Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

Novel of Hesitation Arabic
Novel of Hesitation Arabic
Novel of Hesitation Arabic
Ebook335 pages8 hours

Novel of Hesitation Arabic

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook


تتمحور الرواية حول حالات التردّد والتّخبّط لدى بني البشر المتقلّبين بعد الحرب العالميّة الأولى بين الإيمان والإنكار وبين الميول الشخصيّة والميول الاجتماعيّة، ومشاعر العشق، مع الحرص النافع من جهة والحبّ الّذي يدمّر نفسه بنفسه من جهة ثانية.
Languageالعربية
Release dateMay 21, 2020
ISBN9789927141355
Novel of Hesitation Arabic

Related to Novel of Hesitation Arabic

Related ebooks

Reviews for Novel of Hesitation Arabic

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    Novel of Hesitation Arabic - Peyami Safa

    كانت مُعلَّى لا تزال تتردد في قراءة هذا الكتاب الذي وُصِّيت به كثيرًا. قلبت أوراقه، ونزلت عيناها من أعلى صفحة بدأت بعبارة «لا تتركوني وحيدًا» صوب أوسطها، حتى بلغت أسفلها وهي تقفز درجات الأسطر مثنى وثلاث.

    وفي تلك الصفحات مظاهر لحالات من الدوخة ممتزجة بغثيان يشبه الاحتضار، ورعشات، وإغماءات، ونساء وضعن أيديهن على خدودهن في الغسق وقد أصابهن الهلع، وظلٌّ لرجل يتدلى رأسه مباشرة ما بين ركبتيه، واختناقات، واختلاجات، وجموع من الناس تتماوج في لجة بيضاء، ونواقيس، وصرخات... قلبت الصفحات. كانت تضيف صنوف الخيالات التي أثارتها الأسطر العالقة بعينيها، بعضها فوق بعض، وتحاول أن تكوِّن فكرة عامة تتيح لها فهم الموضوع بعض الشيء كي تقلل من حالة الغربة بينها وبين الكتاب. إلا أنها لم تستطع فجأة السيطرة على سرعتها تحت تأثير حالة التجسس الراغبة في الانتقال من الأجزاء إلى الكل في أول خطوة، وعلقت عيناها بمنتصف صفحة أخرى:

    «انظروا، إذا انطفأت هذه الأنوار فجأة... فذاك الموت!»

    كانت شمس ساطعة تنتشر في المكان، وفكرت أن الموت هو سالب الشمس، لذلك يُشبَّه بالليل.

    فتحت صفحة أخرى: «... للموت والشمس، تقول: لا يمكن النظر بنظرة ثابتة».

    دائمًا الموت! أغلقت عينيها، وحين تحولت إلى نفسها كانت تنظر إلى مادة شديدة السواد براقة للغاية، وتُحسُّ في روحها المتضايقة بأنه أولى أمانيها التي شعرت بها من أجل قراءة هذا الكتاب.

    فتحت عينيها، وأغلقت الكتاب، إلا أن إصبعها كان قد بقي بين أوراقه. توقفت قليلًا، وفتحت الكتاب ثانية. وفيما تقلب الصفحات، صادفت تلك الجملة من الكتاب الذي ينفتح من المكان نفسه باستمرار، ربما لأنها في بداية الملزمة: «لا تتركوني وحيدًا!».

    صرخة النجدة المرتفعة من هذه الكلمات الثلاث لفتت انتباه مُعلَّى المقسم على أجزاء صغيرة مبهمة إلى نفسها بشكل جيد. تخطت الأسطر سريعًا إلى الوراء، وعثرت على بداية الصفحة التي تقص حكاية حادثة، وقرأت:

    «انقض مضجعه مرة أو مرتين. وفي عمق مصقول، يرى بريقًا ينطفئ ويتلاشى في ثنايا الظلمات، وما كان يعرف ماذا هو! إلا أنه فهم، في إحدى المرات، أن ذلك هو ضوء الشمس الآتي من خلال النافذة، يغرق في المرآة المظلمة لخزانة الملابس. بيد أنه، تأثرًا بهذه الظلمات واللمعان، كان يُغمى عليه، ما إن يصبح في حالة تمكنه من التمييز بين خزانة الملابس والنافذة، ثم يغيب عن وعيه. بضع مرات، هكذا، فقد نفسه في لجة استيقاظات غير كاملة».

