Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

حكايات الخبيئة
حكايات الخبيئة
حكايات الخبيئة
Ebook521 pages3 hours

حكايات الخبيئة

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

أثناء مروره أمام جيرار الفرنسي قرب فندق ريتز لمح هذا الخاتم، بهره فصه الياقوتي، إنه من أنقى درجاته، عندما لمح شعاعه أيقن أن سيدة واحدة في العالم تستحقه لو لم يجد طريقه إليها لأصبح هذا ظلمًا بينًا.
يعرف أن كل المقدمات تؤدي إلى قبولها الهدية، بعد إقرار اختياره ألوان ملابسها ونوعيتها أُزيل حاجز ضخم بينهما، اقترب منها أكثر بعد وصفات الأعشاب التي أثمرت نتيجة سريعة انعكست على ملامحها، لم يذكر لها أسرار التركيبة وتفاصيل التحويجة، أتقن إخبارها بتفاصيل كثيرة لكنه لا يقول شيئًا مُهمًا خلالها.
مثلهن كلهن لحظة رؤيتهن الهدايا، مهما بلغت الأنثى من مكانة أو ثروة فالهدية عندها لها موقع ولها تأثير، اتسعت عيناها، غير قادرة على احتواء الأشعة المنعكسة من الفص الياقوتي الثمين كأنه كوكب صغير في مداره.
"إنه من بورما حيث أنقى أنواع اليواقيت، اسمه بين الجواهرجية في مصر شطف النار، أو أحمر دم الحمام..".
قالت بدلال:
"بتعرف في كل حاجة..".
أطرق راضيًا مبديًا الخجل:
"من فضلة خيرك..".
Languageالعربية
PublisherNahdet Misr
Release dateJan 1, 2014
ISBN9789771449102
حكايات الخبيئة

Read more from جمال الغيطاني

Related to حكايات الخبيئة

Related ebooks

Reviews for حكايات الخبيئة

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    حكايات الخبيئة - جمال الغيطاني

    استــقــرار التــدهـــور

    كل شيء ممكن هنا. وكل شيء غير ممكن أيضًا.

    ليس أسهل من الإحاطة بالأحوال المؤسسية، وما أعسر أيضًا! يتوقف الأمر على الساعي، على صاحب القصد ومُضمر النية، مجرد الانتماء إليها باعث على الثقة وإظهار الخيلاء، أو الزهو أحيانًا، يكفي أن يُقدِّم الإنسان نفسه باعتباره منتميًا إلى جهة ما تتبعها حتى تتغير النظرة إليه على الفور. خاصة في المواقع الحساسة أو ذات الصلة، مثل سائر أماكن التدوين، والعبور، بدءًا من مراكز استخراج شهادات الميلاد وبطاقات تثبيت الهوية، إلى أقسام المحفوظات التقليدية والإلكترونية، ودور الوثائق، ومراكز إثبات الأنساب. ونقاط العبور المحلية أو الحدودية. بحرية أو برية، الموانئ بأنواعها والمراسي، والمطارات الرئيسية والفرعية ومراكز الرصد العلنية والسرية، وبعض العاملين يُقدِّمون أنفسهم متطلعين إلى من يواجههم أو يقصدونه بجرأة وتكتسي نظراتهم حدَّة ولمعة إذ يذكرون الجهة التي ينتمون إليها. وقلة منهم طبعوا أسماءهم مقترنة بالمؤسسة مباشرة. أو يذكرونها عند اتصالاتهم الهاتفية. كأن اللفظ الدالّ. المؤشر جزء من الألقاب والأسماء. بل إنه يبدو كإطار دالٍّ، حادٍّ.

    رغم كل الأطوار وتقلُّبات الأحوال وإعادة التنظيم وحلول أشخاص رئيسيين أو ثانويين مكان آخرين، إلا أن التكوين كله استمر مصدرًا للقوة والمتانة، وبث التأثير. ورغم ضيق بعض الجهات الأخرى فإن ثمة وعيًا شاملًا لا يمكن تحديد مصدره أو منبته يُرسي حقيقة يعيها الجميع أنهم في حاجة إلى حضور هذا الكيان الراسخ، المشع، الحائز على الثقة، إن مثوله هكذا يُضفي قوة على تكوينات أقل شأنًا مع أنها أعتق وألزم!

