Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

تجليات مصرية
تجليات مصرية
تجليات مصرية
Ebook379 pages2 hours

تجليات مصرية

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

يواصل جولاته بين مساجد القاهرة القديمة بعيون عاشقة لتصاميم البشر ، يطوف بك فى ردهات المكان وجوانبه..يغوص فيه ليخرج لك أسرار الحجر ، فتذوب وأنت تتابعه بين مآذن "السلطان حسن ".." الرفاعى".." المحمودية " ..أمير أخور ".." آق سنقر-الأزرق" " أصلم السلحدار".." الجاى يوسفى".." الماردانى "...وغيرها. تدخل فى ظلمات المبانى فيبهرك نور معرفة الزمن والحكايات والشخصيات ، تدرك أن مساجد القاهرة وشوارعها القديمة ليست مجرد أماكن ، ولكنها قطع من التاريخ تهدينا بين الحين والآخر تجليات مصرية.
Languageالعربية
PublisherNahdet Misr
Release dateJan 1, 2014
ISBN9789771446507
تجليات مصرية

Read more from جمال الغيطاني

Related to تجليات مصرية

Related ebooks

Reviews for تجليات مصرية

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    تجليات مصرية - جمال الغيطاني

    جـمـــال الغـيـطــانــي

    Egyptian%20Manifestations%20Titel.tifEgyptian%20Manifestations%20Titel.tifEgyptian%20Manifestations%20Titel.tif

    إشراف عام: داليا محمد إبراهيم

    جميــع الحقــوق محفـوظــة © لدار نهضة مصر للنشر

    يحظـــــر طـبــــــع أو نـشـــــر أو تصــويــــر أو تخـزيــــن

    أي جــزء مــن هــذا الكتــاب بأيــة وسيلــة إلكترونية أو ميكانيكية

    أو بالتصويـــر أو خــلاف ذلك إلا بإذن كتابي صريــح من الناشـــر.

    Arabic_DNM_logo_Color_fmt

    21 شارع أحمد عرابي - المهندسين - الجيزة

    تليفـــون : 33466434 - 33472864 02

    فاكـــــس : 33462576 02

    خدمة العملاء : 16766

    Website: www.nahdetmisr.com

    E-mail: publishing@nahdetmisr.com

    قصــائد الحجــر

    بنيان الرضى وعمارة السكنية في السلطان حسن

    غـــمــــــوق:

    كلمة تبزغ من أعماقي إلى سطح وعيي عندما أقترب من ميدان القلعة؛ حيث تطل عليه مآذن السلطان حسن والرفاعي والمحمودية، وأمير آخور ومن أعلى القلعة مسجد محمد علي.

    غموق. لأنني أدخل إلى مكان لا أعرف له مثيلًا في العالم تبدو فيه كثافة الزمن في أقصى حالاتها، غموق في جميع أوقات النهار، سواء جئته صبحًا أو ظهرًا أو عصرًا، حيث تبلغ تلك الكثافة أقصى حالاتها، كأنني فارقت وقتي إلى زمن آخر لا يمكنني تحديده بالضبط، هكذا الزمن لا يمكن تحديد أوله ونهايته، فقط يتوهم الإنسان علامات، كل بناء مطل يضفي قدرًا من العتاقة، أما السلطان حسن حيث المدرسة والمسجد والهيبة الرقيقة فهو مركز المكان وحوله تدور العمارات الأخرى. إنه البؤرة والمنطلق في ميدان القلعة، من قبل ميدان الرميلة، ميدان قره ميدان أي الميدان الأسود، حتى الخمسينيات كان يوجد سجن مجاور للقلعة اسمه «قره ميدان»، وعلى ألسنة الناس كانت تجري هذه الجملة.

    «حوديك قره ميدان ..»

    تغير اسم الميدان إلى صلاح الدين بعد الثورة والآن ميدان القلعة، أصل إليه وأبدأ رحلتي في الزمن، إنه بوابتي التي اجتازها إلى العتاقة، إلى تفاصيل الأيام الزائلة، أقف أولًا ما بين السلطان حسن والرفاعي متطلعًا إلى القلعة. وهذه الحالة من الغموق، المؤدية إلى ولوج العصور تهيمن عليّ، حتى منتصف الثمانينيات كان شارع محمد علي يمر بين الصرحين. ومن قبل كان الترام يمر به، أول خط مد في القاهرة عام ألف وثمانمائة وتسعين، أذكر عرباته المفتوحة من الجانبين، المصنوعة في مدينة شارلپروا البلجيكية. بدأ الترام نهاية القرن التاسع عشر، كان حدثًا بارزًا في تاريخ المدينة، وقد أفرد له المؤرخ محمد سيد كيلاني دراسة فريدة عنوانها «ترام القاهرة»، درس فيها تأثير الترام الاجتماعي والثقافي على المدينة.

