Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

بودا بودا
بودا بودا
بودا بودا
Ebook237 pages1 hour

بودا بودا

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

دائمًا ما تكون النهايات بدايات لفصول جديدة، فنحن نعيش الحياة بيومها ونرى تعاقب الليل والنهار والشمس والقمر، والفصول والأعوام، فسنة التغيير هي الوحيدة الباقية حتى قيام الساعة، فيحسن القول بأن الثابت الوحيد في معادلة الحياة هو التغيير. في رحلة التغيير هذه تغيّرت لديّ صفات وقناعات، وانمحت في ذهني صورٌ وتنميطات، واستزرعَت في ذاكرتي تجاربَ وشخوصًا وذكريات، كل ذلك يجعلني شخصًا ذا نفوذ أكبر على ذاتي، متحكمًا ومنطلقًا بها إلى أبعاد جديدة، وآفاق متغيرة. لم تتوقف رحلتي يومًا هُنا، فما إن انتهت حتى وجدت أبوابًا كثيرة فُتحت في أمكنة أُخَر، فصارت نهاية القصة الواحدة، بدايات متعددة لقصص وروايات أخرى. خرجت من هذه الرحلة وفي جعبتي أصدقاء تشاركنا معًا الكثير من المواقف والأحاديث والذكريات، سجل هاتفي أصبح فيه أسماء من البرتغال وتشيلي وبريطانيا وأمريكا وألمانيا ومصر وتنزانيا بالتأكيد. أصبح لدي صديق حقيقي أعرف صدقه وأعتمد عليه في أروشا، وهو كريم بن سليمان، أصحبنا ننشغل في مشروعات عظيمة لم أكن أحلم فيها لولا هذه التجربة وهذه الصداقة، لا شك بأن لي زيارة أخرى لعائلة سليمان التي لا أنقطع في تواصلي معها. دافي البرازيلي واصل ترحاله في العالم، فمنذ تركته في زنجبار، أصبح يجوب قارة أفريقية ولم يدع بلادًا في شرق أفريقية إلا فتحها، وعندما انتهى انتقل إلى الهند والنيبال وأصبح يتجول فيها كالمجنون، ثم تايلاند والفلبين وغيرها، أمضى حياته يسافر وينتقل لما يزيد عن الثلاث سنوات، الحياة قد تكون سفرًا طويلًا، بل هي كذلك ولكننا غافلون. الجهل بالشيء يُعمي، والذي يُدرك عماه وضعف بصيرته فهو في نعمة كبيرة، فهناك الكثيرون لا يُبصرون وهم بأعين مفتوحة، لأنهم يظنون أنهم يرون الحقيقة ويدركون الواقع كما هو، بينما هو إدراك واهم وبصيرة زائفة. الجهل باتساع رقعة هذا العالم، واتسّاع شعوبه وقبائله، واختلاف تضاريسه ومنابعه، وتشابه الطبيعة البشرية وضروريات الحياة يحثّ المتفكّر والباحث على كشف الغُمام وإزالة البراثن والأوهام، والسير في مناحي البلدان وجنبات القرى، والتعرف على الوجوه الكالحة وما تخفي العيون السارحة.

Languageالعربية
Publishertevoi
Release dateApr 7, 2023
بودا بودا

Related to بودا بودا

Related ebooks

Reviews for بودا بودا

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    بودا بودا - عبد الله عبد السلام العمادي

    الفصل الأول: قطعةُ العذاب

    سفر مختلف

    كنت أعيشُ حالة من التيه والضياع، حياة لا أعرف فيها نفسي ولا أستمتع بمن هم حولي، فقدت طعمَ الأشياء وتلاشت قيمة البشر، لم أعد أرى طريقي ولا حتى موضع قدماي، أبدو كبحّار تائه في عرض المحيط يركب سفينة ليست له ولا يعرف إلى أين تجري أشرعتها التي تقودها الرياح، لا أحمل معي بوصلتي وجميع من على السفينة غرباء عنّي، يا تُرى ما الذي أفعله هُنا؟.

