Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

جسور لا أسوار: Bridges, Not Walls
جسور لا أسوار: Bridges, Not Walls
جسور لا أسوار: Bridges, Not Walls
Ebook395 pages2 hours

جسور لا أسوار: Bridges, Not Walls

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

This book reveals the intricacies of the
modern relationships between the nations
of the Global North and those of the Global
South. It showcases the damages done to
the nations of the South by the arrogance and
mistreatment brought by the west, causing
global destabilization and hindering global
peace. It also challenges the blatant denial of
any and all contributions made by other global
civilizations to the growth and development
of the west, denying the contributions of the
Islamic civilization in particular
Languageالعربية
Release dateMar 2, 2023
ISBN9789927155888
جسور لا أسوار: Bridges, Not Walls

Related to جسور لا أسوار

Related ebooks

Reviews for جسور لا أسوار

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    جسور لا أسوار - Al-Kuwari Dr. Hamad bin Abdulaziz

    توطئة

    من الصّعب في هذا السياق الحضاريّ الذي نعيشه أنْ يبقى المثقّف من دون موْقفٍ، ففضيلَةُ وجوده في مجتمعه التزامهُ بقضايا الإنسان، وسعيهُ مع سائر الفاعلين الاجتماعيّين إلى بناء الوعي بتحدِّيات المرحلة التاريخيّة التي تمرّ بها حضارتنا العربيّة الإسلاميّة، وهي مرحلَةٌ موسومةٌ بالارتباك والأزمات، ومحكومةٌ بالصّراعات والتوتّر في العلاقات الدوليّة بين الشّمال والجنوب.

    وقد عملتُ طوال حياتي على الجمع بين الموقف النظريّ والممارسة العمليّة، فلا يكون المثقّف مجرّد صانعٍ للأفكار فحسب، بل ينبغي أنْ ينخرط في مجالات الفعل حتّى لا تظلّ أفكاره حبيسةَ التجريد وغير قابلة للتنفيذ في الواقع، لأنّ أصل الفكرة أنْ تجد طريقَها إلى نفع النّاسِ وتبديل أحوالهم نحو الأفضلِ.

    وقد خُضتُ منْ جملة ما خضْتُ تجربة الترشّح إلى منصب المدير العامّ لليونسكو، واصطدمت أفكاري وتطلّعاتي بالواقع، وكنتُ قد عبّرتُ عنْ حيثيّات تلك التجربة في كتابي «وظلم ذوي القُربى» لتسليط الأضواء على ما وقعَ عليَّ منْ ظلمِ ذوي القربى بخلافهم وتشتّتهم وتآمرهم بهدف تضييع فرصة أن يكونَ على رأس المنظّمة واحد من أبناء حضارتهم الجديرة بالمنصب ومسؤوليّاته، مثلما كشفتُ كيفَ استغلّ الغرب الخلاف العربيّ وتصويت عدد من العرب ليفوز بصوتٍ واحدٍ، فاستمرّ بفرض نظرته على الجنوب وإعاقة وصولِ أحد أبناء حضارة من حضارات الجنوب لسدّة المنظّمة، ورفض مبدأ دور الحضارة العربيّة الإسلاميّة بفرض نظرته على الآخرين بمظلّة الإسلاموفوبيا، فعزّز منْ قبضته على المنظّمات الدوليّة، وبذلك استمرّ في بناء الأسوار بدل أن ينتهز الفرصة ليعمل على بناء الجسور.

    ارتأيت عدم ترجمة «ظلم ذوي القُربى» إلى اللّغات الأجنبيّة كيْلا أنشر غسيلنا على حبالِ غيْرنا، وقمتُ بتأليف كتابي La civilisation opprimée «الحضارة المُضطهَدَة»، الذي تُرجم إلى الإسبانيّة، ومدارهُ التركيزُ على دور الشّمال في محاربة الجنوب والحيلولة دونَ وصول عربيّ إلى سُدّة منظّمة الأمم المتّحدة للتربية والعلم والثقافة، ورأيتُ منْ واجبي أنْ تكون النسخة العربيّة مختلفة عنْ نظيراتها بأنْ سلّطتُ الأضواء على فضل الحضارة العربيّة الإسلاميّة على الغرب، مستهدفًا عصفورين بحجر واحدٍ، لأذكّر أبناء هذا الجيل العربيّ بحضارتهم التي غُيّبت بسبب صراع العرب وتشتّتهم وتجاهل دورهم في بناء الحضارة الإنسانيّة التي ليست غيرَ خلاصة تكامل الحضارات وتفاعلها فيما بينها، وأدعو إلى بناء الجسور بدل رفع الجدران في ضوء مقاربة جديدة للعلاقات بين الشّمال والجنوب.

