Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

الترجمان - من يكتب السيناريو؟
الترجمان - من يكتب السيناريو؟
الترجمان - من يكتب السيناريو؟
Ebook777 pages5 hours

الترجمان - من يكتب السيناريو؟

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

القصة بسيطه جدًّا ولكنها تحتوي على أفكار مشوقة وفلسفية هامة، مثل: "التحولات التاريخية الكبرى" و"أنماط التحولات التاريخية"،
ثم الموضوع المهيمن على الأحداث وهو "تزييف التاريخ لصالح الصهيونية". بالإضافة لأسئلة من نوعية: كيف تسير حياتنا؟ التسيير والتخيير، كيف تكتب مصائر الناس، وكيف أن كل خطوة تحدث في حياة سمير تكون لها أكبر الأثر بعد ذلك؟!
Languageالعربية
PublisherNahdet Misr
Release dateJan 1, 2021
ISBN9789771459361
الترجمان - من يكتب السيناريو؟

Related to الترجمان - من يكتب السيناريو؟

Related ebooks

Reviews for الترجمان - من يكتب السيناريو؟

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    الترجمان - من يكتب السيناريو؟ - حازم حامد الشاذلي

    حـــازم الشاذلي

    الترجمان

    من يكتب السيناريو؟

    الترجمــــــان

    من يكتب السيناريو؟

    تأليف: حازم حامد الشاذلي

    إشــراف عـــــام: داليــــا محمــــــد إبراهيـــــم

    جميع الحقوق محفـوظـة © لـدار نهضـة مصـر للنشـر

    يحـظــر طـــبـــع أو نـشـــر أو تصــويـــر أو تخــزيــــن أي جـزء مـن هـذا الكتـاب بأيـة وسيلـة إلكترونية أو ميكانيكية أو بالتصويــر أو خـلاف ذلك إلا بإذن كتابي صـريـح من الناشـر.

    الترقيم الدولـي: 978-977-14-5936-1

    رقـــم الإيــــــداع: 2020 / 20519

    الطبعـــة الأولى: يناير 2021

    tragman-002.xhtml

    21 شارع أحمد عرابي - المهندسين - الجيزة

    تليفــون: 33466434 - 33472864 02

    فاكـــس: 33462576 02

    خدمة العملاء: 16766

    Website: www.nahdetmisr.com

    E-mail: publishing@nahdetmisr.com

    إهــــــداء

    إلى روح شقيقي

    حشمت حامد الشاذلي

    الجزء الأول

    ( ستصير حياتي خريفًا دائمًا لأنك لست هنا ) .

    هاستن هيوارد

    (1)

    يناير 2015

    اقترب حفل الاجتماع لدفعة المدرسة الإنجليزية، والذي أعد له وابتكر فكرته اللواء مهندس عمرو الكيلاني... اقترب الحفل ولم يعثر المحتفلون بعد على سمير حلمي!

    مرت عشر سنوات منذ الحفل السابق، وعرف العالم الفيس بوك والجوجل ومع ذلك ظل سمير مختفيًا!!

    قال اللواء عمرو: هذا غير معقول! أليس له أثر؟ أو ابن يحمل اسمه؟ مكان شوهد فيه آخر مرة؟

    قال دكتور عادل بسيوني: صدقني، لقد حاولت أن أجمع معلومات من محل سكنه الذي نعرفه جميعًا، فقيل لي إن العائلة كلها قد تركت المكان، ولم يدلني أحد على العنوان الجديد..

    - وقبل ذلك.. البدايات.. منذ أن افترقنا بعد الثانوية العامة؟

    - على حد ذاكرتي المتواضعة، فهو قد التحق بكلية الآداب... وكان متضررًا من ذلك، فميوله كانت علمية.

    قال إبراهيم الفار المحاسب بالبنك الأهلي: لا أظن.. قيل لي إنه التحق بكلية الألسن قسم اللغة الإسبانية.

    - وخلال هذه الفترة، ألم يلتقِ أحد منكم به... في الجامعة؟ في الجيش مثلًا؟

    قال الفار: والله سألت الدفعة كلها ولم يدلني أحد. كان لطيفًا ومهذبًا، وكان يشاركنا كل أنشطتنا... ليتنا بالفعل نعثر عليه...

    قال دكتور بسيوني: على العموم لا جدوى الآن من النقاش حوله، فقد اقترب الحفل، ولا بد أن نستعد له، ومن يدري؟ ربما –بالتوازي– يمكننا الوصول لبعض المعلومات.

    قال اللواء عمرو: الفضول يقتلني... لا بد أن نعرف سبب هذا الاختفاء.. إذا كان قد مات فأين أبناؤه؟ أنا شخصيًّا كنت أعرف شقيقًا له، وبحثت عنه ولم أجده...

    انفض الاجتماع وبدأ الزملاء يستعدون للحفل، ونسوا أو تناسوا أمر سمير حلمي... شخص واحد لم يستطع أن ينسى... يحيى وردة الصحفي الكبير... كان على صلة وثيقة بسمير...

    وبالرغم من مشاغله وهمومه فقد وجد وردة أن الأمر يعنيه، ليس فقط للصداقة الحميمة التي كانت تربط بينهما ولكن للظاهرة نفسها، أن يختفي شخص من على ظهر الأرض في زمن الفيس بوك والجوجل!! لقد استثيرت غريزته الصحفية، إذن، فهو سيقبل التحدي... سيبحث عن سمير حلمي!

    وفي آخر أيام شهر فبراير 2015 بدأ الزملاء يتوافدون على قاعة احتفالات كبيرة في فندق إنتركونتيننتال سيتي ستارز... وصل اللواء عمرو مبكرًا باعتباره راعي ومنظم الحفل، وبعد حوالي ساعة اقترب العدد من الاكتمال، واستعد اللواء عمرو لبدء مراسم الاحتفال، فألقى كلمة الافتتاح، وحيًّا الحضور، ودعاهم لتكرار الحفل في كل عام أسوة بما يفعله هو وأفراد دفعته في الكلية الفنية العسكرية.. وبعد أن انتهى من إلقاء الكلمة راح الزملاء يتعرفون إلى بعض من جديد، ويعرفون بعضهم بعضًا بزوجاتهم أو أولادهم...

