجس بالزوال.

    أطرق المُنتظر يفكر، ثم سأل: وما دينهم؟

    قال: زعموا أنه الإسلام، لكن غلبت مذهبهم الزندقة.

    فشمله بنظرة متسائلة، فأجابه: سأخبرك يا مولاي، وأنت بما سأقول أعلم، إن عقائدًا جاهلية هيمنت بعد أن بادت أمم حكمت المنطقة قبل عشر سنوات، وظهر هؤلاء على غيرهم، ينتقون من الدين ما يُثبتِّون به سلطانهم، ويُسقطون منه ما لا ينفعهم.

    فسأله المنتظر بعد برهة سادها الصمت: أوَ لم يُصِبكَ ما أصابهم؟

    قال: معاذ الله، فررت منهم لما خفتُ على ديني.

    فأومأ راضيًا، وأردف: حسنًا فعلت، لقد نجّاك عقلك وصدق حدس قلبك.

    ألجمت لسان عقيل رجفة قبل أن يسأل: أوَ لم يطلعك الله على ما في قلبي؟ 

    فأجابه المنتظر راضيًا: بلى فعل، وتيقنت من صدق ظاهرك وباطنك، فاثبت.

    أردف عقيل راجيًا: "مولاي، بك آمنت قبل أن تعود من غيبتك الكبرى، وما زال قلبي على العهد قائمًا يا ملك الزمان.

    ربت المُنتظر على قلبه، معقِّبًا: لِتنظرني الآن بعينيك لا بقلبك.

    وأشار إلى رأسه بصولجانه ذي النجمة، فعاد يبصره بعينيه لا بقلبه، وإذا للمُنتظر هيئة فارس، يعتلي جوادًا تكسوه دروع لم يرَ لها مثيلًا، تصطف من حوله جيوش تسد الآفاق، يتقدمها فرسان أشداء على خيول قوية مدججين بأسلحة غريبة ودروع تلمع بنور أزرق، ومن خلفهم بضعة آلاف من المشاة يحملون أسلحة تشبه قاذفات الصواريخ، ودروعًا سداسية ذات نتوءات بارزة، تشع بضوء ليزري أحمر، لا يُرى من وجوههم سوى عيون شرسة، وأفواه تنم عن أسنان قوية.

    ارتعد عقيل لما رأى. تقهقر لينضم إلى عشيرته الخائفة، فأشار إليه المُنتظر بصولجانه، قائلًا: اثبت مكانك يا عقيل الحافي، ستكون من اليوم مستشاري، سأخلع عليك هيبة يخشاها ملوك الأرض، ما دمت تنطق بلساني، وتفكر بعقلي، وتبطش بيدي.

    ثم شملهم ببريق نجمته، فزال عن عقيل رماد الشيب في رأسه ولحيته، واكتسبت عضلاته قوة تمزقت بفعلها ثيابه، وأبدله ثيابًا أخرى بهيّة مُطعَّمة بدروع من معدن لامع، يتراقص عليها بريق الشمس. لم ينتبه إلا وتحته فرس قوية، يكسوها رداء الحرب، وفي يديه رمح لا يشبه أسلحة هذا الزمان، به أزرار أضاءت بمجرد أن استشعرت حرارة كفّه، وبدأت أرقام على شاشة رقمية صغيرة في سلاحه تومض. كان للرمح رأس أشبه بقذيفة باليستية، وحول خصره نطاق تعلقت به أسلحة غريبة لم يألفها من قبل.

    ولم تسع الدهشة عُقيلًا، وسَرَّه ما اكتسى به أفراد عشيرته من حُلَلِ البهاء، فصدحوا بصيحات فرح لم يسعها المكان، وتقافزوا كخراف مبهورة بالكلأ؛ واشتد عودَ زوجته فاطمة، واكتسب ابنه مُسلم وزوجته بهاء ورونقًا، وتلألأ الحفيدان في حُلَّتيهما الأنيقتين. ثم انطفأت فجأة أنوار الكون وغاب الجميع في ظلال رمادية كثيفة.

    (2)

    راود الشيخَ عقيل شعور بأن ما عاشه كان حلمًا، وطرق رأسه مرارًا لعله يفيق، لكن الحال لم تتبدل، وبقي المُنتظر يرمقه مبتسمًا من بين الظلال، إلى أن أيقظت عقيلًا يد بقيت تهزّه للحظات، حسبها يد أحد جنود المُنتظر الأشداء، لكنه حين أفاق، فوجئ بزوجته فاطمة تحاول إيقاظه، حتى إذا بدا له أنه قد أفاق، سألته: ما بالك يا أبا مُسلم؟ لكأنك لا تريد أن تغادر حلمك المزعج؟

    استعاد عقيل أنفاسه اللاهثة بصعوبة، وأدهشه أن يتبدد في لحظة على يد زوجته ما كان يحلم به، فأمطرها أسئلة أدهشتها: أين هو؟ بل أين أنا؟ هل رحل؟ وأين الصولجان ونجمته المُشِعَّة؟

    صَكَّتْ فاطمة وجهها من الدهشة، وأطلقت ضحكات كادت توقظ صغارها في طرف الخيمة، وسألته: عمن تسأل أيها الشيخ الهَرِم؟ أهو المنتظر مجددًا؟

    قال مزدردًا ريقه بصعوبة، وكاد يبكي: أين المُخلِّص؟

    فأردفت تضحك، مُخفية فمها بكفها الشمعي: ها هي أوهامك تعود!