    هكذا كنت أعيش في مرحلة انتقالية بعد أن تخلّيت عن وظيفتي، وعشت أنتظر نتائج المقابلات الوظيفية الأخرى التي قدمتها في أماكن عدّة، وأملتُ لعلّي أظفر بإحدى تلك الوظائف. هذه المرحلة تشبه كل شيء في هذه الحياة، فما الحياة إلا محطة انتظار في نهاية المطاف، فمهما كان عمرك وحيثما كنت الآن، فأنت تعيش في محطة قريبًا ستتركها لتنتقل إلى المحطة التي تليها من رحلة حياتك، هل تُراك تستقر في هذه الحياة وترضى بما أنت عليه الآن؟ أبدًا ليس هذا من طبع الإنسان.

    عرفتُ وأنا في هذه المرحلة وبعد مضي ما يقارب سنينًا ثلاثين، أنني سئمت من الانتظار، فبدلًا من انتظار الفرصة كي تأتي إلي وتغيّر حياتي، لم لا أصنع فرصتي الخاصة بنفسي؟ وإن أُغلقت الأبواب وتصعّبت مسالك الطرق، لم لا أصنع طريقي الخاص؟. لم لا أعيش شيئًا مختلفًا في حياتي وأهرب من دائرة الراحة التي تقتلني ولا تتركني أرتاح، كفاني جلوسًا في بيتي الدافئ، ومع الأسرة المعتادة، فهناك الكثير من ذاتي لم أكتشفه بعد، والبيت يقتلني بدلًا من أن يحميني. يقول آلان دو بوتون في كتاب (فن السفر):

    ليس البيت هو المكان الذي نجد فيه بالضرورة ذواتنا الحقيقية، فالأثاث يصر على أننا غير قادرين على التغير لأنه لا يتغير، وتفاصيل ترتيب بيوتنا تجعلنا مربوطين بالأشخاص الذين نكونهم في حياتنا العادية، بالأشخاص الذين لعلهم ليسوا (نحن) من حيث الجوهر.¹

    سأسافر! نعم أريد أن أبتعد لفترة طويلة. لا أريد أن أقضي أسبوعًا في منتجع سياحي في سريلانكا، أعيشُ فيه وحيدًا بانتظار مجاملة من موظفي الفندق الذين ينظرون إلي جيبي قبل عيني. ولا أريد  أن أسافر لمدينة سانت بطرسبرغ التي تعجّ بالمتاحف والقصور والحدائق الجذابة للقيام بجولات سياحية في أطراف المدينة، جرّبت ذلك كله، سأحظى بأسبوع ممتع، لكنه سيمضي كوميض البرق الخاطف في ليلة ماطرة.

    لا أريد سفرًا يعتادهُ الناس والذي تختفي فيه القيمة الروحية ويصبح الجسد رهينًا بين جدران المكان الكبير وهو يظنّ أنه حرٌ طليق له إرادة تخوّله الذهاب إلى أي مكان ووقتما يشاء. هذا النوع من السفر يلائم متطلبات العصر الماديّ، فهو سفر ماديّ وسطحي، يقوم على التفاعل الفردانيّ بين شخص المسافر والأماكن السياحية، ويقوم المسافر بوظائف أقرب ما تكون للاعتياد، تسجيل الدخول للفندق، الركوب في السيارة، الأكل في مطعم، الذهاب للمتحف، العودة للفندق والنوم. هذا السفر على ما فيه من لذة وراحة، إلا أنه يفتقد للتجربة المتعمّقة مع الإنسان والثقافة، ويُغلق الباب أمام التعرف على الذوات الأخرى والتعامل معها وتفهم اختلافاتها، وهكذا نجد أنه يخلو من فائدة عظيمة كان الجدير باللبيب أن يستغلها ويفتش عن الطرق لتحصيلها والانتفاع بها.

    ولا شك بأن السفر المعاصر والمادي في جوهره، يستهلك الكثير من المدّخرات، ويتكلف العديد من المصروفات، فلا يستطيع الشخص المتوسط دخلًا إلا أن يُسافر لمرة كل عام أو عامين إن كان يعرف ثقافة الادّخار، وأمّا الذي يسافر بتردد أعلى فلا شك أن الله وسّع عليه في رزقه أو أنه استخدم عقله كي يسافر بطريقة مختلفة.

