Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة
الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة
الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة
Ebook736 pages5 hours

الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

كتابٌ الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، ألفه أبو الحسن علي بن بسَّام الشنتريني، من أعلام الكُتَّاب والنقاد الأندلسيين، في القرنين الخامس والسادس الهجريين. ولد بجزيرة شنترين، وإليها نسب، في أسرة ميسورة الحال، عنيت بتربيته وتعليمه وإعداده لمستقبل زاهر. أظهر ابن بسام قدرًا من الموهبة الأدبية منذ الصغر، وبدأ يكتب الشعر والنثر فلفت الأنظار إليه. وكتاب «الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة» مصدر على جانب كبير من الأهمية للباحث في تاريخ الأندلس وأدبها في فترة ملوك الطوائف، التي تلت نهاية خلافة قرطبة الأموية، القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي. أما أهمية الكتاب التاريخية فترجع، إلى احتفاظه بفقرات مطولة من كتاب «المتين» لشيخ مؤرخي الأندلس أبي مروان بن حيان (ت 469هـ/ 1076م)، وهو التاريخ الذي لم يصلنا، وفيه تناول ابن حيان - بأسلوبه البليغ وصدقه وصراحته المعهودتين- تاريخ الأندلس على عهد ملوك الطوائف. إن هذه الفقرات التي أوردها ابن بسام في كتاب «الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة» هي كل ما وصلنا من كتاب «المتين»، وأضاف إليها ابن بسام تأريخه هو للثلث الأخير من القرن الحادي عشر بعد وفاة ابن حيان. وأما من الناحية الأدبية، فإن ابن بسام يعرض لنا بأسلوب بديع مرسل -من دون إغراق في السجع كبعض معاصريه- نماذج ومقتطفات من شعر دفتر أعلام الأدباء في تلك الفترة التي شهد جانبًا منها، أو استقى أخبارها من مصادر قريبة العهد بها.
Languageالعربية
PublisherRufoof
Release dateJun 25, 1901
ISBN9786483926501
الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة

Read more from ابن بسام

Related to الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة

Related ebooks

Reviews for الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة - ابن بسام

    الغلاف

    الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة

    الجزء 3

    ابن بسام

    542

    كتابٌ الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، ألفه أبو الحسن علي بن بسَّام الشنتريني، من أعلام الكُتَّاب والنقاد الأندلسيين، في القرنين الخامس والسادس الهجريين. ولد بجزيرة شنترين، وإليها نسب، في أسرة ميسورة الحال، عنيت بتربيته وتعليمه وإعداده لمستقبل زاهر. أظهر ابن بسام قدرًا من الموهبة الأدبية منذ الصغر، وبدأ يكتب الشعر والنثر فلفت الأنظار إليه. وكتاب «الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة» مصدر على جانب كبير من الأهمية للباحث في تاريخ الأندلس وأدبها في فترة ملوك الطوائف، التي تلت نهاية خلافة قرطبة الأموية، القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي. أما أهمية الكتاب التاريخية فترجع، إلى احتفاظه بفقرات مطولة من كتاب «المتين» لشيخ مؤرخي الأندلس أبي مروان بن حيان (ت 469هـ/ 1076م)، وهو التاريخ الذي لم يصلنا، وفيه تناول ابن حيان - بأسلوبه البليغ وصدقه وصراحته المعهودتين- تاريخ الأندلس على عهد ملوك الطوائف. إن هذه الفقرات التي أوردها ابن بسام في كتاب «الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة» هي كل ما وصلنا من كتاب «المتين»، وأضاف إليها ابن بسام تأريخه هو للثلث الأخير من القرن الحادي عشر بعد وفاة ابن حيان. وأما من الناحية الأدبية، فإن ابن بسام يعرض لنا بأسلوب بديع مرسل -من دون إغراق في السجع كبعض معاصريه- نماذج ومقتطفات من شعر دفتر أعلام الأدباء في تلك الفترة التي شهد جانبًا منها، أو استقى أخبارها من مصادر قريبة العهد بها.

    الوزير الكاتب أبي محمد عبد الغفور

    ابن ذي الوزارتين أبي القاسم المذكور

    واجتلاب قطع من شعره ، ولمع من نثره

    وأبو محمد هذا في وقتنا عارض إذا همع استوشلت البحار، ونجم إذا طلع تضاءلت الشموس والأقمار، وهو أحد من آوى من الحسب باشبيلية إلى ثبجٍ عظيم، ومشى من الأدب على منهج قويم، سابق لا يسمح وجهه إلا بهيادب الغيوم، وصارم لا يحلى غمده إلا بأفراد النجوم ؛وكان نشأ بين يدي أبيه من دولة المعتمد، بحيث يفيء عليه ظلالها، ويتشوف إليه قبولها وإقبالها، وانشفت تلك السماء قبل أن ينوب مناب سلفه في سرجها، ويحل بيت شرفه من أبرجها، ولله هو، فلئن كان نبا به الأوان، وضاق عنه السلطان، فلقد نهض به جنان يتدفق بالغرائب، ولسان يفري شبا النوائب، وإحسان يملأ أقاصي المشارق والمغارب. وقد أخرجت من غرائب نظمه ونثره ما يخجل الخدود، ويعطل السوالف الغيد.