    مقدّمة

    ما زالت تلك الصّورة عالقة بمخيّلتي، رغم مرور سنوات كنتُ فيها ممثّلًا لبلدي لدى الأمم المتّحدة في نيويورك. إنّها صورة زملائي الدبلوماسيّين، وقد عصف بهم القلق، فاعتلت سيماهم تعابير الحيرة والعجز، وهم يبذلون ما في وسعهم لبلوغ حلولٍ، تبدو مستحيلةً أحيانًا، لوقف حرب وإحلال تسوية سلميّة بين قوى تتقاتل من دون هوادة...

    لقد أعادتني تلك الصّورة إلى مرحلة استقراء التاريخ الحضاريّ للإنسانيّة. ولا أنكر بأنّني استعدتُ ذلك الفعل الاستقرائيّ من زاويتي كعربيّ، حيثُ لا يمكنني أنْ أتنصّل منْ ثقافتي وبيئتي من دونَ أن يعني ذلك قطيعة مع ثقافات العالم، أو ابتعادًا عن فكرة «مأدبة المعرفة» التي تغذّيت منْ ثمارها طوال سنوات.

    كنتُ مولعًا بالطريق الأدبيّ الذي سلكه أمين معلوف، وهو يمزج بين الأدبيّ والتاريخيّ، ويبثّ الأسئلة بين طيّات رواياته حول العلاقة بين الذّات والآخر في مدار الأسئلة الحضاريّة. ووقفت طويلًا أمام روايته «الحروب الصليبيّة كما رآها العرب»، حين تناول معلوف «الرواية الحقيقيّة» أو «الأخرى» التي لم يطرحها الغربيّون بشأن قرنين من الصّراع بين العرب و»الفرنجة»، فقام باستدعاء شهادات الإخباريّين العرب لتكون مصدره الأساسيّ في بناء أحداث روايته وأطوارها. كانت تلك «الرواية» مُهملة طوال قرون، بل إنّنا كعرب لم نستوعب غير «الرواية» التي خاطها الغرب من دون فكر نقديّ، وتلقّفناها في شكل مسلّمات، بينما زعزعت رواية معلوف تلك المسلّمات، وطرحت وجهة النظر المُهمَلة حول قرنين من الحروب صنعا من دون ريب علاقة العرب بالغرب إلى حدّ يومنا.

    كانت الفكرة البسيطة التي توخّاها أمين معلوف تتركّز على سرد جديد لقصّة الحروب الصليبيّة كما نَظَر إليها وعاشها وروى تفاصيلها في الجانب العربيّ مجموعة من المؤرّخين والإخباريّين العرب في تلك الحقبة، وتولّدت الرواية في سياق تاريخيّ عرف فيه العالم نوعًا من الفتور والجمود في العلاقات العربيّة بالغرب عامّة، وبتعطُّل الحوار بين الشرق والغرب، وتنامي سوء الفهم. ممّا وقفتُ عليه في الرواية من تميّزٍ ونباهةٍ تجعلنا نراجع المسلّمات في علاقة الغرب بالشّرق، تلك الإشارة الذكيّة إلى أنّ المؤرّخين العرب لم يتحدّثوا عن «حروب صليبيّة»، بل عن غزوات وحروب إفرنجيّة، ممّا يعني أنّ استخدام الغطاء الدينيّ لتلك الحروب لم ينشأ من الجانب العربيّ الذي لم يكن ينظر إليها كحرب دينيّة، وإنّما ألبس الغربيّون الغطاء الدينيّ لذلك الصّراع، وهو ما ألقى بظلاله على العلاقات بين العالم الغربيّ والعالم العربيّ إلى الآن.

