Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

طوفان أرض الظلام
طوفان أرض الظلام
طوفان أرض الظلام
Ebook414 pages3 hours

طوفان أرض الظلام

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

في تلك الرواية حياة لم تعشها من قبل، ولكنك ربما تعيشها في المستقبل الذي لا يعلمه أمثالنا من البشر.

نحن الآن في عام ٢١٣٣.. الأرض غير الأرض التي نعرفها، والشعوب تُفرقها الأسوار العالية.
بين ظُلمات الممالك الأربع، نحيا الكثير من المؤامرات، والكثير من الخُطط المُحاكة فقط لأجل الشرور والهلاك!
يبرع الروائي "سامي ميشيل" في أدب الفانتازيا الممزوج بالإثارة والغموض والتشويق، والذي يعتمد على تصوير ورسم مشاهد فريدة من نوعها؛ تجعلك قريبًا جدًّا من الصراع القائم حتى ولو كان غير حقيقيٍّ، ولا يُمكن أن يكون حقيقيًّا، هذه قصة تدور على كوكب الأرض بعد ستة وسبعين عامًا من الآن، ووسط صراعات البشر مع غيرهم من الكائنات المخيفة تُرى هل تتحول الأوضاع للأسوأ.. أم للأسوأ منه في نهاية المطاف؟
Languageالعربية
Release dateMar 28, 2024
ISBN9789778063653
طوفان أرض الظلام

Related to طوفان أرض الظلام

Related ebooks

Reviews for طوفان أرض الظلام

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    طوفان أرض الظلام - سامي ميشيل

    سامي ميشيل: طوفان أرض الظلام، رواية

    الطبعة العربية الأولى: يناير ٢٠٢٣

    رقم الإيداع: ٣٧٠٠ /٢٠٢٣ - الترقيم الدولي: 3 - 365 - 806 - 977 - 978

    جَميــعُ حُـقـــوقِ الطَبْــعِ والنَّشرِ محـْــــفُوظةٌ للناشِرْ

    لا يجوز استخدام أو إعادة طباعة أي جزء من هذا الكتاب بأي طريقة

    بدون الحصول على الموافقة الخطية من الناشر.

    إن الآراء الــــواردة فــــي هـــذا الكتــــاب

    لا تُعبـــر عــن رؤيـــة الناشـــر بالضـــرورة

    وإنمــا تعبــر عــن رؤيــة الكــــاتب.

    © دار دَوِّنْ

    عضو اتحاد الناشرين المصريين.

    عضو اتحاد الناشرين العرب.

    القاهرة - مصر

    Mob +2 - 01020220053

    info@dardawen.com

    www.Dardawen.com

    سامي ميشيل

    طوفان أرض الظلام

    روايــــــــة

    إلى عزيزتي «فادية يعقوب»

    أُهديكِ طوفان أرض الظلام، وأجدد امتناني الدائم لكِ على شغفك بقراءة أعمالي ومراجعتها بدقة، وأشكرك بكل حب على اقتراحاتك المؤثرة في العمل، أتمنى أن تظلي دومًا شمسًا منيرة لكتاباتي، ودافعًا قويًّا لما أقدمه.

    «للبيوت أبواب إذا اختُرقت تاه أصحابها»

    نوح

    عالمي المُظلم

    لست عاديًّا كالشيطان الذي تعرفه، فإذا سقطت في عالمي لن تصل إلى القاع؛ لأنه خُلق بلا نهاية، وبه تحترق الممالك، تجف الأنهار، يشتد ظلام الليل، فلا ترى النهار، ويحرقك ضوء القمر. وتواجه من وقت للثاني كائناتي الشيطانية المفترسة، ونحل الظلام القاسي الذي يجوب السماء بحثًا عن الأرواح، ووحوش البحر القاتلة.

    وإذا شعرت بالطمأنينة، تأكد أنها زائفة؛ لأنه سيطعنك من الخلف أحباؤك بسكين مصنوع من طياشات غروري، فتموت، ثم تستمر في السقوط، حتى تصل للدرك، وهو الجزء الأكثر ظلامًا ورعبًا؛ حيث هناك لن ترى شيئًا، تنصت فقط لصوت صرير أسنان ضحاياي المسلسلين بطياشات أعمالهم السوداء.

