Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

من دفتر العشق والغربة
من دفتر العشق والغربة
من دفتر العشق والغربة
Ebook413 pages2 hours

من دفتر العشق والغربة

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

يؤكد جمال الغيطاني: هنا زمن العشق نفيًا للزمن المتعاقب والمتواتر. يثبت هذا المفهوم الذي يتصل بتجربة روحية خالصة، زمن ذاتي يعرفه العاشق ولا يعرفه سواه. فهو زمن طليق في اتجاهاته وحر في تطوافه، يجول في أرجاء الروح ويغترب خارجها، يوائم هذا الزمن، الذى هو نفي للزمن، تجربة العشق المغاير لمألوف الآخرين.
إنه عشق وغربة، بل عشق غريب، محاصر بالاغتراب رغم بهائه، ومقمط بالضيعة رغم جماله، ومشوق بمفارقة موجعة أبدصا، وهذا العشق النبيل في أوجاعه، والموجع في لبه يولد مكتملًا، وكماله يبعده عن التحقق، فالعاشق يذوب في المعشوق ويرحل، يتملى المعشوق ولا يمسه. كما لو كان العاشق قد طوى المعشوق في سريرته واكتفى. وهذا العشق وقوامه فراق أكيد.
يُعين العشق تجربة صوفية موجعة، لا تمس الجسد ولا تقترب منه؛ فجسدها الوحيد لغة تنطق الجسد وينطق الجسد بها.
Languageالعربية
PublisherNahdet Misr
Release dateJan 1, 2015
ISBN9789771451914
من دفتر العشق والغربة

Read more from جمال الغيطاني

Related to من دفتر العشق والغربة

Related ebooks

Reviews for من دفتر العشق والغربة

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    من دفتر العشق والغربة - جمال الغيطاني

    الغلاف

    روايـــة                  

    جـمـــال الغـيـطــانــي

    Daftar_title2

    إشراف عام: داليا محمد إبراهيم

    جميــع الحقــوق محفـوظــة © لدار نهضة مصر للنشر

    يحظـــــر طـبــــــع أو نـشـــــر أو تصــويــــر أو تخـزيــــن

    أي جــزء مــن هــذا الكتــاب بأيــة وسيلــة إلكترونية أو ميكانيكية

    أو بالتصويـــر أو خــلاف ذلك إلا بإذن كتابي صريــح من الناشـــر.

    Arabic_DNM_logo_Color_fmt

    21 شارع أحمد عرابي - المهندسين - الجيزة

    تليفـــون : 33466434 - 33472864 02

    فاكـــــس : 33462576 02

    خدمة العملاء : 16766

    Website: www.nahdetmisr.com

    E-mail: publishing@nahdetmisr.com

    رسالة في الصبابة والوجد

    أمـــــا بـعـــــد،

    اعلم يا أخي الحميم، أيدك البارئ الكريم بمدد من عنده، أنني ما أقدمت على البوح لك أنت إلا بعد انقضاء مدًى، وما شرعت إلا بعد تعاقب أحوال شتى صعب عليَّ كتمانها، اقترن فيها قربي ببعدي، واتصالي بانفصالي، وخلف أمري بتوفيقه، وتبادلت جهاتي المواقع، حتى قوي علي الشك أن ما جرى جرى، خاصة مع تزايد الحضور بغير كينونة ملموسة، وتكرار الظهور بغير معاينة محسوسة، بعد انزواء جل العلاقة في مجرد عبق خفي مستور بالحجب، فلو أفضيت بما عندي بعد اكتمال الأوبة، واستقرار العودة، لو لمحت إلى ما توالى عليَّ، ما صدقني الأقربون، حتى وقع عندي شتات بين إقبالي على من أصل أسبابي بهم، لأبوح وأسفر، وتوقي إلى النأي والصمت وطي صحفي، هذا ما غلب عليَّ، خاصة مع بُعْد الشقة، وانتفاء المحطة، وشحط الرؤية، وانعدام المجاوبة على رسائلي، وزوال معالم الصورة الوحيدة عندي، ووهن دقات الساعة الخزفية التي أودعتها بين يدي، والأصعب الأدهى، انتفاء الإمكانية، أحيانًا تهدئني الرؤى، غير أنها تتبدد، فلا يتبقى إلا قفر المفازة، وغول الطريق فأنثني ململمًا فؤادي طاويًا دخائلي، خشية أن يتبدد ما تبقى، وعندما بقيت مدة مهدهدًا، منهكًا، مدمدمًا بالوجد، متخففًا من شغاف الوهم، لقيت الحمل ثقيلًا وإن لم ير، والطوق محكمًا وإن لم يلتف، لذا أقدمت على التدوين إليك مع أنك قصي، بعيد عني؛ لكن يشفع لي عمر انقضى قرب بيننا، جعلك كأني، حتى لو عسرت المودة، وانفرط العقد، وتباعد الشمل، وندرت اللقيا، بقيت أنت كالجهة التي لا تدرك بالحواس وإنما يتوجه المرء إليها، هكذا وليت بهمي صوبك، لعلي باسترجاع ما تبدد، وروايتي لما يخيل إلي أنه جرى، أقف على توكيد يطمئنني، يرسخ الحجة عندي، فاحتملني يا أخي وإن أطلت، ولا تذرني إن أثقلت، ولا تنصرف إن فصلت، وبحق العشرة القديمة، تلمس لي العذر في شدة تهيامي.