    نظر اللواء عمرو في ساعته، ومال على دكتور بسيوني وقال: غريبة... يحيى وردة لم يظهر حتى الآن!

    - نعم، أنا اتصلت به على الموبايل وكان مغلقًا... سأحاول مرة أخرى...

    وما هي إلا دقائق حتى دخل يحيى وردة ومعه رجل يبدو أكبر سنًّا من المحتفلين، أبيض شعر الرأس، قمحي لون البشرة، ذو قامة متوسطة انحنت قليلًا بفعل الزمن... يتوكأ على عصا معدنية أنيقة ويضع على عينيه نظارة طبية مذهبة ورقيقة، بدا شاردًا ومرتبكًا في آن واحد... ينظر إلى موضع قدميه وإلى يحيى وردة من حين لآخر... وما إن اقترب الرجلان من منتصف القاعة حيث يجلس اللواء عمرو، حتى اقترب وردة من أذن اللواء مستأذنًا إياه في الصعود إلى المنصة الصغيرة المقامة على طرف القاعة، أمسك بالميكروفون وقال: زملائي الأعزاء.. أقدم لكم زميلنا العزيز... سمير حلمي!!

    * * *

    (2)

    نوفمبر 1977

    استيقظ سمير حلمي، ابن التاسعة عشرة، بعد مغيب الشمس، مكتئبًا كالمعتاد، وكيف لا وهو يدرك بالضبط ما الذي سيحدث الآن! فبمجرد قيامه من السرير... هذا الذي يتكرر كل يوم بنفس الترتيب والتفاصيل وبنفس مقدار الألم الذي يسببه له ويجعله منقبض الصدر، عازفًا عن الحياة، راغبًا في استكمال نومه هربًا من واقع لا ذنب له فيه ولا قدرة له على تغييره في الوقت الحالي... سيخرج من غرفته وسيجد والدته تجلس في غرفتها وبجوارها على السرير شقيقته آمال التي تصغره بخمس سنوات والمصابة بمتلازمة داون وهو المرض الذي يصيب صاحبه بإعاقة ذهنية وملامح وجه مميزة... تحيطها أمه بالرعاية طوال أربع وعشرين ساعة... تطعمها وتسقيها وتنظفها وتصبر على أسئلتها وتعليقاتها والأصوات غير المفهومة التي تخرج منها... تفعل ذلك بلا كلل أو ملل، فلا يتبقى لها إلا الوقت القليل للاهتمام بسمير وشقيقه منير ووالدهما... وبعد قليل سيأتي والده من عمله الإضافي مكفهر الوجه، مشتت الذهن مستعدًّا للانفجار لأتفه الأسباب... سيضع كف يده على رأس آمال كتحية لها أقرب لأداء واجب! وربما سيلحظ وجود زوجته فيقول: مساء الخير! سيخلع ملابسه وسيرتدي بيجامة كاستور مقلمة، ولن يوجه أي كلمة للأبناء... ثم سيتجه بخطى متثاقلة إلى المطبخ وسيفتح الثلاجة ويأخذ منها علب الجبنة البيضاء والرومي والزيتون وزجاجة براندي من نوع رخيص لا تخلو منها الثلاجة أبدًا!! وسيجلس أمام التليفزيون ليتناول عشاءه البسيط، ويحتسي كئوسًا من البراندي إلى أن يغلبه النعاس أمام التليفزيون فيقوم لينام في سرير منفصل عن سرير زوجته التي تنام بجوار آمال...

    ربما قبل ذلك بقليل، سيكون شقيقه منير قد عاد من النادي بعد أن أنهك جسده النحيل في لعب كرة القدم يدخل ويقتحم الثلاجة لإشباع جوعه، ثم ينام كجثة هامدة حتى الصباح!

    هذه هي حياة سمير بعد المغرب.. كئيبة مملة وإلى الآن هو يتساءل هل هي كذلك لأن والده ووالدته على هذه الحال أم أن الأمر يكمن فيه؟ وهل ما وصل إليه حال والده ووالدته كان بسبب آمال أم أن الأمر قد بدأ قبل ذلك؟ هو لا يتذكر.. لقد عاش طفولة طبيعية، لعب مع شقيقه وحظي باهتمام من والدته، واشترى له والده ألعابًا وملابس مثل بقية خلق الله، وكذلك فعل مع شقيقه، ثم جاءت آمال وبدأ الاهتمام به يقل.

    كان من الضروري إذًا، أن يميل سمير إلى حياة أخرى يشعر فيها أنه أيضًا إنسان وأن هناك آخرين يهتمون به، اندمج مع أصدقاء المدرسة ولكنه لم يشعر بالسعادة مقارنة بأصدقائه الذين يعيشون حياة أسرية طبيعية، ولما انتهى من الثانوية العامة والتحق بالألسن منفردًا، وجد نفسه وحيدًا في الكلية. حاول أن يندمج مع أصدقاء جدد ونجح إلى حد ما، ولكنهم أبدًا لم يكونوا مثل أصدقاء المدرسة المتماثلين معه في البيئة والاتجاهات...

    عامان مضيا عليه في هذه الكلية وهو على هذه الحال من الاكتئاب.. قرأ كثيرًا عن مرض شقيقته وتأكد أنها من الممكن أن تندمج في هواية أو مع بيئة ملائمة في مدارس متخصصة، ولكن الأم لم تقتنع بذلك، وأصرت على أن تكون شهيدة خدمتها والتفاني فيها على حساب الزوج والولدين المهملين.. أحيانًا قليلة يلمح والدته تغتصب ضحكة إذا ما بدر من شقيقته أي شيء طريف.. لم يجد في نفسه أبدًا أي ميل للتحدث معها بشأن ذلك، كان يعلم أنها ستستمع إليه ولكنها لن تغير من الأمر شيئًا... فشل الزوج فهل ينجح هو؟

    ربما اليوم كان مختلفًا، فقد جاء الوالد مبكرًا وفتح التليفزيون ليشاهد خطاب الرئيس السادات. تابعه باهتمام وفي لحظة معينة نطق الوالد الصامت دومًا وقال: أهو كده الكلام!