    وأَعِدك بأنك إن كنت طيبًا في عالمي، ستعذب أكثر من الأشرار الذين يُحرَقون بأنفاسي. هيا ابدأ في قراءة صفحات عالمي، ولا تجعل نفسك حكيمًا بلا عيب، ذكيًّا قليل الأخطاء؛ كي لا تزورك شياطيني ليلًا، وينحروا رقبتك. وتأكد أن يومك قريب، فأنت على وشك السقوط في عالمي لنحترق معًا، بعد انقضاء الدهر.

    - ١ -

    (نوح)

    نحل الظلام

    نظرتُ حولي، تأكدت أن أبواب المنزل والنوافذ مغلقة، فيما عدا النافذة التي ترتفع مترًا عن الأرض وتنغمس يمين الحائط، سرتُ تجاهها بقلب يخفق، وجسد سمين يهتز. لمَّا وصلتُ اختلستُ نظرات منها على ضوء شمعة صغيرة يساري، فرأيت الظلام يلتهم كل شيء بالخارج. النجوم هربت من السماء، والصمت يزحف فوق الأرض؛ ليلقي بسمومه في قلوب سكان الطبقة الذين ينتظرون الهلاك.

    بعد ثوانٍ احتل «نحل الظلام» الهواء، حلقوا بسرعة رهيبة، بلون أصفر داكن، وعيون سوداء، وأحجام مختلفة. كان أكبرهم يزن أكثر من ربع كيلو، لم يصدروا أصواتًا كعادتهم، وفجأة اخترقت كل مجموعة منهم المنازل عبر النوافذ القديمة، فتعالت صرخات سكان «طبقة الفقراء». ورأيت من بعيد رجلًا يهرول فزعًا، فحاصرته مجموعة من النحل، حتى سقط على الأرض والتهمته حيًّا غارقًا في دمائه. تكرر ذلك مع الكثير من الأطفال والسيدات، تراكمت الجثث فوق بعضها في مشهد مفزع رأيته مرارًا وتكرارًا منذ انهيار الحضارة البشرية.

    واعتصرني الألم حين رأيت طفلًا صغيرًا لم يتعدَّ عشر سنوات يجري متلفتًا حوله، ثم اصطدمت عيناه بوالدته وهي تُلتَهَم بأسنان «نحل الظلام»، فركض ناحيتها، حاول مساعدتها، لكنه لم يقدر، فأخرج سكينة من جيبه وأدخلها ببطء في عنقه! بمرور الوقت ازدادت أعداد النحل؛ لأن «نبات الجحيم» الذي يَقِيَنَا منهم أصبح نادرًا، وتوزيعه بكل فصل خريف تكون الأولوية فيه للطبقات الأعلى، فنحن في النهاية نحصل على الفُتات، بعدما نخسر الأرواح الثمينة.

    لما غرقت الأرض في الدماء، رأيت من بعيد رجلًا مسنًّا تخطى السبعين، يمسك في يده خشبة يطارد بها النحل، يبتسم بثقة كأنه يداعب فراشات فاتنة وليس وحوشًا قاتلة، كان النحل يبتعد عنه ويتحاشاه بطريقة غير مفهومة. وخلف هذا الرجل، وقف أسد أَسْود اللون، عيناه بيضاء واسعة، جسده مليء بالندوب، يُخرج من أسنانه صوت صرير مزعج، ويتابع عن كثب كل شيء، ما أعجب نظراته الخبيثة! بل ابتسامته، وسعادته بكل جثة تقع على الأرض! ثم حرك رأسه ناحيتي وابتسم لي، وسار بعيدًا برِياء.

