Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

رتق الذاكرة التاريخية
رتق الذاكرة التاريخية
رتق الذاكرة التاريخية
Ebook1,476 pages11 hours

رتق الذاكرة التاريخية

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

مشروع كتاب «رتق الذاكرة التاريخية» يمثل خلاصة منهجية مكثفة لمنعطفات التاريخين العربي والإسلامي منذ القرن السابع الميلادي وحتى الحقبة المعاصرة، و هي خلاصة قام بإعدادها وتحريرها باللغة الإنجليزية الأستاذ الدكتور مصعب قاسم عزاوي، والذي تفضل مشكوراً بتقديم المشروع بكليته هدية مجانية لإدارة دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع في لندن من أجل ترجمته إلى اللغة العربية، وتقديمه بشكل ميسر للقارئ العربي الكريم.

Languageالعربية
PublisherPublishdrive
Release dateNov 28, 2022
رتق الذاكرة التاريخية

Read more from مصعب قاسم عزاوي

Related to رتق الذاكرة التاريخية

Related ebooks

Reviews for رتق الذاكرة التاريخية

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    رتق الذاكرة التاريخية - مصعب قاسم عزاوي

    الجزء الأول

    تبوء المسلمين لقمة السلطة العباسية

    الشرق الأوسط قبل بزوغ الإسلام

    إذا كان من الممكن تعريف التاريخ بأنه ما جرى تسجيله عن ماضي الإنسانية، فسيكون من الممكن القول أن الشرق الأوسط يحظى بتاريخ زاخر أكثر من أي جزء آخر على مستوى العالم. ففي حين أن الأنواع البشرية في العموم قد ترجع نشأتها إلى قارة إفريقيا، إلا أن مظاهر التقدم الحضاري للبشرية حدثت بشكل رئيسي في الشرق الأوسط؛ حيث أنه في الشرق الأوسط بدأت زراعة معظم المحاصيل الغذائية الأساسية، كما جرى تربية معظم حيوانات المزرعة لأول مرة، ونشأت أقدم القرى الزراعية. كما شُيّدت في هذا المكان أيضاً أقدم مدن العالم والحكومات الأولى وظهرت باكورة النظم الدينية والقانونية. ومنْ ثَمَّ، فقد كانت عملية الكتابة والتدوين وحفظ السجلات كلها اختراعات شرق أوسطية بالأساس، ويمكن القول أن بدون الكتابة، كان لا يمكن تصور التاريخ كما هو مفهوم الآن بشكل عام.

    البيئة

    خلال العشرة آلاف سنة التي سبقت تاريخ ميلاد المسيح، استطاعت شعوب الشرق الأوسط تطوير مهارات مختلفة من أجل التعايش مع بيئتها الصعبة؛ وكانوا في الغرب يميلون إلى النظر إلى الشرق الأوسط على أنه مجرد امتدادات من الكثبان الرملية والصحاري مع وجود القليل من الواحات المتناثرة هنا وهناك، ووفقاً لهذه الصورة عن الشرق الأوسط سواء كانت الصورة الذهنية لدى البعض أو حتى إذا كانت صورة تعود لوصفٍ مكتوبٍ، فإن الجِمال (الإبل) هي الحيوانات الوحيدة التي تستطيع تحمل الحرارة التي لا تطاق في تلك الصحاري الشاسعة. وعلى الرغم من أن هذه الصورة قد تكون صحيحةً بالنسبة إلى أجزاء كثيرة من المنطقة، إلا أن الشرق الأوسط يعكس نظاماً بيئياً معقداً للغاية؛ حيث أظهر السكان والنباتات والحيوانات تكيف كبير مع التغيرات المناخية وحالات الجفاف الشديد، واستطاعوا النجاة من الأزمات البيئية التي امتدت لفترات زمنية طويلة.

    مع ازدياد جفاف المرتفعات والعطش الشديد، تعلم سكان هذه المناطق الاستفادة من الأنهار الكبرى بهدف زراعة المزيد من المحاصيل؛ حيث من ناحية، شكلت أنظمة المياه السطحية والجوفية إلى حد كبير غالبية خصائص ومظاهر البيئة الطبيعية للشرق الأوسط. كما أنه من ناحية أخرى، فقد نجح السكان في منطقة الشرق الأوسط في السيطرة على تدفق الأنهار الكبرى في هذه المنطقة مثل: النيل ودجلة والفرات والأردن، بل أنهم شيدوا السدود والمجاري المائية (الترع)، وكذلك قنوات المياه الجوفية (التي تسمى القنوات). وبذلك، فقد وضعوا حجر الأساس لإقامة نظام زراعي متطور.

    وجدير بالذكر، أن منطقة الشرق الأوسط كانت من أوائل المناطق التي تحول فيها نشاط البشر واستراتيجيات بقائهم من حرف مثل الصيد وجمع الثمار إلى حرفة الزراعة للاستهلاك المعيشي وعرفوا عن طريق الزراعة حياة الاستقرار؛ حيث قام السكان في هذه المنطقة باستئناس الحيوانات مثل الحمير والأبقار والاستعانة بها من أجل حمل أثقالهم ومتاعهم والمشاركة في الأعمال الزراعية التي يؤديها هؤلاء السكان، وقاموا ببناء أفران حارة بما يكفي لتشكيل الأواني الفخارية من الطين (الصلصال). كما صمموا أدوات وأسلحة من معدن البرونز. وفي وقت لاحق، طوّروا المزيد من الأدوات والأسلحة من الحديد المطروق. وعلى صعيد الحضارة المكتوبة، كانوا من أول من ابتكر أبجديات مناسبة من أجل إرسال الرسائل وحفظ السجلات على ألواحٍ خزفية (مصنوعة من الطين) أو كتابتها على لفات من أوراق نبات البردي، كما أنهم شكلوا طوائف وتعارفوا على طقوسٍ، ومن خلال هذه الطوائف والطقوس عبروا عن المعتقدات التي أعطت معنى لحياتهم.

    قدمت الحضارة السومرية القديمة في جنوب بلاد الرافدين (بلاد ما بين النهرين) واحدة من أقدم الأمثلة على الزراعة المعتمدة على الري والتي أدت إلى نمو عدد السكان واستقرارهم في هذه المناطق. في حين أنه من ناحية أخرى، أدى ارتفاع الكثافة السكانية والإفراط في استخدام الأراضي الزراعية إلى تملح التربة، وهو ما تسبب في سقوط الحضارة السومرية في وقت لاحق. وشكلت عمليات تطوير قنوات الري والتي كانت سبباً في المحافظة على نمو المجتمعات الكبيرة واستقرارها المحور الذي ترتكز عليه الأساليب البيئية للحضارة السومرية والحضارات الشرق أوسطية الأخرى. ومنْ ثَمَّ، يمكن القول أنه يمكن اعتبار أن مثل هذه الأنظمة الزراعة التي تعتمد على الري كانت هي عوامل ازدهار الحضارات ولكنها قد يمكن اعتبارها في بعض الأحيان الأخرى السبب أيضاً وراء زوال بعض هذه الحضارات.

    ويصف الجغرافي العربي ياقوت الحموي في كتابة معجم البلدان سد مأرب العظيم الترابي وهو سد مائي قديم في بلاد اليمن قائلاً:

    «تتجمع المياه من الينابيع ... وتتجمع خلف السد مثل مياه البحر، فكان الأوائل وقتما أرادوا ري محاصيلهم، فتحوا بوابات محكمة من ذلك بقدر حاجتهم، فيستخدمون ما يكفيهم من مياه لسقي الزرع، ثم يسدون البوابات مرة أخرى متى أرادوا ذلك.»

    يقع سد مأرب بالقرب من مدينة صنعاء، وهي عاصمة دولة اليمن في عصرنا الحالي. ويُعرف هذا السد بأنه أقدم سد في العالم، وقد شيده السبئيون القدماء (سكان مملكة سبأ) من أجل تجميع مياه الأمطار الموسمية اللازمة لأغراض الري. وهكذا، بحلول الوقت الذي ولد فيه محمد، كانت شعوب اليمن وجنوب شبه الجزيرة العربية - على عكس باقي معظم شبه الجزيرة العربية - قد طوروا أنظمة للزراعة تعتمد على قنوات الري التي تتغذى من هذا السد وما يرتبط به من شبكات ومجاري مائية.

    وتُعد القنوات عبارة عن سلسلة من الآبار المتصلة بواسطة نفق جوفي يوجه المياه إلى سطح الأرض، فتتدفق المياه من البئر الجبلي الأصلي المرتفع الذي يصل إلى مستودع مياه جوفية أسفل المنحدر السهل لسلسلة من الآبار، ثم ينتهي على شكل نبعٍ في مستوى سطح القرية أو الأراضي الزراعية. فتسمح هذه الآبار أو مجاريها بالوصول السهل للمياه والتخلص من الطمي الموجود في الأنفاق الخاصة بالقنوات المائية. لذلك، فقد جرى تطوير هذه القنوات - بوصفها نظام مستخدم للري وتجميع المياه من أجل الزراعة - بداية من بلاد فارس خلال الألفية الأولى قبل الميلاد، ثم تلى ذلك أن انتشرت في جميع أنحاء الشرق الأوسط. ومثال آخر، فقد اعتمد الأشوريون على القنوات كمصدر لمياه الشرب، وكانت العاصمة برسيبوليس (تخت جمشيد) تُروى في الغالب بواسطة مياه القنوات. ثم، انتشرت تكنولوجيا استخدام قنوات الري في أماكن أخرى خارج الهضبة الإيرانية، وبخاصةٍ أثناء حكم الإمبراطورية الأخمينية؛ حيث سمحوا لمن يحفرون القنوات بالاستفادة من الإيرادات الناتجة عن حفرها. ونتج عن انتشار القنوات، أن استقرت المزيد من التجمعات السكانية الجديدة تزامناً مع حفر قنوات مياه إضافية في جميع أنحاء المنطقة، وشمل ذلك مناطق مثل ساحل البحر المتوسط وبلاد شبه الجزيرة العربية وسوريا وعُمان. بينما من ناحية الشرق، انتشر نظام قنوات الري مروراً بواحات بلاد آسيا الوسطى على طريق الحرير وصولاً إلى مدينة شينجيانغ (سنجان) الصينية. ثم بعد ذلك، بمجرد أن ظهر الإسلام وانتشر على مستوى الشرق الأوسط، جرى إدخال نظام قنوات الري في واحات شمال إفريقيا وإسبانيا.