    تعجب سمير، فليس من عادة والده التعليق عما يشاهده في التليفزيون... وعمومًا هو لا يتكلم معه كثيرًا... فقط أسئلة تقليدية أو جمل قصيرة: ما أخبار الدراسة؟ عايز فلوس؟ تردد قبل أن يتجه إلى حيث يجلس والده... نظر إليه مستفهمًا، فقال يوسف حلمي:

    - الرجل يقول إنه على استعداد أن يذهب للكنيست لعرض القضية!!

    لم يهتم سمير كثيرًا بما قال والده... عمومًا هو غير مهتم بالسياسة... آخر مرة كان يتابع فيها ما يجري كانت أيام حرب أكتوبر، ومرة أخرى أيضًا اهتم بمتابعة الأخبار في يناير 1977 عندما أغلقت الجامعة بعد مظاهرات الخبز أو كما أسماها السادات: انتفاضة الحرامية!

    لم يجد في نفسه أي ميل لاستكمال اليوم بالمنزل... شعر بالاختناق وبرغبة شديدة في الخروج ليستنشق هواء ليس فيه أنفاس رجل مكتئب ولا امرأة تعيسة ولا فتاة بائسة... ارتدى بنطلون جينز وبلوفر خفيفًا يناسب لسعة برد نوفمبر اللطيفة... سار هائمًا على وجهه في شوارع مصر الجديدة الهادئة يدخن سيجارة كليوباترا.. راح يستعرض حلم ليلة أمس... رأى فيما يرى النائم أنه في منطقة يحيط بها بحر أزرق فيروزي من كل الجهات... جزيرة غالبًا... بها نخيل ورمال صفراء ناعمة... أشبه ما تكون بشاطئ «عجيبة» بمرسى مطروح، وفي نهاية الحلم تظهر فتاة رائعة الجمال ترتدي مايوه بكيني ساخنًا... يحاول أن يدير معها حوارًا، فهما وحيدان على الجزيرة، ولكن... يرن جرس المنبه... يستيقظ مبتهجًا ولكن مغتاظًا لأن الحلم لم يكتمل!

    ولكن ما حكايته مع الأحلام؟ يحلم كل يوم ويتذكر معظم أحلامه، وعندما حكى ذلك لأصدقائه دهشوا لأنهم لا يحلمون إلا في القليل النادر! وأضاف أحدهم أنه لا يتذكر إلا الأحلام التي تنتهي بللًا!!

    من أين أتته صور الشاطئ في الحلم؟ يقولون إن الأحلام استرجاع لما شاهده المرء في الحقيقة واختزنه في عقله الباطن... فأين يمكن أن يكون قد رأى هذا الشاطئ؟ ولماذا ظهر في حلمه؟ والأهم من ذلك الفتاة.. فقد كانت لها في الحلم ملامح واضحة وجسد له تفاصيل لم يرها من قبل في واقعه... فكيف زارته في أحلامه؟ من الذي يضع المواد الأولية في الحلم؟ هل عاش قبل ذلك وارتاد هذا المكان والتقى بهذه الفتاة والآن يستعيد الذكرى؟ هل تهيم الروح في الفضاء أثناء النوم وتنتقل بين عوالم مختلفة فتتكون هذه الأحلام؟ كان هذا الأمر يشغل باله دائمًا.

    وصل في جولته إلى ميدان الإسماعيلية، تردد وفكر قبل أن يدق جرس باب واحد من أصدقاء المدرسة. رحب به الصديق كما ينبغي لشخص لم يره منذ عامين... شعر سمير أن الحميمية بينهما ليست كما كانت من قبل، فضل أن ينسحب وقفل عائدًا إلى منزله وعازمًا على ألا يكرر مثل هذه الزيارات، وأدرك أن عليه أن يتقبل فكرة أن أصدقاء المدرسة لن يعودوا أبدًا كما كانوا!! وعليه أن يبحث عن أصدقاء آخرين..

    عاد إلى المنزل وعاوده الشعور بالاكتئاب والاختناق، كان والده لا يزال يحتسي مشروبه أمام التليفزيون. لم ينبس سمير ببنت شفة، فقط حياه بإشارة من يده ودخل غرفته... شغل جهاز الكاسيت فانطلقت منه الموسيقى والأغنيات الأجنبية التي يسجلها بنفسه من برنامج «ما يطلبه المستمعون» على البرنامج الأوروبي. امتدت يده إلى واحد من كتبه الدراسية... لم يجد في نفسه ميلًا للمذاكرة، أغلق الكتاب وحاول أن ينام على صوت الكاسيت.

    بدأت إجازة عيد الأضحى، وتم وضع اللمسات الأخيرة لزيارة السادات للقدس... يوم الزيارة لم يذهب منير للعب الكرة كالمعتاد، قرر أن يجلس ويشاهد.. وكذلك فعل سمير. أما الأب فقد بدأ الإعداد لجلسته أمام التليفزيون مبكرًا استعدادًا لمشاهدة الحدث الأكبر الذي تتجه إليه عيون العالم أجمع. حتى الأم اطمأنت على آمال ولحقت بزوجها والأولاد. هبطت طائرة السادات وسط ترقب وخوف ودهشة العالم، ووقف زعماء إسرائيل ينتظرون الرجل الذي أتى بخطوة شبهها البعض بهبوط نيل أرمسترونج على سطح القمر!!

    راحت العائلة تراقب المشهد باهتمام بالغ عدا الأب الذي كان يردد من حين لآخر: مش معقول مش معقول!

    انتهت تغطية زيارة الرئيس... لاحظ سمير حماس والده الشديد للزيارة وشعر بالسعادة لأن والده –ولو مؤقتًا– خرج من اكتئابه! أما الوالدة فلم تعلق وعادت إلى آمال، واتجه منير إلى المطبخ يبحث عما يشبع جوعه.. أما سمير فقد راح يتساءل: هل فعل السادات الصواب؟ هل هي خيانة كما يقول بعض زملائه في الجامعة؟ لم يستمر حواره مع نفسه طويلًا، وجد أنه من الأفضل أن يخرج إلى الشارع.