    من كثرة الجثث والدماء زاد خوفي، وتفصَّد جسدي بحورًا من العرق، أغلقتُ النافذة، وركضت باتجاه حبيبتي «فايا» التي كانت تقف خلفي هي وابنتها الصغيرة «كايلي»، جذبتهما ودخلنا سويًّا إلى إحدى الغرف الواسعة التي لا يوجد بها نوافذ، أغلقت بابها، ووضعت وراءه ثلاثة كراسي خشبية، وخنقتُ عَقِبه بقماش كتاني ثقيل. جلسنا سويًّا فوق سرير خشبي مربع، مُنتظرين على ضوء شمعة صغيرة تترنح حولنا ميعاد الخلاص المؤقت، ونحن نسمع الصرخات في الخارج تزمهر كالرياح العاتية.

    في هذه الأثناء تابعتُ عين «فايا» العسلية الهادئة، بشرتها السمراء، شعرها الغجري، تداعب بيدها اليمنى شعر ابنتها المريضة، التي تحارب الموت كل يوم، وتبث بداخلها الطمأنينة. كان وقتها الطقس حارًّا، والغرفة خانقة، فشعرت بالعطش، ومنعني من الخروج الصرخات المفزعة التي مثلت حائط صد أمامي. ظللنا هكذا لساعات، فوضعت يدي على رأس «فايا»؛ كي تطمئن، وقبلتُ شعرها، وَعَدْتها بأن كل شيء سيمضي كما تعودنا منذ أن وطئت أقدامنا هذه الأرض السقيمة.

    لما هدأت الصرخات، اشتمت أنفي رائحة «نبات الجحيم» الطيبة، علمت أن النحل سيعود من حيث أتى. حينها راجعتْ ذاكرتي ما مَررتُ به خلال سنوات عمري الثلاث والثلاثين وما قبلها، عندما بدأت «سلسلة سقوط العالم»، بظهور فيروس «الكورونا» عام ٢٠٢٠م، وانتشار الوفيات والمرضى؛ حيث أصيب العالم كله به، وتهشمت الطموحات الإنسانية أمام قوته، وظن الجميع بأن هذه ستكون النهاية، لكنها كانت حدث الزناد الذي أطلق رصاصة السقوط العظيم.

    فبعد تفشي هذا الفيروس، عاشت البشرية سنوات هادئة نسبيًّا، حتى جاء عام ٢٠٥١م، وظهرت فيروسات متطورة من «الكورونا»، حتى سقطت في الشوارع ملايين الجثث، ومات ربع سكان الكوكب. كان الفزع مسيطرًا، ضرب كافة المجالات، بالأخص المجال الاقتصادي. نسي العالم تدريجيًّا أطماعه في السيطرة، والتهديد بالأسلحة النووية، وأصبح مهزوزًا ضائعًا، يقف أمام عنف الطبيعة بمفرده، فتصفعه يومًا بعد يوم وهي صامدة وثابتة. وما زاد الأمور تفاقمًا مع الفيروسات، هو سوء أحوال الطقس؛ لأن درجات الحرارة ارتفعت وسجلت أعلى معدلات لها منذ نشأة الكون، وغرقت أغلب أجزاء القطبين الشمالي والجنوبي، واندثرت أسفل مياههما مدن كاملة بسكانها، مثل «الإسكندرية» التي غرقت في يوم واحد، ومات الملايين إثر «تسونامي» ضخم، وتحولت جثث السكان في ليلة وضحاها إلى عَشاء للأسماك.

    لم تكن «الإسكندرية» وحدها سيئة الحظ، حيث غرقت أيضًا جُزر عديدة، مثل «المالديف» التي ابتلع المحيط سكانها بعدما حُرقوا بنيران سوداء انفجرت من بركان نشط. و«شنغهاي الصينية»، و«تايلند»، وغيرهم من المدن التي تدثرت بالمياه المالحة، وارتدت شعوبها أثواب الموت السوداء.

    وبعد عام، ظن بنو آدم أن العالم سيعود هادئًا خاليًا من الكوارث، لكنهم استيقظوا ذات يوم فلم يجدوا «الصين» ولا «الهند»؛ حيث غرقت الدولتان بعد زلزال عنيف أطاح بهما، ماتت مليارات البشر في هذه الكارثة التي سُميت بـ«يوم السبت الأسود»، واقتنع وقتها الجميع بأن الطبيعة ثارت وتَمَلكها الغضب، باتت عدوهم الأول الذي لا يُقهر، ولا يهدأ إذا ثار.