    ومن الأهمية بمكان توضيح أنه نتيجة للطبيعة القاحلة في منطقة الشرق الأوسط، أصبح نظام قنوات الري يُشكل خياراً أساسياً لإدارة المياه حتى قبل ظهور الإسلام؛ حيث أن هذا النظام وعلى عكس تقنيات ضخ المياه يُشكل من خلال استخدام القنوات وسيلة موثوقة للغاية توفر نظام مستدام من استخدام الموارد المائية النادرة؛ لأنها تتيح استمرار تدفق المياه دون أن يجف مستودع المياه الجوفية. حافظت فئة من الحفارين المهرة الذين توارثوا هذه المهنة على شق مثل هذه القنوات، وكانوا ينتقلون من مكان إلى آخر لتنفيذ قنوات أخرى جديدة. وفي الأماكن التي ينعدم فيها وجود الأنهار، كانت هذه الطريقة في توزيع المياه هي الوسيلة التي من شأنها تيسير السكنى والاستقرار في جميع أنحاء الشرق الأوسط؛ حيث استوعبت هذه المنطقة سكاناً من الميديين والفرس القادمين من الشمال والغزاة الساميين المتعاقبين الوافدين من الجزيرة العربية، وقد خضعوا إلى الإسكندر الأكبر وجيشه المقدوني في القرن الرابع قبل الميلاد، ولكن سرعان ما اندمجوا ضمن نسيج ثقافاتهم. وأخيراً، في القرن الأخير الذي سبق ظهور المسيح، دخلت الأراضي الواقعة شرق وجنوب البحر الأبيض المتوسط ضمن حدود الإمبراطورية الرومانية.

    إمبراطورتي الفرس والروم

    سطر تاريخ الإمبراطوريتيْن العظيمتيْن اللتيْن برزا مع بداية العمل بالتقويم الميلادي، ونقصد تحديداً إمبراطورتي الفرس والروم؛ العديد من الصفحات من كتب أسلافهم الإمبرياليين؛ ففي خلال حقبة السلالة الأخمينية ( في الفترة الزمنية من 550 إلى 330 قبل الميلاد)، امتد نفوذ إمبراطورية الفرس والتي كانت موجودة في المنطقة التي نسميها إيران الآن لتحكم مجموعات عرقية ودينية مختلفة على أراضٍ متسعة تمتد من نهر السند إلى نهر النيل، واتبع بعض الملوك والنبلاء – وليس كلهم - دين زرادشت (الديانة الزرداشتية / المجوسية)، الذي عاش حوالي في القرن الحادي عشر قبل الميلاد؛ وهو الذى دعا إلى وجود إله واحد أسمى هو «أهورامزدا» (الرب الحكيم)، خالق العوالم المادية والروحية، ومصدر كلٍ من الظلمات والنور، مؤسس النظام الأخلاقي، مُشرع القوانين، والحاكم بين جميع الكائنات. وتمثلت القوة المقابلة في إلهٍ للشر اسمه «آهرمان»، إله الظلام والفوضى. وعلى الرغم من أن زرادشت تنبأ بأن إله الخير «أهورامزدا» سيفوز في نهاية الأمر بهذا الصراع الكوني، اعتبر أن البشر جميعاً أحراراً في الاختيار بين الخير والشر، وبين النور والظلمات، وبين الحقيقة والكذب. عظم الزرادشتيون من شأن قوى النور، فكانت معابد النَّار عندهم هي مراكز العبادة والتقديس والتي كان يحكمها طبقة كهنوتية كبيرة وعالية الشأن. جذبت الديانة الزرادشتية الفرس أصحاب الأنساب العريقة بشكل رئيسي وليس العامة العاديين أو إلى الشعوب الأخرى التي تخضع تحت حكمهم. أما بالنسبة للملوك الأخمينيين فكانوا يتسمون بالتسامح مع المعتقدات الأخرى والممارسات المتنوعة لرعاياهم، طالما أن هؤلاء الرعايا يخضعون للقوانين ويدفعون ضرائبهم ويرسلون أبنائهم إلى الجيش الفارسي. وبذلك يتضح أن هذه الإمبراطورية أسست للنمط أو النموذج الذي اتبعته معظم - وليست كل - الدول التي تتكون من سلالات متعددة الثقافات والتي يرجع نشأتها إلى العصور القديمة. عندما هزم الإسكندر الأكبر الأخمينيين واستحوذ على إمبراطوريتهم ضمن إمبراطوريته الخاصة، كان يأمل في دمج الطرائق الهيلينية (اليونانية) مع ثقافة الشرق الأوسط؛ حيث استطاع صهر العديد من الأفكار والكيانات والحكام من المصريين والسوريين وبلاد ما بين الرافدين والفرس في بوطقة عالمه المترامي الأطراف ولكن هذا العالم كان قصيراً من حيث الأمد الزمني.

    واستمر الاندماج الثقافي إلى وقتٍ لاحقٍ، عندما حكمت الإمبراطورية الرومانية الشرق الأوسط؛ حيث أنها عندما وحدت تحت نفوذها جميع شعوب العالم المتوسطي، استطاعت الإمبراطورية الرومانية إنعاش التجارة وإحداث تبادل واندماج بين الشعوب بما لها من مأثورات شعبية سائدة. ومن ذلك على سبيل المثال، فقد انتشرت العديد من الديانات الشرق أوسطية والطوائف/ العبادات الغامضة بين الرومان، بما في ذلك الديانة الميثرائية/ الميثراسية، وهي طائفة بدأت في بلاد فارس وجذبت العديد من الجنود الرومان. والديانة المسيحية، وهي في الأصل طائفة يهودية قام بولس والرسل/تلاميذ المسيح (الحواريون) بنشر تعاليمها وتوسيع قاعدة متبعيها ومؤيديها؛ حيث عاش معظم آباء الكنيسة الأوائل في الأناضول وسوريا ومصر وشمال إفريقيا. ومنْ ثَمَّ، فقد شهدت هذه المناطق - والتي أصبحت فيما بعد قلب العالم الإسلامي - أول تطور لمعظم المذاهب المسيحية ومؤسساتها الدينية. وبحلول أواخر القرن الثالث، سادت الديانة المسيحية في شرق البحر الأبيض المتوسط (ولكن كانت الإمبراطورية الرومانية الحاكمة لا تزال تمنعها وتحرمها بشكل رسمي في البلاد)؛ فقد كانت الديانة المسيحية لها جاذبيتها – وبخاصة إذا قورنت بالمعتقدات والمذاهب الأخرى- وهذه الجاذبية تعود بشكل جزئي إلى نجاح المسيحية في تبني عدة جوانب مثيرة للاهتمام معاً من المعتقدات التي سبقتها؛ فعلى سبيل المثال، كان من الممكن للمصريين الربط بين المسيح القائم المبعوث وبين الإله أوزوريس، وهو أحد الآلهة المصرية القديمة الذي يعتقدون أنه قد مات ثم بُعث مرة أخرى.

    عندما اِعْتَنَقَ إمبراطور روما قسطنطين الأول (الذي حكم في الفترة من 313 إلى 337م) الدين المسيحي وأصبح مسيحياً اسمياً، غيّر بذلك مجرى التاريخ، في كل من الشرق الأوسط والغرب؛ حيث أدى ذلك إلى أن أصبحت روما إمبراطورية مسيحية، وأمر الإمبراطور قسطنطين ببناء عاصمة جديدة، وحدد لها موقع استراتيجي على المضيق الذي يربط البحر الأسود ببحر إيجة، وأطلق على هذه العاصمة الجديدة اسم «نوفا روما» (أي روما الجديدة)، لكن سكانها أطلقوا عليها اسم القسطنطينية فيما بعد نسبة إلى مؤسسها. بينما ظل اسمها الأقدم بيزنطة مستخدماً في لغة المؤرخين الذين يطلقون على دولته «الجديدة» الإمبراطورية البيزنطية. ولكن في واقع الأمر، يمكنك ببساطة أن نشير إليها بـ «روما» فحسب. وذلك تماماً كما درج العامة في القرن الرابع على تسميتها بهذا الاسم واستمر هذا النهج بعد ذلك بوقت طويل. بل أنه حتى وقتنا الحاضر، عندما يتحدث العرب والفرس والأتراك عن الروم، فإنهم يقصدون في حقيقة الأمر ما يُطلق عليه الإمبراطورية البيزنطية، وما شملته من أراضي (وبخاصةٍ الأناضول)، أو المؤمنين بدينها، ألا وهي المسيحية الأرثوذكسية اليونانية. وكانت روما بعيدة عن المدينة الإيطالية الموجودة على ضفاف نهر التيبر. وتجدر الإشارة إلى أن الفكرة الرومانية القديمة للإمبراطورية العالمية والتي تتسم بتعدد الثقافات بقت واستمرت في هذا الشكل المسيحي والبيزنطي، وهي نفس الفكرة التي سيتبناها في وقت لاحق العرب والمسلمون الآخرون بل وسيجعلونها موائمةً ومتماشيةً مع إمبراطورياتهم الخاصة.

    كما استفادت بعض شعوب الشرق الأوسط من الحكم الروماني؛ حيث ازدهرت مدنهم التجارية والصناعية، كما حدث في فترات سابقة. وعاد ذلك بالثراء على التجار اليونانيين والسوريين والمصريين على إثر حركة تجارتهم النشطة بين أوروبا وآسيا وشرق أفريقيا، كما كان العرب البدو الرحل على ظهور الجمال، يحملون القماش والتوابل (وكذلك الذهب ونبات المر واللبان العطري الذي يستخدم كبخورٍ) وينقلون هذه البضائع عبر الصحاري، أو كان بعض الشرق أوسطيين الآخرين يبحرون عبر البحر الأحمر والخليج والمحيط الهندي إلى أراضي الشرق الأقصى شرقاً. ومن الأهمية بمكان توضيح أن الأطلال الباقية في المواقع الأثرية ليبتيس ماجنا/ لبدة الكبرى (ليبيا) وجرش (الأردن) وبعلبك (لبنان) تشير إلى آثار عظمة وبهاء إمبراطورية الروم في الشرق الأوسط.

    في حين أنه على صعيد آخر، كان هناك جانباً أكثر قتامةً للسيادة الرومانية في المنطقة؛ حيث جرى فرض الضرائب الباهظة على سوريا ومصر – باعتبارهما مخازن الحبوب في العالم القديم – من أجل دعم الجيوش المحتلة الكبيرة والبيروقراطية المتشددة المستحكمة على رأس السلطة في روما والقسطنطينية. لذلك، لم يتمكن الفلاحون من سداد هذه الضرائب الباهظة، وفروا إلى المدن هرباً من دفع الضرائب، ولكنهم لم يتمكنوا من العثور على عمل هناك، فانضموا بدلاً من ذلك إلى حشود بلا جذور ممن كانوا في غالب الأمر يقومون بأعمال شغب بسبب المشكلات الاجتماعية أو الدينية. ففي حين أنه من حيث المبدأ سادت سمة التسامح الحضاري لمعتقدات وعادات الآخرين بين الأرستقراطيين الرومانيين؛ إلا أنه وكما هو معروف أن قبل وقت طويل لاعتناق روما للمسيحية كان الأمر مختلفاً؛ فعلى سبيل المثال، قد حاول جنود الإمبراطورية الرومانية قمع تمرد يهودي بتدمير الهيكل الثاني في القدس، وجرى تعذيب أو قتل العديد من الأتباع الأوائل للديانة المسيحية عندما رفضوا عبادة الإمبراطور الروماني.