    هذا الترام من ذكريات طفولتي. أذكر عرباته المفتوحة من الجانبين، والدكك العريضة. انقرض مثل هذا النوع، ولو أننا أوليناه عناية لظل موجودًا حتى الآن كمعلم سياحي، رأيت في لشبونة عاصمة البرتغال عربات ترام عتيقة الطراز ما زالت تعمل في الشوارع المنحدرة عبر المدينة صوب البحر، غير أن الترام أزيل كله من القاهرة. واستمرت العربات تتدفق في شارع محمد علي حتى أقدم أحمد قدري - رحمه الله - على إغلاق الطريق بين الأثرين الجليلين وقصره على المشاة، وكان ذلك من أهم الأعمال التي تمت في المنطقة، التي أقدم على تنفيذها آخر رئيس لهيئة الآثار المصرية قبل تحويلها إلى كيان هلامي اسمه المجلس الأعلى للآثار.

    كانت القلعة منطقة نائية بالنسبة لمن يقيمون في الجمالية، وارتبطت عندي بالموت، ربما لوجود مقابر عديدة ومناطق دفن محيطة بها من كل ناحية، مقابر باب الوزير، مقابر الإمام الشافعي، مقابر الخفير القريبة، كان الوصول إليها من خلال الحافلات العامة، أو عربات سوارس، وهو رجل يوناني أسس شركة للنقل تعتمد على عربات تجرها البغال وكان لونها أخضر، يجلس الركاب متواجهين على دكتين طوليتين، وتمضي العربات في خطوط منتظمة، كانت سهلة الحركة داخل الحواري الضيقة والشوارع الصغيرة، وأذكر ركوبي لها مع الأسرة عند زيارة ضريح السيدة فاطمة النبوية في الدرب الأحمر، استمرت سوارس حتى خمسينيات القرن الماضي.

    تعني كلمة «القلعة» عندي، أسرة من جهينة مسقط رأسي، الشيخ محمد حسنين أحد شيوخ الأزهر. كان رجلًا جليل الحضور، صالحًا، كريمًا، وكان الوالد دائم الزيارة له، ما زلت أذكر جلسته، وقفطانه المخطط، ولكن أكثر ما أثار خيالي وما علق بذاكرتي مكتبته، مجلدات تحفظ المتون المطبوعة في القرن التاسع عشر. لابد أنني كنت دون السادسة من عمري، لأنني أذكر تعلقي بالمجلدات بنية اللون، المرصوصة فوق الأرفف، غير أن ذاكرتي لم يعلق بها أي عنوان، بعكس مكتبات أخرى، زرت أصحابها وأحتفظ منها بعناوين كتب. في أحد الأيام عاد الوالد حزينًا ليقول إن الشيخ محمد حسنين لقى مصرعه بعد أن حشرته عربة نقل ضخمة في الجدار أثناء ذهابه لصلاة الفجر، فيما بعد تعرفت إلى صلاح ابنه الذي عمل في دار الكتب. قابلته كثيرًا في قاعة المطالعة عند ترددي عليها، ثم التقيت ابنته التي عملت بإدارة المجلات التابعة لوزارة الثقافة. أما شقيقه فياض فقد فوجئت - خلال حديث عابر مع أقدم أصدقائي. زميل الدراسة منذ المرحلة الإعدادية حسن بكر - أنه متزوج بشقيقته.

    الشيخ محمد حسنين وأسرته من أقدم الشخصيات التي عرفتها ارتباطًا بهذا المكان. للأسف لا أعرف موقع البيت بدقة الآن، ولا أسعى لمعرفة إن كان بقي فيه بعض من يمتون بصلة إلى الشيخ، الأبناء توفاهم الله. بعض الأماكن تزول رغم بقائها بالنسبة لي، لن أعرفها مرة أخرى فكأنها انقضت تمامًا. ليس الزمن بمفرده هو الذي يمر، لكنه المكان أيضًا.