    فصول من كلامه في أوصاف شتى

    له من رقعة خاطب بها بعض أهل عصره، وافتتحها بهذين البيتين:

    لولا عدىً غاظوا الصدي _ ق بنفيهم عني الكتابه

    لم أوذ سمعك بالهرا _ ء ولا انحرفت عن المهابه

    لعمري - وإن كان نفى منفياً، وتقرع صديقاً حفياً - لرب أعجم ضجر فأفصح، وأجذم عير فقدح ؛وإن لم يستألفا بعد الإفصاح، وما شق من كلفة التحامل في الاقتداح، لم يؤمنا على ذكر ميت، وإحراق بيت ؛فلله من احتال لتخلصه، ولم يعجب بتخصصه، ودفع بيد جلده، في صدر حسده. وفي هذه الجملة بلاغ لو ارتضيت بها متنقصاً، ولم يرنيبالاقتصار عليها متخرصاً، في الكتابة متلصصاً، إذ لعله ممن يظن الإيجاز حصراً وانقطاعاً، ولا يعتقد الإجادة مع الاسهاب شيئاً موجوداً ولا مستطاعاً. لا جرم أني بحكم هذه التقية سأطيل قصصاً، وأتطلب فيما لم يطرق من القول قنصاً، ليعلم من ناف، ومن جلف جافٍ، بل من نزرٍ حقيرٍ خافٍ، أنني من كتابه وقته، وإن زعم أنف مقته، والله ما عرفته إلى اليوم، ولعلي سأعثر عليه في النوم، فأعرفه: من أرعن ناقص الوزن والصرف فأصرفه، بسمةٍ من الهون تشغله بنفسه، وتخجله في رمسه، والله يفنيه، ولا يعرفنيه، وينزه عن شخصه الوضر الدنس عائر سهامي، ومن عرضه القذر النجس طاهر كلامي .وكأني بفارس هذه الصناعة، ومالك أزمة البلاغة والبراعة، قد سمع هذري، وضحك من ضجري، وعجب كريمة وده، وعقيلة عهده، من خاطبٍ، بسخفٍ مخاطب، في ليلٍ من الجهل حاطب، لم يأت خطبتها من بابها، ولا رفق في طلابها، وهيهات لمرتقب الشعرى، من ملابسة الكرى، ولمثل أملي في ذلك السماء، من تقصير في الاحتفاء، ولكن صدر التحبير، بما يشتمل على الضمير، فمتى سمح لغيره بمكانه، فقد صرم فجاء قبل أوانه، وكلف نضجاً ولات حين أبانه وسأمهرها من جميل الثناء مهراً تشمه زهراً، وتختمه نجوماً زهراً، وترده كوثراً، وتحمده عيناً وأثراً، وتحمل من بهائه تاجاً تعنو الشمس لضيائه، وتغرق في لجة لألائه، فيكون بدعاً من المهور، ويفخر دهره على سائر الدهور، بمقتضى ما التزمت شروط الوفاء فيه، وحرمت من غدر بني الأيام صحة مبانيه، ولو اكتفيت بما مضى عليه سلفنا الكريم، وتبعت ولم ترم مركزها منه أعظمهم البالية الرميم، من صفاء ودّ يعدي الجار فضلاً عن البنين، ووفاء عقد يثني النار عن أن تحرق بالطبع أو بالمماسة عدد سنين، أحرزت من الفضل نصاباً تجب فيه الزكاة، وحويت من الفصل قصاباً لا تدركها الكفاة، ولا تبلغها العفاة ؛على أنه لا شيء أغرب من عقلٍ يمتار ما في يديه، ولا يحتاج إلى صدقة عليه، ولا من فضل يتجاوز غلوة سهمٍ، فضلاً عن غاية شهم .وكنت قد استغنيت بما أصلوا، ولم أقطع بهذا الاستئناف ما وصلوا، إلا أني وجدت نسب أدبه قد كل، ورسم سببه قد اضمحل، والكلالة في الآداب، أمس منها في الأنساب، فاعتمدت بهذه النأمة سداد خلل، وعمارة طلل ؛وشائع مجده كان أولى بهذه الرتبة من التهمم، وأهدى إلى سنن التفضل والتكرم، إذ كان أفسح في القول طلقاً، وأحسن في در كلمه العذب سرداً ونسقاً، فكيف تزل لي عن صهوة الانتداب، وتوفر علي خطة الاقتداء، هذا إذا قدرت، وما أراها إلا كأختها قد تعذرت، ليس إلا لمكاني من الحرمان والخمول، وكل عذر يدفع به في نحر هذا الصدق فغير مقبول .وقد حطبت وخطبت، وسببت بل ضربت، وتكاتبت حتى كتبت، ولو خططت في صفحة البدر، بأنملي العشر، أو في الشمس، بالمعهودة الخمس، وصغت لفظاً للرقعتين، محاسن الجديدين، لقيل رمى الغرض فكاد، ولو نسج على منوال فلان وفلان لأجاد، وفلان إذا نقل الأقاويل توسط، وإذا رفع إلى فطرته الفطيرة تورط، فإن رأى أن يراجع بالقبول، وبما لديه من الرأي الحسن الجميل، بشرط العدول عن التفريط المخجل، واللفظ المشترك المحتمل، واعتقاد تجريحي في الصناعة بمجرد التبصير، وتنزيه خطوه الوساع فيها عن معارضة خطوي القصير، دل على موضعي من إيثاره، وطار اسمي الواقع بيمن جواره، عمر الله ربعه بالتأمل، وسمعه بالتكريم والتبجيل، وصدأ هذا الزمان معدٍ كل عقلٍ، وفي ما أتوكف من جوابٍ كريمٍ مدوس إمهاء وصقل، وأزال جاهل شبحي لما عليه من الأقذاء، حتى أجتلي صورة حقيقته في رونق الجلاء، وحبذا تعجيله قبل استيلاء العجب القبيح، وتكاتف حجب الغي على متن الصفيح، فيعز صقاله، ويعجز انتقاله، فرأيك انتقاله، فرأيك في ذلك مسدداً إن شاء الله .فتخلف المخاطب عن المجاوبة، فأعاد عليه ثانيةً بخطابٍ قال فيه :وكنت أعتقد أنه - أعزه الله - بجوابه لا يبخل عليّ، وقد بسطت لنيلي به الأمل يدي، ومددت لاجتلاء السرور عيني، وحتى الآن فلم يرتد طرفي الشيق إليّ، بل قيد بشطور، تشوفاً إلى بهجة تلك السطور، فما ظنه بصفر اليدين من الأمل، ناظر إلى أحد الشقين كالمختبل، بل ما ظنه بقومٍ يكثرون عنه السؤال، ويضربون فيه الأمثال، يودون لو قعد تحت الريبة من تأخر الجواب، وأطاع داعي الظنة في قطع رحم الآداب، لشد ما قدحوا زند الوحشة فصادفوه - والحمد لله - جد شحاحٍ، وأكبوا لنار الفرقة فلم يستضيئوا منها بمصباح، وظنوا أنه قد ورد من جواب كريمٍ فكتمته كتم الأرض، ولم أهش لنافلة الشكر عليه فضلاً عن الفرض، وهيهات لوجه الصبح المتبرج من كتم، ولنسيم زهره المتأرج من ختم ؛غير كلمه العذب، بل لؤلؤه الرطب، يجهل للخمول سراه، فلا يفضل عن ستر الراح سناه، ولا يحمل مثقلات الرياح من طيب شذاه، فليحينا منه بقطف يجنينا ثمر السرور، ويعفينا من وصمة التقصير بنا والقصور، فما زلت - أراه الله ما تمناه - أكرم بني الأيام عهداً، وأحكمهم عقداً، وأبعدهم من الآفات وداً، وأحمدهم قرباً حميداً وبعداً، وأصبعهم على الزمان الغادر مراماً، وأشدهم أنفه وعراماً، من أن ينقاد طوع زمامه، ويتصرف - وقد جئت خاطب وده في تضريح أنفي بدمٍ - على أحكامه، لا هم إلا أن يكون ذلك منه - صرف الله صروف الليالي والأيام عنه - ستراً على ما عهده من تأخر كلمي، وتعثر قلمي، واستعجام بناني، وقيام بناني، وقيام ظل البلادة دون إحساني ؛فهل شعر أنه قد نبل الناس، وظهر النسناس، وكلم الرمل الهزج، وسيط غير ما شيء فامتزج!! ولذلك ما أقدم بي قدم الاعجاب، واستؤذن لي على دولة الكتابة بعد طول حجاب، فافتتحت مطالعة حضرته البهية، أراني بنيل هذه الرتبة العلية للنجم راكباً، وللسعد مواكباً، وإن كنت متكاتباً لا كاتباً، وقاعداً حين تطارد فرسان الكتابة لا جائياً معهم ولا ذاهباً ؛ما ضره لو قارضني على الجد ولو هازلاً، وسابقني إلى غاية الود وأنا الراكب المنبت فيسبق مستريحاً نازلاً، بل ما ضره لو فتق لهاتي وقد همت، وسدد سهام كلماتي وقد ألمت، بمكنون الدر، من ألفاظه الغر، ومخجل الزهر، من حكمه الزهر، فيدني من ذي حرص عليه أمله، ويبعث جذله، ويكون جمال إصابته له ؛فلم حرمني جوابه، وتغافل عني وقد قرعت بيد الثقة بابه، ألا سلم للأيام، في إحالتها طباع الكرام، وأنشد:

    ومن صحب الدنيا طويلاً تقلبت ........ على عينه حتى يرى صدقها كذباً

    كلا، لا أسلم لها فيه، ولا أوجدها السبيل إلى شين معاليه، ولو ضاعت هذه الثانية ضياع سراجٍ في شمس، ولقيت من إعراضه عنها ما لقيت أختها بالأمس، فليصل من وصله، وليعذر في الاقتضاء من مطله، ولو غيره عاملني مثل هذا الانزواء، وقابلني بأيسر كبر وجفاء لنظرت إلى كلمة أبي الطيب:

    لا تحسبوا ربعكم ولا طلله ........ أول حيٍ فراقكم قتله

    فكنت أقول:

    لا تحسبوا قولكم ولا عممه ........ أول ركنٍ بناصلٍ هدمه

    ورب كاتب أثقف مبانٍ، وأشرف أبيات معان ؛ولكنه عيني التي بها أبصر، وعضدي التي بها أنتصر، فمن ذا الذي يعتمد بسوء بصره، ويقلع نابه حين يجني عليه أو ظفره .وله من رقعة: توفي الصبر فهششت لإقامة رسم العزاء، ثم تذكرت فتأخرت، وأن نفسي - فاديته - عيرتني ترك المقال، وقالت: أين ما ذخرت لهذه الحال ؟فقلت: أحسن الله عزاء من بكاه، وأرضى بقبض ذلك الظل من اشتكاه، حتى يهدي إليه غفراناً، يلحقه رضواناً، ويحفه روحاً شهياً وريحاناً، ليعلم الهالك - رحمه الله - حيث تصفو العقول، وتنسى الحسائف السالفة والذحول، أن الباقي بعده قد عطف على الأول عطفا، وإلى ما يقربه إلى الله زلفى، فأهدى سنا المغفرة، إلى عظامه النخرة، وكره الشمات، ولم يحقد على من مات، وإن كانت العرب قد هجت قتلاها، وشمتت على مر الدهور بموت عداها. قال الحصين يهجو من قلته.