    ديــبــــاجــــة الظـــهــــــور

    … اعلم يا أخي أولًا سبب مجيئي إلى ديارها، ونزولي بلادها، أقول – أدناك الله من مبتغاك، وحقق لك مطلوبك – إنني ما جئت إلا لفترة محدودة بأيام المؤتمر، إذ دعاني القوم للمشاركة والمداولة والمناظرة في أفضل السبل للحفاظ على المباني العتيقة، وترميم ما تصدع منها، وما يتهدده البلى، وهذا لب انشغالي منذ ربع قرن وعدة من سنوات أخر، ولي في هذا المضمار قول وصولة وتجربة، ألقيت بحثي، أبديت وجادلت نفرًا قدموا من بلاد شتى، جئت برفقة واحد ممن علموني المعمار، وأضاءوا لي أسرار البناء، أحالوه إلى التقاعد في موطننا، غير أنه لم يركن، ولم ينه الخطة، تراه فكأنه سيبدأ تحصيل المعرفة لأول مرة مبديًا حمية وحماسًا أوليًّا ولطف تدبير، إذن، جئت موطنها ضعيفًا، غريبًا، محدود الإقامة، مدتي مبينة، مثبتة على وثائق سفري، أما توقيت إقلاعي إلى منازل أهلي فمقدر سلفًا، أني منقلب حيثما جئت، هذا إدراك مدبب في وعيي، وبرغم وقوفي على موقوتية زمني بالقرب منها، إلا أنني عند ظهورها انسقت غير عابئ، كاشطًا الصدأ عن مغاليق طال إقفالها.

    ستسأل: متى بدأت الرؤية؟ متى تحقق نظري منها وتمكن؟ والله يا أخي ما من إجابة دقيقة، ما من تحديد، لو قلت لك إنها قديمة عندي، سارية داخلي منذ قدر لا أعرف تعيينه، فلا تكذبني، وإن أمرها بدأ معي قبل مجيء موطنها هذا، فلا تنح كلماتي، وإن قلت إنني ما قطعت زمني المنقضي إلا ماضيًا تجاهها، وعند لحظة معينة تلاقينا فتفجر الشرر، وانتثرت الشهب، وامتزج المبتدأ بالخبر، فلا تتكئ عليَّ، وإن قلت لك إن هذا الكون بمجمله مكان لأراها فيه فلا ترمني بالشطط!