    كما يمكن القول أنه حتى بعد اعتراف روما بالمسيحية فإنها ضربت أمثالاً على عدم التسامح؛ حيث أدى انتصار الديانة المسيحية وانتشارها إلى بذوخ التيار الرئيسي للفلسفة الهلنستية (الفلسفة المتأثرة باليونان)، وتلى ذلك أزمات عقائدية كبرى؛ حيث اعترض المسيحيون على الطبيعة الدقيقة للمسيح والتي قد يكون من الصعب فهم النقاط الخلافية المتعلقة بها في الوقت الحاضر، بل أنها قد توقع المسيحيين أنفسهم في حيرة من أمرهم، وكذلك كل من هم سواهم. دعونا نحاول إلقاء بعض الضوء على هذه القضية؛ يكمن جوهر المسيحية – أي ما يميزها عن اليهودية والإسلام والديانات التوحيدية الأخرى (التي تؤمن بعبادة الله الواحد) – في تعاليمها بأن الله بدافع من محبته للإنسانية الخطاءة في كثير من الأحيان، أرسل ابنه يسوع ليعيش على الأرض بين الرجال والنساء وليكون هو مخلصهم من خطاياهم وآثامهم بالمعاناة وعن طريق موته مصلوباً على الصليب. لذلك، فوفقاً لهذه العقيدة، إذا كنت تأمل أن تتحد مع الله في العالم الآخر بعد موتك، فيجب عليك أن تقبل يسوع كالمسيح (باليونانية «المُبارك» أو «المسيح») وكمخلص شخصي لك. ومنْ ثَمَّ، نتيجة لهذا الدور الجوهري للمسيح كوسيط بين الله والإنسانية، وقع المسيحيون الأوائل في العديد من الخلافات حول طبيعته.

    الطوائف المسيحية المنشقة

    اعتقدت إحدى الطوائف المسيحية المتمثلة في مذهب الآريوسية، والتي نشأت في أوائل القرن الرابع، أن المسيح على الرغم من رسالته السماوية ووجوديته، فإنه لا يزال بشراً لا يعادل الله. ونشأ عن ذلك أن جادل معارضي مذهب الآريوسية، بأنه إذا كان المسيح مجرد إنسان، فإن صلبه وموته وقيامته لا يمكن أن يخلصوا البشرية، ونالوا قبول الكنيسة لألوهية المسيح في مجمع عُقد في نيقية عام 325 م (التقويم الميلاديCE). ثم، أعتبر هذا المذهب شكل من أشكال الهرطقة (حيث أنه اعتقاد يخالف عقيدة الكنيسة)، وواجه أتباع هذه الطائفة اضطهاداً شديداً كما لو أنهم كانوا قد خانوا الإمبراطورية الرومانية. ومع ذلك، قبل معظم المسيحيين الثالوث الإلهي؛ المتمثل في الأب والابن والروح القدس. فهل كان المسيح حقاً إلهً؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل يقبل المسيحيون قصص الإنجيل عن حمل والدته له وولادته ومعموديته ورسالته ومعاناته، والتي تعتبر جميعها سمات بشرية بشكل أساسي؟

    كما نشأت في أنطاكية مدرسة للاهوتيين (علماء الدين) تسمى مذهب النسطورية؛ وهو اعتقاد بأن المسيح مكون من جوهريْن يعبر عنهما بالطبيعتيْن ويتمثلان في جوهر إلهي وجوهر إنساني، ويرتبطان ببعضهما البعض بشكل لا ينفصل. أدان مجلس الكنيسة في أفسس هذا الرأي في عام 430م، وبعد ذلك حاول الإمبراطور والكنيسة الأرثوذكسية قمع الطائفة النسطورية في جميع أنحاء الإمبراطورية البيزنطية؛ لذلك، لجأ العديد من أتباع النسطورية إلى بلاد فارس، ووجدوا فيها ملاذاً لهم. ثم، أرسلوا مبشرين إلى آسيا الوسطى والهند والصين وحتى جنوب فرنسا. وعلى النقيض من المذهب السابق، اعتقد أتباع مذهب المونوفيزية أو الطبيعة الواحدة أن المسيح احتوى داخل شخصه على طبيعة إلهية واحدة بالكامل. وتمركز هذا المذهب في الإسكندرية، وأصبح هناك أتباع لهذه الطائفة في جميع أنحاء مصر وسوريا وأرمينيا (مملكة مستقلة في شرق الأناضول). وأطلق المونوفيزيون المصريون على أنفسهم الأقباط، بينما أطلق السوريون على أنفسهم مسمى اليعقوبيين. ولا تزال كنائسهم (بالإضافة إلى الكنيسة الأرمينية) باقية إلى الوقت الحاضر. وفي عام 451، أعلن غالبية الأساقفة الأرثوذكس، الذين اجتمعوا في مجمع خلقيدونيا أن أتباع مذهب المونوفيزية يعتبرون ذنادقة (أصحاب بدع)، مثلهم مثل أتباع مذهبي الآريوسية والنسطورية. في حين، ابتكرت الكنيسة الأرثوذكسية صيغة توافقية؛ وتتمثل هذه الصيغة في أن المسيح المخلص كان إلهًا كاملاً وإنساناً مثالياً، وبذلك جرى الجمع بين طبيعتيه على الرغم من انفصالهما في شخص واحد ليسوع المسيح. وجدير بالذكر، أنه كان كلما أيد الإمبراطور البيزنطي الصيغة التي أجمعوا عليها في مجمع خلقيدونيا، كان الأساقفة الأرثوذكس يستخدمون سلطتهم لقمع المصريين والسوريين الذين رفضوا التخلي عن إتباع مذهب (بدعة) المونوفيزية أو النسطورية. ومنْ ثَّم، أدت مثل هذه السياسات إلى ظهور معارضين ضد القسطنطينية وأصبحوا منشقين عنها، وهو ما سييسر في وقت لاحق دخول الفتوحات العربية وقبول الإسلام بدلاً عن المسيحية كديانة يعتنقها السواد الأعظم في منطقة الشرق الأوسط.

    الفرس المنافس التاريخي للروم

    لم تستطع الإمبراطورية الرومانية أن تستحوذ منفردةً قط على منطقة الشرق الأوسط؛ حيث كان هناك دائماً دولة منافسة لها على مر التاريخ، ألا وهي إمبراطورية الفرس والتي اتسعت لتشمل ليس فقط إيران (في عصرنا الحالي)، بل أيضاً تضمنت ما نسميه الآن دولة العراق (بلاد ما بين الرافدين في الماضي)، وإضافة إلى ذلك، امتدت دولة الفرس إلى أراضي أبعد شرقاً، مثل أفغانستان وباكستان وآسيا الوسطى (كما نسميهم في الوقت الحالي). وبفضل وجود السلاسل الجبلية في هذه المناطق مثل: جبال زاغروس في أراضي شمال الخليج، وجبال إلبُرز جنوب بحر قزوين، ومرتفعات خراسان، فقد أدت إلى توفير ما يكفي من الأمطار والثلوج لتغذية مئات القرى الزراعية الواقعة على جانب التل. تفوَّق الفرس على الروم في تقنيات صب البرونز وسبك الحديد وتشكيله. وتجدر الإشارة إلى نبوغ الفرس من الناحية المعمارية، حتى أنه جرى تبنى الزخارف المعمارية الفارسية على مستوى كل من الشرق والغرب؛ ومنها على سيبل المثال، القباب المثبتة على حنية مقرنصة (قوس حامل للقبة مثبت على زوايا الجدران المقوى)، والفناءات أو الساحات المظللة، والجداريات الضخمة.

    حكم البارثيون (الإمبراطورية الفرثية/ الإمبراطورية الأرسكيدية) بلاد الفرس في الفترة الزمنية التي امتدت من عام 250 قبل الميلاد إلى عام 224 م، وهذه السلالة لم تُفهم بشكل جيد؛ حيث استمدت القصص المكتوبة الخاصة بهم من خصوم لهم؛ سواء الرومان الذين لم يتمكنوا من إخضاع البارثيين، أو من الساسانيين أو السلالة الفارسية التي حلت محلهم. لذلك، فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن نتوقع أن يكون مثل هذيْن المصدريْن متعاطفيْن معهم فيما نقلوه عنهم من قصص. في حين أنه من ناحية أخرى، فإن الحفريات الأثرية أثبتت أن البارثيين الذين كانوا بارعين في الصيد وهم يمتطون ظهور الخيل، شاركوا المهندسين المعماريين والحرفيين، كما أنهم حافظوا على الثقافة الفارسية والديانة الزرادشتية، وكان ذلك في نفس الوقت الذي رحبوا فيه بوجود البوذيين واليهود داخل بلادهم.

    وفي العادة، يُنسب فضل إحياء بلاد فارس إلى خلفائهم أو السلالة الساسانية؛ حيث استطاعوا السيطرة على إمبراطورية مترامية الأطراف في الفترة ما بين القرنين الثالث والسابع الميلادي (كما هو موضح في خريطة الإمبراطورية البيزنطية والساسانية الواردة لاحقاً). كما أنهم اعتبروا الزرادشتية الدين الرسمي لدولتهم، وأسسوا إدارة قوية ومركزية. وجدير بالذكر، أن الساسانيين الأوائل قد أرسلوا علماء إلى العديد من الدول الأخرى لجمع الكتب، التي تُرجمت إلى لغة بهلوي (اللغة الفارسية الوسطى)، من أجل تناولها بالدراسة وجمع المعارف التقليدية سواء العلمية أو التقنية. وعلى جانب آخر، فقد انجذب العديد من العلماء الأجانب إلى بلاد فارس؛ لما أظهرته من مظاهرٍ لإمبراطورية متسامحة يمكن للمسيحيين النسطوريين واليهود والبوذيين أن يمارسوا طقوسهم الدينية وعبادتهم بحرية، كما استطاعوا القيام بأعمال التبشير (الدعوة إلى دياناتهم). ومنْ ثَمَّ، هرب الكثيرون منهم من الإمبراطورية البيزنطية المتعصبة في القرن الخامس، ووجدوا (مثل أتباع مذهب النسطورية المتعصبون) ملاذاً لهم في مدرسة جنديسابور الأسطورية في بلاد فارس، والتي اُعتبرت مركزاً للحفاظ على الثقافة الهلنستية، أو في واقع الأمر، مركزاً للتراث الإنساني للعالم القديم بأكمله. لذلك، فلقد توافد إليها العلماء والطلاب من جميع أنحاء أوروبا وآسيا من أجل تدارس العلم والمعرفة، دون أن يمثل التحيز العنصري أو العقيدة الدينية أو القيود السياسية أي حائل أمامهم لتحقيق غايتهم.

    اتسع نطاق نفوذ بلاد فارس، وفي حين أن الانجذاب إلى الديانة الزرادشتية اقتصر بشكل رئيسي على الفرس أنفسهم فحسب، إلا أن هذه الديانة انبثق عنها مذهباً ثنائياً أكثر شعبيةً يطلق عليه المانوية، وانتشر هذا المذهب في جميع أنحاء أوروبا وآسيا خلال العصر الساساني. وفي نفس الوقت، وعلى جانب ثقافي آخر، أثر الفن الفارسي على الهندسة المعمارية والنحت والرسم وحتى على تصميمات المجوهرات والمنسوجات، واتسع هذا التأثير ليشمل من أوروبا في الغرب إلى الصين في الشرق. وتميزت مدينة قطسيفون أو طيسفون - التي كانت عاصمةً للدولة الساسانية وكانت موجودة جنوب ما يعرف ببغداد في عصرنا الحاضر - بمباني ذات قبابٍ أعلى وأوسع من أي مبنى يمكن العثور عليه في نطاق الإمبراطورية الرومانية. ولم يكن أمراً مثيراً للدهشة أو العجب، أن استطاعت هذه المملكة التي على درجة عالية من الثقافة تحدي الرومان وخلفائهم من البيزنطيين؛ حيث أنه بمساعدة حلفائها من البدو في شبه الجزيرة العربية، تمكن الجنود الفرس من الاستحواذ على سوريا وفلسطين ومصر في أوائل القرن السابع، إلا أن تبوأ إمبراطورية الفرس لهذه القمة لن يظل لمدة طويلة.