    لم يبحث معلوف عن إدانة الآخر لأنّه أقصى المصادر العربيّة لتلك الوقائع، بقدر ما بحث عن الإنصاف التاريخيّ الذي يُعيد من جديد ترتيب العلاقة بين الغرب والشّرق، فلا يُمكن بناء حاضر ومستقبل الأجيال من دون مراجعات مشتركة للإرث التاريخيّ والحضاريّ، وقبل فهم الحاضر علينا الاتفاق على فهم الماضي.

    لسنا وحدنا بالطبع من يحمل هذه التحفّظات على الخطاب الغربيّ. آخرون من الحضارات الأخرى لهم التحفّظات نفسها، وإذا وصّف الغرب حروبَ العرب مع الفرنجة في خانة الحروب الصليبيّة، فإنّه بادر بتوصيف احتلاله للقارّة الجديدة، بمصطلح «اكتشاف» وبإقصاء وجود فعليّ للسكّان الأصليّين الذين لم يكونوا ينظرون إلى العمليّة التوسّعيّة والعنصريّة الأوروبيّة باعتبارها «اكتشافًا»، ولم يكن ذاك «العالم الجديد» بالنسبة لهم جديدًا.

    تتخفّى الرؤية في المسمّيات، وتصير اللغة موطنًا للمواقف من الآخر. ما هو مقلق بحقّ، أنّ هذه اللغة تسود لغلبة حضارة من يستخدمها، وتنتشر فتزيد في وضع الغشاوة على الشّعوب، التي تستسلم لتلك المسمّيات باعتبارها حقائق، وليست هي غير تعبيرٍ عن وجهة نظر الخطاب الغربيّ الذي لم يبارح نزعة التفوّق.

    لذلك فإنّني رأيتُ في صورة أطياف زملائي في أروقة مجلس الأمن بين أبراج مانهاتن، ثمرة سوء الفهم التاريخيّ بيننا وبين الغرب، وهو سوء فهم شمل الغرب بحضارات وثقافات أخرى أيضًا. ورأيت في تعثّر خطاهم النتيجة الحتميّة لذلك، فقد صاروا يُواجهونَ الخواء والفراغ، عاجزين عن ابتكار حلول لدوّامة المشاكل المتلاحقة في علاقات الأمم ببعضها، بعد أن عقدوا العزم على إحلال السلام بين بني البشر.

    كانوا للأسف الشّديد على شاكلة البهلوان الذي يسير على خيط فوق الهاوية من دون أن تُمدّ تحته شبكة تحميه في صورة الوقوع، أو أيِّ وسيلة تساعده على تحقيق توازنه الذي يحفظ حياته.

    تساءلتُ طويلًا، هل كان هذا المشهد وليد تفاقم وضع العلاقات الدوليّة، أم أنّه نتاج لعقود -وربّما قرون- لسوء الفهم بين الحضارات؟ ألا يعود ذلك إلى إهمال «الحضارة الغالبة» لأصوات الحضارات الأخرى؟ وهل أنّ الحضارة نفسها في تعريفاتها المتداولة تصنّفنا متحضّرين أم تضعنا في خانة «البرابرة»؟ وكيف لمثل هذا التصنيف أنْ يُساهم في تحقيق السّلم العالميّ؟

    إنّني على ثقة من أنّ الوضع الراهن هو سليل أفكار متغلغلة في الفكر الغربيّ أساسًا، فرغم نزعة الخطاب الثقافي الغربيّ ومؤسّساته الداعية إلى المساواة بين الأمم، فإنّ الأزمات المتلاحقة للحوار العالميّ تجعلني أستعيد تلك العوائق التي ظلّتْ تكبّل لاوعي الخطابات البرّاقة التي ترفع عاليًا الأعراف الدوليّة، وتعجز عن إبداء حلّ لأبسط خلافٍ دوليّ.