    حاولت المنظمات العلمية فيما بعد وَضْع استراتيجيات للتعامل مع الطقس، والكوارث الطبيعية؛ لكنها فشلت بسبب تردي الأحوال الاقتصادية، وقلة الثروات. لكن كل هذه البلايا لم تكن بقدر ما وقع عام «٢٠٩٨»، وأدى إلى نهاية الحضارة، ورجوعها لعصور ما قبل الظلام. نعم، ما قبل الظلام؛ لأننا في هذا العصر لا نملك الظلام حتى. نتيجة لما حدث وقتها، صنع العدد القليل المتبقي من البشر الذي لا يتعدى نصف المليون شخص، أربع طبقات: «الفقراء»، هي الرقعة الأقل حظًّا وأكثر تعاسة. و«البحر»، حيث يعيش سكانها على جزيرة منعزلة يحوطها النيل من الشرق، والبحر من الغرب. و«الأسوار العالية»، التي يعيش مُلاكها في رغد أبدي. و«الأرض»، التي يقطن أصحابها مدينة ضخمة أسفل باطن الأرض، محتفظين بأسرار العلوم الهندسية لهم وحدهم.

    ووقعت الكارثة التي قسمتنا في صيف ٢٠٩٨م، كان يومًا مفزعًا، الكل هرول فيه بالشوارع، تفرق الملايين عن بعضهم، هرب الآباء، وقَتَلت الأمهات أطفالها من الأهوال، وانتزعت الرحمة من قلب العالم، حيث...

    - اهدأ، وتوقف عن استدعاء الذكريات.

    قالتها «فايا» مقاطعة ذاكرتي من عرض فيديوهاتها الأليمة، هززتُ رأسي وركزتُ مع جسدي الذي تحول إلى بحر من العرق، وأنفاسي التي لم تكن منتظمة من الحر.

    - الأصوات هدأت يا «نوح» منذ فترة، تَفَقد الوضع الآن؛ لأن «كايلي» لا تحتمل الحر بسبب مرضها.

    - حسنًا، لا تقلقي عليها.

    دفعت أقدامي للأمام، رفعتُ الكراسي والقماش من خلف الباب، وفتحته، نظرتُ في صالة المنزل بحذر، كان الظلام منتشرًا، وشمعة الصالة انطفأت، أخذت شمعة الغرفة وسرتُ مقتربًا من باب المنزل الخشبي الضخم مدققًا النظر، سمعت صوت أجنحة تحلق يساري فوق طاولة الطعام المستديرة، حركتُ رأسي بخفة ورأيت نحلة ضخمة تتجه ناحيتي، من خوفي سقطتُ على الأرض، بحثتُ مهرولًا عن سكينة أو قطعة طويلة من الخشب فلم أجد. ولأن جسدي سمين، أصدر صوتًا عاليًا أثناء ارتطامه، فخرجت «فايا» خائفة وتسمرت وهي تشاهدني بفزع، وأغلقت الباب على ابنتها.

    اقتربت مني «النحلة»، جعلت من قدمي مطارًا لها أراحت عليه جسدها، وأخرجت لسانها الأحمر ولعقت قدمي برؤية مشوشة؛ فلحظات تراني فيها وتقترب لقتلي، ولحظات ثانية لا تراني وتتراجع. استمرت هكذا لفترة، ثم طارت وخرجت من فتحة في النافذة. تسندت بعدها على جذعي بصعوبة، ووضعت قطعة خشب مكان خروجها، بحثتُ عن غيرها فلم أجد، وركضت «فايا» تجاهي واحتضنتني، وكانت أصوات بكاء الناس في الخارج على الموتى تَصُم الآذان.

    حركتُ يدي على شعرها لتهدأ، كان قفصي الصدري يعلو ويهبط من الخوف، وأيقنتُ أن الأيام القادمة ستتدثر بالبلايا، لن يُرحم الجميع، ولكنني رغبت في التخفيف من حدة ما رأيناه، فأمسكت بيد «فايا» قائلًا:

    - لا تقلقي، سأهتم بتأمين المكان فيما بعد.