    المقطوع به في عالم الممكنات أنها لم تفارق موطنها هذا الذي أجيئه أول مرة، أين هذا الماضي المولي كله؟ لا أدري، يقيني أيضًا أن عينيَّ وقعتا عليها في الفندق الكبير، حيث نزلنا واجتمعنا، لا بد أنها راحت وجاءت، تمهلت أو مرقت، غير أنني بقيت غافلًا، فلم تكتمل كينونتي بعد، ربما لأن الجمع كثير، والذهن مشغول بأمور شتى، لكنني أنثني وأقول: إن هذا غير دقيق، فكددي لم يكف، ولم يخفت أبدًا، اعلم يا أخي أن الظهور الذي أعنيه، له حين مقدر، جربت هذا وعرفته، حدث منذ عشرين سنة مضت أثناء تدربي بمركز علمي، أن اعتدت المرور بشابة تقعد إلى مكتبها، أبادلها التحية وأمضي، إلى أن لاحت لي بعد طول استتار، بدت فجأة، توهج لحظها وألق عينيها، وشوارد مفلتة من داخلها المضيء، فانتبهت، وبدأت سعيي، متعجبًا، كيف غفلت عنها؟ كيف؟ وفي ظرف آخر، جاءتني بنية هيفاء رحبة، ولحظة دخولها الحجرة نفذت مباشرة صوبي، وصار بيني وبينها شأن، ثم انقضى الوقت، فلا تبدأ صلة إلا ونهايتها في مفتتحها، وهذا أمر له تفصيل، لعلي مورده فيما بعد، اعلم أنه ما من بداية تشبه الأخرى، منها ما يحاكي ظهور الطل، ومنها ما يشبه تدفق السيل المباغت، أما هذه البنية فلاحت لي شيئًا فشيئًا، قبل ظهورها في هذا الصباح المبكر.

    صعب عليَّ التحديد، مع أن يقينًا يداخلني الآن وقد انحلت المدة وغابت الحضرة، أنني لم أكف عن مشاهدتها طوال وقتي، أجوس خلال ذاكرتي متلمسًا خيالات واقع أمسكته بين يدي ثم انطوى، ولَّى، وخلف عندي البين والوجد، بعد انتهاء المؤتمر، سافرنا في طائرة معًا مع بدء الرحلة إلى أسيا الوسطى حيث قصدنا معاينة ما شيده الأقدمون، ضمنا هذا الفندق في الليلة الأولى، وإن تباعدنا جزنا العتبات، ولجنا القاعات، ركبت العربة التي أقلتنا من المطار إلى مأوانا، جلست بجوار صاحبي، ملصقًا وجهي بزجاج النافذة، متلمسًا معالم المدينة التي لم أتصور أنني بالغها يومًا، يمكنني تحديد اليوم، ثلاثاء، يوم من أيام هذا الكون، عند الفجر صحوت مبكرًا، عندي تأهب غامض، وشعاع خفي من وهج، شأن المقدم على رؤية ما لم يخطر على قلبه أو باله قط، قمت وبدايات الضوء الأسيوي تنفذ عبر الواجهة الزجاجية، أزحت الستار، تطلعت إلى الملامح التي لم أتبينها عند وصولي ليلًا، جلت ببصري عبر الحديقة، لم يوهن الشتاء من خضرة حشائشها وأشجارها، أما رد فعلي عند رؤية شجر التوليب الباسق، الملتف، الململم، فكان تنفسًا عميقًا، هذا شجر لم أطالعه، إلا في منمنمات المبدعين الآفلين من أبناء الناحية، عرفت العديد منها، ودرست ما تضمنته، وأطلت النظر إلى توقيع خجل، متواضع، لعظيم ممن تنفسوا هواء تلك البقاع، اسمه «بهزاد»، إذن …هذا شجر توليب، تبدأ الحديقة بعد انتهاء الساحة المبلطة برخام وردي، منبسطة تحت الفراغ الشفقي، ومن هذا الحد بدت، في الصباح الأسيوي تجول، تسعى، لم يكن إلا هي تمضي إلى حد الحديقة الأيسر، تنثني حتى الحد الأيمن، أنثى، فارهة، باسقة، لها طلع، تفسح خطاها ما بين شجرتي توليب بعينهما، لم أدر، هل قامتا منذ أزل قديم، أم نبتتا مع مجيئها؟ ترتدي معطفًا رماديًّا طويلًا، سافرة الشعر، لا تحجبه بغطاء الفرو الثقيل، مناخ تلك النواحي مختلف عن العاصمة التي قدمنا منها، اعلم يا أخي أنني بدأت معراجي ببصري صوبها، وبمجرد بدء الرؤية أدركت أن قدري يكمن في هذا الحضور الإنساني، لم أدقق ملامحها، فالبصر كليل، والمسافة غير مساعدة، تردد عندي وجودها، وصلني تأثيرها في هذا العالم، انبثاق حركتها ما بين الشجرتين الفارهتين، لماذا نزلت مبكرة؟ أتلك رياضتها اليومية؟ أهذه حركتها المعتادة في مثل هذا التوقيت؟ هل رصدت قلقًا في إيقاع خطوها؟ ربما، ساحت داخلي بهجة لم أعهدها منذ زمن، وتفجر عندي بشر كالزمن الأول، ولعلك تذكر رسالتي التي ضمنتها أسباب ضيقي واكتئابي وبدء اندحاري بعد أن قمت من مرضي، ارجع إلى ما دونته إليك، وأعد قراءة ما سطرته لك، لتدرك لب مقالي، وأي حد كانت عليه أحوالي.