    كانت الشوارع مزدحمة نسبيًّا بسبب إجازة العيد، ازدحمت أكثر بعد انتهاء نقل الزيارة على الهواء. راح سمير يتجول في شوارع مصر الجديدة وهو يدخن، شعر برغبة في أن يجلس على مقهى بميدان الجامع لعله يستأنس بالناس... طلب سحلبًا وراح يحتسيه ببطء، وبدأ الناس من حوله يبدون آراءهم في الزيارة ما بين مؤيد ومعارض ومتحفظ... علت الأصوات فبددت حالة الاكتئاب والشعور بالوحدة التي كانت تملأ صدره، وكما لو كانت جلسته على المقهى قد ضغطت على أزرار النشاط في بدنه فوجد نفسه في شوق لأن يركب الأوتوبيس ويتجه لوسط البلد بغير هدف... مجرد التغيير، وللخروج من كينونته كشخص مكتئب في عائلة شديدة الاكتئاب! ركب أوتوبيس 500 بشرطة المتجه للتحرير، والغريب أنه وجد مكانًا خاليًا! فتح الشباك لتدخل نسمة خريفية ذات برودة محببة لفحت وجهه... كان يجلس بجواره رجل خمسيني يقرأ في جريدة المساء... نزل الرجل في محطة العباسية تاركًا جريدته... حاول سمير أن ينبهه فقال: «لا أحتاجها فقد قرأتها»! صعدت من المحطة فتاة سمراء نحيلة متوسطة الطول بها مسحة من جمال ذات شعر أسود ناعم صففته على هيئة ذيل الحصان، وترتدي بنطلون جينز أزرق بدا قديمًا من تغير لونه في بعض المناطق وبلوفر خفيفًا، وتنتعل حذاء رياضيًّا كان لونه أبيض! لها عينان صغيرتان وأنف بارز وفم دقيق مبتسم... جلست بجوار سمير وراحت تختلس النظرات إليه وأحس هو بذلك... هو يعلم أنه ليس وسيمًا بدرجة كافية... ليس له مثلًا وسامة صديقه أسعد فتتهافت عليه الفتيات في الكلية ولكنه أيضًا ليس قبيحًا... ألقت الفتاة نظرة إلى الجريدة التي ترقد في حجر سمير وقالت بصوت خافت: ممكن الجريدة لو سمحت؟ فوجئ سمير ولكنه قال بتلقائية: إتفضلي... هي ليست لي... ابتسمت ولم تعلق وأخذت منه الجريدة وراحت تتصفحها في عجالة... انتهت منها بسرعة وأعادتها لسمير وقالت باقتضاب: لا جديد! ابتسم سمير ولم يجد ردًّا، أخذت هي زمام المبادرة وقالت:

    - تعتقد هذه الخطوة صحيحة؟

    ارتبك سمير قليلًا ثم قال: أي خطوة؟ تقصدين الزيارة؟

    - نعم... أكيد

    - والله... الحقيقة... أنا لم أكوِّن رأيًا بعد... ولكني أرى ترحيبًا من الناس.. ربما تكون خطوة جيدة.

    - ماذا تعني؟ أقصد رأيك أنت... ماذا ترى؟ أنا فهمت، أنت لا تعرف فأخذت برأي الأغلبية من حولك... والدك، والدتك، أصدقائك... ولكن هذا ليس بالضرورة الرأي الصواب... أنا أرى أنها خطوة للخلف... لقد نجحنا في حرب أكتوبر، إذن فليس هناك مستحيل، فلماذا نتراجع؟ صمدنا من قبل فلم لا نصبر أكثر؟

    - والدي وآخرون يقولون إن السادات فعل ذلك، لأنه يعلم أن ليس في الإمكان أحسن مما كان بالنسبة لحرب معهم، فلا مانع من الصلح طالما ثأرنا لكرامتنا..

    - أنت طالب؟ أليس كذلك؟

    - بلى... كلية الألسن.

    - آه... الألسن.. كلية لطيفة وجميلة ولا تخرج منها مظاهرات... ها ها لماذا اخترتها؟ مجموع؟

    - كان نفسي في كلية أفضل ولكن عمومًا هي ليست سيئة، مستقبلها يمكن أن يكون واعدًا.

    - في أي قسم؟

    - اللغة الإسبانية.

    - ياااه... أظنك اخترت ذلك عشوائيًّا ولكن الحقيقة أنه اختيار صائب... أمريكا الجنوبية كلها عدا البرازيل تتكلم الإسبانية، فرصة جيدة مع سواح هذه القارة. أما إذا كنت ممن يهتمون بالأدب فالأدب الإسباني معروف... سرفانتس، والشاعر لوركا، هل تعرفه؟

    - سمعت عنه من خلال الدراسة ولكننا لم نتعمق في دراسته بعد.

    - قصة حياته ملحمة رائعة... عمومًا أدب أمريكا الجنوبية رائع ويستحق أن تدرس من أجله الإسبانية... - ستسمع قريبًا بلا شك، عن كاتب كولومبي رائع اسمه ماركيز، ولكنك لم تخبرني لماذا اخترت الإسبانية؟

    - ليس عشوائيًّا، أنا على دراية جيدة بالإنجليزية والفرنسية... درستهما في المدرسة، فاخترت لغة ثالثة منتشرة... قارة كاملة تتحدثها كما ذكرت..

    - هل كنت في مدرسة لغات؟

    - نعم.

    ضحكت وقالت: انت ابن ناس إذن.

    ابتسم سمير وقال: إلى حد ما.

    - اسمع، إلى أين أنت ذاهب الآن؟

    - وسط البلد.. زهقت من مصر الجديدة.

    - وساكن في مصر الجديدة؟! اسمع أنا ذاهبة لأقابل شلة من أصدقائي، تواعدنا لنتقابل بعد نقل زيارة الريس... لا تخف، لسنا من ممارسي السياسة... هذا الكلام انتهى بعدما قال السادات: «دي انتفاضة حرامية». قالتها مقلدة لهجة السادات. ضحك سمير وقال: ولكن..