    أود أن أخضع نفسي لتجربة سفر مختلفة، سفر يجعلني أشعرُ بكل ما في كلمة السفر من معنى لغوي وإثراء معرفي، فإذا نظرنا عن معنى كلمة سفر في المعاجم:

    سفَر الشيءُ: وضح وانكشف. وسفَرَ الصُّبح: أضاءَ وأشرق. وسَفَر بين الناس: أصلح بينهم وحمل بينهم الرسائل والآراء. فهل نحن عندما نقوم بفعلِ السفر، نضيء وننكشف، أو نشرق ونحمل الرسائل بين الناس، ربما هذا ما يجب أن نفكر به حين نسافر، حينها سيتحقق المعنى اللغوي للسفر عمليًا. لا أشكّ بأن السفرَ هو عالم مُصغّر في حدّ ذاته، لكنه يطابق العالم الكبير الذي نعيش فيه، بل هو عالم مكثّف تتمثل فيه مراحل الإنسان في خروجه من رحمِ أمه الدافئ ومواجهته العالم القاسي في طفولته، وحتى يبلغ أشدّه قويًا فتيًا يسلك دروبًا جديدةً في الحياة.

    لهذا وضعت لي هدفًا جديدًا يحدد لي خارطة الطريق وكيفيته، ويُخرجني من دائرة الراحة تمامًا، وهو السفر إلى بقعة لا أعرف أحدًا سافر إليها من قبل، وأن أقوم بتجربة تمكنني من الاندماج وعيش الحياة اليومية مع شعب ذلك الأرض، فلم أجد أفضل من اختيار القارة المنسية، فلا أعلم أحدًا يسافر إليها ولو سياحةً، فسلكتُ طريقي الخاص إليها، واخترت من تلك القارة الكبيرة بلادًا لا أعرف عنها أي شيء.

    سأرمي بنفسي في بلاد لا أعرف عنها شيئًا ولا فيها أحدًا، وسأجرّب طريقةً أستفيد منها في سفري وتمكنني من البقاء مدة ليست قصيرة من غير أن يراودني شعور السأم والضجر، ودون أن أتكلف مصاريفًا كثيرة، فكيف أجمع بين قضاء أطول وقت ممكن بأقل تكلفة ممكنة، محققًا فيها أهدافي، من تجربة عيشٍ جديدة والخروج من دائرة الراحة، والابتعاد عن صخب المدينة والعُزلة مع الطبيعة كما خلقها الله تعالى، وفي نفس الوقت أن أقدم فائدة للمكان الذي أذهب عليه وأترك أثري الطيب فيه؟

    كل هذه الأهداف عزمتُ على تحقيقها من خلال السفر وحيدًا، لأنني لن أنكشف على الآخرين ولن أبادر للحديث مع العابرين وأنا لدي من أحادثه وأرافقه طوال الوقت، فوجود الرفيق يعمل كالحاجب الذي يمنع الناس من الاقتراب إليك ويمنعك من التقرّب منهم وسؤالهم. السفرُ وحيدًا له معنى مختلف تمامًا، وسيفتح لي أبوابًا كثيرة من التجارب والخير والمتعة التي لن أستطيع تحصيلها إلا بذلك.

    قد قررت أيضًا أن أنتهج نهجًا جديدًا في توضيب الأمتعة، فلا أريد جر حقيبة سفر تقليدية ترهقني في سحبها ورفعها في كل مرة أملأها بملابس كثيرة، بل قررت شراء حقيبةً قماشية أستطيع حملها ولبسها على ظهري متنقلًا بها وأنا حرّ اليدين والرجلين، وهذا النوع من الحقائب معروف بمُسمى حقيبة الظهر أو Backpack. أيضًا كان لزامًا أن آخذ قدر حاجتي من الملابس فلا أثقل حقيبتي وظهري بما لا أحتاجه من الأمتعة والأدوات، سآخذ ما يكفي حاجتي لأسبوع فقط. هذا من ناحية اللباس، أما الحاجيات الأخرى، فقمت بالبحث مسبقًا لأعرف بالضبط ما أحتاج أخذه من الضروريات لهذا المكان الجديد، ثم وضعت قائمة جيب bucketlist أثناء توضيبي لحقيبتي كي أتأكد من وجود جميع الحاجيات وعدم نسياني لأي غرض أندم على عدم إحضاره معي.