    استمر ذلك رغم كل الهنات والوعورات، وبدأ الموضوع متصلًا بجوهر خاص نجح المؤسس في إرسائه وتقوية دعائمه، بحيث تظل المنشأة قادرة على البث، مُشعَّة، حتى في أوقات الشِّدة التي تمر بها، وترسَّخت قناعة عند الكافة أنها لو تعرضت للتصفية فستظل موجودة بشكل ما، بهيئة ما، وسيظل من يحرص على التعلق بها والسعي بها هنا وهناك.

    ليس ذلك تصورًا قاصرًا على أمثال الجواهري أو عم صديق أو عطية بك ومن يماثلهم، لكنه شمل الجميع حتى أولئك الذين قُدِّر لهم أن يعبروا بداية الألفية الثالثة والتي كانت تبدو بعيدة جدًّا، نائية تمامًا، عندما وضع المؤسس الحجر الأول وأزاح الستار عن اللافتة التذكارية المطلة على الحفرة.

    مذكرات السفراء الأجانب والقناصل والشخصيات الفاعلة، المحفوظة في سفارات الدول العظمى والدول التي تدور في أفلاكها أشاروا إلى نفس المعنى في مذكراتهم التي نشرها بعضهم بعد انتهاء خدماتهم أو تقاعدهم أو في ذكرى الأزمات الكبرى، وقوعها وانفراجها، بدئها وانتهائها.

    قال أحدهم -سفير ألبانيا التي كانت شيوعية: إن المؤسسة من الهيئات الفاعلة وإنها قوية، مؤثرة، مرَّت بأطوار عديدة، لكنها خرجت من الهزَّات العنيفة أكثر ثباتًا. لخص الأمر كله عندما أكد أنها يمكن أن تضعف، أن تصل إلى مرحلة تبدو خلالها على شفا، لكنها لا تحتضر، ولا تموت أبدًا.

    انتشر مثل هذا الكلام خلال الحقبة الأخيرة، خاصة بعد تمكن الرئيس الأسبق لقطاع الحواسب الآلية، وترسُّخ مكانته، وسريان ملامحه في الكيان كله، ومرور الأعوام في إثر بعضها وهو في الطابق الثاني عشر متسيِّد، مُتغلغل، مُحتجب عن الكافة معظم الأوقات إلا فيما ندر، حتى تجاوز مكثه ما قضاه منشئ الكيان ومؤسس البنيان المادي والمعنوي، هل يحتاج القوم إلى إشارات كهذه، خاصة بعد المعلومات الثابتة المؤكدة عن الهدر الأتم والخسران المبين في قطاعات متعددة؟

    ربما.. لا يستبعد البعض حضور عطية بك بشكل ما، إنه ما زال قادرًا على إطلاق الإشاعات وصكِّ العبارات رغم تقدمه في العمر، وتمكن أمراض عديدة منه، لكن الأدهى والأمرَّ ذلك الحصار المحكم المضروب حوله منذ الإفراج الصحي عنه، خشية إقدامه على تنفيذ القفلة المرورية مرة أخرى. إن حراسته ومراقبته تمثل عبئًا على أجهزة الأمن السيادية، والمؤكد أن قسمًا خاصًّا يتولى ذلك مُستخدمًا الأساليب المتطورة، ثمة خشية مستمرة من وقوعه في قبضة دوائر معادية من الخارج أو الداخل، رغم صموده الأتم في مواجهة كافة المحاولات التي بُذلت لمعرفة سر الإشارات السبع -وقيل الخمس- التي نفذ بها القفلة.

    هل يمكن لعطية بك أن يتعاون مع سادة المؤسسة الجدد -بالنسبة إليه طبعًا- إذا طلبوا منه شيئًا؟

    نعم.. المؤكد أنه ما من إنسان أمضى قدرًا من عمره هنا إلا وظل داخله التزام ورغبة في التلبية إذا دعا داعٍ حتى لو التحق بهيئة أخرى، أو هاجر إلى ديار غير الديار.

    هل يتبع ذلك معنى المثل الشائع: «القديمة أحلى ولو كانت كحلة»؟

    لا... الأمر مختلف تمامًا وأعقد. للمؤسسة منزلة ومعزَّة خاصة، لا يماثلها شعور أو حالة أو طور آخر، حتى عند أولئك الذين يُعلنون السخط عليها أو الضيق بها أو يشرعون في التمرد عليها، ولهذا تفصيل يطول.