    - نحن مؤمنون بالتغيير عن طريق الثقافة... لا فائدة من المظاهرات... حايتقبض علينا ويضيع مستقبلنا ولن يتغير أي شيء وفي الآخر سنكون حرامية وعملاء... هل ستأتي معي؟

    - أنا أقصد أننا لم نتعرف...

    - راجية جلال... سنة تالتة حقوق... أعيدها وأشتغل في سنترال العباسية.

    - وأنا سمير... سمير حلمي.

    - ننزل التحرير؟

    - ننزل التحرير.

    ونزلا في نهاية الخط. قالت راجية:

    - كنا معتادين على اللقاء في «الأمريكين» ولكننا اليوم اتفقنا على مكان جديد وهو دار الشاي الهندي... يقال إن تكرار اللقاء في مكان واحد قد يلفت الانتباه.. من خاف سلم.

    سار سمير بجوار راجية وهو مأخوذ بهذه الفتاة... من هي؟ ومن أين لها هذه الجرأة؟ هي بدأت الحديث معه وهي التي دعته إلى الخروج معها للقاء أصدقائها... هل هي عاهرة ابتكرت طريقة جديدة لاصطياده؟ لصة تستدرجه لسرقته؟ ولكن ما الذي يمكن أن تسرقه من تلميذ بالجامعة يدخن السجائر فرط؟

    اقتادته بمهارة وخفة حركة من شارع قصر النيل وعبر شوارع جانبية إلى دار الشاي الهندي... صعدا إلى الدور الثاني... وجدا طاولة كبيرة تم إعدادها بضم عدة طاولات، يجلس حولها شبان وشابات من عمر سمير أو أكبر قليلًا...

    - يا جماعة... مساء الخير... سمير حلمي صديقنا الجديد... كلية الألسن.. تعال أعرفك يا سمير: بهاء... أمنية... سامح... عبد الوهاب.. مؤمن... مينا.. أما البقية فستصل بعد قليل...

    قال بهاء: شرفت يا سمير.

    احتل سمير موقعه على الطاولة بجوار راجية وهو لا يزال في حالة دهشة، كان يركب الأوتوبيس متوجهًا إلى وسط البلد للتسكع والهروب من البيت، والآن يجد نفسه في مكان قادته إليه فتاة تبدو غريبة الأطوار!

    وصل عدد آخر من الأصدقاء واتسعت الدائرة وكبرت الطاولة... راحوا يتكلمون عن الزيارة وبدا لسمير من النقاش أن معظم الحضور من المعارضين للمبادرة... بدأت الأصوات تعلو، رفعت راجية يدها طالبة الكلمة، ثم قالت هامسة: يا جماعة، في هذه الأيام لا يجوز أن يرتفع صوتنا أثناء النقاش...

    قال مؤمن: نعم... يجب علينا الحرص طبعًا.. ولكني أقولها... لن يمر هذا الموضوع على خير وستندلع المظاهرات مثل 18 و 19 يناير وأكثر...

    قالت راجية: أنت واهم يا صديقي، سيعود السادات من القدس، وسيدبرون له مظاهرات تأييد حاشدة، وسيهتف الشعب باسم بطل الحرب والسلام... سترى... الشعب أنهك... والرجل أقنع الجماهير كما أقنع معاونيه بأن في هذه الخطوة الحل لكل مشكلة!

    شعر سمير بأن أصدقاءه الجدد يعلمون أكثر مما يعلم، ويتحدثون في أمور بعيدة تمامًا عن اهتماماته ولكنه ألفهم بسرعة، هم مختلفون ولكنهم يشتركون في صفة واحدة: أنهم أحياء!

    قالت راجية لسمير: أنت تدخن أكيد... أشم رائحتك... هات سيجارة..

    أعطاها سمير سيجارة وأشعلها لها فسحبت نفسًا بطريقة جعلته يدرك أنها مدخنة قديمة، سألها فقالت: إن كلية الحقوق تجعلك تدخن كما تتنفس!

    فتحت السيجارة شهيتها للكلام، فراحت راجية تنتقد فيلم الاختيار ليوسف شاهين، بدأت أولًا بمدح النواحي المهنية والتقنية ثم انتهت بالنقد اللاذع قائلة: هل أخرج شاهين هذا الفيلم ليفهمه وحده؟ ناقشها الأصدقاء في ذلك واسترجعوا أفلامًا عربية لم يشاهد سمير نصفها على الأقل!

    نظرت راجية في ساعة يدها وقالت: ياااه لقد أخذنا الوقت... سلام... أو خليها أحسن شالوم.. سمير هيا بنا..

    وكما فعلت من قبل، قادته راجية إلى ميدان التحرير مخترقة نفس الأزقة والدروب المختصرة... قالت له:

    - ستركب 500 بشرطة أما أنا فسأركب أوتوبيسًا آخر... أنا أسكن في الزاوية الحمراء..

    اتفقا على لقاء جديد بعد إجازة العيد... وفي الأوتوبيس راح سمير يتجول بين أحداث اليوم الغريبة... بدا له اليوم كله كحلم من أحلامه: المفاجأة والسرعة والانتقال السريع من مشهد إلى آخر... لم يحدث التسلسل الطبيعي لتعرف شاب على فتاة «نظرة فابتسامة فسلام... إلى آخره» الأمر كله جاء مباغتًا... نفس وتيرة أحلامه!

    دخل منزله وكان أهل البيت نيامًا... هل هذا طبيعي؟ اليوم وقفة عيد الأضحى والكل يحتفل.. المسلمون والمسيحيون... إنها إجازة!

    خلع ملابسه وأوى إلى فراشه وهو يسترجع صورة مؤخرة راجية وهي تتأرجح أمامه وهما يسيران في شوارع وسط البلد!