    حسنًا.. سأنطلق!

    مطار نيروبي

    أكثر ما أصدّقه على وجه اليقين الآن هو أن السفر قطعة من العذاب. لم تكن هذه العبارة جذّابة في طرقها للسمعِ لأنها تُناقض ما تراه العين وتبصره من السفر المريح الذي يشكّل صناعة هي من أكبر الصناعات التي تعتمد عليها الدول، كل ذلك لأن السفر أصبح شيئًا مريحًا وميسرًا لأغلب فئات المجتمع، وإنما تختلف مقدرتهم على كمية المرات التي يسافرون فيها. وهذا ما كنت دائم الشعور به أثناء السفر، قيمة كبيرة من المتعة والتلهّف بانتظار دخول الثعبان المؤدي للمركبة الطائرة التي أجلس فيها مرتاحًا وأُعامل فيها كالملوك، فهناك من ينتظرني أمام باب الطائرة هاشًا ومرحبًا كأنني تفضلتُ عليه بقدومي إليه، وفي منتصف الرحلة يقدم لي مضيف الطيران وجبة شهية أنتظرها باستحياء. وجبة الطائرة حتى وإن كانت رغيفًا من الخبز وقطعة من الزبدة مع الشاي، ستكون في تلك اللحظة - التي تتعلق فيها روحي بين السماء والأرض - من أشهى الوجبات التي أتذوقها، تبدو تجربة تناول الطعام في الطائرة خالية من المنغصّات، أتذكرها الآن كذكريات شخص آخر؛ بينما في هذه اللحظات أقاسي جملة من العذاب، حيث أظهر في هيئة رثّة، لاجئًا، مشردًا، أتجول في المطار وحيدًا بلا وُجهة وأتحرك بلا سكون، إلا في تلك اللحظات المريرة التي أود أن أغفو فيها فلا أكاد أتعمق في غفوتي دون أن يأتيني كابوس سريع يقضّ مضجعي في شكلِ بعوضة.

    أوه نعم البعوضة، التي ضربها الله مثلًا في القرآن الكريم أتذكرّها ماثلة أمامي بعد وخزة كريهة تجعلني أكتم غيظي في داخلي وأفتح عيني، فأراها في ذلك المكان من يدي أو رجلي لا تتحرك وكأنها تتحداني نعم أنا قرصتك، ماذا ستفعل؟.كيف لهذا الكائن الحقير في صغره، القوي في تأثيره أن يسقيني عذابات متتالية في تلكم الساعات التي مكثت فيها في المطار، كيف لا وأنا في مكان ينتشر فيه الملاريا الذي تنقله البعوضة، والحمى الصفراء التي تتسبب بها البعوضة ذاتها، فأكثر ما يقلقني أن أبدأ رحلتي بمرض يورثني الوهن في جسدي، فتنقلب رحلتي إلى كابوسٍ آخر، يكفيني أني على طريق سفر يزيد عن اليوم والليلة، ولم أذق النوم جيدًا ولا أدري متى سأذوقه، يبدو أن عقارب الساعة هي التي تلدغني ولا تبارح مكانها.

    بدأ كل شيء أثناء التجهيز للسفر، فمن المعروف أن أقصر الطرق للسفر هي الأكثر راحة والأكثر كُلفة أيضًا، لكني وأثناء حجزي للتذاكر لم أجد طائرة تقلّني بشكل مباشر إلى وُجهتي، فاضطررت لأخذ رحلتين زائدتين حتى أصل لوجهتي النهائية. في الحقيقة أن هذا الشقاء يطيل مدة الرحلة ولكنه أيضًا يقلل التكلفة بشكل كبير جدًا، لهذا وجدتُ أن هذا الطريق هو الأنسب لسفري هذا الذي أنتهج فيه نهج (السفر الاقتصادي) وأطمع فيه أن أُعرّض نفسي لأكبر قدر من المتاعب

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1