    فلما علمت أنني قد قتلته

    وقال غيره يشمت:

    وإن بقاء المرء بعد عدوه ........ ولو ساعةً من عمره لكثير

    وقال حبيب:

    يا أسد الموت تخلصته ........ من بين لحيي أسد القاصره

    وقال أبو الطيب:

    قالوا لنا : مات اسحق فقلت لهم : ........ هذا الدواء الذي يشفي من الحمق

    والله يعمر السيد حتى يرث أولياءه وأعداءه، ويقتضي على الأيام علاءه وسناءه، فليس لهذه المدة منتهى، ولا يبلغ منها مدى .ومن أخرى: وإنما هو دأب فلكي، وجري سليكي، يتأكد ويتصل، وتتولد أسبابه فلا تفني ولا تنفصل ؛قال الأول:

    فيوماً على سربٍ نقي جلوده ........ ويوماً على بيدانةٍ أم تولب

    وتلك المنى لو أننا نستطيعها

    وأنا أقول: فيوماً في سوق فليق، ويوماً في طحن دقيق، ويوماً أقتات فيه بسخت السويق، ويوماً أقطعه على الريق، ويوماً في شهيق، ويوماً بالجامدة ويوماً بالسليق، سبعة ألقاب، لسبعة تأكل شلو الأحقاب، تسع جميع الشهر، وتجري كالروح في هذا الدهر، فأنا آلم من السليم بوجعه، وأشغل بهذا الكد منه بأشجعه، حتى آوي إلى عجوز، لنوبها المترادفة من يجوز، آونة تطلب بمبيت سور، وآونة ببنيان جسور، وما في إناء رزقها المكسور، منت بلالة سور، ولم يبق على هذا القياس بعد مغرم الثغور والدروب، إلا أن تشمر عن ساق للحروب، وإنما عليهن جر الذيول، وعلينا إجراء الخيول، فإن رأى - أعزه الله - أن يعفيها ويكفيها، فلها أمثال، في ربات الحجال، وفي ذوي اليسار من الرجال، وقد تقدم أمر الأمير بإعفاء النساء، بيمن فالقوادم فالحساء، فما شأن هذه المرأة تخص بالغرامة، وتستثنى بهذه الحضرة من الكرمة ؟أفتراها التي دلت على ضيف لوط، فتسعط من قاتل الظلم هذا السعوط ؟! كلا ولكنها أم كاتب هذه الرقعة التي لو فسرت لفصحاء يونان، لعضوا من حسرة التقصير عنها البنان .وله من أخرى: جعلت فداك، هل ظفرت بمطلوب يداك ؟كلا ولكنك رأيت سراباً، فحسبته شراباً، وغرتك دمائة، تحتها غثاثة، وسكون، لا يصلح إلى جانبه ركون، وبحكم الرغبة والحرص، كانت فراستك في ذلك اللص، وإلا فصموت عيي، لا يذهب على ألمعي، ودمع فاجر، لا تروى منه المحاجر: وإذ قد نبا حد عتابك من قرع ذلك الحجر الصلد، كما أعيا قبل ذلك على ذي مرة جلد، فمن العناء معاناته، ومن الدناءة قربه ومداناته، فاستشعر اليأس منه، واصرف عنان التثريب والعذل عنه، فإنما هو كذئب في ثلة، بأرض مذلة، في ليلة بعيدة مسافة الصباح، قعيدة روعات الصراخ والنباح، يتملأ من دمائها، ويهزأ هذا الخبيث من ثغائها، بل هو أعق من ضب حرب، في حجر خرب، يخاف على حرشائه من الحرش، ولا يعتصم من أعدائه كعقرب الخرش، فهو إلى عقوقه أنزق من ذي خرق، وقع في حبالة ثم أبق، أحسن الله فيه العزاء حيا، وطوى بيد السلو لهجي بشكياته طيا، حتى أنساه، ولا أعرفه حين أراه، وفراستي في سواه أصدق من نار الفرس في الصدق، وأبصر في ظلمة الاشتباه من طالع الأفق .وله من أخرى: وصل جوابك فشفى عليلا، وبرد غليلا، ونسم من روح الظفر بالأمل نفسا بليلا، وما كان لشرب ودادك العذب أن يستحيل صابا، ولا لمحل مجدك الموفي على الشهب أن ينحط نصابا، ولا لوفاء منك رسا ثبيرا، أن يذهب مع الرياح هباء مستطيرا ؛عقدة ودك أحصف، وحجاب مجدك أضفى من أن يسترق وأكثف، بقيت لغماء تجليها، ونعماء توليها، وعلياء تنافس فيها، وإن أتبع سيدي فرس البر بي لجامها، وقرع عارض المسرة تكاتفها والتئامها، فقد أمكن من الإحضار، وروى ظماء آمالي بمنهل القطار .وله من أخرى: من الأمور الشائعة، والمعاني المتفقة الواقعة، ما يعدل له في الكتب عن قصد السبيل، ويؤخذ في أساليب التطويل، وشعاب التمثيل أو التعليل، فيقوم عذر الكاتب، ويرجى الفلاح للمكاتب ؛كالرأي المستحكم مني في جانبك - أعزك الله - دون سبب أحكمه، وأرب قضى لما عن فأبرمه، ولكن فطرة في الميلاد، وحكمة من خلاق العباد، خفيت عن أذهان منا حداد، وضرب بيننا وبين سرها المكتوم بسد بل بعدة أسداد، فمنا - معشر الإنس - من يجيب المار الأجنبي لسلامه، ويبغض البار الحفي من أخواله وأعمامه، وربما زاد سوء المقدار، في ذميم هذا الاختيار، فهجر أحد أبويه أو كليهما، وقد علم أن طلب الجنة تحت قدميها، ففضله النوع البهيمي بقفو أثر مرضعه، وقد غني عن رضاعها، وزاد على خطوة باعها، وتبرأ منه الجنس الإنسي بموجب عقله، ومقتضى دليلي برهانه عن الله تعالى ونقله، فلا هو من البشر في شكر المحسن إليه، ولا من البقر في إلف القائم ولا من الشجر، بل هو أقسى من الحجر، (وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء) فيكون بإذن الله موردا، وتلطف منه الأجزاء فيكحل إثمدا .وقد لعمري منيت بهذا النوع من الولد، وكمدت به أبرح كمد، واشتغال نفسي بقسوه، بعد حنوه، وببعده بعد طول دنوه، مزج شكيتي، بالبسط لأمنيتي، حتى هرفت بما لم أعقد عليه نيتي، ولا قصدته في هذا المقام برويتي: كالهارف: 'اصبحوا الركب أغبقوا الركب'، والهارفة: 'زوجوني زوجوني'.