    * * *

    (3)

    في لقائهما التالي بكافيتريا آداب عين شمس حكت له راجية قصتها. والدها العامل بمطابع دار الهلال وشقيقاتها الثلاث وشقيقها ابن السبع سنوات... والذي جاء متأخرًا من رغبة خفية من الطرفين لإنجاب الذكر!! حكت له، بعد أن سألها عن سر غزارة معلوماتها في شتى المواضيع، فأجابته بأن عمل والدها في دار الهلال واصطحابه للمنزل لنسخ من كافة مطبوعات الدار شكل وعيها بالقراءة وفي كافة المجالات بدءًا من مجلة سمير مرورًا بالروايات العالمية، وانتهاء بروائع الفكر العربي والأجنبي... حكت له أنها تحب كلية الحقوق والتحقت بها عن رغبة أكيدة ولكنها غير نادمة على العام الذي رسبته، فعملها في السنترال يزيح عن والدها عبئًا كبيرًا ويخفف من حمله الثقيل، وربما بليسانس الحقوق لن تستطيع أن تحصل على وظيفة سهلة وبمرتب مضمون وفي مكان قريب من منزلها مثل وظيفة السنترال!

    - سأدعوك إلى السينما... فيلم «شقة في وسط البلد».

    - لا مانع، لكن أنا من سيدفع...

    - لماذا؟ لأنك أنت الرجل؟ دعك من هذا الكلام الفارغ... أنا أعمل وأكسب وأنت ما زلت تلميذًا!

    في اليوم التالي، وفي السينما، راودته الأفكار... لم يعد يركز في مشاهدة الفيلم... في هذا الظلام وبجواره فتاة نشطة وهي التي سعت للتعرف إليه، فلماذا لا يحاول؟ فرصة لا تعوض فما بالك وهي الداعية للفكرة؟ ولكنه تراجع! خوفًا من الفشل والصد؟ نعم فربما ستصده ويخسرها... فليدعها هي التي تبدأ وهو الذي يلبي! نعم لن يكون هو المبادر!!

    ولم يحدث شيء... قالت بعد انتهاء الفيلم: أنا بصراحة استمتعت، ولكن أنت... أشك.

    -لا، أبدًا ... فيلم لطيف ولكني عمومًا أفضل الأفلام الأجنبية.

    - اسمع، أنا أشاهد النوعيتين... ولكني أراك غربي النزعة... الأغاني غربية والأفلام غربية حتى ملابسك ذات طابع أمريكي واضح، وأنا لا أرى عيبًا في ذلك، هذا انفتاح محمود على ثقافة أخرى، ولكن المشكلة هي أنك لم تتعرف بعد على ثقافتك أنت حتى تحكم وتعرف ما الذي يعجبك، أراهنك أنك لا تعرف الشيخ إمام أو أحمد فؤاد نجم... بذمتك عمرك سمعت سيد درويش أو تعرف أسامي أغانيه؟ أظن أن كلنا لا نختلف على «الست».. ما رأيك في ثومة؟

    - والله أسمعها وأحب بعض أغانيها.

    - أتحداك تلاقي جملة بهذا الجمال: من كتر شوقي سبقت عمري وشفت بكرة والوقت بدري، وإيه يفيد الزمن مع اللي عاش في الخيال؟

    اتسعت ابتسامة سمير من هذا الحماس للثقافة المصرية، ضحك ثم قال: والله يا راجية أنا لست خواجة، أنا فقط أساير البيئة المحيطة بي، ليس عائلتي فقط وإنما أيضًا أصدقائي في المدرسة.

    - اتفقنا إذن... أنت تطلعني على عالمك الغربي وأنا سأجعلك تغوص في أعماق مصر الحقيقية!

    سارا في شارع رمسيس حتى وصلا إلى مستشفى الدمرداش وبعده كلية طب عين شمس حيث من المفروض أن يفترقا هو إلى مصر الجديدة وهي إلى الزاوية الحمراء... قال لها وهو يهم بأن يمسك يدها مودعًا: راجية... سؤال بسيط... لماذا تحدثتِ معي في الأوتوبيس يوم الوقفة؟

    كان السؤال يحيره... شخصيتها المميزة التي تعرف عليها من لقاءين تدل على أنها فتاة مجربة وغير ساذجة ولن تساق إلى علاقة بسهولة، فلماذا اختارته وهو البعيد عن بيئتها وهو الذي يفتقر إلى وسامة واضحة تجذب الفتيات؟

    قالت: شعرت بك يا سمير... أنا قرأت آلاف الصفحات ورأيت في عملي كل أنواع البشر وراقبت تصرفاتهم وهم ينتظرون أن أحول لهم مكالماتهم إلى الكابينة، وسمعت عفوًا أو قصدًا بعضًا من أحاديثهم مع القريب والبعيد... أستطيع أن أقرأ الناس وأنا قرأتك... أنت كنت بحاجة لمن يتحدث معك!

    * * *

    (4)

    عالم سحري رائع بالرغم من تواضعه، قادته إليه راجية، ما بين تسكع في شوارع قاهرية لم يسمع عنها من قبل، إلى عروض مسرحية تجريبية وأحيانًا ارتجالية حديثة في مسارح أشبه بجراجات السيارات، إلى أمسيات شعرية وموسيقية ذات طابع خاص، إلى تناول أطعمة ومشروبات في أماكن شعبية تردد كثيرًا قبل أن يتذوقها! ما كان يشعره بالمتعة وقتها ليس الأماكن في حد ذاتها، بقدر ما كانت الطريقة المميزة التي تتجول بها راجية عبر الأماكن والأحداث.. طريقة سلسة بالرغم مما فيها من انفراد بالرأي!! كانت تقول له دائمًا: بما أنك لا تعرف فدعني أنا أتصرف... أنا أعرف!