    خريطة حدود الإمبراطورية البيزنطية والساسانية في حوالي عام 600

    نشأة الـعرب

    لم يكن الفرس هم من استطاعوا إنهاء العصر الهلنستي في الشرق الأوسط، بل كان حلفائهم العرب المسئولين عن ذلك. كيف بدأ العرب؟ إن مرحلة استئناس الإبل تُعد عملية بطيئة بدأت منذ ما يقرب من عام 3000 قبل الميلاد؛ وهو ما مكّن مجموعات من البشر من عبور مساحات الصحاري الشاسعة في شبه الجزيرة العربية وشرق بلاد فارس، حتى وصلوا في النهاية إلى شمال إفريقيا. يشتهر الجمل العربي، أو الجمل ذو السنام الواحد، بقدرته على السفر لأيام عبر مسافات شاسعة دون أن يحتاج إلى شرب الماء؛ وذلك نظراً لقدرته على الشرب التي تبلغ 53 غالوناً (200 لتر) في ثلاث دقائق، ثم يحتفظ بالسوائل بعد شربها وينظم استهلاكه لها، كما أن الجمال لديها ذاكرة قوية لعيون المياه الموجودة في الصحراء. وعند مقارنة الجمال بالنسبة إلى الحيوانات الأخرى، يتضح أن الجمل يفقد القليل من الماء من خلال عمليات التعرق وتبخر الماء من أنسجة الجلد والتبول. كما أن أقدام الإبل المُهيئة ذات البطانة والشعر القصير ونسبة سطح جلده العالية بالنسبة إلى كتلة الجسم، جميع هذه الخصائص الحيوية تساعد الجمل على تحمل الحرارة الشديدة، ويمكن أن تعيش الإبل على النباتات الشائكة والأعشاب الجافة التي لا تستطيع الحيوانات الأخرى هضمها. وجدير بالذكر، أن الجمال تخزن الدهون – ولا تخزن الماء - في سنامها كمخزون لغذائها عند ندرة الطعام. وقد كان أول من استأنس الإبل وقام بتربية الجمال - ربما في أول الأمر من أجل الطعام ثم بعد ذلك كوسيلة للتنقل – هم العرب. ولا يمكن التأكد بشأن من أين آتى العرب؛ ولكن تشير المأثورات الشعبية إلى أنهم أحفاد إسماعيل، نجل إبراهيم الذي تزوج جاريته المصرية هاجر. ويعتقد العلماء أن العرب لديهم صلة قرابة بأجداد الشعوب الأخرى التي تتحدث اللغات السامية، مثل العبرانيون (اليهود) والآشوريون (المسيحيون) والآراميون، الذين كانوا قد استقروا جميعهم في الهلال الخصيب (سوريا وبلاد الرافدين). في العصور القديمة، عندما تجاوز عدد السكان الذين يعيشون في هذه المنطقة على سبل العيش في مناطق اعتادت أن تكون غنية بالموارد مثل الهلال الخصيب، أصبحت بعض الجماعات ترعى الأغنام والماعز في أراضٍ لا يمكن أن تنمو فيها المحاصيل؛ ومنْ ثَمَّ، غامر عدد قليل منهم بالارتحال بعيداً وتنقلوا من واحة صحراوية إلى أخرى (أو ما بين أعلى وأسفل الجبال) للعثور على المياه والنباتات الموسمية من أجل قطعانهم. ويمكن القول أن العرب الذين أتقنوا تربية الجمال (الإبل) كان باستطاعتهم الترحال إلى أراضٍ أكثر بعداً عما كان يمكن للفلاحين أو للرعاة أو لجامعي الضرائب أن يرتحلوا.

    الظروف الطبيعية في شبه الجزيرة العربية

    كانت شبه الجزيرة العربية بمثابة مكانٍ مقفر ومجرد من الأنهار والبحيرات، وكانت معزولة من البر والبحر عن الجميع، ولا يصلها إلا أشجع الغزاة. وتمثل الاستثناء الوحيد عن ذلك في المنطقة الجنوبية الجبلية، ألا وهي بلاد اليمن التي سنناقشها لاحقاً. ومن النادر أن تؤدي الرياح الغربية السائدة من البحر الأبيض المتوسط - والتي تحمل الأمطار الشتوية إلى بلاد سوريا والأناضول – إلى جلب الرطوبة إلى المناطق الجنوبية مثل شبه الجزيرة العربية. ومن ناحية أخرى، يمكن بين الحين والآخر أن تحدث عاصفة هوجاء تؤدي إلى نزول الفيضانات التي تتساقط عبر الوديان الجافة، ولكن معظم المياه تنفد بسبب صعوبة امتصاص الأراضي الصلبة لها. في حين أنه لحسن الحظ، تصل المياه الجوفية إلى السطح عبر الينابيع والآبار ومناطق الواحات حيث تزدهر أشجار النخيل. دأب العرب على التنقل المستمر، بحثاً عن التوافر الموسمي للمياه الجوفية والأعلاف لحيواناتهم. بينما شكل الحليب والتمر - أحياناً اللحوم والخبز – نظام العرب الغذائي الأساسي.

    كان من الصعب على الفرد أو حتى على المجموعات الصغيرة من الأفراد البقاء على قيد الحياة في مثل هذه البيئة القاسية؛ ولم تنشأ هناك أية إمبراطوريات عسكرية عظيمة أو دول تتكون من مدن تجارية، بل تألف مجتمع العرب في العشائر والقبائل، والأسر الممتدة التي هاجرت مع بعضها البعض وحافظت على ممتلكاتها بشكل مشترك؛ حيث أن هذه القبائل عملت بشكل ملحوظ على حماية أفرادها من البدو الآخرين والشعوب الأخرى المستقرة. اتسم العرب بأنهم يحاربون بكل حماسة دفاعاً عن شرفهم فهو ما تعتمد عليه حريتهم، كما كانت اختبارات القوة المتمثلة في الغارات والمناوشات أمراً شائعاً فيما بينهم. أما عن نظام حكم القبيلة، فقد كان يحكم كل قبيلة مجلس من كبار الرجال الذين يمثلون العشائر المختلفة أو التجمعات العائلية الأصغر، حيث يختار هذا المجلس شيخاً (أحد كبار القبيلة المبجلين)، وفي الغالب يكون هذا الشيخ هو العضو الأكثر احتراماً داخل القبيلة نتيجة شجاعته وكرمه، وذلك باستثناء عدد قليل من القبائل التي كانت تعتمد في اختيار قادتها على نظام توارث القيادة. وكان منوط بهذا المجلس من الشيوخ العرب أن يحسم الأمور ويقرر فيما يتعلق بمسائل شن الحرب أو تحقيق السلام أو المصالحة مع الآخرين، حيث كانت القبيلة تزيد من دخلها الضئيل عن طريق الإغارة على القبائل الأخرى ومهاجمتها من ناحية، و«حماية» القوافل التي تنقل البضائع بين سوريا والمحيط الهندي من ناحية أخرى. وجدير بالإشارة إلى أن بعض أعضاء القبائل خدموا كمساعدين في الجيوش الفارسية أو الرومانية؛ حتى أنه أطلق على الإمبراطور الروماني في القرن الثالث لقب «فيليب العرب«، في حين بادر عرب آخرون بإقامة مدن تجارية على أطراف المناطق المستقرة، ومنها على سبيل المثال، مدينة تدمر في سوريا، والبتراء (البترا) في الأردن، ونجران في اليمن، وفضل البعض الآخر تملك الأراضي الزراعية، كما هو الحال في المنطقة المحيطة بـيثرب والتي تسمى بالمدينة المنورة في عصرنا الحالي. ولكن، في العموم تعتبر تربية الإبل والإغارة على القبائل الأخرى بمثابة الأنشطة الأكثر احتراماً لدى العرب.

    الثقافة العربية

    قد يكون من المتوقع أن العرب البدو على إثر تكيفهم مع الحياة الصحراوية القاسية، قد افتقروا إلى مستوى الثقافة والتهذيب الذي وصل إليه غيرهم من الرومان أو الفرس، لكنهم لم يكونوا برابرة على أية حال من الأحوال؛ فقد كانوا محاربين بطبيعتهم؛ حيث أنهم نتيجة لندرة الطعام والجوع أو بدافع العادات القبلية المتوارثة كانوا يغيرون على بعضهم البعض أو على غيرهم من الغرباء. وعلى جانب آخر، فإن التنقل الدائم لم يمنحهم أي فرصة للتقدم من ناحية العمارة أو النحت أو الرسم بالمقارنة بغيرهم من الشعوب المستقرة. وعلى الرغم من ذلك، فقد امتلك العرب شكلاً بارزاً للغاية من أشكال التعبير الفني (الذي من الممكن تناقله)، ألا وهو مهارة الشعر التي برعوا فيها؛ حيث جسد الشعر الجاهلي مدونة الفضيلة العربية، معبراً عن المروة أو الشجاعة أثناء المعركة والصبر عند الشدائد والأخذ بالثأر ممن ظلمهم والانتقام لأنفسهم (حيث كان الثأر هو الطريقة الوحيدة الممكنة آنذاك لتحقيق العدالة في ظل عدم وجود حكومة أو أركان دولة)، كما عبر الشعر العربي عن غير ذلك من السمات النبيلة مثل حماية الضعفاء ومواجهة الأقوياء وإكرام الضيف أو الزائر (حتى وإن كان غريباً تماماً)، والإحسان للفقراء والولاء والانتماء للقبيلة والإخلاص في حفظ العهد والوفاء به. ومنْ ثَمَّ، أظهر الشعر أن مثل هذه المبادئ الأخلاقية هي التي كان العرب بحاجة إليها أثناء العيش في الصحراء، بل أن ما نظموه من أبيات شعرية ساعدتهم كثيراً على تشكيل الصورة الذهنية للمروة والأخلاق الحميدة في أذهانهم؛ فقد كانت هذه القصائد - والتي كانت ترددها القبائل العرب من الذاكرة ويتناقلونها من جيل إلى جيل – تُعبر بصدق عن أفراح الحياة البدوية والمحن التي تمر بها، وتزيد من شجاعة القبائل العربية وتفتخر بها من جانب وتهجو نقائص وأخطاء خصومهم من الجانب الآخر. ومن الأهمية بمكان توضيح عشق العرب للشعر؛ إلى درجة أنهم اعتادوا على إيقاف الحروب والغارات لمدة شهر كل سنة من أجل تمكين الشعراء من نظم أبيات أشعارهم الجديدة والتباري في استعراض مهاراتهم الشعرية بين بعضهم البعض. كما أن الشعر الجاهلي ساعد في صقل اللغة العربية وساهم في تشكيل أدب وثقافة العرب، بل أنه أثر بدوره على أفكار الشعوب الناطقة بالعربية وأفعالهم إلى يومنا هذا.