    أذكر جيّدًا ما ذهب إليه المفكِّر فريديريك إنجلز في تحليلاته للاحتلال الفرنسيّ للجزائر، حين هلّل له واعتبره تطوّرًا مهمًّا للحضارة، مدّعيًا أنّ هذا الغزو وسيلة مُثلى لدخول بايات تونس وطرابلس في طريق الحضارة، وعلى شاكلته سارَ صديقه كارل ماركس في دفاعه عن الحكم البريطانيّ في الهند، بدعوى أنّه لولا التدخّل البريطانيّ لما نتجت الثورة الاجتماعيّة، ورأى في مَهمّة الإنجليز تكليفًا مزدوجًا: تدمير بُنى المجتمعات الآسيويّة وبناء الأساسات المادّيّة للمجتمع الغربيّ في آسيا!

    كانت تلك الأفكار التي صدرت عن مفكِّريْن قاوما النظام الرأسماليّ ونقدا الحضارة الغربيّة، صادمة في علاقتها بشعوبٍ أخرى في شمال إفريقيا وآسيا، حيثُ شرّعت للاحتلال بدعوى الانتقال من وضع اجتماعيّ إلى آخر، هو في كلّ الحالات «وضع غربيّ» بامتياز، أي أنّهما لم يخرجا عن الفكرة المحوريّة التي نمت في الفكر الاستعماريّ الغربيّ، وهي الادّعاء بتفوّق الحضارة الغربيّة على سائر الحضارات.

    في غمرة هذه الاستعادة، كنتُ أستلُّ من هذا الوضع المرير شيئًا من السّخرية السّوداء، حينَ تقرع أذنيّ كلمات المهاتما غاندي وهو يردّ على سؤال: «ما رأيك في حضارة الغرب؟»، بقوله: «لم أكن أعرفُ أنّ لديهم حضارة!». لا شكّ في أنّ غاندي عميق الرؤية، وكان يميّز بين امتلاك الغرب للثقافة بينما يشكّ في البُعد الأخلاقي للحضارة الذي أدّى به إلى استعمار الدّول والتنكيل بالشعوب ومعاملتهم معاملة البشر المفتقرين للمقوّمات الإنسانيّة.

    لا شكّ في أنّ الأزمات تؤدّي إلى تدافع الأفكار وتدفع ما هو خافٍ نحو السّطح. وسواء كانت أزمات اقتصاديّة أو سياسيّة فإنّها تؤدّي حتمًا إلى وضع مواقف وسياسات الدول والمؤسّسات على محكّ اختبارات حضاريّة، تكشف رؤيتها الحقيقيّة للآخر.

    لقد واجه العالمُ لحظة تاريخيّة فارقة أثناء جائحة كوفيد-19، وزاد من حدّتها العجز الذي طالَ الأمم المتّحدة حين فقدت القدرة على تنسيق عمليّات التصدّي لأزمات غير متوقّعة ممّا أدّى إلى اختلال توازناتها الداخليّة وإصابتها في مقتل.

    تجلّت النقائص بشكل صارخٍ في كيفيّة مواجهة جائحة كوفيد-19 من قِبلِ المنظّمة العالميّة للصحّة، وهي إحدى وكالات الأمم المتّحدة، ليكتشف العالم مدى هشاشتها وتخبّطها في انقسامات مُخجِلة تعكس ما كان يدور في الغرف المغلقة من غياب تامّ للتوافق العالميّ وللتعاون الدوليّ، وما كانَ يُطبخُ فيها من مواقفَ أنانيّة ومصالح ضيّقة اتّخذتها الأطراف المعنيّة.

    ذلك أنّه لم يحدث منذ تأسيس الأمم المتّحدة عام 1948 أن أدانَ رئيس أميركيّ على ذاك النحو الفجّ منظّمة عالميّة معنيّة بصحّة البشريّة، بل ذهبت فظاظتهُ أبعد من ذلك عندما قرّر تجميد المساهمة الماليّة الكبيرة للولايات المتّحدة الأميركيّة. لعلّه استوحى ذلك من قرار مماثل اتّخذه سلفهُ عام 2012 عندما أعلنت واشنطن إيقاف المساهمة الماليّة الأميركيّة لمنظّمة عالميّة كانت وقتئذ في أمسّ الحاجة إليها.