    من المحتمل أن يكون عطية بك وراء العديد من الأقاويل والمعاني المستترة التي تتردد خلال الحقبة الأخيرة والتي تدور بشكل ما، مباشر وغير مباشر حول الكيان القائم، القديم.

    نعم... الأمور مُقضَّة، مُقلقة، باعثة على الخشية والتوجُّس خِيفة، من أي الأسباب لا أحد يمكنه التحديد أو التعيين أو القطع، لكنَّ ثمة إدراكًا عامًّا أن نقطة ما تكمن في الزمن الآتي سيقع عندها أمر مهول، صدام، انهيار، تبدُّل.

    في أي اتجاه؟

    لا أحد يدري؟

    ماذا يمكن؟

    لا يمكن القطع أو الاستدلال!

    بل إن بعض العُتاة ربط بين الظواهر الطبيعية والأحوال المؤسسية وظهور الأبله، من المعروف أن أراضي الديار كافة بعيدة عن أحزمة الزلازل المرصودة عالميًّا وهذا ما جعل مصر آمنة من هذا النوع من الكوارث الطبيعية، رغم وقوع بعضها على فترات مُتباعدة، والزلزلة التى هدمت فنار الإسكندرية في القرن السابع أمرها معروف، وللإمام السيوطي مؤلف متداول عنوانه «الصَّلصلة في وصف الزلزلة» يورد فيه أهم الزلازل التي وقعت حتى عصره، غير أن أشهرها في العصر الحديث ما وقع منتصف القرن التاسع عشر وقيل إن مركزه ناحية دهشور القريبة من القاهرة، لكن ثبت عدم دقة هذه المعلومات خاصة بعد الزلزلة الكبرى.

    بدأت عصرًا، تمام الثالثة وعشر دقائق، ورغم قِصر المدة التي لم تتجاوز أربعين ثانية فإنها خلَّفت ذعرًا لم يعرفه القوم لشدتها وصعوبتها، لم تعرف الديار مثلها خلال هذا القرن على الأقل، بدت القاهرة بعدها مُنهكة، مُتعبة، وبالطبع تضرّر الفقراء المقيمون في البيوت العتيقة الآيلة للسقوط وخرجوا إلى الطرقات بأمتعتهم القليلة، ولجأ بعضهم إلى المساجد والمدارس والأماكن الفضاء، يقول من تواجدوا في المقر الأصلي: إن ما جرى للبناء لم يقع لأي عمارة أخرى بمصر أو المناطق التي تأثرت بالزلزلة والتي شعر بها سكان الجزء الجنوبي من جزيرة كريت.

    تمايل المقر كنخلة في عاصفة حادَّة، قوية، حتى إن المحتويات التي كانت تبدو ثابتة مثل المكاتب والمقاعد الوثيرة المبطَّنة بالجلد، ساكسونية الطراز، صارت تنتقل من أقصى الغرف إلى أدناها وكأنها أقراص طاولة خفيفة، لكن الجدران والسلالم لم يظهر بها أي شروخ، ولم تسمع لها طقطقات كما حدث في بعض العمارات الحديثة، يعرف القدامى أن المبنى مصمَّم ضد الزلازل القوية والتي لم تقع بعد. إذ إن أقوى ما عرفه العالم لم يتجاوز سبع درجات على سلم ريختر، المبنى يمكنه تحمُّل هزة من تسع درجات واثنين من عشرة، ومثل هذه الزلزلة تقتلع الأشجار لكنها لا تؤثِّر على المقر الأصلي المتين رغم ما يبدو على طلائه من عتاقة، في القاهرة كلها لم يكن إلا عمارتان معمرتان، إحداهما فندق سميراميس القديم، ومقر الأهرام الذي شيَّده محمد حسنين هيكل وافتتح عام تسعة وستين بمؤازرة مباركة من الرئيس جمال عبد الناصر.

    استمرت الزلازل لعدة أيام تالية، كانت مباغتة، لا يمكن التنبؤ بها أو التحذير منها، عدا الحيوانات التي أكَّد البعض أنها تجري وتُطلق أصواتًا حادًّة مُغايرة لما اعتاده الخلق منها.

    مرصد حلوان أصدر عدة بيانات اعتبر فيها تلك الهزات توابع للزلزلة الكبرى، ولكن بعض أساتذة كلية علوم عين شمس رفعوا مذكرة سرية إلى جهة سيادية أكدوا فيها أن ما يجري مقدمات لهزة كبرى لا يمكن التنبؤ بحجمها أو طبيعتها وأن القول بالتوابع فيه تضليل وتهدئه للخواطر وصرف نظر عما قد يقع في أي لحظة.