    ها أنذا أقف في مواجهة القلعة، مركز الحكم في مصر منذ انهيار الدولة الفاطمية وحتى القرن التاسع عشر. منذ الدولة الأيوبية، وحتى عصر الخديوي إسماعيل الذي أسس قصر عابدين. ونزل إليه ليقيم به ويمارس الحكم بين الناس. الحكم في مصر شديد المركزية، الهرم فلسفة وليس عمارة فقط، باستمرار كان هناك مركز. وباستمرار كان المركز هو الذي تتحدد منه المصائر، القلعة من أبرز مراكز الحكم وأشدها تركيزًا، مجرد نشوب صراع بين المماليك والسلطان، فإن نقطة الحسم فيه هي الاستيلاء على هذا المكان المركز.

    في المواجهة يقوم مسجد ومدرسة السلطان حسن، السلطة الدينية في مواجهة السلطة الزمنية، المواجهة بالعمارة لها تجليات عديدة حتى الآن، لكن ما يبهرني في السلطان حسن وراثته لكل الدور الثقافي المصري، لذلك أبدأ دائمًا منـه.

    المــــدخــــــل

    لعله المكان الأشد كثافة، والأكثر تمييزًا بالنسبة لي. طفت العالم شرقًا وغربًا فلم أر مثله، ما إن أبلغ ميدان القلعة حتى يبدأ ذلك الشعور بالمنقضى يتصاعد عندي، توازيه موسيقى خفية قادمة من بُعد قصي، موسيقى الترتيل الكريم، لكل مكان موسيقاه الخفية، ما بين السلطان حسن والرفاعي يبدأ صوت الشيخ محمد رفعت في اللواح، تحديدًا كلمة واحدة.

    «بسم الله الرحمن الرحيم

    والعصر..

    أصغي إلى سورة العصر، عادة أجيء إلى المكان في الصباح الباكر، أحيانًا الظهر. الأندر ما بين العصر والمغرب. في كل الأوقات يفد عليَّ صوت الشيخ رفعت مرتلًا سورة العصر. فكأن لهذا البناء وذاك الفراغ وقته الخاص. أدخله كلما جئت، أعبر السور الأمني الحديدي الذي يصنع حدًّا للمنطقة التي تضم السلطان حسن والرفاعي، ما بينهما كان جزءًا من شارع محمد علي حتى عام ثلاثة وثمانين من القرن الماضي عندما أغلقه المرحوم أحمد قدري بعد عملية الترميم الواسعة التي بدأها. هكذا توحد الصرحان لأول مرة في إطار واحد. أمضي متمهلًا، السلطان حسن هو الأصل، الأصل الأكمل. ليس الرفاعي إلا صدى باهت له. عملية تناص فاشلة حاول إتمامها هرنس باشا المهندس النمساوي الذي أوكلت إليه خوشيار هانم والدة الخديوي إسماعيل مهمة تصميم بناء مسجدها الذي اختارت له أن يواجه أجمل بناء عرفته مصر وأكثرها مهابة. أنه هرم مصر الإسلامية ولهذا أسباب عندي سوف أشرحها.

    أتمثل متأملًا المدخل الذي يتقدم بمفرده عن امتداد المسجد ليتخذ وضعًا فيه ميل، ازورار، لم يقف أحد حتى الآن على سببه، يرجع البعض ذلك إلى تأثيرات معمارية وافدة من العمارة السلجوقية، أي من وسط آسيا حيث نشأ المماليك أو بتعبير أدق حيث وُلِدوا. لأنهم جلبوا من هذه الأصقاع وتم بيعهم في أسواق الرقيق إلى الأمراء والسلاطين، ليصعد بعضهم إلى مراكز الحكم، وبالطبع إلى كرسي السلطنة.