    جنوب شبه الجزيرة العربية

    تزامناً مع نفس الوقت الذي بدا فيه أن إمبراطورتي الفرس والروم تهيمنان على الشرق الأوسط، كان هناك في واقع الأمر قوة ثالثة تبعد عنهم كثيراً وجرى تجاهلها إلى حد كبير؛ حيث كان جنوب شبه الجزيرة العربية يبدو عالماً متفرداً ومنفصلاً تماماً بما يتميز به من أمطارٍ موسمية ونباتات مورقة. كما تميز هذا العالم أيضاً بتبني نشأة ونمو العديد من دول المدن؛ ومنها على سبيل المثال، دولة مدينة سبأ والتي كانت الأكثر شهرة (من حيث أتت أسطورة ملكة سبأ لزيارة سليمان). حتى قبل زمن ظهور المسيح، أسس قومه (السبئيون أو الصابئون أو الصابئة)، لتجارة مزدهرة بين قاعدتهم في اليمن والشواطئ البعيدة للمحيط الهندي، كما كانوا أول من جعل الهند ومنتجاتها معروفة للعالم الروماني ومستعمرات شرق أفريقيا. شيد السبئيون أو أهل سبأ قنواتٍ وسدوداً على مجاري المياه الجبلية، ومدرجات أو مصاطب على سفوح التلال اليمنية للعمل على توسيع الرقعة الزراعية، وجدير بالملاحظة أن اللبان كان المحصول التصديري الأساسي لديهم؛ حيث كان يستخدمه الرومان الوثنيون لإخفاء الرائحة الكريهة عند حرق موتاهم، وتلى ذلك، أن أضر انتشار الدين المسيحي – الذي اتبع منهج دفن جثث الموتى بدلاً من حرقها - بتجارة اللبان. عندما تحولت إثيوبيا إلى المسيحية وتحالفت مع الإمبراطورية البيزنطية، أصبح العرب اليمنيون في حيرة من أمرهم عالقين في المنتصف، وبخاصة أن ملك اليمن كان قد اعتنق اليهودية في ذلك الوقت. وتوالت بعض الانتكاسات؛ حيث تلي ذلك أن تجمعت العديد من العوامل التي أدت إلى إضعاف قوى منطقة جنوب الجزيرة العربية في القرن السادس وشمل ذلك الغزو الإثيوبي والركود التجاري.

    كان الوضع السياسي في شبه الجزيرة العربية معقداً إلى حد كبير؛ حيث تنافست ثلاث قوى خارجية للسيطرة على المنطقة، وتمثلت هذه القوى الثلاث في: الإمبراطورية البيزنطية – المناصرة للمسيحية الأرثوذكسية، وبلاد فارس الساسانية – التي كان يحكمها أصحاب المذهب الزرادشتي ولكن في نفس الوقت كانت تؤوي المسيحيين النسطوريين واليهود والبوذيين والمانويين وغيرهم من الطوائف الأخرى، وإثيوبيا – التي تبنت نفس المسيحية أحادية الجانب مثل الرعايا المصريين (الأقباط) المتمردين على البيزنطيين. وكان لكل إمبراطورية قبيلة عربية موالية لها تجزل لها العطاء وتمدها بمظاهر الملكية في مقابل الخدمات العسكرية؛ لذلك، كانت شبه الجزيرة في الغالب تمزقها الحروب بين القبائل الثلاث التالية: قبيلة الغساسنة‎ الموالون للبيزنطيين في الشمال الغربي. وقبيلة لخم (المناذرة أو اللخميون) المؤيدون للفرس الساسانية، وكانت عاصمتهم حراء التي تقع بالقرب من نهر الفرات. وأخيراً، قبيلة كندة المسيحية التي كانت تعيش في وسط شبه الجزيرة العربية وعلى علاقة جيدة بإثيوبيا. كما شاركت قبائل عربية أخرى في هذا الصراع الدائر في شبة الجزيرة العربية؛ وكان بعضها لا يزال روحانياً (ينسب القوة الروحية إلى عناصر الطبيعة)، وبعضها الآخر يتبع الزرادشتية أو اليهودية أو المسيحية. ثم بداية من عام 525 وحتى عام 570، احتل الإثيوبيون جنوب شبه الجزيرة العربية بعدما أعاد الساسانيون الملوك اليهود إلى السلطة.

    مكة المكرمة

    حافظت معظم مناطق وسط وشمال شبه الجزيرة العربية على استقلال غير مستقر (محفوف بالمخاطر)؛ حيث اعتادت هذه المنطقة في أوقات السلام أن تكون معبراً لقوافل الإبل التي كانت تقطع طريق التجارة البرية الذي يربط بين سوريا واليمن، ثم بعد ذلك - وعلى الرغم من انخفاض الطلب على اللبان – ظل هذا الطريق البري للتجارة ذا أهمية كبيرة في ظل أعمال القرصنة التي شهدتها مياه البحر الأحمر والتي جعلت طريق التجارة عن طريق البحر محفوفاً بالمخاطر مقارنةً بغيره. كما أدت الحروب الساسانية-البيزنطية أيضاً إلى تحويل التجارة نحو غرب شبه الجزيرة العربية. لذلك، برزت بلدة عربية، كانت مرتبطة سابقاً بسبأ واعتبرت بمثابة مزار ديني، وزادت أهميتها في القرن السادس كمحطة رئيسية للقوافل التجارية؛ ونقصد بهذه البلدة مكة المكرمة، التي تقع في المناطق الداخلية من البحر الأحمر بين جبال الحجاز، ولما كان مناخ مكة حاراً وجافاً، فإنها لم تكن ملاءمة للنشاط الزراعي. في حين أنها اكتسبت بعضٍ من ثروتها وقوتها من التجارة، إلا أن تفوق مكة وتميزها بين سائر المدن العربية الأخرى آنذاك كان يرجع إلى ثلاثة موجودات إضافية لديها، ألا وهي: المسابقة السنوية بين الشعراء (سوق عكاظ) بالقرب من عكاظ؛ وجبل عرفات – وهو موقع أداء مناسك الحج فعلياً؛ والكعبة - وهي هيكل على شكل مكعب يعود إلى عصور قديمة غير معروفة ويضم أصناماً (يقال أن عددهم كان 360) وتمثل الآلهة المعظمة لدى القبائل العربية. كما كانت في الجوار أيضاً أصناماً مقدسة لتبجيل بعض الآلهة الفردية، وعلى الخصوص كان من بينها اللات والعزة والمناة، وكان الوثنيون في مكة يعبدون مثل هذه الآلهة.

    ينتمي حكام مكة إلى قبيلة عربية متوطنة يطلق عليها اسم قريش، ومن الممكن تتبع أصل كل خليفة مسلم الذي يعود إلى هذه القبيلة / القبائل لأكثر من ستة قرون سواء كانت عائلته تعود إلى من كانوا يعملون بالتجار أو حراس الحرم الديني (الأماكن المقدسة) أو من كانوا سياسيين. وجدير بالذكر، أن تحت قيادة هؤلاء الخلفاء، ستنتقل مراكز قوة الشرق الأوسط من البحر الأبيض المتوسط والهضبة الفارسية إلى الصحراء العربية والهلال الخصيب؛ حيث يذكر بعض المؤرخين أن هذا التغيير كان بمثابة الانتقال من العصر القديم إلى العصور الوسطى؛ وسيصبح السبب الرئيسي وراء هذا التحول واضحاً بعد فترة وجيزة؛ حيث سيظهر محمد، آخر وأعظم أنبياء الإسلام، وقد كان مكياً من قريش.

    الخاتمة

    يُقسّم المؤرخون في جنوب غرب آسيا أنفسهم وفقًا لتخصصاتهم في هذا الشأن؛ فينقسمون إلى مؤرخين متخصصين في العالم القديم، ومؤرخين متخصصين في الإسلام في العصور الوسطى، وأخيراً إلى من هم متخصصين في الشرق الأوسط الحديث. وعلى الرغم من أن مثل هذه التطبيق يعكس ما نتدرب عليه (خاصة فيما يتعلق باللغات التي نتعلمها)، إلا أنك بصفتك طالباً تدرس لأول مرة عن الشرق الأوسط، عليك ألا تتجاهل مطلقاً تاريخ تلك المنطقة قبل ظهور الإسلام لأنك ربما قد تعتبره غير ذي صلة؛ حيث استمرت إنجازات المصريين القدماء وبلاد ما بين الرافدين في مجالات مثل الهندسة الهيدروليكية (مع ما يطرأ عليها من تجديد بشكل دوري) حتى وقتنا الحاضر، وكان حمورابي هو من أعلن أول قانون / شريعة في العالم (قوانين حمورابى) من بلاد ما بين الرافدين، كما كان تطور عقيدة التوحيد من جانب المصريين وبخاصة من اليهود مقدمة ضرورية لكل من الديانة المسيحية والإسلام. بالإضافة إلى أن الفلسفة اليونانية والقانون الروماني شكلا جزءاً من تراث الشرق الأوسط والغرب. وعلى جانب آخر، فلقد حددت الخلافات العقائدية التي شهدتها المسيحية المبكرة في نهاية الأمر الاتجاه نحو الكاثوليكية وبالتالي اللاهوت البروتستانتي، وذلك على الرغم من أن هذه الخلافات كانت أيضاً سبباً وراء تقويض المقاومة المسيحية لتوسع الإسلام. بينما أسست الملكية الساسانية العظيمة في إمبراطورية بلاد فارس وما لها من تقاليد بيروقراطية ومظاهر للتسامح مع المعتقدات والمذاهب المغايرة عن عقيدة الإمبراطورية للنمط الذي ستسترشد به الدول اللاحقة متعددة الثقافات والسلالات والتي سيحكمها المسلمون. شكلت تجربة العرب قبل الإسلام منشأ بعث محمد برسالته كنبي. بل أن هناك العديد من المؤسسات والعادات القديمة التي بقت على مدار تاريخ أوروبا في العصور الوسطى وأوائل العالم الإسلامي، والبعض منها لا يزال باقٍ في واقع الأمر إلى الآن.

    الفتوحات العربية المبكرة

    ترك موت محمد فراغاً هائلاً في مجتمع أتباعه ونقصد بأتباعه الأمة الإسلامية؛ حيث أنه طالما كان محمد على قيد الحياة، كان هو النبي والحكم والمُشرع والقائد العسكري للأمة، وكان هو من تُحال إليه أي مسألة أو قضية تنشأ بين المسلمين ليحكم فيها. وبعد وفاته، أصبح المسلمون يتساءلون: كيف يمكنهم اتخاذ قرارات من دون توجيه محمد؟ وهو ما شكل أزمة للأمة الإسلامية، لكن أتباع محمد سرعان ما وجدوا لأنفسهم قادة جدد، كما أنهم استطاعوا التغلب على التحدي المتمثل في التمرد القبلي العربي، بل أنهم علاوة على ذلك، شرعوا في توسيع نفوذهم في المنطقة الواقعة تحت سيطرتهم؛ لقد خضعت كل من إمبراطورية الروم وإمبراطورية الفرس – أكبر إمبراطوريتيْن معظمتيْن في الشرق الأوسط - للمحاربين العرب المسلمين. ونشأ عن هذا النجاح انشقاقاً في الأمة وهو ما تسبب خلال فترات زمنية لاحقة في انقسامات طائفية لم تلتئم بالكامل قط، لكن زخم التوسعات الإسلامية لم يتوقف إلا لفترة وجيزة فحسب؛ بل أنه يمكن القول أن القدرة التي أظهرها المسلمون الأوائل في التغلب على مثل هذه الأزمات، هي التي ضمنت بقاء الإسلام وازدهار حضارته واستمرار إرثه على مر الزمان.