    لم يكن هذا التقدير السِّري الوحيد الذي عرف طريقه إلى الدوائر العليا، ولكنّ ثمة تقريرًا علميًّا آخر تم إعداده في القاهرة، في مركز الدراسات الطبيعية بجامعة القاهرة والذي يتلقى أبحاثًا ذات شأن من مراكز علمية مُتخصصة في الغرب، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية التي خصَّصت له جزءًا من المعونة يتم تسديده على هيئة أجهزة ومنح في جامعة أركانساس. يؤكد التقرير أن مركز الزلزلة في قلب القاهرة، وليس على بعد ثمانين كيلو مترًا إلى الجنوب الغربي، في منطقة دهشور كما أُذيع، إنها المنطقة الواقعة غرب النيل، وثمة علامة مهمة تشير إلى وجود الفالق الأرضي الرهيب المتصل بفوالق البحر الميت والشرخ الآسيوي العظيم الذي يمر تحت بحر العرب والمحيط الهندي، ويتصل بالمراكز التي تُسبب الهزات الأرضية العنيفة في اليابان والصين.

    ما هي العلامة الدالة؟

    إنها الحفرة الدائرية التي يقوم حولها المقر الأصلي.

    هل كان المؤسس على علم، ولذلك أقدم على استخدام التقنيات المضادة للزلازل في الأساس المتين؟

    هل كان مُلمًّا، مُحيطًا، ولذلك أعدَّ ودبر، أم أنه بُعد النظر وسداد الرؤية؟

    قلة محدودة من المؤسسة أُحيطت علمًا بهذا التقرير، منهم سيادته بالطبع، وكما يؤكد المقربون من أهل الطابق الثاني عشر إنه بدا ثابتًا، متينًا عند وقوع الهزة، لم تعكس ملامحه أي خشية أو حذر، أو مجرد تفكير في الخروج من المكتب، بل إنه رفع رأسه، وبدا كأنه يُصغي، ثم تناول القلم الحبر الماسي التكوين وخطَّ به بضع كلمات لم يعرفها أحد بالضبط، ثم استأنف ما كان فيه من قراءة أوراق، ومتابعة ما خط فيها، لم يتحرك أي شيء في الحجرة البيضاوية، لا المكتب ولا المقاعد ولا حتى جهاز الحاسب الآلي الصغير الخاص به، الذي كان يحمله بنفسه ولا يسمح لأحد بلمسه.

    لم تعكس ملامحه أي تعبير أو شعور بخوف أو حذر، هنا يستدعى البعض ملامحه المستعصية على التصنيف أو التحديد، يتساءلون: هل رآه أحد يضحك؟ هل رآه أحد حزينًا؟ هل بدا تأثره عند فقد ابنته التي راحت في ظروف غامضة تتعدد الروايات حولها حتى الآن، رغم أنه لا يجرؤ أحد في المؤسسة على الإشارة أو التلميح، وإذا كانت ضرورة فلا يخرج الأمر عن التفاصيل المعروفة، ولكن أثناء الإفضاء أو التصريح أو الإخبار تنتقل الإشارات الدالة على التفاصيل المحجوبة الممنوعة. هذا من أدق الأحوال المؤسسية، كل شيء محظور مُعلَّق بدون نطق، متداول بغير حكي، معروف ولكن لا يمكن نسبته إلى مصدر محدد، كل مستتر محكي، في المراحل الاستثنائية فقط يقع التجاوز، وهذا الحال دقيق جدًّا، وربما يمكن تفسيره إلى حد ما بذكر ما وقع إثر حادث العربة، وإن بدا الأمر غير متصل.