    إن اللسان على الفؤاد دليل

    والله يحسن فيه العزاء حيا، ويطوي بيد السلو نهجي بهذه الشكاية طيا، حتى أنساه، ولا أعرفه حين أراه، وفراستي في سواه، أصدق من نار الفرس في الصدق، وأبصر في ظلمة الاشتباه من طالع الأفق .وفي فصل منها: وإذا اتفق من المشاكلة ما صدرنا الكتاب به، المماثلة ما قد ائتلفت نفوسنا بسببه - وهي كما قال عليه السلام: 'أجناد مجندة' - فمن حقنا أن نأتلف ولا نختلف، ونتعاون أعضاء وآراء، وأقوالا وأفعالا، ونطيب نفوسنا، ونستوي في حسن العشرة أقداما ورؤوسا، فنصرف على الأيام جمال أنبائها، ونرتسم في جريدة وفائها، ونتسربل من الحمد لبوسا، ونقمع من استيلاء الذم معرة وبوسا .ومن أخرى: من طال - أعزك الله - أمد ارتياده، ودوم به جناح جده واجتهاده، في طلب كريم الأخلاق، ثم قدر له به تلاق، فما أحراه وقد وجده، أن يشد على علق منه يده، حتى إذا اعتمد اختياره، وأحمد في كل الضرائب آثاره، شد عليه بالعشر، وسجد له سجدة الشكر، وصان منه بعد تميمة تاج، وفارج رتاج، فأسكنه في جفن ناظر كريم، وربأ به عن جفن متحذ من الأديم .وأنت حقيقة ذلك العلق الشريف المشدود عليه، ومجازا شبه العضب المشرفي المشار إليه، من أحرزك أغنيته، أو هزك شفيته، أو استكفاك خطبا مستليما كفيته، ولتناهي ودادي فيك، وتشيعي الشائع لمعاليك، أقتصر معك على لقية في العام، وأعتمدها في سني الإنعام .وفي فصل منها: وإنما يثابر على عمارة ما غرس، ويترجح في الإقامة على ما أسس، من استراب بخبث التربة التي احتلها بغرسه، واختطها لوقاية نفسه، وأما من أحمد ثراه، فقد طابت يقظته وكراه ؛على أن لقاء سيدي ومشافهته، ومحادثته ومفاكهته، كان أحب إلي، وأمتع لمسمعي، وأجلب لقرة عيني، ولكني مشغول بيومي، مدفوع إلى تقويت قومي:

    'أحارب خيلا من فوارسها الدهر' ........ ولا عدة إلا التجلد والصبر

    قد عدت أعرى من نواة، وكنت أكسى من قطاة، فإذا لقيت ذا هيئة خجلت خجل بخراء اضطرت إلى سرار، وفوهاء همت بافترار، ووزير بل أمير دفع بعد ركوب الفاره إلى ركوب حمار .ومن أخرى: ربما كان من الالطاف ما لا سبب له، إلا تنفيق كتب كاسدة، وتسويق سلع فاسدة، لا أن الملطف أحوج بسوء عشرة إلى تقويم، أو غلظ قشرة إلى ترقيق أديم، ولا أن الشيء المهدى يسمن ولا يغني من جوع، فيمنع بالفرح له أو الترح عليه عينا من الهجوع، لا هم إلا أن يكون طلوع ذلك الشيء النزر، من ودود بر، أو مودود رفيع القدر، فهو أوفر ما يقني، وأبعد ما يتمنى .وفي فصل منها: فالمودات، ما خلت من تهاد مكررة، كطبيخ خلا من اللحم يدعى مزورة، والمهدى بين يدي هذه الأحرف عدد كذا من سفرجل، وتصحيفه عندي سفرجل، وإذا سفر عن ثغره جل، فالظفر بطارق الهم مجل، يشبه صور العذارى ضمخت بالعبير، وثديهن بالتقييس والتقدير، كأنما لبست من الحرير سرقا، أو شكت بألوانها وجدا قد برح بها وأرقا، بل كأنما سرقت الثدي طوابع مسك أحم، ضمت عليه جوانحها إذ خافت الذم، أقداح غرب، علت بماء ذهب، طبع من العنبر نواها، وناب عن شذاها الفائح للشرب ساطع شذاها، وربما فضلت شهي التفاح، وفتكت بأدواء المعد فتكة السفاح، وإن فاكهة تشبه الثدي، وتشرك في بعض صفاتها الهدي، لجديرة بأن يحفظها عناقا، ولا يعدل بالواحدة منها عناقا، بل يجعل فدية قضمها أن تشد وثاقا، وتضرب أعناقا. وإن محلك من نفسي لخصيب جناب الصفاء، نقي جلباب الوفاء، فصيح طير الثناء، نصيح جيب الصناعة والولاء، ودادا لا يبلغ مداه، ولا توبس هواجر البعد ثراه، والله يلحفه من التمهيد ظلالا، ويزيد يانع روضة نضرة وجمالا، حتى لا تكرى عيون أزهاره، ولا تعيا ألسنة أطياره، ولا يعرى من ورق عوده، ولا تخشى من حل نظام عقوده .وفي فصل: وعذب شيم، لو أنطقها الله لقالت: معشر الأنيس على شفا، لن تجدوا في غيري مرتشفا، فردوا نميرا سائغا، وتفيأوا ظلا سابغا .وغرضت عليه رسالة أبي عمر الباجي وأبي القاسم بن الجد المتقدمين في صفة المطر بعد القحط، فعارضهما برقعة قال فيها :ولله جلت عظمته أوامر تحيل المنيرة عن طابعها، وتسلب من حصى المعزاء فضل شعاعها، وترد في خلف تمريه حلب ارضاعها، لا تلحق بسوابق الرهان، في ميادين الأذهان، ولا تدرك بقداح القمار، من معليات الأبصار، تطلع المنح من ثنيات المحن، وتخول العاجز الزمن، منفسات الزمن، وقد تذهب بما تهب، وتغير على ما به تغير، حكمة بهرت حقيقتها زواهر الأفكار، وغمرت دقيقتها زواخر بحار الاعتبار، له الخلق والأمر، وبيده النفع والضر ؛وإن أحق النعم بشكر لا تنضب مدوده، وحمد تتجاوز حد المعهود حدوده، نعمى أحيت بالسقيا أرضا مواتا، وأنشرت بدر الحيا أملا رفاتا ؛وقد غبط طير الماء ضباب اليهماء، وحجب كاسف الرجاء نيرات النعماء، وشابت مفارق الرياض، وغاضت مفعمات الحياض، واقشعرت الربى، وحل نبت الحاجر عقد الحبا، وباتت أزهار الغيطان، عليلات الأجفان، تستقي نجوم السماء، وتتوسل بالشبه إلى ذوات الأنواء، فعندما أمست البسيطة على شفا، وأجبل المحتفر ولم يجد مرتشفا، أرسل الله تلك النعمة، بين يدي الرحمة، ريحا لينة هبوب النسيم، في الروض الهشيم، شديدة حفز الغمائم، لتدارك ما في الكمائم، فنسجت بإذنه ملاءها، ورمت أمراسها ودلاءها، فلما لمت قزعها، ووصلت بقدرة الخلاق قطعها، سفحت عيون تلك النجوم، بمكفهر الغيوم، رحمة لعليل النبات، ورقة لأليل المهجات، فنمنم وشي التلاع، بيد لطيفة صناع، ورصع تيجان الأكام، بنطف الغمائم السجام، فاهتزت القطارية لذلك القطار، واشتملت على محسنها من الأوطار، وضحك ثغر الروض بعد عبوس، ونقل إلى سعة الرحمة من ضنك البوس، وسحبت فواهق الأنهار مذانبها، ونشرت عرائس الأزهار ذوائبها، ناظمة من لآلئ الطل عقودها، مالئة لبتها من جوهره الرائق وجيدها، تفوح مجامر أزهارها، وتلوح خفيات خفيات أسرارها، في مرائي أنوارها، فترمي الذاهل برياها، وتحيي النائم وما حياها، مؤذنة بادراكها، على لسان مسكها في ساحة مداكها، وقام من مترنم الأطيار، على منابر الأشجار، خطيب يتلو ما جر من الثناء، على سابغ النعماء، وسائغ رحيق الآلاء. فيا لها نعمة ما أحسن موقعها، ورحمة ما ألطف محلها، من النفوس وموضعها، لقد بردت حر الأكباد، وشفت غليل القلوب الصواد، وفديت بنفائس النفوس والأولاد، نفست خناق الآمال، وحلت عقال الإقبال، وكادت تجري الأرواح في الرمم البوالي والحمد كما لله حض عليه منتهى الحمد، ومبلغ الوسع والجهد، وما لا يحصره العد، وما شاء تعالى من شيء بعد .ووصف له أحد إخوانه امرأة ومدحها وحضه على أن ينكحها، وكان لذلك الصديق امرأة سوادء، فكتب إليه ابن عبد الغفور :بينما كنت ناظرا في المرآة من شعر أحم، ورأس أجم، لا أخاف معه الذم، إذ تقدم رسولك إلي، يخطب بنت فلان علي، ويرغب منها في سعة مال، وبراعة جمال، ويقسم أنها لبرة بالزوج بالزوج بريكة، لا تحوجه عند النوم إلى أريكة، ولو يسرت - وعياذا بالله - لهذا النكاح، لرزقت قبل الولد منها آلة النطاح، ولا حاجة لي بعد الدعة والسكون، إلى حرب زبون، وقراع بالقرون، ولو حملت إلي تاج كسرى وكنوز قارون. فاطلب لهذه السلعة المباركة مشتريا غيري، ولا تسوقها ولا في النوم على أيري، وابتعها ولو بأرفع الأثمان لنفسك، وأضف عاجها النفيس إلى أبنوس عرسك، ولا عذر لها في النشوز والإعراض، فإنما حسن السواد الحالك بالبياض، والله يمدك بقرنين قبل الحين، ويصنع لك صنعين وبيلين، فيسقطك بهذا النكاح الثاني كما أسقطك بالأول لليدين .ومن أخرى: بلغني من ثناء الوزير الجليل، النقاب العلامة النبيل، سيدي وسيد أهل مصره، بل وقته وأعصار خالية قبل عصره، ما فغم أنوف النجوم، وأرغم معطس حاسدي بمذلة الوجوم، وإنما يثني من رهين شكره، ومعظم شأنه الرفيع وقدره، على سهم ذربه، أو شهم قد دربه، أو تلميذ أدبه وعلمه، فكان له الفضل الأكمل بأن كلمه، فكأنه - أعزه الله، بحكم جلاله - أمير شهد لنفسه فتوقف بين حد القبول، وبين ما في رد شهادته من خوف الخبول، وهبه من كلم مكلوم الهاجس، مكدوم السيات والمعاجس، قد صحت فيه الدعوى لصاحب، ومحت الشبهة في سبقه بأوضح لاحب، أي خلل سد، وأي سلب استرد، لا بل أي خطب درأ، ووطب ملأ ؟! فإذ قد اعترض على ما قد انحل من الإحسان، مقدور الحرمان، فإذا في حيرتي به حسرتي، وفي الفقرة الطالعة فاقرتي، وفي حطي لها حظي، ولا فائدة لهذه الأسجاع، سوى تحيرك أشجان وتوليد أوجاع، فإن رأى - أعزه الله - أن أنبذها بالعراء، وأطلق منها داعية الضراء، فقد وافق إرادتي، واختار لي أجدى من مكذوب إجادتي، والله يقدر الوزير الجليل - سيدي وسيد أهل عصره - حتى يشكي من شكا، كما لم يزل يرق لمن بكى، ويصيخ للمكروب إذا شكا، بعزته .وكان الوزير أبو الحسين بن سراج قد خاطب بعض أهل العصر برقعة يشفع لرجل يعرف بالزريزير يقول في فصل منها :كتبت أحرفي هذه، والود صقيل الوذائل، مطلول الخمائل، جميل البكر والأصائل، والله تعالى يزيد أزهاره وضوحا وأطياره صدوحا، وظباءه تيامنا وسنوحا، بمنه .ويصل به - وصل الله علوك، وكبت عدوك - شخص من الطيور يعرف بالزريزير، أقام لدينا أيام التحسير، وزمان التبلغ بالشكير، فلما وافى ريشه، ونبت بأفراخه عشوشه، أزمع عنا فطوعا، وعلى ذلك الأفق اللدن تدليا ووقوعا، رجاء أن يلقى في تلك البساتين معمرا، وعلى تلك الغصون حبا وثمرا، وأنت بجميل تأتيك، وكرم معاليك تصنع له هنالك وكونا، وتستمع من نغم شكره على ذلك أغاريد ولحونا، دون أن يلتقط في فنائك حبة، أو يسترط من مائك غبة:

    وإذا امرؤ أهدى إليك صنيعة ........ من جاهه فكأنها من ماله

    وانتهت هذه الرقعة إلى الوزير أبي القاسم ابن الجد فعارضها برسالة قال فيها: حسنت لك يا سيدي أبا الحسين ضرائب الأيام، وتشوفت نحوك غرائب الكلام، واهتزت لمكاتبتك أعطاف الأقلام، وجادت على محلك ألطاف الغمام، وأشادت بفضلك ونبلك أصناف الأنام، فإن كان روض العهد - أعزك الله - لم يصبه من تعهدنا طل ولا وابل، ولا سجعت على أيكه ورق الوفاء ولا بلابل، فإن أزهاره على شرب الصفاء نابتة، وأشجاره في ترب الوفاء راسخة ثابتة، وقد آن الآن لعقم شجره أن تطلع من الثمر ألونا، ولعجم طيره أن تسمع من النغم ألحانا، بما سقط إلي، ووقع علي، من طائر شهي الصفير، مبني الاسم على التصغير، فإنه رجع بذكرك حنينا، وابتدع في نوبة شكرك تلحينا، وحرك من شوقي إليك سكونا، ودمث في قلبي لودك وكونا، ثم أسمعني أثناء ترنمه كلاما وصف به نفسه، لو تغنت به الورقاء، لأذنت له العنقاء، أو ناح بمثله الحمام، لبكى لشجوه الغمام، أو سمعه قيس بن عاصم في ناديه، وبين أعاديه، لحل الزمع حباه، واسترد الطرب صباه، فتلقيت فضل صاحبه بالتسليم، واعترفت بسبقه اعتراف الخبير العليم .وبعد فإني أعود إلى ذكر ذلك الحيوان الغريد، والشطيان المريد فأقول: لئن سمي بالزريزير، لقد صغر للتكبير، كما قيل 'حريقيص'، وسقطه يحرق الحرج، و 'دويهية' وهي تلتهم الأرواح والمهج ؛ومعلوم أن هذا الطائر الصافر يفوق جميع الطيور في فهم التلقين، وحسن اليقين، فإذا علم الكلام لهج بالتسبيح، ولم ينطلق لسانه بالقبيح، ثم تراه يقوم كالنصيح، ويدعو إلى الخير بلسان فصيح، فمن أحب الاتعاظ، لقي منه قس إياد بعكاظ، أو مال إلى سماع البسيط والنشيد، وجد عنده نخب الموصلي للرشيد، فطورا يبكيك بأشجى من مراثي أربد، وحينا يسليك بأحلى من أغاني معبد، فسبحان من جعله هاديا خطيبا، وشاديا مطربا مطيبا .ولما طار ببلاد الغرب ووقع، وزقا في أكنافها وصقع، وعاين ما اتفق فيها هذا العام من عدم الزيتون، في تلك البطون والمتون، أزمع عنها فرارا، ولم يجد بها قرارا، لأن هذا الثمر بهذا الأفق هو قوام معاشه، وملاك انتعاشه، إليه يقطع، وعليه يقع، كما يقع على العسل الذباب، وتقطع إلى العراد الضباب، فاستخفه هائج التذكار، نحو تلك الأوكار، حيث يكتسي ريشه حريرا، ويحتشي جوفه بريرا، ويحتسي قراحا نميرا، ويغتدي على رهطه أميرا. فخذه إليك، نازلا لديك، ماثلا بين يديك، يترنم بالثناء، ترنم الذباب في الروضة الغناء، وقد هز قوادم الجناح، لعادة الاستمناح، وحبر من لمع الأسجاع، ما يصلح للانتجاع، واثقا بأن ذلك القطر الناضر ستنفحه حدائقه، ولا تلفحه ودائقه، لا سيما وفضلك دليله إلى ترع رياضه، وفرض حياضه، مع أنه لا يعدم في جنابك حبا نثيرا، وخصبا كثيرا، وعشا وثيرا::