    - أثق بك، ولكن «كايلي» مرضها يتوغل، ولا نعرف علاجه.

    - أنا أعرفه جيدًا، وقريبًا ستحصل عليه.

    تبسمتْ، وسألتني بشخصيتها المرحة:

    - أكيد يا «نوح»؟

    هززت رأسي بنعم، وطلبت منها الذهاب لابنتها كي تطمئن عليها، وارتديت جلبابًا كتانيًّا أسود يناسب قامتي الطويلة العريضة، وصندلًا من الجلد. فتحت الباب، ونزلتُ على خمسة سلالم خشبية، ووطئت قدماي الأرض. فتحت باب السور، وخرجت من محيط منزلي، ورأيت أمامي في ساحة الطبقةِ المنازلَ الحجرية التي تتكون جميعها من طابق واحد، بلون أصفر مائل للسواد؛ حيث تقبع في كل واحد نافذة مستطيلة، يتعلق بها من الخارج ألواح خشبية لمنع دخول الحشرات، وكان المنزل منهم يتسع لأربعة أفراد، به حمام ومطبخ صغيران. ورأيت أمام كل منزل جثة واثنين على الأقل، وأُسَرًا كثيرة مشدوهة ويبكون بحرقة. ناحية اليسار جاء «خالد الأشعب» مسئول الطبقة كما يسمي نفسه، برغم أن الطبقة لم توكله لذلك، لكنه فرض نفسه علينا، وعشرين من رجاله، قسمهم بترتيب منظم لرفع الجثث، وتجميعهم في مستشفى الطبقة. برغم سنوات عمره التي قاربت من الستين، إلا أنه كان قويًّا، جسده رياضي وعقله واعٍ.

    يا له من خبيث يرغب في تجميع الجثث لتكون وجبات دسمة لـ«الكائنات الشيطانية» التي تزورنا أسبوعيًّا. ويعتقد مساكين الطبقة أنه يساعدهم بحسن نية، ولا يعرفون حقيقته. لم أحبه منذ وطئت أقدامي المكان، وسيأتي وقت أضع رقبته في الوحل ليكون عبرة، ولكن يجب تركه ليكمل بناء «سور الطبقة»، فمَن غيره يملك القدرة على تنفيذ هذه المهمة الصعبة؟

    وخلف «الأشعب» وقف كبير أطباء الطبقة «أوسمان نجم الدين» بسنوات عمره الأربعين، ذلك العبقري البائس الذي فقد والدته في حادثة شنيعة، وكان الاضطراب يغالب وجههُ، ويوجِّه الأطباء الأصغر سنًّا منه لتضميد جراح المصابين، ونجدة الأطفال، ونقل الحالات الحرجة للمستشفى.

    حقًّا أحبه من قلبي، وأرى فيه رجل الأزمات الخطيرة، وأتمنى أن يصبح مسئولًا عنا ذات يوم، لكنه نافِق كجثث الحيوانات، وانسياقه وراء تعليمات «الأشعب» تدعوني للقضاء عليه، بعد وضع رأس مسئول الطبقة الوهمي في الوحل، قريبًا جدًّا.

    قطع تحديقي فيهما نظرات قاسية من «خالد» تجاهي، فهربتُ بعيني بعيدًا، وتحركتُ ناحية السكان مستعينًا بضوء المشاعل الذي يشق ظلام الليل البهيم. وكانت المنازل تخلو من البهجة والأمان، والأرض أسفلي مليئة بالحصى، وغير ممهدة، مما أصابني بالألم، خاصة في قدمي اليسرى التي أعرج عليها منذ طفولتي بعد حادثة سقوطي من فوق تلة عالية وأنا في سن العاشرة. ثابرت في عناد، واقتربت من منزل أمامه جثة لأب ستيني، وزوجة خمسينية، وثلاث فتيات يبكون على والدهم الذي لم يترك فيه النحل جزءًا سليمًا، فمن الرأس حتى القَدم امتلأ بالجروح، كما أن عينيه لم تَسلما منهم كذلك، أما رأسه فقد صار مجوفًا، وبشرته كانت شاحبة.