    «أخيرًا، فتح عينيه تمامًا. هذه المرة، كانت استيقاظة تامة من النوم. وبعد أن اهتزت الألوان والخطوط جيدًا، واستقر كلٌّ في مكانه، تعرف على الأشياء الكبيرة التي ظهرت نتوءات أشكالها، وتذكر أسماءها، وأدرك أنه استيقظ، لكنه ما كان يعرف بعدُ أين هو! يوجد داخله خوف من التذكر. الماضي كله كان يهرب من الشعور بالحال، وكأنه يبتعد عن خطر».

    «نظر حوله. ثمة صنبور رآه بجانب النافذة جعله يدرك فجأة أين يكون: الفندق. هذا القدر فحسب. وكان يخرج من صدره في الهواء ويتكاثف شعور ثقيل ممزوج بالخوف، لا يسمح له بأن يفكر في سبب مجيئه إلى هنا، وتجثم على صدره بتضييق مادة عظيمة غير مرئية، فتقطع أنفاسه. جسده خفيف وكأنه كان يهتز دون أن يمس أي مكان على الإطلاق، في المساحة التي بين الفراش واللحاف، في صورة خط دقيق. كان يريد تحريك أحد أعضاء جسده، إلا أنه لا يفهم إن كان قد نجح في هذا أم لا، وكأن جسده كله كان يهرب منه. ومع قليل من التفكير، يجد يديه على الفراش. ليس هناك تمادٍ في الفكر بذهنه، بحيث يرتاب إن كان قد أصابه الفالج أم لا. إلا أنه استطاع بإرادة ضعيفة، تتشكل من خلال الانخراط في خوف عميق، من أن يضغط على أصابع يديه، فكان يشعر قليلًا بدخول أظافره في راحة يده. حاول قليلًا التحرك. هذا ليس صعبًا. استطاع أن يستدير بسهولة دون أن يشعر بملمس ملاءة السرير وغطاء المخدة. كان جسده وكأنه يسبح في ماء حار برد للتو. مجددًا، استلقى على ظهره. عندئذ، بدأ يختفي الشعور بأنه غارق في لجة ماء. كان هذا الماء ينسحب ببطء، ويجف الفراش. إلا أنه وجد في هذه المرة لزوجة في الوسادة، وفي الأغطية».

    «كان يدرك أنه تصبب عرقًا. وكانت لا تزال هناك رعشة غريبة، ووخز، ورجفة مؤلمة، في جسده كله، بل في كل عظامه، وفي داخل بطنه. عرق، فعرق، فعرق، ثم عرق. يسمع بأذنيه أنه يهتز وهو يتنفس. بدأ يتذكر الليل الغامض: ثلاثة ظلال عند الباب الكبير للفندق، ترتفع إلى أربعة، ثم تنزل إلى اثنين».

    «كان يتذكر أعينهم فحسب تارة، وأصواتهم فحسب تارة أخرى. كان أحدهم يقول: (اشرب الشاي!). ثم اسودت مشاعره، وحل محل كل هذه الذكريات شعور واحد، شعور سيئ، شعور: أنا سيئ، إنني أصبح سيئًا. كانت عيناه تعلقان بنقطة ما وتسرحان، ويعمى شيئًا فشيئًا، ويفقد رؤيته في أواخر منحدر ينزل من الضوء إلى الظلام. ثم كان يفتح عينيه بخوف كبير. هناك ثقل هائل لهذا الخوف يجثم على الشعور الوحيد الذي يربط ذاته بروحه. هذا الشعور السيئ بدا كما لو كان يخرج من فمه في صورة غازات حامضة، مع أشياء تتجول في صدره، في بطنه، في أماكن من جسده. استمر هذا الحال وقتًا طويلًا: لعدة ثوانٍ، وربما لدقيقتين أو ثلاث دقائق».