    المعروف أن لسيادته ولعًا بالسيارات، حتى ليعدُّ من خبرائها في الشرق الأوسط. حافظ لطرازاتها ومتقن لتطوراتها المحتملة، ملم بالفوارق بينها، مغرم بقيادة الحديث منها، والمؤكد أنه أشار على بعض الشركات العالمية بنصائح محددة أدَّت إلى تغييرات وتعديلات يعرفها المشتغلون، في أي اجتماع لا بد أن يتطرق إلى ذكر السيارات أو شيء ما متصل بها مثل الطرق السريعة وإشارات المرور الضوئية، والجسور العلوية وتقنيات تشييدها والطرق الجبلية وأصول رصفها بحيث تكون مناسبة للعربات. ومما يضرب به المثل اجتماع خُصِّص لاستيراد أنواع جديدة من الأمصال المضادة بمناسبة قرب سفر الحجاج وكثرة الحديث عن الأوبئة المحتملة، خاصة الكوليرا الهندية، خلال تبادل الآراء الدقيقة وفي ذروة الحوار المتخصص نطق فجأة وقاد الحديث إلى فضائل الجيل الجديد من العربات اليابانية التي ستنزل الأسواق العام القادم.

    لا يعرف أحد عدد العربات العاملة في خدمته، الوضع الآن مختلف عن المراحل السابقة، في زمن المؤسس لم تكن هناك إلا العربة الكاديلاك السوداء، وكان سيادته يستخدم اللفظ القريب من الفرنسية «أوتومبيل»، كان عدد العربات في القاهرة كلها قليلًا، يمكن حصره بسهولة، وإذا أضاء النور الأحمر عند مفترق طرق فلا تتوقف إلا سيارة أو اثنتان.

    خلال إدارة البروفيسور قلقاسة للجراج كان من الممكن تحديد كل عربة ونسبتها إلى مسئول معين، ومن أهم القواعد المتوارثة منذ زمن التأسيس ألا تغيب أي عربة عن الجراج، أن تكون في موقع الانتظار المخصص لها ليلًا إلا إذا صدر استثناء شخصي من البروفيسور عند القيام بمهام رسمية تستدعى ذلك، مثل السفر، أو قدوم بعض الشخصيات الهامة من الخارج ومصاحبتها إلى أماكن السهر، أو السفر، أو القيام بمهام ذات طبيعة خاصة لخدمة نشاط النمرسي، وفي هذه الحالة كان البروفيسور يوقِّع أمر التشغيل ويحتفظ به في خزانة حديدية لها أقفال خاصة ومفاتيح ثلاثة موزعة.

    هذا الوضع انتهى مع استقرار سيادته في الطابق الثاني عشر وتمكنه الأتم منه، وتغيير معالمه، وترسيخ مهابته، ولهذا تفصيل، ما يعنينا وضع الجراج الذي تبدلت وظيفته تدريجيًّا، بحيث أصبح قائمًا على خدمة سيادته أو من يرضى عنهم أو يؤيدهم بسؤدد.

    عرفت المؤسسة أن أسلوبين لا ثالث لهما لتغيير الأوضاع، الأول هادئ، تدريجي، ويتم أحيانًا في صمت وقد تبدو إشارة قبل ذيوع ما يتعلق به. الثاني مباغت، عنيف مفاجئ للكافة حتى الأقربين، وهذا ما اتبعه سيادته عكس سائر من سبقوه. إن الإجراءات الحادة محطات رئيسة تؤدي إلى أخرى فرعية.

    على سبيل المثال إبطال عزف الموشح الأندلسي على ضريح المؤسس مساء كل خميس طبقًا لوصيته، واستبدال الفرقة الموسيقية الميدانية بجهاز تسجيل وشريط يديره حارس المقبرة، ثم أُهمل أمره تمامًا، لو أخذ القرار مجردًا لبدا ذا معقولية وحصافة، ولكن إذا وُضع في السياق المؤسسي العام لبدا علامة فارقة، إذ ينال من المقدسات المصونة والتقاليد الراسية، صحيح أن الأجيال تتبدل والأحوال تتغير، ولكن مثل هذه العلامات تميز وتخصص، إلغاء عزف الموشحات مقدمة لتغيير الأسس التي وُضعت للطابق الثاني عشر، سواء من حيث الصياغة الشكلية أو المضمونية، هذا ما لحق الجراج أيضًا.

    في البداية أصدر سيادته قرارًا بشراء سيارة تُخصَّص له، من طراز حديث، ومن شركة بارعة في تصنيع العربات المصفحة، ذلك أن منصب المسئول الأول عن المؤسسة أصبح هدفًا في حدِّ ذاته بغض النظر عَمَّن يشغله، لا يقتصر الأمر على الجهات العاملة في الداخل الساعية إلى تقويض الاستقرار، إنما يشمل الخطر بعض الهيئات الأجنبية المناوئة، خاصة تلك التي يسودها القلق من بعض أنشطة المؤسسة في مجال البحوث أو مناطق النشاط، بالتحديد الحزام المالاوي جنوب المحيط.