    مشكلة الخلافة

    أدت وفاة النبي محمد إلى أزمة خلافة عميقة في الأمة الإسلامية، بل أن مشكلة الخلافة لا تزال ذات تداعيات واضحة حتى تاريخنا المعاصر؛ حيث أدت هذه الأزمة المبكرة فعلياً إلى انقسام داخل الأمة أو مجتمع المسلمين، ونقصد هنا الانقسام إلى المذهب السني والمذهب الشيعي. فوفقاً لوجهة نظر أهل السنة، لم يختر محمد خلال حياته خليفة له؛ ربما يكون قد وافته المنية قبل أن يقوم بذلك، كما أنه لم يكن ليفكر في تسمية رسول آخر مرسل من الله، وذلك لعلمه جيداً أنه خاتم الأنبياء والمرسلين، ولن يستطع أحد بعد وفاته أن يستقبل الوحي الإلهي؛ وقد لا يكون هناك حاجة إلى وحي، لأن من المفترض أن يأتي يوم القيامة في أي وقت. ولكن من ناحية أخرى، حتى وإن كانت الأمة الإسلامية لا تسعى لوجود نبياً خلفاً لمحمد، فإن الإمة كانت لا تزال بحاجة إلى قائد – مثل ما اعتادت عليه في شكل شيخ القبيلة - الذي يستطيع توجيه شئون الأمة إلى أن يأتي يوم البعث.

    في واقع الأمر، كانت هناك حاجة ماسة إلى وجود زعيم للأمة على الفور؛ ومن أجل تجنب وقوع حرب بين القبائل العربية، سيكون أفضل ما يأمله المسلمون هو انتخاب زعيم من قبيلة قريش ذات المكانة العالية بين العرب – على ألا يكون من القريشيين الوثنيين السابقين الذين ضايقوا النبي - بل يجب أن يكون واحداً من المؤمنين الأوائل برسالته ومن بين الذين هاجروا معه إلى المدينة - ولما كان عمر هو أكثر صحابة محمد صرامة وحسم، فلقد نجح في إعلان أبي بكر خليفة للمسلمين، وكان أبو بكر ينتمي (كما هو الحال بالنسبة إلى عمر) إلى قبيلة قريش التي لم تكن من بني أُمية أو بني مخزوم أو بني هاشم. وكان أبو بكر رجلاً متواضعاً، وتميز بمعرفته الجيدة بالقبائل العربية وعلاقاتها ببعضها البعض، وكان أقرب صديق لمحمد، وهو أول المؤمنين برسالته من خارج أسرته، وهو كذلك والد زوجته الحبيبة عائشة، والقائد المسئول عن الدعوة في الفترة الأخيرة لمرض النبي.

    طالب بعض المسلمين أنه كان من الضروري اختيار أحد أفراد عائلة محمد؛ ولما كان النبي ليس لديه أية أبناء ذكور على قيد الحياة، وجادل هذا البعض من المسلمين أنه كان ينبغي أن يكون خليفته ابن عمه وصهره عليّ، ابن أبو طالب. بل أنهم واصلوا الجدال زاعمين أن محمد كان قد عَيّن بالفعل علي كخليفة له قبل وفاته وأن صحابته هم من أخفوا هذا التعيين، ومع مرور الوقت أصبح أتباع هذه الطائفة هم من يعرفون بالشيعة.

    وأطلق أبو بكر (الذي حكم في الفترة من 632 إلى 634 م) على نفسه لقب خليفة رسول الله، وسرعان ما اُختصر هذا اللقب إلى خليفة أو الخليفة. بينما دعاه أتباعه المسلمين الخليفة أمير المؤمنين، ومن المؤكد أن أبو بكر كان يستحق الحصول على هذا اللقب. بمجرد أن سمعت القبائل العربية بموت محمد، ارتد معظمهم عن الأمة الإسلامية؛ وهو ما سيطلق عليه المسلمون في وقت لاحق اسم الرِدّة؛ حيث رأوا أن انفصال هذه القبائل عنهم هو بمثابة الارتداد عن الإسلام. وعلى الجانب الآخر، بالنسبة للقبائل العربية، فإنه بوفاة القائد تنتهي جميع المعاهدات المبرمة معه، والتي كانت تلزمهم بأن يدفعوا الزكاة إلى المدينة – وهو ما كانوا يعتبرونه شكلاً من أشكال الجزية. لذلك، فقد أدرك أبو بكر أنه إذا تمكنت هذه القبائل من التهرب من دفع العشر / المقدار المطلوب من الزكاة، فإن وحدة العرب ستنهار، وستفقد الأمة الإسلامية إيراداتها، بل أنه قد يختفي الإسلام بالكامل. ومنْ ثَمَّ، حتى يتفادى الوقوع في هذه الأخطار، أرسل أبو بكر أفضل قادته، خالد بن الوليد وعمرو بن العاص بهدف إجبار القبائل العربية على العودة إلى الأمة الإسلامية. وفي حين أن حروب الرِدّة كانت مكلفة، إلا أنها كانت سبباً في استسلام القبائل العربية الواحدة تلو الأخرى، ثم تلى ذلك العفو عنهم. ولكن، هنا يبرز السؤال: ماذا يمكن أن يحافظ على تماسك القبائل العربية فيما بينها بعد هذا الاتباع الظاهري للدين الإسلامي أو رضوخ هذه القبائل نتيجة لخوفها من جيش خليفة المسلمين؟

    الفتوحات الإسلامية الأولى

    تمثلت إجابة الخلفاء المسلمين الرائعة على هذا التساؤل في تحويل طاقات البدو القتالية نحو فتح الأراضي المستقرة إلى الشمال؛ أراضي الإمبراطوريتيْن البيزنطية (الرومانية) والساسانية (الفارسية)، وذلك بدلاً من التناحر فيما بينهم. لذلك، فقد عفا عمر - الخليفة التالي لأبي بكر عندما حكم الأمة الإسلامية (في الفترة من 634 إلى 644 م)، عن القبائل المتمردة وجندهم في خدمة الخلافة، من أجل الجهاد بهدف توسيع أراضي الأمة الإسلامية؛ ونتيجة لهذا  القرار المهم سيتمكن المسلمون من الاستحواذ على ممتلكات روما في الشرق الأوسط (فلسطين وسوريا ومصر وبرقة) في خلال فترة زمنية تزيد قليلاً عن عقدٍ من الزمن. بينما، استغرق الأمر جيلًا للسيطرة على الإمبراطورية الساسانية بأكملها. ثم، في غضون قرن من الزمان، أصبح الجنود المسلمون يتمركزون من إسبانيا في الغرب مروراً بشمال إفريقيا والشرق الأوسط وحتى حدود دولة الصين في الشرق. ونحن المؤرخون، اعتبرنا في أحد التفسيرات أن الانتصارات العربية هي بمثابة الأحداث الرئيسية التي تفصل العالم القديم عن العصور الوسطى. ومن ناحية أخرى، أصبح الأوربيون تقريباً في معزل عن بقية العالم، وانحصرت المسيحية إلى نطاق أراضيها الأصلية فحسب. ولكن، من الأهمية بمكان إضافة أن تلك الفتوحات دمجت بين الثقافات المتنوعة لشمال إفريقيا ومصر وسوريا والعراق وبلاد فارس، ومنْ ثَمَّ، من رحم هذا المزيج سوف تولد حضارة جديدة تضاهي تلك الحضارات التي زخرت بها اليونان وروما.

    وعلى فرضٍ أنه قد طُلب من أحد المارة في شوارع دمشق (أو في أي مكان آخر) حوالي عام 625 م أن يتنبأ بشأن من سيحكم الشرق الأوسط بعد جيل من الزمان، فمن الأرجح أن تتمثل إجابة هذا الشخص على هذا السؤال في توقع أن يكون الحاكم هو الإمبراطور البيزنطي أو الشاه الساساني أو ربما بعض الروم أو الفرس الجدد من السلالة الحاكمة، بينما ما كان لأحدٍ أن يتوقع آنذاك أن يكون حكام الشرق الأوسط هم العرب المكيون (من أهل مكة)؛ إن السرعة التي حدثت بها الفتوحات العربية أدهشت الجميع، ولا زالت تثير الدهشة بين الحين والآخر، وما زال الكثيرون يتساءلون عن سبب نجاح تلك الفتوحات. لذلك، إذا كنت ترغب في الحصول على إجابة لهذا السؤال، فإليك بعض النقاط الأساسية التي من الضروري وضعها في الاعتبار:

    كانت الجيوش العربية صغيرة من حيث العدد؛ فعادة ما يقل عدد أفرادها عن ألف رجل – وبالتالي فهذه الجيوش كانت أقل عدداً وأقل تجهيزاً – ولكنها أكثر تماسكاً عن خصومهم من الروم أو الفرس. كما كان العرب المسلمون يقاتلون في مواقع محددة يجرى اختيارها بعناية. ومكنتهم انتصاراتهم الحاسمة من كسب مساحات شاسعة من الأراضي والسيطرة عليها. ومن ناحية أخرى، كانت خيولهم هي العنصر الأساسي وراء سرعتهم الفائقة، بينما كانت جمالهم توفر لهم ميزة  القدرة على تحمل مشقة الصحراء والتنقل بها. غالباً ما كانت  انتصارات الجيوش العربية تقع في الصحراء أو بالقرب منها بالقدر الكافي الذي يُمكّن القوات المحاربة من الفرار من الجيوش الرومانية أو الفارسية المعادية إذا لزم الأمر، كما تمتع العرب بتكتيك شائع فيما بينهم، وتمثل هذا التكتيك في جذب قوات العدو إلى وادٍ ثم استخدام التضاريس لحبس عدوهم في داخله. وكان لعوامل المناخ تأثيراً أيضاً على بعض هذه الانتصارات؛ فعلى سبيل المثال، انتصر العرب في  معركة نهر اليرموك عام 636 م، بعدما نتج عن عاصفة ترابية أن أخفت قوات خالد بن الوليد عن مرمى بصر الرومان. أتاح انتصار العرب في هذه الموقعة سيطرتهم على سوريا. ومثال آخر، ساعدت عاصفة ترابية أخرى العرب على هزيمة الفرس عام 637م في القادسية، ومن ثم الاستحواذ على العراق. كما تمكن العرب فيما بعد من السيطرة على غرب بلاد فارس بعد محاصرة الجيش الساساني في واد ضيق.             