    تجعلنا هذه العوامل ندرك على نحو متزايد، بعد ثلاثين سنة من نهاية العالم القديم وسقوط جدار برلين، أنّنا نعيش عصرًا ضبابيَّ المعالمِ في الربع الأوّل من القرن الحادي والعشرين. فلم ينعم العالم منذ انبعاث النّظام العالميّ الجديد، بالسّلام والأمن والاستقرار، بل سيطر الاحتقان على العلاقات بين القوى الدوليّة الرئيسيّة، واستمرّ سباق التسلّح، وخيّم شبح الحروب في أكثر من مكان حول العالم، واتّسعت الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وتصدّرت التيّارات القوميّة والشعبويّة المشهد السياسيّ في العديد من دول العالم. وباتت الأدبيّات الغربيّة تُحذّر من «احتضار الديمقراطيّة»، و»نهاية عصر الليبيراليّات»، وانحسار السياسات المتعدّدة الأطراف لصالح السياسات الأحاديّة.

    بدّدت سوداويّةُ هذا المشهد آمالَ وأحلام دُعاة السّلام، وزاد في إحباطهم تآكل الشّعارات الأصيلة لهياكل الأمم المتّحدة، بسبب عجزها عن مواجهة التحدّيات الراهنة، وتراخي أداء أجهزتها، ومنها وكالتها المعنيّة بالثقافة، أي اليونسكو(1). صارت عمليّة تقييم ومراجعة هذه الهياكل ضرورة قصوى في هذه الفترة التاريخيّة، وتلبيةً لدعوات مثقّفين ومنظّمات ودول مختلفة نادت منذ سنوات إلى خوض الأمم المتّحدة مرحلة الإصلاح، ناهيك عن استضافة العاصمة القطرية، الدّوحة، مطلع عام 2017، مؤتمر خاصّ بـ «تنشيط النقاش حول إصلاح مجلس الأمن» كجزء من الإصلاح الشّامل للأمم المتّحدة.

    يتّضح لنا على نحو جليّ أنّ الآمال التي رافقت فترة التأسيس عام 1945، والتي عقدها الآباء المؤسّسون، أضحت عصيّة المنال. وهو ما يجعلني على قناعة تامّةٍ بأنّ «عالم ما بعد كوفيد-19» لن يكون مشرقًا كما نتصوّر، ما لم يتحرّك ذوو الهمم وأصحاب العزائم الصادقة، وهو ما يُشير إليه من دون مواربة توالي المخاطر التي تترصّد مجتمعاتنا في هذا الربع الأوّل من القرن الحادي والعشرين، فتضع من جديد كلّ شعارات الأمم المتّحدة على المحكّ.

    نحن اليوم، من دون أدنى شكّ، نعيش على وقع متغيّرات متسارعة، لم تعرفها البشريّة من قبلُ، وهي تغيّرات تُجبر العالم على مواجهة تحدّيات غير متوقّعة، فقد مرّت الإنسانيّة بأهوال كثيرة عبر تاريخها الطّويل، وتكبّدت خسائر كبرى بسبب الكوارث الطبيعيّة أو الآثام البشريّة من حروب ونزاعات، ولكنّها لم تشهد واقعًا شبيهًا بهذا الواقع. إذ كان من المفترض أن تكون الإنسانيّة أقوى في مواجهة مخاطر كوفيد-19 بفضل وجود الأمم المتّحدة، ولكنّ الآمال التي عقدها البشر على هذه المنظّمة باتت بين براثن السّراب. إنّنا نشهد اليوم، وللأسف الشّديد، انهيار عالم وبداية انبعاث عالم آخر مجهول عجزت المنظّمة عن لعب دور جوهريّ في ولادته، والمشكلة الأكبر أنّنا نرى من جديد نموّ التمزّق الحضاريّ وصعود تيّارات يمينيّة معادية للآخر.