    «أدار رأسه إلى اليسار مباشرة. نظراته التي تبحث عن المساعدة، وترنو إلى المدد، بعيدًا عن نفسه، كانت تُصاب بالتعب وهي تحتك بأشياء جافة لا حياة فيها، فكانت تبقى كما هي، حيث تسقط في نقطة عشوائية؛ علقت لوقت بأعلى خزانة الملابس المجاورة للفراش. في البداية، ظلت تنظر إلى هناك دون أن ترى أي شيء. كان بريق الأواني الزجاجية، مثل إبريق الماء والأكواب ومنفضة السجائر، يجعل عينيه تستفيقان. لكنه لم يستطع تمييزها، بعضها من بعض. ثم بدأ في بذل قليل من الجهد، ولكنه جهد حثيث حازم، من أجل تمييز بياض إحدى الصحف عن الرخام بشكل جيد. لقد كان ينجح بشكل متزايد، وأخيرًا استطاع أن يرى كل شيء: الإبريق، والكوب، ومنفضة السجائر، وعلبة السجائر، والصحيفة، وفنجان الشاي الممتلئ حتى آخره. وبمجرد رؤيته هذا، لمع بداخله صوت: (اشرب الشاي!)، ثم اختفى. أشباح تكبر وتصغر، تكثر وتقل. كان أحدها يقول: (اشرب الشاي!)، وأحدها يدنو من وجهه مباشرة، وتتسع عيناه دون أن ترمش أبدًا، ويكرر: (سوف تنشرح، اشرب الشاي، اشرب الشاي، سوف تنشرح!). كان يتذكر هذه الأصوات المدوية في أذنه التي بدأت تحيا من جديد. كان يتذكر نغمتها القوية وأسلوبها أكثر من معناها، ولا سيما المقطع: (اش) من هذه الجملة. كان يتذكر هذا الصوت دائمًا، ولا زال، ويتقلص وينكمش في بعض الأحيان مقدار درجتين، ويرن في أذنيه: (اشرب الشاي، اشرب الشاي، اشرب الشاي)».

    «كانوا قد أمروا موظف الفندق: أحضر الشاي إلى غرفته!».

    «اشرب الشاي، الشاي، الشاي، تنشرح، اشرب الشاي».

    «طالت رقبته، وغاصت نظراته في أعماق الشاي البارد الذي يملأ الفنجان حتى آخره، ثم خرجت منها. لكنه أغلق عينيه على الفور. وفجأة، انتابته هزة عنيفة، ورعاش، وغشيت عينه، وتملكه غثيان طمس جسده بالكامل... كان فكه السفلي يرتعد أكثر من أي مكان في جسده. فتح عينيه في خوف، فرأى الشاي البارد مرة أخرى. كان رماد السجائر يطفو على سطحه: ماء أسود أحمر اللون أصاب معدته بالغثيان، كما لو كانت ترسو في قاعه سحلية مفرومة وأشلاء ثعبان. لقد اشمأز تمامًا من هذا الشاي الذي يبرد ببطء، بينما كان يتنفس سم الليل كله، ويغلب عليه التثاؤب والتجشؤ بسبب هواء الليل القذر تمامًا، حتى إنه أراد الوقوف بسرعة في الفراش. ولكن فجأة، ... من فمه».

    أغلقت مُعلَّى الكتاب. كلا، لن تستطيع القراءة! بدايةً، يجب أن يكون بطل الرواية رفيقًا ودودًا يمكن العيش معه. كم يوجد لدى مُعلَّى من الأصدقاء كهذا! لذلك، كانت في كثير من الأحيان تقرأ أعمالًا حقيقية عن حياة الرجال المشهورين، بدلًا من الروايات. كان اسم هذا الكتاب أيضًا يعد بشيء من هذا القبيل: «حياة رجل». حياة ماذا؟! محررٍ؟! من هذا الرجل؟ لا بد أنه محرر تركي. لماذا يتلوى هكذا في فراش أحد الفنادق؟! أواه، لذلك الشاي!

    كانت مُعلَّى قد قرأت كتابًا عن حياة فاغنر في السابق، وهي الآن تبحث في داخلها عن المتعة المتبقية منه. تركت هذا الكتاب من يدها، وتناولت العمل الآخر الذي لم تتركه من جانبها، فتحت الصفحات التي أحبتها، وخطَّطَت حول حوافها.

    انفصال فاغنر عن زوجته، وهو الذي كان ينام بين أحلامه الخانقة، حيث يشعر بلمسات شفاه حارة على جبهته، وهمسة جميلة رائعة. روح فينيسيا العتيقة التي تسكت نهارًا، بينما ليلًا تصدر صوتًا أجشَّ من خلال أغاني الزوارق الآتية من بعيد؛ الجزر النائية المنتشرة هنا وهناك، التي تصطف على خط ممتد.

    أين هي لحظات فاغنر الروحية التي عاشها بينما كان يكتب الفصل الثاني من قصته تريستا؟ أين النجوم التي تسطع في السماء، والبحر الذي من حولي، والماضي؟ وأين المستقبل؟ أرى دائمًا النجوم في ضوء وردي نقي، وكأن قاربي يتلاشى بين الأصوات العذبة من المجاديف.