    على عكس صورتهم في قصص التاريخ الشعبية، لم يكن جميع المحاربين العرب تأخذهم الحمية والحماسة الإسلامية؛ حدث ذلك على مستوى البعض منهم فحسب، ولكن كان البعض الآخر لا يزال ينتمي إلى القبائل المسيحية المنفصلة عن الإمبراطورية البيزنطية، كما لم يمنع اعتناق هؤلاء العرب للمسيحية عن القتال من أجل الخلافة. وبينما قد كان بعض القادة والقبائل المسلمة تُقبل على القتال ونصرة الخلافة بدافع من إيمانهم بالقدر والاستشهاد كجواز سفر للفوز بالجنة، كان معظم العرب القبليين يعتقدون في أهمية الحروب كضرورة من أجل حصد الغنائم؛ وبخاصةٍ أن الصعوبات الاقتصادية التي شهدتها منطقة شبه الجزيرة العربية تسببت في وقوع العديد منهم تحت وطأة الفقر المدقع. وفي واقع الأمر، لقد يسرت الفتوحات العربية هجرة الساميين من شبه الجزيرة العربية بطرقٍ مماثلة لتلك التي كان يعيشها الأكاديون (الإمبراطورية الأكدية) والآراميون في أزمنة سابقة، ويرجع السبب وراء ذلك إلى أن شبه الجزيرة العربية كانت في غالب الأمر تتحول إلى منطقة مزدحمة بالسكان. وفي ذات الوقت، حدث أن جرى إخلاء بعض الأراضي المستقرة في مصر وسوريا من سكانها على إثر تفشي وباء الطاعون في القرنيْن السادس والسابع. سنوات من الحرب بين الإمبراطوريتيْن الساسانية والبيزنطية التي أدت إلى استنفاد موارد هاتيْن الإمبراطوريتيْن وقوتهما البشرية؛ وهو ما جعل كل إمبراطورية منهما تستأجر مرتزقة للانضمام إلى جيشها، وكان معظمهم من العرب. ومنْ ثَمَّ، أصبح كثير من العرب سواء المؤيدين للإمبراطورية البيزنطة أو المؤيدين للإمبراطورية الساسانية غير موثوقين بحلول عام 632 ميلادياً، وإن اتجه البعض منهم إلى اعتناق الإسلام.

    كان الرعايا الخاضعون تحت الحكم البيزنطي وبخاصةٍ أولئك الذين كانوا موجودين في سوريا ومصر يشعرون باستياءٍ شديدٍ؛ وتمثلت النقطة المحورية لاستيائهم في المسيحية التي تفرضها الإمبراطورية البيزنطية؛ حيث كانت النظرة الأرثوذكسية التي تتبعها الإمبراطورية البيزنطية – كما أشرنا فيما سلف – تؤيد أن المسيح يجمع في شخصه طبيعة إلهية وإنسانية. في حين أنه على جانب آخر، اتبع الأقباط المصريون واليعاقبة السوريون مذهب المونوفيزية (أصحاب العقيدة التي تؤمن بالطبيعة الواحدة الكاملة للمسيح) وهذه العقيدة وصفت طبيعة المسيح بأنها إلهية بالكامل، مما تسبب في معاناتهم من الاضطهاد الديني على يد البيزنطيين. وسعياً منه لكسب دعم أتباع المذهبيْن المختلفيْن، اقترح الإمبراطور هيراكليوس تسوية قد ترضي كلا الجانبيْن؛ وتمثل هذا الاقتراح في أن المسيح يمتلك طبيعتيْن في إرادة واحدة. ولكن، هذا الاقتراح لم ينل إعجاب أحد تقريباً (باستثناء الموارنة في لبنان، وسنتناولهم بالمناقشة في جزءٍ لاحقٍ). ومنْ ثَمَّ، كان المسيحيون السوريون والمصريون الذين يتملكهم الاستياء تجاه الإمبراطورية البيزنطية ينظرون إلى العرب المسلمين على أنهم محررين من النير البيزنطي، بل أنهم في غالب الأمر رحبوا بالفتح العربي؛ فعلى سبيل المثال، كان الأقباط هم من سلموا مصر في عام 640 م إلى قوة عمرو بن العاص العربية الفاتحة، والتي كان عددها أقل من 10000 جندي. ومثال آخر على ذلك، رحب اليهود – الموجودين بكثرة في فلسطين وسوريا – بدخول المسلمين واختاروا حيادية المسلمين على الاضطهاد البيزنطي الذين كانوا يعانون منه. وعلى صعيد آخر، فلقد أدى الانهيار المفاجئ للإمبراطورية الساسانية، بعد أن كانت تحكم مصر وسوريا ومعظم شبه الجزيرة العربية حتى عام 625 م، إلى خلق فراغ في المنطقة، ولكن سرعان ما ملأ العرب هذا الفراغ. كانت بلاد فارس تتهاوى بسبب ما حدث من فوضى سياسية في مدينة قطسيفون / طيسفون، عاصمة البلاد؛ حيث أطاحت الصراعات على السلطة بالإدارة المركزية، والتي كانت ضرورية للإشراف على نظام ري دجلة والفرات؛ ونتج عن ذلك أن انخفض إنتاج المزارع وزادت حالة استياء المواطنين. وبالإضافة إلى ذلك، فلقد كان الفلاحون المسيحيون واليهود والمانسيون في العراق يشعرون بالاستياء تجاه كهنة الديانة الزرادشتية والملاك الساسانيين الذين عاشوا في المرتفعات الفارسية وغابوا عن أراضيهم. لذلك، فبمجرد سقوط العراق على يد العرب، بعد معركة القادسية عام 637 م، بدأت الدولة الساسانية في الانهيار؛ ثم تلى ذلك، أن استولى العرب على المقاطعات الفارسية الواحدة تلو الأخرى، حتى توفي آخر شاه ساساني هارب في عام 651 م.

    لتلخيص ما سبق، اقتصرت أراضي الأمة الإسلامية في خلال فترة حياة محمد على غرب شبه الجزيرة العربية حتى أقصى شمال خليج العقبة، بالإضافة إلى بعض الأجزاء الأخرى من شبه الجزيرة العربية والتي من المفترض أن سكانها من القبائل العربية كانوا قد اعتنقوا الإسلام. بينما في عهد أبو بكر، اهتمت السلطة في المدينة بمواجهة الثورات القبلية الناشئة آنذاك، كما بدأ نشر الإسلام في الأراضي المجاورة في سوريا والعراق في عهد أبو بكر أثناء حروب القضاء على الردة. عقب وفاة أبو بكر عام 634 م، أصبح عمر الخليفة الجديد للأمة الإسلامية، ومنح عمر العفو الشامل للقبائل المتمردة، ثم حول عمر الفتوحات الإسلامية التي كانت تشمل بضع غزوات فحسب إلى سياسة منهجية للسيطرة الإسلامية على مزيدٍ من الأراضي؛ ونتج عن ذلك أنه خلال خلافة عمر والخليفة الذي أعقبه عثمان، توسعت حدود الدولة الإسلامية لتشمل كل أراضي سوريا والعراق وبلاد فارس ومصر وبرقة (إقليم «قورينائية» أو «سيرينيكا» في الماضي، ويعرف الآن بشرق ليبيا). ومع هذا التوسع الكبير للفتوحات الإسلامية، يمكن للمرء أن يتخيل بسهولة مدى الضغط الواقع على الحكومة الأولية الموجودة في المدينة، وحيث اعتاد محمد وأبو بكر شراء طعامهم في السوق بأنفسهم، وخياطة ملابسهم، وإصلاح أحذيتهم، وتوزيع الأموال بالعدل في ساحات ديارهم؛ لذلك، ظهرت الحاجة الماسة نظام حكم إسلامي أكثر تطوراً مع هذه الفتوحات والتوسعات.

    بدايات نشأة نظام الحكم في الإسلام

    كان عمر داهية وذو بصيرة ثاقبة بما يكفي لاستقراء أن القبائل العربية التي شاركت بسهولة في المعارك بعدما أُغريت بالاستحواذ على الغنائم وبالفعل أصبحت تلك القبائل أكثر ثراءً من أي وقت مضى، لذلك فمثل هذه القبائل قد تتمرد على القيادة الإسلامية حال عدم وجود قتال وعدم حصولهم على مزيدٍ من الغنائم. وظهر سؤالٌ ملحٌ؛ ماذا سيحدث إذا ما سقطت مراكز الحضارة تحت سيطرة هؤلاء البدو؟ هل سيحطمون القصور والمكتبات أولاً، أم سينغمسون في الملذات مثل ارتياد محلات الخمر واللهو مع الراقصات، فتستنزف مهاراتهم القتالية ويخفت حماسهم الديني؟ وبخاصة أنه على مدار قرون من الزمان، اعتاد البدو والجيوش الأجنبية الإغارة على الأجزاء المستقرة في الشرق الأوسط من أجل أن يوقعوا هذه المناطق في الأسر تحت سيطرتهم. لذلك، لم يرد عمر أن يلقى المسلمون مثل هذا المصير أو أن تفسد عقيدتهم بهذه الطريقة؛ لذلك، لم يكن بدافع من تميز شخصيته فحسب أنه كان يسير في شوارع وأسواق المدينة، حاملاً سوطاً في يده ليكون جاهزاً لجلد أي مسلم فاتته الصلاة أو انتهك حرمة صيام رمضان. ومثال على قوة عمر وصرامته، أنه وعلى الرغم من إعجابه بالمهارات الحربية للقائد خالد بن الوليد التي أظهرها أثناء قتاله للرومان والفرس في المعارك، إلا أن عمر استاء عند علمه بزيجاته غير الشرعية، وكذلك غضبه عندما عين خالد بعض الشعراء (حيث كان الشعراء المسئولين عن الدعاية في ذاك الوقت) لنظم قصائد مدحية لنفسه، مما دفع الخليفة عمر إلى عزل خالد عن قيادة الجيش، ليضرب به المثل أمام العرب الآخرين وحتى لا يحذوا حذوه.

    وهكذا، قرر عمر أنه في الأوقات التي لا تقاتل فيها القوات، كان لا بد من إبقاء هذه القوات تحت انضباط صارم وتام؛ لذلك، تمثلت سياسة عمر في توطينهم على الحدود بين الصحراء والأراضي المزروعة في مدن خاصة بهم كحامية (موقع عسكري للحماية)، ولا سيما في مدنٍ مثل البصرة والكوفة  في العراق أو في الفسطاط، جنوب ما يعرف في عصرنا الحالي بمدينة القاهرة في مصر. وبهذه السياسة كان عمر يهدف إلى عزل العرب عن الشعوب المستقرة؛ ومثال آخر على ذلك، منع عمر الجنود العرب من حيازة أراضي خارج شبه الجزيرة العربية؛ ولم يسمح لهم بالاستحواذ على المباني وغيرها من غنائم الحرب غير المنقولة. من ناحية أخرى، كان يجب ارسال خمس غنائم الحرب المنقولة إلى المدينة؛ وفي المدينة، كان عمر قد أقام نظاماً لتسجيل عملية توزيع الغنائم بعناية وتقسيمها إلى أسهم لأعضاء الأمة الإسلامية، بدءاً من أرامل محمد ومن يرافقوهن وحتى أقل جندي عربي متواضع.