    في فترة اجتياح الوباء تملّك الخوف الجميع على امتداد أشهر طويلة، وطغى على غيره من الحسابات. ويبدو لي أنّ جميع سكّان العالم صُدِموا وهم على شفا تلك الهاوية التي تراءت أمام أنظارهم، وهم في الحَجْر الصحّيّ الإجباريّ داخل بيوتهم، وقد انقطعت بهم السبل على حين غرّة ومن دون سابق إنذار. فجأةً، أدرك الجميع بين عشيّة وضحاها هشاشتنا أمام مخاطر استثنائيّة بالمعنى الحقيقيّ للكلمة، بعد أن تجاهل الجميع تقريبًا التحذيرات السابقة، وعدّوها تحذيرات تقليديّة، على غرار التحذير من الحرائق أو الفيضانات وغيرها من الكوارث الطبيعيّة، قبل أن يدركوا أنّ الأمر جلل، وأنّ الموت يحصد الأرواح بالآلاف بسلاح خفيّ لا تدركه الأعين، ولم تنفع معه أكثر العلاجات تطوّرًا، وكلّ ما أبدعته عبقريّة الإنسان حتّى الساعة.

    تُسعفنا ذاكرتنا القريبة باستدعاء صور بعض الكوارث التي ضربت الإنسانيّة في السنوات الأخيرة، وجعلتها تعيش على وقع الكوابيس بدل الأحلام. فقد داهم النّاسَ عام 2003 وباءُ «سارس» (المتلازمة التنفّسيّة الحادّة الوخيمة) فنشر بينهم الذعر والهلع بعد أن ظنّوا أنّه مجرّد إنفلوانزا موسميّة اعتياديّة. تلته أزمة الرهن العقاريّ 2008، التي ذكّرتنا بالأزمة الاقتصاديّة العالميّة لعام 1929، والتي كانت ستُتلف الجمل وما حمل، لولا تدخّل الدول التي أنقذت أكبر البنوك في العالم من الإفلاس.

    بعد ذلك، ومن دون سابق إنذار، عاش العالم على دويّ بركان إيافيالايوكل في أيسلندا، وتطاير رماد الحمم البركانيّة ليبلغ تسعة كيلومترات في السماء، ويخلق سحابة سوداء أعاقت حركة الطيران في العالم، وأحدثت كارثةً بيئيّة غير مسبوقة في شمال أوروبا.

    في خضمّ هذه الكوارث المتلاحقة والمُوجعة، أظهر الأميركيّ بيل غيتس رصانة غير معهودة وحدسًا وقّادًا، عندما صرّح عام 2017: «حين كنت صبيًّا كانت الكارثة المخيفة هي الحرب النوويّة. لكنّني أعتقد اليوم أنّ ما يمكن أن يقتل عشرة ملايين شخص في العقود القادمة سيكون بالتأكيد فيروسًا مُعديًا جدًّا وليس حربًا».

    ها قد تحقّق حدس بيل غيتس، وسيطر على العالم وباءٌ زلزل طمأنينة البشر، كما أطاح بقناعات كثيرة حول شعارات عمّرت طويلًا في أروقة ومنابر الأمم المتّحدة، من دون أن تستطيع الاستجابة لتحدّيات المرحلة. إلّا أنّ هذا الوضع الشائك والضبابيّ، يدفع الضّمائر الحيّة إلى تحمّل المسؤوليّة التاريخيّة من أجل تصحيح مسارات منظّمات دوليّة بُعثت من أجل نُصرة وخدمة الإنسان أينما كانَ. ولا يمكنني في هذا السياق التاريخيّ إلاّ أن أكونَ ملتزمًا بدوري كمثقّف من أجل أنْ تظلّ المُثُل العُليا هي المرجع الأساسيّ للممارسات والإجراءات داخل هذه المنظّمات، وهو الالتزام الذي لم أحِد عنه قيد أنملة طوال عملي في مختلف المناصب التي تقلّدتُها على امتداد أربعة عقود، ومنذ 1974، في مختلف المنظّمات الدوليّة، لا سيّما في مجلس الأمن.

    ممّا لا شكّ فيه أنّ وظائفي في الأمم المتّحدة أتاحت لي فرصة النضال من أجل التوافق بين الشمال والجنوب، والسعي لكسبِ نتائج ملموسة بعيدًا عن البروتوكول السياسيّ خاوي الوفاض. غير أنّ التزامي بهذا النضال لم يمنعني يومًا عن

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1