    لكن الأحلام والخيالات التي أيقظها هذان العملان كانت قد بدأت تختلط، بعضها ببعض: باب أحد الفنادق بين همهمات ليالي فينيسيا؛ الظلال تمتد وتنحسر؛ ثمة صوت حاد في الأغاني المنبعثة من الزوارق يقول: «اشرب الشاي، الشاي، اشرب الشاي!»؛ الماء الأحمر الأسود الذي يطفو عليه رماد السجائر؛ أرى النجوم دائمًا في ضوء وردي صافٍ نقي. أجل، لماذا يتلوى في الفراش بفندق هكذا؟ ومن تكون تلك الظلال؟!

    أمسكت مُعلَّى مرة أخرى بالكتاب المسطور باللغة التركية، وعثرت على الموضع الذي توقفت فيه، وواصلت القراءة:

    «كان يناضل مع تشنج شديد، حيث غرس أظافر إحدى يديه التي على حافة الفراش في رسغ اليد الأخرى. كان جسده طبقتين. كان يخاف من الاستلقاء. كان يظن أنه سيختفي في أعماق المرتبة، إن وضع رأسه على الوسادة مرة أخرى. وقف على قدميه محاولًا الذهاب حتى الصنبور الموجود على بعد ثلاث خطوات منه. في الخطوة الثانية، مد ذراعيه لئلا يسقط على الأرض، وأمسك بحوض الصنبور. كان رأسه يتدلى إلى الأمام، واسودت عيناه في لجة تشنج جديد اشتد عليه فجأة، وتقيأ. لم يعد بإمكانه الوقوف على قدميه، فألقى بنفسه على الفراش. وفي حين كان لا بد من أن يستريح، ازدادت حالته سوءًا. بدأ يفتش اللحاف براحتيه، وفكر: (ليت أحدهم يأتي!). لكنه كان يفهم أن صوته لن يُسمَع من الخارج، وأنه لن يستطيع الصراخ أكثر مهما ضغط على نفسه. خطر بباله الجرس الكهربائي المخصص لاستدعاء الخادم في الفندق».

    «ارتمى على الفراش مُنكبًّا على وجهه. كان يحاول أن يتذكر مكان زر الجرس هذا. رفع رأسه قليلًا. ثمة سلك معلق فوق السرير. هل هذا...؟ رأى مفتاحًا كهربائيًّا حيث أنزل ببطء عينيه إلى نهاية هذا السلك. مدَّ ذراعه إلى تلك الناحية، لكنه كان يفقد تركيزه، وأصابعه لا تستطيع الإمساك بالزر. بذل جهدًا كبيرًا، وأخيرًا ضغط على الزر. ولكن بدلًا من أن يرن الجرس، أنارت كمَّة المصباح الموجود فوق الصوان؛ لم يكن زر الجرس. سقط رأسه مرة أخرى على الوسادة. زر الجرس. الآن، علق كل آماله عليه. الكرة البيضاء الصغيرة في الزر العظمي كانت تتصلب في مخيلته كنقطة مهيمنة مشرقة تطفئ جميع الأحلام الأخرى. أين هو هذا الزر؟ هل يمكن أن يأتي إلى هنا؟ حين أدرك أنه لن يتمكن من العثور على الزر، حيث لم يتذكر مكانه، قرر البحث عنه بعينيه. وكان، من ناحية، يجد الزر من خياله، ويضغط عليه بكل قوته. كان عليه أن يستلقي على ظهره حتى يستطيع استيعاب وإدراك داخل الغرفة بعينيه. التفت ببطء، إذ أدرك أن جسده لم يتحمل الهزات الكبيرة. لكن من الصعب أن يحرك عينيه على جدران الغرفة. حتى الأطفال ينحنون انحناءة صغيرة، مما يجعلهم يُديرون رؤوسهم. اضطر إلى أن يغلق عينيه عدة مرات. فكان يرى في مخيلته دائمًا تلك الكرة الصغيرة البيضاء المشرقة لهذا الزر العظمي».