    لم يجبها، بل طلب منها أن ترويه بشربة ماء، وكان يتفصَّد عرقًا، ثم أردف بعد أن ارتوى مبللًا لحيته: رأيته رأي العين. وصمت لبرهة ثم أردف: لكن هذه المرّة ليست كسابقاتها، أظنه شارف على الظهور.

    شَرَدَتْ فاطمة للحظات ذابت فيها ضحكاتها. ألقت نظرة على صغارها النائمين في زاوية الخيمة، ثم ربتت بيمينها على اليسرى، والتزمت الصمت ترقبه،

    قال بعد أن اعتدل في جلسته ماسحًا وجهه بكفه اليمنى، مرددًا الشهادة: أظنها قد اقتربت، نهاية العالم.

    قالت: هوّن عليك يا رجل، ما زال القمر بالسماء، والليل جاثمًا فوق صدورنا، لا شيء تغير يا عقيل، سوى أننا أصبحنا أكثر فقرًا، يطاردنا جنود سركون الظالم من وادٍ إلى وادٍ.

    التزم عقيل صمتًا، غير راض عما تقول، فأردفت تصلح ما كادت تفسده: قد ترى شيئًا يناقض تأويله، فلا تقلق، ولتنهض لتصلي الفجر، فقد شارفت الشمس على البزوغ.

    ونهضت إلى حيث كان ابنها الوحيد مُسلم راقدًا إلى جوار زوجته، فأيقظته برفق، ليصلوا الفجر جماعة، فاستيقظ مبتسمًا كعادته، يشرق مًحيّاه الوضاء بنور من نبع خفي. سألها مُسلم ملقيًا نظرة على والده: ما به؟

    قالت: حلم كل صباح، المُنتظر!

    ابتسم منشغلًا ثم أردف هامسًا: أصبحت قلقًا.

    ربتت على ركبته اليسرى، وأردفت: لا عليك، فأنت تعرف سبب تلك الأحلام.

    نهض عقيل متثاقلًا، وتجاهل ما سمعه منهما، ثم جلس لتصب له الماء، وهو يتمتم بصوت أرادها أن تسمعه: لا علاقة لرؤياي بما تظنين. ثم نهض ليقف على مدخل الخيمة يرقب خط الأفق الذي كان يصل الأرض بالسماء باتجاه ما يرى أن فيه خلاصهم جميعًا، وأردف: والله ما فزعت قط من ذلك الحاكم الظالم، وإنما يفزعني اقتراب النهايات. ونظر إليها بينما كانت ترقبه وابنهما بدهشة، ثم قال: ما يقلقني يا فاطمة أن يقفل باب التوبة بينما نحن في غفلة.

    همَسَت وهي تصب الماء على يديّ ابنهما: ليفعل الله ما يشاء، لن يغير قلقك من الأمر شيئًا. وبدت كأنها تذكرت ما أقلقها، فقالت: أخبرتني قرينة شيخ القبيلة أن عيون السلطان سركون تُفتِّش عنا في الربوع القريبة، فماذا سنفعل؟

    التفت إليها وقد بدا منزعجًا، سائلًا: بِمَ أخبرتك؟

    أجابت دون أن تنظر إليه: أوَ لم تسمع ما قلته؟ سركون يبحث عنا يا عقيل.

    سألها: وكيف عرفت قرينة شيخ القبيلة بذلك؟

    ضحكت، وقالت دون أن تلتفت إليه: أخبرها زوجها أنه تلقى مكتوبًا من ديوان السلطنة يأمره بالإبلاغ عنك وعنَّا بمجرد أن يعثروا على أي علامة تدل علينا، وزودهم بصور مختلفة تصف ملامحك باللحية وبدونها.

    جلس عقيل مشغولًا يفكر، فأردفت ناظرة في عينيه: وإليك الأهم، لقد طلب شيخ القبيلة منها أن تخبرنا برغبته في أن نرحل إلى مكان أكثر أمنًا، وليكن أي كهف في الجبال القريبة.

    قال: إذًا .. بم تنصحين؟

    أردفت: لست في حاجة لأن أذكرك بأن جنود الظالم أظلم منه، وسيصلون إلينا.