    ودنا جسدي منهم أكثر، وأعطيت إحدى الفتيات كيس قماش مليئًا بالفضة، تلك العملة النادرة التي لا يتعامل بها سوى أبناء الطبقات العليا، هي والذهب. استمرت الفتاة في البكاء، ولم تهتم بالفضة، وعندما رأت والدتها الكيس تغيرت ملامحها للسعادة، وأخذته كالمجنونة، ودخلت إلى منزلها وأغلقت الباب في وجه جثة زوجها، وانكفأت تضحك كالمجانين بصوت مرتفع. قَدرتُ موقفها وأكملت طريقي الطويل، وكلما رأيت جثة أعطي لأصحابها الفضة، وأَعِدهم بعيني فقط أن القادم سيكون أفضل، رغم ما رأيته من علامات في البَر والبحر تؤكد قرب تكرار ما حدث يوم «السبت الأسود».

    وفي خلال ساعة وزعت عليهم الفضة الممزوجة بالأمل، وقررت تغيير خطتي، وحذرتهم من علامات المستقبل اللئيم، وصبرتهم بأموالي على الأيام الثقيلة وما تخلفهُ من شوائب آثمة. وانتهيت فيما بعد وكانت قدماي تؤلمانني، وشعرتُ أن ظهري سيسقط مني، وجسدي غرق في العرق رغم نسمات الهواء الباردة التي تظهر في فصل الخريف، فقررتُ العودة، ولكنني تَثَبتُّ في مكاني للحظات، وتابعت بعيني رمز طبقتنا الموجود بالقرب من السور الغير مكتمل، والرمز عبارة عن ثلاثة تماثيل صخرية ضخمة لأب وأم وطفل ملتصقين ببعضهم، ويرتفعون لمسافة ثلاثة أمتار عن الأرض، وتعبر هذه التماثيل عن اهتمام طبقتنا بالترابط الأسري، ولكن الأوغاد دومًا يحاولون إبعادنا عنه، فاغرورقت عيناي بالدموع، ثم عدت وأنا حزين.

    وخلال عودتي كان صوت البكاء ولَّى، وتبدلت المشاعر المضطربة مثل البحر من حالة الحزن إلى الفرحة الصامتة بالفضة التي تجعلهم يعيشون أيامًا قليلة مستقرة، ويشترون احتياجاتهم من الطبقات الأعلى، حتى تنتهي الفضة، فيعودون للشقاء الأبدي مرة ثانية. ودنت أقدامي من منزلي، فرأيته مظلمًا باهتًا مثل منازل الطبقة، برغم أنه مصنوع من الخشب النقي والصلب، ولونه بني، ومكون من طابقين، ومحاط بسور ضخم من الصخور الصفراء المربعة، وله مساحة كبيرة، ومليء بالأبواب والنوافذ القوية المزينة بورود خشبية بارزة. وترتفع أمامه عشرة عواميد خشبية، تنتهي بمربع حديد، توضع فوقه المشاعل لتنير واجهته الخارجية.

    أما ظهر المنزل فتزينه حديقة مليئة بالفواكه، طردتني «فايا» منها لأنني مصاب بالسكري، وعندما أدخلها أجلس على كرسي خشبي صغير، وأمارس هوايتي المفضلة؛ وهي الأكل بشراهة، ثم أسقط بعد وقت قليل مغشيًّا عليَّ في غيبوبة سكر مبهمة النهاية. ورغم كل ما أملكه، إلا أن منزلي بائس مثلي، لا ينيره سوى وجود حبيبتي به. ولما وصلت للباب دفعته، ودخلت فوجدت «فايا» تقف في منتصف الصالة، وجسدها يرتعش، وخلفها ابنتها تبكي بصمت، وأمامهما الأسد الذي كان يشاهد أكل «النحل» لأجساد السكان من بعيد، وكان يخرج منه صوت مرعب وقابض للقلب. أخرجتُ حينها سكينًا من جيب جلبابي، واقتربتُ بخطوات مرتعشة، وفجأة قفز على «فايا» ووضع أنيابه الحادة في جسدها، فنزفت دماءً كثيرة، وقضم ذراعها والتهم قطعة منه، فركضتُ باتجاهه وكلي خوف مغلف بالغضب.