    هكذا ظهرت المرسيدس المصفحة والتي لم تقض ليلة واحدة في الجراج، إنما كانت معه باستمرار، وتبعتها سيارة أخرى من طراز إيطالي قيل إنها تمثل بديلًا، ثم قامت لجنة بشراء عربتين، الأولى مجهزة للرحلات البعيدة، والثانية يمكنها السير في بحر الرمال الأعظم خلال قيامه برحلات القنص مع أصدقائه من أثرياء العرب، في نهاية العام الأول المنقضي على وصول المرسيدس المحصنة تم استبدالها حرصًا على هيبة ومظهر المؤسسة، ولم يُعرف شيء عن المرسيدس الأولى، في الوقت الذي تردد أنه تم تخصيص سيارة لخدمة البيت وقضاء حوائجه، العبارة هنا لا تعني واحدة، بل في الحقيقة ثلاثًا؛ لأن الخدمة تستمر على مدار الأربع وعشرين ساعة، ولكل عربة سائق.

    بالطبع لم يقتصر الوضع الجديد عليه، فليس من المنطقي ولا من المعقول أن يأكل اللقمة كلها منفردًا، لا بد من شيء يُخرس به أفواه المتطلعين، المتابعين المضمرين في صمتهم ما لا ينطقون به، هكذا تم لأول مرة تخصيص عربات لرؤساء القطاعات الرئيسية من طراز حديث فرنسي، ولمديري الإدارات والفروع، عربات رومانية وسلوفانية، وأنشئ قطاع الضيافة بمبادرة من سيادته، وأسنده إلى عبده النمرسي الذي يتمركز الآن في الطابق الثاني عشر قويًّا، مُهابًا، يُخشى جانبه ويسعى إليه القريب والبعيد، لم يمنع هذا تندر البعض سرًّا، وقيل إن عطية بك ضحك لأول مرة بصوت مرتفع، من القلب عندما أصغى إلى النبأ، وأبدل اسمه على الفور «قطاع القوادة»، وهذا ما صار يُعرف به خاصة بين المترددين على مقهى رشيدة النمساوية، وخلال الأحاديث الخفية التي تدور همسًا بين العاملين وهذا وضع نشأ بعد تولي سيادته ولم يكن معروفًا من قبل، فمن كان لديه شيء أو انشغال بشأن كان يُقدم على إعلانه والبوح به علنًا بدون خشية، هكذا دعاهم المؤسس، ولكن.. ماذا بقي من زمنه وعهده القديم الآن؟ ماذا بقي؟ إنه يتحول تدريجيًّا إلى ما يشبه سيرة طيبة، خالية من العيوب والنتوءات المقلقة، بالتأكيد ثمة عاملان مؤثران، الأول اتساع المساحة الزمنية، والثاني ما أطلق عليه الجواهري: استقرار التدهور، ومما نسب إلى عطية بك قوله إن المؤسسة أغنى وأمتن من أي جهة أخرى والدليل هذا النهب المستمر بمعدلات لا يتصورها المؤسس في أشطح حالاته، ومع ذلك كله لا تزال الدعائم قائمة، والمرتبات تُصرف في موعدها، والأرباح توزع على العاملين في نهاية العام، والصفقات تُعقد، والندوات تُقام، والضيوف يفدون من الخارج، الأضواء أشدُّ بريقًا، ويردد آخرون تساؤلًا: لماذا هذه الخشية الغامضة التي تتردد عند الكافة، حتى مع اختلاف المستويات، المعنوية والمادية.