    همس كأنما يحدث نفسه: أي شيء تنتظر يا حفيد فاطمة المقدسة؟ أتراك غافل عن ظلم سركون وجنوده؟ ألن تعود؟

    أشاحت بيمينها غير آبهة بما يعتريه من ضلالات الشيخوخة، ونهضت لتجهز الإفطار، بينما اصطف مُسلم إلى يمين والده يؤديان صلاة الفجر، وفي الركعة الثانية، رفع عقيل يداه وانهمك في دعاء القنوت، مستغيثًا بربهم من ظلم سركون، داعيًا بأن يُعجِّل الله بإخراج المُنتظر."

    ورغم انشغاله بالدعاء، طرقت كلمات فاطمة سمعه حين أخذت تناجي ربها: ضاقت علينا أرضك يا رب السماء، وأنت أعلم بحالنا، فإلى ِمن تكلنا؟ أين عدلك؟

    تردد صدى كلماتها الأخيرة في أذنيه، بينما كان ساجدًا، فقال بعد أن فرغ من صلاته: تضيق الأرض بمن ضاقت بهم السماء، وربك موجود يا أم مُسلم.

    وبعد أن تناولوا طعام الإفطار، اتكأ عقيل على مسند مزركش مستقر عند مدخل الخيمة، وسرَح بعقله وبصره يتأمل سنا الفجر الذي كان يرسم بفرشاة نحيفة ملامح الكون، وأصوات الطيور تصدح.

    جلس مُسلم إلى جواره، ثم سأله مستبشرًا: ليخبرني شيخنا، ماذا يؤرقه؟ 

    تأمل عقيل جبل الدخان الجاثم على حافة الأفق الغربية، وبقي مُسلم يتتبع مُنتهى ناظري والده، فلاحظهما مُعلّقان بالجبل الشاهق، فسأله: ما بك يا أبي، هل أوَّلت مكروهاً في حلمك؟

    عاد عقيل من شروده وصبَّ في عيني مُسلم بقايا حزن، وسأله: أتعرف يا بُني، لم أرَ في حياتي أبهى مما رأيت هذه المرَّة؛ حتى لكأني ظننت أن ما نزل بي حقيقة، لقد رأيته يا بني، وكنت فيما مضى أسمع صوته فقط، أو أرى أثره.

    سأله ابنه: تقصد المُنتظر، أليس كذلك يا أبي؟

    أجابه مُحلِّقاً بناظريه بعيدًا: نعم، ومن سواه؟ رأيته عين اليقين، حدثني وحدّثته، ولك البشرى يا بني، فقد أخبرني أنه اصطفاني وعشيرتي، أو هكذا فهمت من قوله.

    سأله شاردًا: وكيف هو؟

    قال: كهل على أبواب الأربعين، يملك صولجانًا ذي نجمة مُشعَّة، يأتمر بفضلها كل من أشار إليه بها.

    ابتسم مُسلم، وبقي يتأمله، تناشده عيناه بأن يكمل الحكاية. كانت السماء حينذاك توشك على إنجاب صباح دُريٌّ ليس ككل ما سبقه من صباحات. أردف عقيل قائلًا: إنه المُخلِّص يا ولدي، على يديه ينصلح أمر الدنيا، وتولد الآخرة.

    ساد صمت لم يقطعه سوى همس فاطمة، وكانت تجلس خلفهما منذ لحظات مُستمعة، إذ قالت: أفِقْ يا عقيل من غفوتك، أقول لك السلطان يبحث عنا، وتقول لي المُنتظر؟

    التفت إليها مبتسمًا، وأردف: ما بالك بقوم استغاثوا الله؟

    قامت غاضبة، لتنام إلى جوار زوجة مُسلم، بينما تجاهلها عقيل وانطلق يهمس في أذن ابنه حريصًا على ألا تسمعه فاطمة هذه المرة كيلا تُسفِّه قوله: معه سلاح يشق به الجبال، ويستمطر السماء فتمطر، وإلى القلوب به ينفذ فيستنطق البصيرة.

    مد مُسلم بصره إلى حيث الجبل، وسأله وفي عينيه لهفة اشتياق للمعرفة: هل هو بَشَريِّ مثلنا؟

    فأومأ، ثم قال: غير أن الخوارق تأتي في ركابه.

    أطرق مُسلم للحظات ثم سأله: ومتى سيظهر؟

    مطَّ عقيل شفتيه وأردف شاردًا: العلم عند الله، لكني أحسبه قريبًا بإذن الله.

    صمت مُسلم ثم رمق والده بنظرة حافلة بالانشغال، وسأله: إلى متى يا أبي سنبقى هاربين؟

    نهض عقيل واقفًا لا تفارق عيناه الجبل البعيد: إلى أن يأتي أمر الله. وسكت للحظات، ثم أردف: إن كنت مللت الفرار فأعلم أنه لولاه لما نجونا من سركون الظالم، لقد عاهدت الله ألا أعين ظالمًا بفتيا باطلة، وهؤلاء يا ولدي ينفرون من العلم كما ينفر السهم من الرميّة، يريدون أخرقًا يفتيهم بما تهوى الأنفس، ويفضلون لو كان أعمى، لكيلا يرى عوارهم. صمت لبرهة ثم

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1