    حاول مرة أن يلعب دور الفيلسوف بعد أن أدرك أن الفتاة التي بصحبته أبعد ما تكون عن السطحية أو السذاجة:

    - راجية... من أنت بالضبط؟ ما هي أحلامك؟

    قالت بهدوء: بالنسبة لــ «من أنا؟»، فلا بد أنك ستتعرف عليّ أكثر بمرور الأيام.. أما عن أحلامي، فإليك المفاجأة أنا فتاة بلا أحلام! أقسم بالله! أنا لو حلمت سأتعب... لقد رأيت بنفسي الذين حلموا ولم يحققوا أحلامهم.. بؤساء! فقررت أن أستفيد من خطئهم... هذا بالإضافة إلى أنها طبيعتي، هكذا خلقت، لا أحلم، أفكر في الشيء المتاح وأنفذه... مثلًا كان بإمكاني أن أجتهد أكثر وأنجح في السنة الثالثة... ولكني فكرت وقررت أن أذاكر بمجهود عادي وبما يسمح به عملي... وجدت أنني سأكون سعيدة إذا عملت وساعدت والدي ففعلت، وعلى فكرة هذا العمل أتاح لي استقلالًا ماديًّا يحسدني الكثيرون عليه... على الأقل أستطيع أن أوفر ثمن تذاكر السينما أو المسرح وعلبة الكليوباترا أو أجرة تاكسي إذا استدعى الأمر! أعتمد في حياتي على مسألة الفعل ورد الفعل وليس التخطيط الدقيق... عيني على المستقبل؟ نعم... ولكن عندما يجيء المستقبل... من يدري ربما بعد التخرج ستسنح لي فرص أكبر سأنتهزها في حينها.. وكما تقول ثومة على لسان رامي وعمر الخيام: «غد بظهر الغيب واليوم لي وكم يخيب الظن في المقبل» فلماذا أرهق نفسي بالتفكير الآن؟ العريس؟ سيجيء في وقته، ومن يدري ربما سيتاح لي الاختيار بين أكثر من واحد، وربما ستجيء قسمتى في شخص رائع. من يدري؟ الحب؟ أنا دائمًا في حالة حب! ولن أكذب عليك، أنا أميل إليك ولا أعرف لماذا؟ ولكنه ميل ليس فيه اللوعة والألم والسهر مثل الذي تراه على شاشة السينما أو التليفزيون... إنه ميل ليس فيه ارتباط أو محاولة استحواذ... إنه ميل أو حب وكفى، أرتاح لوجودي معك ولست أدري لماذا؟ فأنت لست شابًّا متكلمًا أو صاحب كاريزما في علاقته مع الجنس الآخر ولا بك شبه من جون ترافولتا! ولكنك تعجبني، ربما لأنك صادق، لا أعرف أي مسمى لعلاقتنا... فقط علينا أن نستمتع بها وندع الأقدار تفعل ما تشاء، ألم تلاحظ أنني لم أسألك أبدًا عن ديانتك؟ بالرغم من أن اسمك يحتمل الديانتين؟ نعم فهذا شيء لا يهمني في قليل أو كثير... هل رأيت في حياتك صراحة أكثر من هذا؟ أنا عرفت المغزى من سؤالك فاختصرت الطريق..

    ألجمته المفاجأة!! فها هى الفتاة تصرح له بأنه يعجبها!! ورد على خاطره في هذه اللحظة أنه لم ير راجية قط في المنام قبل أن يلتقي بها بمعنى أنه لم يجد شبيهًا لها في منامه... رأى عشرات من وجوه شبان وشابات ورجال ونساء ولم ير من تشبه راجية عادية الملامح، خفيفة الروح والذكية بلا نقاش... لقد رأى حياته الحالية في منامه من قبل.. الانتقال من مكان إلى آخر بسرعة فائقة... وكلها أماكن لم يرها من قبل... كان يتعجب حين يستيقظ من نومه: من أين جاءتنى صورة هذه الأماكن؟ من وضعها في مخيلتي لأراها منامًا؟ من يكتب هذه السيناريوهات؟ بالفعل حياته الجديدة في ظل راجية تشبه مناماته في الكثير، وتبقى راجية هي الجديدة لم ير من يشبهها حتى، بل لم يرها إلى الآن في منامه بعدما ظهرت في حياته... والآن تعترف له بأنه يروق لها!!

    عندما عاد سمير إلى منزله تلك الليلة، كان الشعور مختلفًا... لم يشعر بالكآبة المعتادة، لم يحاول أن يتجنب والده... كان يكره أن يجيء في الليل ويراه بالبيجامة الكستور وكأس البراندي أمام التليفزيون، اليوم، حياه وجلس معه وحاول أن يدير حديثًا معه، على الأقل تخلص ولو مؤقتًا من الشعور المقيت بالرغبة في اجتنابه... نفس الشيء حدث مع والدته... دخل غرفتها فوجد المنظر الخالد: تحتضن آمال وكأنها تحميها من الحياة! تحدث معها فابتسمت، وهذا نادر ولكنها لم تزد على ذلك! فكر ذات يوم أن يقنعها بالذهاب لطبيب نفسي، لم ترد وخاصمته بعدها شهرًا، وعندما حاول أن يفهمها مقصده قالت: أنا لست مجنونة، أنا فقط أتحمل مسئولياتي تجاه طفلة ليس لها ذنب فيما حدث!

    وفي الأيام والأسابيع التالية، لم تكتف راجية بإطلاع سمير على حياتها ونمط عيشها وإنما وجدت أنه من الضروري أن يشاركها في بعض هواياتها واهتماماتها، فكان أن قدمت له رواية رأت أنها تناسب شابًّا لم يقرأ من قبل، سهلة وجذابة ومشوقة، أعطته «اللص والكلاب» لنجيب محفوظ... كانت تطمئن يوميًّا على سيره في قراءة الرواية... ومع إلحاحها ومع اكتشافه أن الرواية بالفعل مشوقة، أتمها وجاءها فرحًا وتناقشا في محتوى الرواية... سعدت جدًّا لأنها وجدته يقرأ ما بين السطور ولم يكتف بقراءة عادية... تشجعت بعد ذلك وأعطته الثلاثية... ثم توالت الروايات وزادت سرعته في القراءة وأصبح هو الذي يطلب منها الروايات ويناقشها معها ثم طلبت منه ألا يكتفي بالأدب العربي وإنما عليه أن يغذي نفسه بالأدب الأجنبي أيضًا وأخبرته أن لديه فرصة ذهبية باعتباره طالبًا بالألسن، وبالذات في اللغة الإسبانية للاطلاع على نوعية من الأدب ليست منتشرة في مصر. بدأت معه بروايات خفيفة لتجذب اهتمامه ثم تدرجت معه حتى بلغت الذروة عندما طلبت منه أن يقرأ الحرب والسلام لتولستوي خلال إجازة نصف العام.