    * * *

    - ٢ -

    المتحور الأسود

    الظلام يقترب، المساكين لا يعلمون، وشَرِّي يزداد بلا توقف.

    حرك «يامن المصري» حاكم طبقة «الأرض» يده على شعر رأسه الأبيض القصير، وجاهد نفسه كي لا ينفجر صراخه في كبير الأطباء «سمنار» الواقف خلفه، والرعب يسيطر على ملامحه، ثم رفع «يامن» رأسه للسقف، رأى سطح الطبقة الصخري ذا اللون الأصفر يزداد ضيقًا به، واشتمت أنفه رائحة كريهة، فمال بعينيه للأسفل، مُتابعًا بحدقتيه المشرحة التي تكتنف جثث سكان الطبقة، الذين غرقوا في بحر فيروس «المتحور الأسود» ففتك بهم، وطمس أجسادهم في السواد، ولثم عيونهم بغشاء أبيض، وهشم أطرافهم، فكانت تتساقط قبل وفاتهم بلحظات بسيطة، فلما استحال علاجهم، كان الموت أَولى بهم.

    ثم تراجع بقدمه للوراء، لمَّا رأت عيناه جثة طفل في الخامسة، مُلقاة على الأرض بلا أطراف، وعيون حمراء تشعر وكأن الدماء ستنفجر منها، تخيلَ ابنته الصغيرة مكانه، فزادت نبضات قلبه، وصرخ في «سمنار»:

    - أين الدواء؟ بعد هذه المدة لم تستطع صناعة علاج للمتحور الأسود؟! كيف تكون كبيرًا للأطباء وسكان الطبقة يفتك بهم المرض وأنت ثابت مكانك؟!

    نظر للأرض، ولم يقدر على الدفاع عن نفسه، فأردف الحاكم:

    - منذ عام والأمراض الفتاكة الغامضة تخنقنا يوميًّا كمجرم ثقيل النَّفَس لا يترك منزلًا إلا وقتل أصحابه، وما السبب؟ نعيش هنا في أفضل وضع، وطعامنا صحي، ولا ينقصنا شيء، ما المعضلة؟!

    صمت «يامن»، ثم رفع إصبعه في وجه «سمنار» وقال:

    - تكلمْ ولا تكن مثل الحجارة.

    اقترب منه قليلًا، وقال برأسه حليقة الشعر وسنوات عمره التي قاربت على السبعين:

    - الحياة داخل الأرض تزج بنا ناحية أمراض وفيروسات غريبة، لم يعرفها الطب أبدًا، وتحتاج لعلاج قوي، والعلاجُ القوي يحتاج لاختبارات كثيرة، ونحن لا نملك الوقت، ولا المختبرات العلمية الدقيقة.

    تأمل «يامن» المساحة الشاسعة التي تمتلكها طبقته أسفل باطن الأرض، والبيوت المنحوتة داخل الصخور الصلبة، والمشاعل التي ترتفع على عواميد خشب طويلة، ورفع حاجبيه وشاور مَن حوله قائلًا:

    - نعيش هنا منذ ثلاثة عقود، فلماذا ظهرت هذه الأمراض فجأة؟ أنت لا تملك إلا لسانك يا «سمنار»، وهذا ليس دليلًا كافيًا على ما تقول، أين أبحاثك؟ تجاربك؟...

    - منذ عام ٢٠٩٨م والطبيعة توحشت علينا، وفشلنا في استيعاب مدى ما نمر به؛ لأنها لا تتوقف عن صفعنا ورمينا بكوارث متعددة في وقت قصير يا سيدي. ولكن بكل صدق أنت أخلصت وتفانيت، وبدونك كنا سننهار وتـ...

    - اصمت ولا تنهَل في

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1