    تفسير آخر يقول: إن هذا الازورار يمكن الجالس عند باب المدخل من رؤية القلعة، كأن السلطان يريد للقلعة ألا تغيب عن بصره، تفسير غريب لا آخذ به، عمومًا يظل السبب غامضًا، لكني أتمنى دائمًا لو عاد بي الزمن أن أحضر جلسات الإعداد لإنشاء المبنى، لتصميمه. أن أرى محمد بن بلبك الحسني شيَّاد العمائر وهو يعد العدة للبناء الأعظم. ماذا كان يجول بخاطره؟ أي رؤية؟ أى جرأة وقدرة على الإبداع؟ كيف ترسب المضمون الثقافي لمصر في وجدانه وكيف جسده على الأرض؟ كيف جرى الإعداد قبل ضربة أول معول لحفر الأساس؟ إنني لا أرى البناء فقط، إنما أتمثل بالخيال خطوات تحققه حتى اكتماله. أحيانًا أقول نتيجة رؤيتي للمكان: إن اختياره هنا ليكون رمزًا للسلطة الدينية في مواجهة السلطة المدنية، كتلة معمارية هائلة في مواجهة منشآت القلعة القائمة فوق صخور المقطم. لم يكن مسجد محمد علي عثماني الطراز في مكانه. اختار محمد علي موقعه حتى يهيمن به على المدينة كلها. إنه رمز السلطة الدينية والمدنية أيضًا. أحاول أن أنساه، أتخيل المكان قبل ظهوره وتسيده للأفق.

    السلطان حسن في مواجهة أسوار القاهرة..

    بالتأكيد السلطان حسن أقوى حضورًا، خاصة أن الفراغ كان يحيطه من الجهات الأربع، هكذا رآه الرحالة والفرنسيون الذين جاءوا مع الحملة، هكذا يبدو في لوحات وصف مصر. مهيبًا سامقًا لا يدانيه شيء. عندما كان قائمًا بمفرده في الفراغ لم يكن لأي شيء أن يتجاوزه، لكن شوش عليه ونال منه، مسجد المحمودية القائم في المواجهة، مسجد شُيد بعد الغزو العثماني، وأيضًا مسجد محمد علي، ثم مسجد الرفاعي الذي حاول المواجهة المعمارية، لكنه بدا كالصدى الباهت المفتعل، مدرسة ومسجد السلطان حسن في مواجهة فعلية مع القلعة خلال العصر المملوكي المستقل، كان الأمراء المتمردون على السلطان يصعدون سلم المئذنتين الأماميتين، طول كل منهما ثلاثة وثمانون مترًا، أي ما يقارب تعداد مبنى طوله ثمانية وعشرون طابقًا. كانوا ينصبون المنجنيق ويقصفون القلعة بالحجارة، في عهد السلطان برقوق تم سد السلالم المؤدية إلى أعلى حتى لا يطلع الأمراء إلى المئذنتين ويحولوهما إلى منصة لإطلاق القذائف الحجرية، في زمن آخر يذكر ابن إياس واقعة طريفة، إذ جاء فهلوان - بهلوان - من بلاد الحبشة، مدَّ حبلًا بين السلطان حسن والقلعة، وعبر فوق الميدان الذي ازدحم بالناس من شتى الأصناف وهم في ذهول.

    أقترب من المدخل، غير أنني لا أصعد السلالم المؤدية إليه، السلالم من الناحيتين، اثنتا عشرة درجة حجرية من هنا. ومثلها من هناك. لنلاحظ رمزية الأعداد، رقم الاثنتي عشرة.

    اثنتا عشرة ساعة نهارية، اثنتا عشرة ساعة ليلية، اثنا عشر شهرًا، اثنا عشر إمامًا عند الشيعة، الأعداد لها مغزى، لم يوضع شيء مصادفة، ومن الأرقام التي سنقابلها، سبعة المقدس، الأربعة وعشرين، ثمانية، ثلاثة، لكل موضعه ومغزاه.

    بدلًا من الدخول أتراجع حتى أتوقف عند بدء السلالم المؤدية إلى المدخل الغربي لمسجد الرفاعي. أتوقف وأرفع البصر لأرى المدخل في مجمله، إنه شاهق الارتفاع. في علوه واحد، الفراغ لا يتجزأ، لكنه بالمادة ينقسم. ثمة مستطيلات لكل منها زخارفه المختلفة عن الآخر، مربعات من الزخارف الحجرية، دوائر من الزخارف المنحوتة في الرخام، ثم مقرنصات ترتفع من تحت إلى أعلى، مدخل داخل المدخل، صف من حجارة بيضاء يعلوه آخر من حجارة سوداء، إنه نظام الأبلق الذي نراه عادة بالتبادل بين الأبيض والأحمر، لكنه هنا أبيض وأسود، كلاهما يرمز إلى ما يتجاوزه، ربما إلى الليل والنهار، إلى الحضور والغياب، إلى الوجود والأبد الأبيد، ما من لون، ما من شكل، ما من خط وليد الصدفة هنا، لذلك أقول: إن هذا ليس عمارة إنه مجمع أفكار فلسفية، هكذا كل بناء مصري صميم، لابد أن يكون في حوار مع الكون - وسترى كيف - ولابد أن يحوي أفكارًا فلسفية تتجاوز الحجر والطلاء والحفر والمحفور فيه.