    «أخيرًا، وعند آخر مرة يفتح فيها عينيه، سقطت عيناه على الجناح الأيمن من باب الغرفة. انحنى إلى اليمين قليلًا، فرأى هناك الدائرة البيضاء الصغيرة للزر العظمي. وكي يستطيع أن يفهم ما إذا كانت هذه هي الحقيقة أم لا، ركز عينيه على النقطة البيضاء من خلال الضغط على دماغه المتحجر كله، وكأنه يريد أن يقطر نقطة من اهتمامه على تلك النقطة البيضاء. ثم تأكد أن المفتاح الكهربائي هناك. مدَّ جسده واسترخى للانقضاض فوق تلك النقطة. كانت المسافة بين السرير والباب تمتد بقدر تزايد خوفه، وتبعُد تلك النقطة البيضاء الصغيرة، وتختفي في الضباب وانقطاع التيار الكهربائي. قرر أن يجرب شيئًا حتى يستطيع الوصول إلى هناك. ودون أن يهز نفسه، دَلَّى إحدى ساقيه من جانب السرير، ثم مد الثانية خلفها. كان يمد إحدى ساقيه ويحاول أن يلمس الأرض. لكنه عندما لمست أصابعه الأرض، انقبضت ساقه بردة فعل عنيفة، وتقلص جسده حيث انثنت ركبتاه. ازداد جسده تقلصًا، وخرج تمامًا عن أوامر إرادته. الخوف من الموت، الذي كان متواريًا مدسوسًا بداخله حتى ذلك الوقت، لفَّ هذه المرة وعيه مثل ومضة باهتة. فكر: (إنني أموت!). كان يشعر أن يديه وقدميه صارت باردة. لكن فكرة (إنني أموت!) هذه جعلته يقفز فجأة من مكانه، فوثب من الفراش دون أن يفكر قط. أدرك أنه لن يستطيع الذهاب، عندما مشى خطوتين نحو الباب، فتشبث بحوض الصنبور ثانية؛ كان يتقيأ مرة أخرى. ورأى ألوانًا حمراء على حوض الصنبور: الدم. كان الدم آتيًا من معدته».

    كانت مُعلَّى كما لو أنها تسمع صوتًا آتيًا من بعيد. لم تسمعه جيدًا؛ كانت الأصوات والخيالات والظلال تتطاير في عينيها في غرفة فندق مظلمة بفعل رياح قوية تهب بشدة.

    كان الصوت الآتي من الخارج يختلط مع الصوت والظلال الموجودة بداخلها أحيانًا، وأحيانًا ينبسط وينقبض مثل لهب مشتِّتًا إياها جميعًا. وكانت تعيش لحظة فهم قصيرة؛ تذكرها ونسيانها سواء. بدأ هذا الصوت يتصاعد تدريجيًّا، وبينما كان في البداية في صورة ضباب يحوم بين أعصاب أذنيها وإدراكها، وشعور خفيف، بدأ ينتفخ ويشتد. كان يقترب ويكبُر. وأخيرًا، قطع كل الأحلام التي تربط مُعلَّى بكتابها:

    - سيدتي مُعلَّى، سيدتي مُعلَّى!

    انتفضت الفتاة فجأة، ورفعت رأسها عن صفحات الكتاب؛ كان الخادم واقفًا عندها يكرر:

    - سيدتي مُعلَّى، الطعام جاهز. لقد استغرقتِ كثيرًا في قراءة الكتاب. تفضلي!

    لم تتحدث مُعلَّى على مائدة العشاء، وما كانت تستطيع تناول الطعام. سألتها أمها التي انتبهت إلى هذا عن شيء يتطلب توضيحًا. امتدت رقبة مُعلَّى إلى الأمام قليلًا، وارتفع حاجباها بحركتين جميلتين. كانت والدتها هي أكثر من يشعر بمعنى العلاقة بين رقبتها وحاجبيها؛ كان هذا تعبيرًا عن عدم رضا مختلط بتوكل. لكن هل كان هذا يأتي إلى مُعلَّى من نفسها أم من والدتها؟ قلقت السيدة لهذا، فسألت:

    - هل أنت مريضة؟

    هذه المرة، أجابت مُعلَّى، إذ وجدت في صوت والدتها درجة كافية من الشفقة أكثر من التهكم:

    - لا، كنت أقرأ كتابًا.

    سألتها أختها الكبرى «ملاحة»:

    - الكتاب الذي أحضره رائف؟

    - أجل.

    - لقد مدحه كثيرًا. كيف هو؟

    أجابت مُعلَّى وهي تفكر في الرجل في تلك الرواية، إذ ما زالت لم تفهم لماذا يتلوى في غرفة في فندق:

    - مثير للاهتمام!

    ثم غمغمت، متذكرةً بعضًا من مظاهر التثاؤب السيئ، والشهقات، والدم، والشاي البارد:

    - لكنه مثير للاشمئزاز.

    وقالت وهي تتذكر أيضًا أحلامًا عديدة، قطعة تلو الأخرى، تقدم فكرة الموت:

    - دائمًا الموت! كلمة «الموت» ترد كثيرًا فيه.

    علا صوت السيدة الأم:

    -

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1