    خطر لي أن أفارق غرفتي، أن أهرع فألقاها، أن أقف أمامها، وإن لم أنطق أواجهها بالصمت والسكينة، لعلها تدرك عني، لكن… ما أسرع الشروع وأبطأ التنفيذ! حاد بصري لحظة، وعندما عاودت النظر رأيت الإطار وغاب عني المضمون، فتحت النافذة، هواء بارد قاسٍ، إذن فالشتاء هنا شديد، مددت البصر، لم أرها، عدت إلى وحدتي، مغمورًا بالرؤية، بالنفاذ، الآن يا أخي وأنا أتم تدويني هذا أكاد أثق من رؤيتي لها قبل ظهورها، قبل انبثاقها بين شجرتي التوليب، لكن أين؟ هذا ما لا أقدر على تحديده، متى؟ ذلك ما ليس عندي منه يقين في مدخل الفندق لم أرها، أما المطعم فكان خاليًا منها، كيف أيقنت أنها تنتمي إلى جماعتنا مع أني لم أرها إلا عن بعد؟ لا أدري.. طوال إفطاري تعلق نظري بالباب، لم أرها في ثباتي، لكننا عندما اتجهنا إلى الحركة لمحتها، تتأهب لصعود العربة التي ستقلنا إلى الجولة، من مقعدي سددت البصر، قعدت بجوار معماري من الهند، عندما استقرت حلت عندي سكينة، أمكنني الرحيل بنظري هنا وهناك، مطمئنًّا إلى وجودها قربي، أمر بشعرها الطويل نافر الخصل، أتابع تدفق الطرقات، ما أراه أطالعه أول مرة، والأرجح أن عيني لن تقعا عليه أبدًا، أدقق اتجاهات المباني المشيدة كلها في أوقات متقاربة بعد وقوع الزلزلة المهولة منذ حوالي عشرين عامًا، خطوط صاعدة، أقواس تؤطر الطوابق العليا والمداخل، الأصول النائية عربية، تتقاطع الشوارع الفسيحة الرمادية وتستدير الميادين ممتدة صوب الفراغ، غير أن ثمة مسافة بقيت تفصلني عن طشقند هذه، كنت أبحث عن شيء لم أجده، وأترقب أمرًا لا ألقاه، أما ما شغلني فأرنو إليها خلسة، والشروع في الاقتراب كيف؟

    ترجلنا في الساحة الرئيسية، هواء صارم، قادم من أقاص بعيدة، خطوْت تجاهها، تمكنت من جانب وجهها الأيمن، أيقنت أن أمرًا قديمًا بدأ ينفذ، في المعرض أبطأت الخطى وأفسحتها، اقتربت، نأيت، هي في حركة وأنا في حركة، كان دُنوِّي منها يتم خلال ديمومة، اعلم يا أخي، أنار الله برهانك، أن الأقدمين قالوا إنه لا تنفصل حركة عن حركة إلا بسكون بينهما، وهذا يعرفه أهل الموسيقى خاصة، وندركه نحن أرباب المعمار، هم يتقنون تأليف النغم، والنغم لا يكون إلا بالأصوات، وتلك تحدث بالتعاقب، بالتوالي، بالحركات التي لا ينفصل بعضها عن بعض إلا بسكونات تكون بينها، بين زمان كل نقرتين زمان سكون، هكذا قالوا، وأقول أنا، ذلك شأن المعمار، فالبناء لا يتم إلا في فراغ، والقيام في الفراغ حركة، يبدأ من ثبات الأرض البادي ثم تتخلله الفواصل وما تلك إلا وقفات، عند طوافي حولها كنت مرفرفًا، حائمًا، لكن لي أويقات سكوني، أولي فيها البصـر بعيدًا، ثم أنثني مستوعبًا ملامحها على مهل، ما وقفت عليه أغزر وأغنى مما أقدر على شموله أو استيعابه مرة واحدة، شأن من يحسو شرابًا رائقًا، مسكرًا، فيرشفه متمهلًا، متمنيًا ألا ينفد، لإطالة المتعة، والتمكن من القدرة، ربما نعم لهذا كله، وربما لا، غير أن ما أعرفه، أنني عند خروجي من بوابة المعرض، رأيتها، بمفردها، يداها في جيبي معطفها، تمامًا كما كـانت تدسهما أثناء رواحها ومجيئها بين شجرتي التوليب، لم أتقدم، إنما دفعت من داخلي، لم أتجرأ، إنما بدأ فعلي قبل قراري، وحركتي قبل عزمي، ابتسمت مشيرًا إلى آلة التصوير، تسمحين لي بصورة؟