    لنصعد بالبصر.

    لنتمهل، لنتأمل.

    أرى الشمس أعلى المدخل، تمامًا كما تعلو مداخل المعابد الكبرى، الكرنك، الرسيوم، هابد. في المعابد نرى قرص الشمس وقد بزغ منه جناحان ملونان، إنها الشمس المحلقة، الحامية، رمز الحماية والعناية ودرء المخاطر غير المرئية، رأيت رمز الحماية المصري القديم على مدخل السلطان حسن، تلك الطاقية أو الحنية أعلى المدخل تنتهي بقرص دائري صغيرتتدلى منه خطوط تتبع منحنى التكوين، تنتهي بما يشبه أزهارًا صغيرة.

    دائمًا أسأل نفسي بدهشة: هل يمكن هذا؟

    أستدعى إلى مخيلتي الشمس الأخناتونية، قرص الشمس الذي تتدلى منه الأشعة، كل خط شعاع ينتهي بيد آدمية، قرص الشمس آتون موضع عبادة أخناتون، رأى فيه رمزًا للإله الواحد الأحد.

    عندما أقارن تدركني دهشة.

    هل يعني ذلك أن مصمم المدخل رأى الشمس الأخناتونية؟ ليس بالضرورة، أقول: إن مصر عندما كانت تستقر وتأمن الأجنبي المستعمر وتشعر بالراحة على كافة المستويات يبدأ مضمونها الروحي القديم في التعبير عن نفسه من جديد. في الظهور، سلاطين المماليك تربوا ونشأوا في مصر، لذلك لا أعتبرهم أجانب مثل العثمانيين أو الفرنسيين أو الإنجليز، لذلك أعتبر العصر المملوكي بجزأيه البحري والبرجي من أزهى عصور مصر، ومنه وصلت إلينا هذه العمائر الشاهقة، ويكفي أن نعلم الكارثة التي ألحقها سليم الأول بمصر عندما دخلها وأبطل منها ثلاثة وخمسين فنًّا، نقل الصناع والمبدعين إلى الأستانة، أي إنه نهب حضارة كاملة. لذلك انحط شأن كل شيء تحت الاحتلال العثماني ونقص تعدادها خلال قرنين من الزمان إلى خمسة ملايين نسمة، عندما غزاها سليم الأول كان سكان مصر يقدرون بثمانية ملايين، عندما جاء نابليون بونابرت وأجرى تعدادًا قدرتهم الحملة بمليونين ونصف مليون إنسان.

    ليس بالضرورة أن يستنسخ المبدع المصري تراث الأجداد ورؤيتهم عبر الرؤىة المباشرة، ولكن يمكن ذلك عندما تشعر الذاكرة الجمعية بالراحة وتأمن الخطر يبدأ المضمون الأصلي في الظهور، ينفض غبار الأغراب، غزوات البدو والفرس وعصور الإهانة، لا يتوقف المصريون عن الإبداع إلا عندما يلحق الانكسار بروحهم. وهذا الانكسار غالبًا ما يأتي من الخارج على أيدي أجانب، أو من الداخل على أيدي الظلمة ومصادر الفساد، عندئذ يبدع المصريون في صمت ويرحلون في صمت، من النادر أن نقرأ اسم مهندس صمم مسجدًا. أو نقاش طلى جدارًا، لذلك أتوقف بانبهار داخل المدرسة الحنفية متطلعًا إلى اسم شاد العمائر محمد بن بلبك الحسني، هناك بعيدًا عن الأنظار داخل المدرسة الحنفية خط المهندس العبقري اسمه على الجدار وربما تعمد هذا المكان القصي، الداخلي ليخفي نفسه ويؤمنها أيضًا، فإحدى السمات المملوكية، الهمس وصب الحقد في أذن الحاكم ضد هذا أو ذاك، يذكرني اسم محمد بن بلبك الحسني بالمهندس العبقري سنموت الذي صمم وشيد الدير البحري للملكة عشيقته حتشبسوت، كان يكتب اسمه خلف أبواب المعبد، حتى لا يراها أحد عندما يفتح مصاريعها، وكان يكتب

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1