    ثمة ملاحظة لا بد منها، لا يعني نسبة قول معين إلى الجواهري أو عطية بك أنهما نطقا به فعلًا. ليس من المؤكد حتى قدرتهما على الكلام، إذ يؤكد الأشموني أن عطية بك في غيبوبة مستمرة بسبب أدوية مقررة له، تُبقيه في حالة بَيْن بَيْن حتى لا يسترد وعيه ويُقدم على تنفيذ القفلة المرورية مرة أخرى وإما بتنفيذه الإشارات السبع في تسريب أسرارها إلى من ينوب عنه رغم الحصار المضروب عليه. لقد أساءت القفلة إلى البلاد ونالت من هيبتها وسمعتها في نظر الصديق قبل العدو، ولا يخفى أن عطية بك ما زال شاغلًا للعديد من أجهزة الدولة، وله أرشيف خاص في جهاز أمني سيادي، يحوي كُلَّ المعلومات المتصلة به، والصور الملتقطة له في مراحل مختلفة من العمر، مع التركيز على أجزاء معينة من الوجه، مثل الجبهة والعينين، ومن المؤكد أنه تقرر كحالة موضع دراسة حتى الآن في الأكاديمية العليا للشرطة، ويعرف ما أقدم عليه بعملية الخطوات السبع ويتم تناقلها شفاهة، إذ لا يوجد ملف يضم التفاصيل، خشية تسربها إلى من يقدم على تنفيذها مرة أخرى، لكن ثمة حكاية أخرى تروى على نطاق واسع يتجاوز المؤسسة الأمنية ويلمح البعض إلى تسريب تفاصيلها عبر بعض المنتمين إليها. ذلك أن ضابطًا كبيرًا برتبة لواء، تلقى تعليمات من قيادة رفيعة المستوى بتسليم صورة من عملية الخطوات السبع. بحسن نية تلقى الأوامر التي اعتاد على تنفيذها بدون تفكير، هكذا لقنوه وعلَّموه منذ التحاقه بأكاديمة الشرطة، إطاعة الأمر ولو كان خاطئًا، المهم .. الضبط والربط. كان على وشك الاستجابة، إلا أنه تلقى مكالمة هاتفية من زميل قديم، رجاه ألا يسلم هذا الملف حتى لو كلفه الأمر وظيفته، أبدى دهشته وبالطبع إذا كان الأمر سينتهي إلى مثل هذه التضحية فلا بد أن يعرف الأسباب!

    قال صاحبه إن التفاصيل ستنتهي إلى إسرائيل، وإن أحد أهدافها الحصول على الملف، طبعًا الهدف واضح، الإلمام بالخطوات السبع التي تؤدي إلى إحداث القفلة المرورية وشلِّ الحركة تمامًا في العاصمة.

    لم تكن الأمور العامة قد اتضحت تمامًا بعد، يُضاف إلى ذلك أن العلاقات البادئة مع دولة إسرائيل كانت تصطدم بعقبات شتى، وميراث غير هين من العداء على الجانبين، غير أن رغبة القيادة السياسية وقتئذ الاستجابة إلى بعض الطلبات التي كان يُبديها مناحم بيجن سرًّا وعلانية للإسراع بإنجاز بعض مراحل المفاوضات، ويبدو أن الزعيم الليكودي العنيد أحرج صديقه المصري فرهن التقدم في المفاوضات بالحصول على سر القفلة المرورية، هذا ما تردد، غير أن الضابط برتبة لواء أبى واستجاب تمامًا إلى ما طلبه صاحبه القديم منه، وبعد أن ماطل في تسليم الملف، وخوفًا من تسربه أقدم على فعل يُعدُّ الأول من نوعه في التاريخ المعاصر لتلك المؤسسة الأمنية إذ أغلق باب الحمام الملحق بمكتبه، وسكب بنزين الولاعة الصغيرة، وأشعل النار ليختفي كل أثر للأوراق الحاوية على الخطوات السبع، وسائر ما يؤدي إلى القفلة المرورية. ومنذ ذلك الحين يتم دراستها شفاهة.

    ربما كان الملف منطلق اهتمام إسرائيلي خفي وخاص جدًّا بالمؤسسة، والذي حيرَّ البعض طويلًا، ذلك الطلب الرسمي الذي تقدم به المستشار الفني للسفارة بخصوص طلب دراسة نظم العمل في الجراج، ومستويات المهارات المختلفة عند السائقين.

    مكـنــــــــون

    حتى مرضه الأخير، اعتاد المؤسس استخدام كلمة «أوتومبيل» الفرنسية، لسنوات عديدة لم يعرف العاملون الأوائل إلا الكاديلاك السوداء الخاصة به. اشتهر أمرها وذاع بعد ظهورها في فيلم «غزل البنات»، عرضها سيادته على الفنانة ليلى مراد التي لم يخف إعجابه بصوتها وفيوضات حسنها.

    إلى ما قبل التأميم بشهور كان يقودها بنفسه. في أحد الأيام ظهر أمام المقر جالسًا بجوار سائق نوبي منضبط القوام، عميق الصمت، طويل النظرة، كل ما عُرف عنه أنه عمل مدة طويلة في الخارجية وصحب عددًا من السفراء البارزين إلى دول الدرجة الأولى، مثل بريطانيا العظمى، وفرنسا، والولايات المتحدة، ودول البينولكس.