    فإذا ما أراد كنت رشاء ........ وإذا ما أراد كنت قليبا

    والله تعالى يكفيه، فيما ينويه، شر الجوارح، ويقيه شؤم الجابه والبارح، بمنه .وبعد هذا الهزل العجاب، جد كالظلام المنجاب، وبروز صفحة الشمس من الحجاب، أخطب به من رسائلك بكرا، أجعل نقدها شكرا، وأبذل بها لها من ودي مهرا، وأمتع بها لحظي دهرا، فإن فرجت لحظتي بابا، ووصلت في مواصلتي أسبابا، جددت للعهد شبابا، واستوجب من الحمد محضا لبابا. واقرأ على سيدي سلاما أعطر من مسك دارين، وأكثر من رمل يبرين، يحييه مع العشي شروقا، ومع النجم طروقا، والسلام المعاد الموصول، ما عضدت الفروع الأصول، وألفت الجفون النصول، على سيدي، ورحمة الله .وله من أخرى: إن عجبا بر الوزير بالزعانف والزرازير، وحظره على قلب يكاد من الشوق إليه يطير، ومن الظمأ يتشكى قطعا ويستطير، وإنه مع عرضه على نار الجفاء غدوا، ونبو مضجع الاحتفاء به هدوا، ووصمة التقصير في جزائه، وممارسة، جرع أرزائه واختزائه، إن لهج فبذكره، أو هزج فبأفانين شكره ؛فكيف به لو ضاحك من خفي بره فرض شؤبوب شنان، غمر بذوب عزاليه نوع الإنسان ؟!ثم نبدأ من شأن الحيوان بزرزور، لا يعرف حقا من زور، مشهور في الطير بالضرع، كثير العادية قليل الورع، كأنما رهطه عبيد للبلابل، ولغطه وقع الحصى المتقابل، وفي غيره من ذوات الريش، النازحة بكل ضراء وعريش، أنجب منه على اللغن، وأحسن تصريف لسان وذقن، كببغا لا تلعثم في عويص اللغى، وشفنين، يثير اللوعة بالرنين، كأنما عاسرته عند التلقين الراء، وداخله بعد الظفر بها امتراء، فاستظهرها بالنكير، استظهار قين بكير، وبهمة في المصاع بكرير ؛وورق كالقيان، خضبت أرجلها بالعقيان، فوارت لآلئ في الأجياد، وزبرجدا أنعلت به حوافر الأجياد، تستتر بورق الغصون، وتشهر بحرق الوجد المصون، ويصقع مشتاقها كالخطيب، ويقع على قاس من الأيك ورطيب، فيلين لشجوه ويميد، ويكاد يذوب له العميد ؛ورب عصفور، صفر لذات سفور، فحكت نقر الزير، وبعثت العين على الدمع الغزير، وبلبل حرك بلابل واقدات، وشك القلوب بمعابل نافذات، وكائن من غرد، حران قلب أو صرد، يفوت مدى العد، ويملأ ديار معد، ولو تقصينا لما أحصينا، ونضب عد الكلام على ثرارته، وعصب ريق الأقلام على غزارته، فلتسهب بما تشهد لفضله رجاح الألباب، ولتغرب من مدارك ثمره بلباب اللباب، حتى تبر على الغريض، بنسق كالاغريض، وتدل بسر التعريض، على سر الأضرب والأعاريض، على أني قد تحوميت وما نوغيت، أي كأني من الحقارة ألغيت، ولا نعيم لعين الوهم وقد وضحت شاكلة اليقين للمتوهم، وسأطفل على السمع، وأبذل مذخور الدمع، فأبث شجونا، وأنبذ النواة مجونا، فلا أرق البهارة، ولا أخفض الجهارة، ولا أصف أزاهر، ولا أنعت القمر الزاهر، بل أندب ربوعا، وأحرز العمر أسبوعا:

    وأبكي على فقد الدراهم إذ لها ........ أبا قاسم غيري من الناس يكرم

    وما سلف للأدب مع الذهب إخاء، ولا هاله منه انتخاء، هذا خالد موجود، لا يلحق جوهره بيود، وذلك قد راب منه الشحوب، وأخلق ذيل عمره المسحوب، فيا لمياه أسجاع هذا النقاب تطرد لغير حائم، ولأجناء ثمر منها مع ذوات الثقاب تتهدل على غير طاعم، ولعرائس نورها تضاحك ثغرا عابسا، وتستدر جلمدا يابسا، تبرج وليس من فعل النوار، وتأرج لأنف لا يعرف فضل الصوار، وتعاظم على أكفائها، وتسرع إلى ما دون الحضيض لانكفائها، وحسبك من نهودها ليهودها، وشرودها تعثر في أذيال برودها، فعلة والله ينكرها الشرف، وينبل عنها المنصرف، فلتحدث العلياء منها متاباً، ولتكتف بقرع هذه العصا عتاباً. فشد ما منحت البر عقوقاً، ومنعت التشيع لها حقوقاً .طالعت - أعزك الله - بهذه الشكاية مستريحاً، ومثلت لها قلباً قريحاً، وهو بحكم جلالها يودعها من الكتمان ضريحاً، ويرضعها من أخلاف التجاوز محضاً صريحاً، فيسره الله لبر حر، وجعله بنجوة من كل ضر .وله من رقعة شفاعة للزريزير المذكور: لله قطر باهي بك على الأقطار، واستغنى بخضل ظلك عن صوب القطار، أذكر نعيم الجنان بنضرته، وسكن نافر الجنان، بلألاء زهرته، أي محسب أنيس وطير، ومائحٍ من النعم زخارٍ من الخير، وآها لقاطعٍ، قطع به مع الفجر الساطع، وبحي خلص من بحرٍ لجي، فاهتاج طرب الجذل النجي، لهفاً يعثر في البيت على الجني، سبح فقبح للشرب الصبح، وصدح فقدح لهم من نار الغي ما قدح، ولربما نطق بالتوحيد، ويحيد عن سجدة الشكر كل محيد، ويهزج ويسنح، وإلى رهطين من الطير يجنح، مرهوب الصقع في الديار، ومحبوب السجع بأعالي الأشجار، يمتع بشتى أفانين، ويخجل البلابل والشفانين .وفي فصل منها: حتى اشتد منه الفقار، واسود فرعه والمنقار، ولم يكن به العول افتقار، فنهض وكسب، وأعرب عن نجرته وانتسب، وأخذ بالطباع في التوليد، وصدح غرداً ببيت الوليد، إلا ما غير منه

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1