    على الرغم من أن كبار القادة العرب والتجار المكيين عادة ما كانوا هم من يتولون المناصب العليا في المقاطعات التي سيطر المسلمون عليها حديثاً، إلا أن طريقة إدارتهم المدنية لم تتأثر تقريباً؛ حيث إذا افترضنا وجود نفس الشخص في شوارع دمشق عام 650 م، فما كان هذا الشخص ليلحظ أي اختلاف كبير في جوانب الحياة عما كانت عليه في 625 م؛ حيث استمر الحكام المحليون في إدارة أمور البلاد على نفس النهج السابق الذي اعتادوه من قبل. أما بالنسبة لتلك البلدان والمقاطعات التي لم تقاوم الفتوحات العربية، فلقد بادر المسلمون بتخفيض الضرائب المفروضة على أراضيهم ومساكنهم، ولكن مثل هذه الأموال أصبحت آنذاك ترسل إلى المدينة المنورة بدلاً من قطسيفون أو القسطنطينية عاصمتي إمبراطورية الفرس أو الروم. وعلى الجانب الخاص باللغة المستخدمة، بقيت اللغات الحكومية كما هي؛ حيث استمر استخدام اللغة اليونانية واللغة القبطية في مصر، واللغتين اليونانية والآرامية في بلاد سوريا، واللغة الفارسية واللغة السريانية في العراق وبلاد فارس، بينما استمرت الشعوب التي يحكمها المسلمون في التحدث باللغات التي اعتادت عليها من دون تغيير. واعتنق قليلاً من اليهود والمسيحيين الدين الإسلامي؛ مستفيدين من ميزة العقيدة الإسلامية المتمثلة في حمايتهم بصفتهم من أهل الكتاب. كان الزرادشتيون والمانويون في العراق وبلاد فارس والذين كانوا يواجهون معاملة أقل تسامحاً من الحكام السابقين فأصبحوا أكثر ميلاً للتحول نحو الإسلام. وفي نفس الوقت، منح المسلمون الأوائل مكانة فخرية بشكل تدريجي لكل من يعتنق الإسلام من الأقوام غير العربية وأصبحوا يعتبرونه عضواً عميلاً (وكان يطلق عليه لقب مولى، والجمع موالي) لقبيلة من القبائل العربية. بينما كان الأجناس غير العربية الأخرى مثل الفرس والآراميون الذين كانوا يتوافدون على مدن الحاميات العسكرية، مهيئين بشكل خاص للتحول نحو اعتناق الإسلام؛ ونتج عن ذلك، أنه سرعان ما فاق عدد الموالي (المسلمين من غير العرب) عدد العرب أنفسهم في بعض المدن التي تقع تحت الحكم الإسلامي مثل البصرة والكوفة. ويا لها من مفارقة! عندما نأخذ في الاعتبار أن تلك المدن قد شُيدت بالأساس بهدف إفساد الحضارة الفارسية للعرب! ثم أصبحت نفس هذه المدن بوتقة تنصهر بداخلها جميع الثقافات، كما تحولت إلى مراكز للتبادل الثقافي.

    وقوع الانشقاقات داخل الأمة الإسلامية

    ومن ناحية أخرى، تحولت المدن التي بها الحاميات العسكرية بؤراً للانشقاق والمؤامرة، وبخاصةٍ بعد أن اغتالت يد الغدر عمر بحكمته ورشده؛ وقد سبق وأن عين عمر قبل وفاته متأثراً بجراحه مجلساً للشورى أو لجنة انتخابية لاختيار الخليفة الثالث الذي سيعقبه. ويستشهد بعض الكتاب المعاصرين بهذه اللجنة الانتخابية كدليل على ترسيخ مبدأ الشورى ولإثبات أن الإسلام من مراحله الأولى كان ديمقراطياً. وتتألف لجنة الشورى في واقع الأمر من صحابة محمد ذوي الأصل المكي، وجميعهم كانوا تجاراً للقوافل وينتمون إلى قبيلة قريش. وربما بدافع من التنافسية الشخصية، وقع اختيار أعضاء لجنة الشورى أخيراً على رجلٍ من بينهم ينتمي إلى الأمويين المرموقين وهي العشيرة التي عارضت محمد لفترة طويلة.

    وقع اختيارهم على عثمان (الذي حكم في الفترة من 644 إلى 656 م)، وذكر عنه التاريخ أنه كان خليفةً ضعيفاً، يشغله إرضاء التجار الأغنياء من أهل مكة، كما أُخذ عليه أيضاً الاستعانة بأقربائه الأمويين وتنصيبهم في مواقع السلطة. في حين أنه من ناحية أخرى، يُعد مثل هذا التفسير تفسيراً غير عادلاً لفترة حكم عثمان، وهو من تحدى عشيرته ليصبح واحداً من أول من اتبع دين محمد، كما أنه تصدى لكثير من صحابة محمد عندما أمر بصفته الخليفة بإعداد نسخة واحدة موثوقة من القرآن الكريم، وأمر بحرق جميع النسخ التي تحتوي على قراءات أخرى متنوعة تختلف عن هذه النسخة الموثوقة، وهو ما قد أثار حفيظة العديد من القراء بسبب تحول نسخهم الغالية على أنفسهم من قراءاتهم للقرآن إلى سحابات من الدخان. ولكن، هنا يبرز السؤال؛ هل كان أداء الإسلام سيكون أفضل مع وجود سبع قراءات متنافسة لطرق كتابته المقدسة؟! أما بالنسبة لاستعانة عثمان بأقاربه، وذلك على الرغم من صحة أن البعض منهم تطلعوا إلى استحواذ السلطة والبعض الآخر لم يعرف كيف يحكم بشكل جيد، إلا أن عثمان لجأ إلى استخدام علاقاته العائلية للتأكيد على سيطرته على الحكم بشكل أكبر. ويمكن القول أن هناك بعض النماذج الإيجابية لحكم عثمان، فعلى سبيل المثال كان ابن عمه معاوية (الذي عينه عمر بالفعل) يحسن إدارة بلاد سوريا بشكل جيد، كما بادر عثمان وشقيقه من الرضاع في مصر ببناء أول بحرية إسلامية لغزو قبرص عام 655 م. في حين أن الخطأ الحقيقي الذي ارتكبه عثمان هو مواصلة سياسات عمر في وقت كان أكثر تعقيداً ومن دون أن يمتلك شخصية قوية مثل شخصية عمر. ومنْ ثَمَّ، وعلى إثر إدراك المسلمين لهذه الحقيقة، بدأت المؤامرات تحاك ضده في مدن الحاميات العسكرية في العراق.

    عثمان وزمن من الخلافة المضطربة

    توجد تناقضات كبيرة فيما يتعلق بالتقديرات التقليدية لشخصية الخليفة الثاني والخليفة الثالث؛ وعبر عن ذلك أحد من عاصر هذيْن العهديْن للخلافة قائلاً إن «حظ الإسلام كُفن مع نفس الكفن الذي وضع به عمر». كما تحدث عثمان إلى أهل المدينة من على منبر مسجد محمد شاكياً «لقد أطعتم عمر، حتى عندما كان يجلدكم بسوطه؛ فلماذا لا تطيعون شخصاً ليناً ولا ينزل بكم العقاب.» وعلى جانب آخر، لعل السبب وراء ذلك، يرجع إلى أن عمر كان ينام – وهو الخليفة - على فراش من أوراق النخيل ويرتدي نفس الرداء الصوفي الذي تغطيه الرقع، في حين جمع عثمان أثناء خلافته ممتلكات تزيد قيمتها عن 100 مليون دولار. ولكن من ناحية أخرى، يقلل الباحثون المعاصرون من تأثير تباين الشخصية بين الخليفتيْن، ويؤكدون على الظروف المتغيرة التي عاشتها الأمة الإسلامية؛ حيث وصل تدفق الثروات والكنوز على المدينة المنورة ومكة إلى حدٍ يتخطى ما كان من الممكن أن يتوقعه محمد على أية حال من الأحوال، وبالتالي فهو في نهاية الأمر يتجاوز قدرة خلفائه على استيعابه أو تصوره؛ حيث تفشت الأطماع والرذائل. وجدير بالذكر، أنه بعدما امتدت الفتوحات الإسلامية الأولى إلى حدود الدولة الإسلامية لتشمل (برقة من الغرب، وجبال طوروس في الأناضول من جهة الشمال، وخراسان في الشرق، والمحيط الهندي وأعالي النيل من جهة الجنوب)، لم يكن بوسع رجال القبائل العرب أن يتحولوا من محاربين يغيرون على الحدود إلى قوات من الشرطة العسكرية .لذلك، كانوا لا يسعهم أن يجلسوا مكتوفي الأيدي في مدنهم بالحاميات العسكرية، وظلوا يندبون الفرص الضائعة لجمع الغنائم، ومن ثم، تآمروا ضد الخلافة الموجودة في المدينة بعيدة عنهم.

    وبداية من عام 650 م تقريباً، هدد مزيج من موجات التمرد حكم عثمان؛ فمن ناحية كان كبار رجال الدين المسلمون الذين ينتمي معظمهم إلى أهل المدينة وكانوا قد استاءوا كيف أن يتولى أحد الأمويين قيادة الأمة الإسلامية وهم من حاولوا تدمير هذه الأمة من قبل. قراء القرآن الكريم الذين فقدوا السلطة بعدما أمر عثمان باعتماد نسخة واحدة فقط وحرق باقي القراءات هذا من ناحية أخرى؛ بينما كان هناك أيضاً العرب من أهل القبائل الذين تملكهم الغضب بسبب عدم وجود أراضي جديدة يستحوذون عليها ويأخذوا غنائمها. كانت الكوفة من أكثر مدن الحاميات العسكرية اضطراباً؛ وبدأت ثورة مفتوحة في هذه المدينة منذ عام 655 م، وانتشرت إلى أن وصلت إلى شبه الجزيرة العربية، كما وصلت إلى المدينة المنورة عام 656 م. حاصر المتمردون منزل عثمان - الذي لم يتلق أي حماية من جانب أيٍ من أتباع (صحابة) محمد؛ ثم اقتحمت مجموعة من المتمردين من مصر المنزل، وقتلوا الخليفة المسن وهو جالس مع زوجته يتلو القرآن. وبعد خمسة أيام من هذه الواقعة، وافق عليّ على أن يصبح الخليفة الرابع (وقد تولى الحكم من عام 656 إلى 661 م) ولكن كان ذلك وهو غير راضٍ.

    عهد خلافة علي

    وهكذا بدأت للمرة الأولى عصر الاضطرابات في الإسلام والتي يطلق عليها العرب عصر الفتنة. ويبدو أن هذه الظروف الاستثنائية كانت غير عادلة بالنسبة لعلي، فكان يبدو مؤهلاً تأهيلاً عالياً لتولي الخلافة؛ فهو ابن عم محمد وحاميه، وأول من أسلم من الذكور وزوج ابنة النبي فاطمة، وبالتالي كان هو والد الحفيديْن الوحيديْن لرسول الله وهما الحسن والحسين. وكان علي هو من خاطر بحياته حتى يتمكن محمد من مغادرة مكة بأمان خلال الهجرة من مكة إلى المدينة. كما قد حارب

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1