    لم ينطق أحد استفسارًا عن ظهور سائق، هل سيدوم ذلك أم أنه حال مؤقت، حتى عم صديق لم يسأل، الكل اعتادوا مقابلة أحواله بالصمت حتى وإن انشغلوا بها.

    السكوت على أحوال الطابق الثاني عشر من الأصول القديمة، يمكن القول إنه الصمت في العلن، خاصة لمن يمتون إليه مباشرة، أو المقربين، كلما اتسعت الدائرة تزايدت الجرأة وعلا الهمس.

    من الفئات التي أولاها المؤسس اهتمامًا خفيًّا غير مُعلن.. السائقون، بتأثير عوامل عديدة، منها خصوصية وضعهم الجامع للقرب وللبعد.

    فمن ناحية هم لصيقون جدًّا بكبار المسئولين عن القطاعات المختلفة، مطلعين على دخائلهم، والأماكن التي يقصدونها. يعرفون ضيوفهم، وإذا لم يلموا بالحقائق مباشرة استنتجوا من الشواهد، ومهر بعضهم في رصد التفاصيل الصغيرة، وخمَّنوا واستنتجوا ما يقدرون عليه من قراءة الملامح ورصد الأحوال، ولبعضهم في ذلك معاينات غريبة.

    يؤكد عم شرف أقدم السائقين وأمهرهم أنه يعرف مكنون من يعمل معه بالنظر أو شم الرائحة التي تختلف طبقًا لأحوال السرور والغضب، يمكنه تقدير درجة المتعة التي عرفها كل منهم مع امرأته عند تمام المضاجعة!

    لم يفت المؤسس خطورة وضعهم وحساسيته عندما بدأ تخصيص عربات لرؤساء القطاعات عقب التأميم. بل إن بعضهم يؤكد تعمده الاستعانة بالنوبي كرسالة خفية منه إلى النظام السياسي والأجهزة الأمنية القوية في ذلك الحين، إذ وضع في الاعتبار التفسير السلبي من جانبهم لانفراده بقيادة العربة.

    غير أن الجراج عرف اهتمامًا خلال المرحلة الأخيرة غير مسبوق، حتى يمكن القول إن سيادته يديره بنفسه عبر الهاتف من الطابق الثاني عشر، بعد عودة البروفيسور إلى موقعه منكفئًا، مغلوبًا على أمره بعد أن كان قاب قوسين أو أدنى، صار مكتمل رجائه وذروة أمله المكث مديرًا للجراج، سعى إلى إرضاء كُلِّ من يمت بصلة إلى الطابق الثاني عشر، لكنه فوجئ باتصالات مباشرة لم يتوقعها.

    هكذا.. بدون أي تمهيد. بدون مقدمات من هيئة السكرتارية، رنَّ جرس الهاتف الداخلي، كادت السماعة تفلت من يده، اجتهد لضبط انفعاله، طلب سيادته تخصيص سيارة لموظفة يسمع باسمها لأول مرة، سهير الفيومي. انضمت إلى هيئة المكتب، حدد سيادته المواصفات، تكييف، زجاج مركزي، جر أمامي، فوانيس للضباب.

    خلال المهاتفة، أبدى البروفيسور امتثالًا أصوليًّا، بثَّ عبر صوته جميع ما يقر عليه من ولاء ورغبة في القُربى وقدرة على تمام الطاعة، اجتهد في تحوله بطاقة مكوناته إلى صوت، اللقاء صعب، وسيادته محتجب تمامًا.

    بعد أن خلا إلى نفسه، انتبه إلى إصرار سيادته على تركيب فوانيس الضباب ذات الضوء الأصفر. لماذا.. مع ندرة استعمالها في مصر؟ لكنه خشي ترديد الاستفسار، ليس علنًا، إنما بينه وبين نفسه.

    لكن.. ما سر اهتمامه بسهير الفيومي؟

    يخجل البروفيسور من نفسه. ألا يقوم بدور يُشبه مهام النمرسي المقرب، المتمكن الآن؟ رغم ذلك اعتبر الاتصال به نعمة يجب الفخر بها. إذ نادرًا ما يتصل سيادته بأحد رؤساء القطاعات،

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1