    هو لا يدري كيف سيطرت راجية على حياته وكيف جعلته يعيش حياتها ويحب نمط عيشها.. كيف أطلعته وتطلعه كل يوم على الجديد؟ كيف جعلته ينسى اكتئابه ويتعاطف مع والده ووالدته بدلًا من أن ينقم عليهما؟ وكيف أصبحت آمال الطفلة المختلفة بين ليلة وضحاها شقيقة يحاول أن يحنو عليها ويسعدها بالكلمة والنظرة والاهتمام؟ وراح يسائل نفسه، هل علاقته براجية غيرت حياته وشفته ولو مؤقتًا من الكآبة؟

    لكن ما لم يتغير فيه هو أحلامه، بل على العكس زادت أحلامه وضوحًا وعددًا، وأصبح يستيقظ كل يوم وهو يحاول أن يسترجع حلمًا كان قويًّا ومنظمًا وواضحًا، لا يشك لحظة في أنه سيتذكره طوال عمره، ثم لا يلبث أن ينساه... حتى إنه قرر أن يضع بجواره على الكومودينو أجندة صغيرة ليدون فيها أحلامه!! لم تكن كلها أحلامًا مزعجة ولكن عجيبة، لا يزال يرى أماكن لم يزرها من قبل وأشخاصًا لا يعرفهم ولا يزال يتساءل: هل هو عاش من قبل، وهذه الأحلام ما هي إلا ذكرى لهذه الحياة السابقة؟ أم تراها حياة سيعيشها؟

    وفي خلال إجازة نصف العام الدراسي، توطدت علاقتهما أكثر ولم تعد لقاءاتهما فقط لمشاهدة فيلم أو مسرحية أو حضور أمسية شعرية وإنما تطورت إلى السهر ليلة الخميس في ديسكوتيكات غريبة يرتادها شباب من مختلف الأعمار والفئات الاجتماعية للرقص والشرب، وتعجب هو؛ فأنى لراجية ابنة الطبقة الشعبية والفقيرة أن تعرف هذه الأماكن؟ أنى لها وهي عاشقة الثقافة العربية والمصرية والمتجولة دومًا في شوارع القاهرة الفاطمية والخديوية؟ عرف إذن الديسكوتيكات ورقصا معًا بعد أن علمته هي، وكيف لا وهي الراقصة البارعة كما خبر بنفسه! عرفا أيضًا شرب الخمر في هذه الليالي! في منزله، كل يوم، يجد أمامه زجاجة البراندي الخاصة بأبيه وأبدًا لم يحاول أن يتذوق منها ليرى لماذا يتعلق بها والده إلى هذا الحد، ولكن مع راجية وبمجرد أن طلبت منه أن يتقاسما معًا زجاجة بيرة كبيرة، رضخ للأمر، ومن يومها وهما يفعلان ذلك كلما سنحت لهما الفرصة!

    وفي آخر خميس من إجازة نصف العام، كان التطور الكبير والخطير في حياة سمير، تعرف على الجنس! فبعد أن خرجا من الديسكوتك، سارا في شارع رمسيس، وقادته راجية إلى طريق قالت إنه مختصر. أفزعته جرأتها يومها وقد بدا له أن زجاجة البيرة التي احتستها قد أثرت على توازنها... سارا في الطريق المعتم والذي خشي سمير وهو الفتى اليافع أن يسير فيه.. سارا يتحسسان خطاهما، وفجأة قالت: هات إيدك أنا بردت! أمسك بيدها ولم يكن قد فعلها من قبل، التصقت به ثم عندما توغلا في الطريق المظلم احتضنته! لم يدر ماذا يفعل؟! ارتكزت على حائط قريب وضمته إليها... لم يجد بدًّا من أن يقبلها! وكانت أول قبلة له! ساحرة، دافئة، رائعة بالرغم من رائحة البيرة واختلاطها برائحة السجائر في فم راجية... استمتعا بالقبلة بالرغم من خوف سمير الشديد من أن يوقفهما أحد... تجرأ سمير أكثر عندما راحت راجية تتحسس جسده الفتي فراح بدوره يتحسس ما تصل إليه يده! استسلما لرغبتهما العارمة... إلا أنهما لمحا أشباحًا تتحرك في الظلام على مرمى بصرهما ففضا اشتباكهما واستكملا سيرهما في الشارع المظلم إلى أن وصلا إلى الشارع الرئيس فتكلمت راجية أخيرًا وقالت: لا أعلم ما حدث لي، يخرب بيت البيرة!

    قال سمير: وأنا أشكر البيرة بشدة!!

    في هذه الليلة اضطرب نومه، لم يأت بسرعة، فكر فيما حدث، انتشى من مجرد التذكر، تذكره هذه الفتاة دائمًا بأحلامه... كانا يسيران مثل كل يوم وفجأة يجد نفسه وسط الحدث، تمامًا كما في الأحلام، يحتضنها ويعبث بجسدها وتلتهم هي شفتيه!! حلم هذا أم حقيقة؟ وفي هذه الليلة أدرك أيضًا أن راجية لن تكون مجرد محطة عابرة أو أول محطة في حياته... بل ستكون علامة!

    * * *

    (5)

    أدرك سمير أن عليه ألا ينجرف في هذه العلاقة ويتوغل، وإلا فإن هذا سيؤثر على مستواه الدراسي، يقابل راجية على الأقل ثلاث مرات أسبوعيًّا ويتصل بها في السنترال كلما أتيحت الفرصة، ويداوم على قراءة ما ترشحه له من كتب وروايات فلا يتبقى له إلا القليل من الوقت لمراجعة دروسه... أحس بالخطر وهي أدركت ذلك بالذكاء الفطري، قالت له إنها منتسبة للحقوق أي إنه ليس عليها حضور المحاضرات وأنها تقسم وقتها جيدًا بين العمل في السنترال وبين الترفيه وبين المذاكرة، وغالبًا ما تستذكر دروسها في السنترال عندما يقل الزحام..

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1