    لاح نبأ ابتسامة من شفتيها المزهرتين، مدت رأسها هنة إلى الأمام، قالت برقة:

    ليس الآن من فضلك.

    لم يكن بوسعي إلا الانحناء، والانسحاب بعيدًا، كلا يا أخي لم أرتد خائبًا، فما لقيته ليس بصد، وما سمعته لم يكن توضيحًا للحد، لم تنـهرني، لم تقطع، بل تضمنت كلماتها وعدًا، أما عن تراجعي فهذا أفضل، ربما لأنني طفت ما بين عينيها، ونزلت بعيني لحظات عند قسماتها، ملامحها وثيقة الاتصال، إذا ابتسمت مرحبة أشرق في عينيها طيف حنيني، وإذا تطلعت متسائلة وقع التلامس بين شفتيها، والتقوس من حاجبيها، وإذا تدفقت منفعلة فكك قوس قزح ألوانه وأظهرها متعاقبة وليست متجاورة، وعند مس الخجل تتراجع الشفة السفلى منطوية للعليا وتعمق الغمازتان اللتان تبدوان فجأة في الوجنتين الثريتين، الحادتين كالخبر المفاجئ.

    حتى العصر عاودت دنوي منها ثلاثًا، وفي كل مرة أقول مبتسمًا: لا تنسي الصورة ..

    فيجيء التطمين، والوعد، لكن ملامحها لم تأذن بعد، اعلم يا أخي أنني اعتبارًا من هذا العصر، من توجهي الأخير إليها لم أعد أتحرك في المطلق، كل خطوة عندي تجاهها، وأية إشارة من يدي هي المعنية بها، وعند أي نطق، أتوقع أنها تصغي إليَّ، ولو بدرت التفاتة مني فيقيني أنها ترقبني، ولو تحركت على مرأى منها، أو تحدثت بقربها، أو جلست صامتًا، فإنني أضمن حركتي وصوتي وسكوني رسالة إليها لعلها تتلقاها، لم يعد الوجود مطلقًا، ولم تعد الكينونة مفرغة أو بلا غاية، بل صرت دوارًا في فلكها، من توابعها، كان مرورها يكتمل عندي، جازت، فاتت حواجز شتى، وموانع قديمة، وسنين مثقلة، وهمومًا متراكمة، وأرصادًا من الحزن قائمة، فكت أرصادًا وحلت طلاسم، وفسرت رموزًا استعصى عليَّ إدراك كنهها عمرًا، أقول لك قولي هذا، وما من حوار بيننا اتصل، وما من تقارب مادي بدأ، لم أعرف بعد أن اسمها فاليريا، وهذا حال يا صاحبي جديد، سأبسطه لك وأشرحه، علي أفسر الأمر لنفسي قبل أن يكون لك، هذا حق يا أخي والله، فبقدر ما هي محدثة، بقدر ما هي قديمة، موغلة، كنت مجروفًا صوبها وما من صاحب أو معين.

    قرب الغروب، قبل رحيلنا بساعتين، قاصدين بخارى، أُقيمَ حفلٌ صغير، خطب البعض، وتكلم مهندس من بيرو عن الصداقة بين الشعوب، وتحدث البنَّاء الهندي بلغة الأوردو، وقام صاحبي فتكلم عن الحضارات القديمة وعن المتجهين صوب المستقبل، التقط آخرون صورًا، لكنني كنت نائيًا، ما تم ترتيبه وما قيل ليس إلا الإطار الأتم لوجودها قربي، اكتمل انفلاتي من الزمن بعد أن صار لي توقيتي الخاص القادم منها، شيئًا فشيئًا تصبح محور تقويمي، ولب شدي وجذبي، حتى إذا انتهت الكلمات، دخل شابان من أهل الناحية، عيونهما أسيوية، وصمتهما باد، يحنو أولهما على طنبور، ويجلس الثاني إلى سنطور، اثنان يا أخي اثنان لا غير، لكنني لم أتصور قط أنهما سيفجران حزنًا معتقًا، ويستنزلان أنينًا كونيًّا بمجرد أن يجري الأول قوسه ويداعب الثاني أوتاره، أصغيت إلى خلاصة الشجى المتوارث، إلى لب العويل النائي، إلى قدح الشرر الناتج عن عدو خيول التتار الغزاة، إلى الأسى على بنيان قام ثم تهدم وفراق قسري جرى، وتباعد آلاف عاشوا معًا، هذه مناطق عبور، أقدام شتى دهستها، اعلم يا أخي أن ما انقضى عند الآخرين باق داخلي وإن استتر، ما لم يره غيري أوليته عنايتي، ولأن هبوب الصبابة بدأ، لأن النذر لاحت لأنها على مقربة، لأنني على مرأى منها، اجتاحتني نسمات البدايات، ملت تجاه العازف، موجت يدي اليمنى وأشرت باليسرى، حتى إذا جلا عازف السنطور أوتارًا، وفض أسرارًا، وأطلق نغيمات طال احتجابها، تحرك على الشجن المكلوم في أغواري فتأهبت للإقلاع، فلم يعد ما يحيطني بقادر أو كاف أن يحتويني، كدت أوشكت، لكن ما جعلني أحجم إلى حين، انسياب بنية قدت من أطياف ورؤى، منمنمة، دقيقة التكوين، عصفور تخلف عن سربه، أو خلي حرد بعيدًا عن أهله، واحدة من بنات الأوزبك، متدثرة بغلالات من زمن سحيق، لم تفد علينا من مكان، إنما جاءت من حقبة تتلوها أخرى حتى حطت في وقتنا تبتسم للكافة في وقت واحد، فهي هنا وهي هناك، هي عندي وعندها وأمامهم، مست يمين القاعة ويسارها في وقت واحد، بسطت حضورها ولملمته، لم يكن رقصها أداءً حركيًّا تلميحًا وتصريحًا، شرحًا ومعنى، على شفتيها ابتسامة فرحة بنجاة من أهوال تاريخ سحيق، كان يمكن ألا تفيض حيويتها تلك لو أن أحد أجدادها الأقدمين أبيد في غزوة، أو فني في وباء، هذا حالي أيضًا، فلو لم يتعاقب أسلافي لما وصلت إلى لحظة ألقى فيها تلك البنية، طق عندي شرر الفرح، البهجة الغريبة لأسباب شتى، لإدراكي أنني على وشك الخروج من جب سحيق ألقيت فيه منذ مرضي وما أورثنيه من إعياء وتدقيق في الحساب، ولعلك تذكر ملامحي عندما عدتني مرات يا أخي، حماك الله من السوء وأقصى عنك النوائب والمحن، ما أصفه لك لحظات لم أعد لها العدة، ولم يخطر ببالي المرور بها عند بدئي الرحلة، إلا أنني عزمت على دفع نفسي في خضم اللجة مع جهلي المطبق بالعوم، طافت البنية الأوزبكية ملامسة اليابسة بأطراف أناملها، حتى دنت وتمهلت وكنت أول من أشار إليها ليشاركها، قمت غير خجل، بسطت حضوري وأشهرت على الملأ وجودي، تبعتها فكنت الظل الوارف لأصل بديع، درت حولي، حتى إذا وقعت عيني على من أحوم حولها، وأتقرب من مشارفها، سكنت، أو قل أخذت عني، هي متطلعة إلي، مبتسمة، متجهة إلي بملامحها المتسقة الصريحة، تجاور الرجل الهندي، ومهندسًا سويديًّا، تتوسط قارتين، حزمت أمري، لملمت حالي، قطعت المسافة الفاصلة، خطاي غير معهودة أو مسبوقة لا مني ولا من غيري، حتى إذا واجهت ملامحي قسماتها، ولم يعد الفراغ الذي يفصلني عنها كافيًا إلا

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1