Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

الخروج من الأرض السودا
الخروج من الأرض السودا
الخروج من الأرض السودا
Ebook601 pages4 hours

الخروج من الأرض السودا

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

قال مرتبكاً بعد مقدمة متوترة، إنه إقتصد مبلغاً ويريد أن يخطب "رانيا عبد المسيح". هل أخبره عن الحقيقة" أبوك مسيحي يا "ممدوح"، مثل حبيبتك وأهلها.. لكنني ابتلعت صوتي.. كنت أصلي في الجامع مع المسلمين، وحفظت الفاتحة حتى أتجنب الحرج يوم قراءة فاتحة بناتي المسلمات المحجبات!! أفتح مصحفي أمامي، لا أفهم شيئاً لكنني أقرأ، كلام الرب الجميل، يدخل قلبك فتهدأ، وأفتح القرآن في الوكالة عندما صرت ذراع "رضا" اليمنى، حتى سموني الشيخ "ماهر". قصة "ماهر" الذي يستيقظ أهل بيته وأهل المطرية ذات يوم ليكتشفوا أنه "مينا" ليست أعجب القصص. فداخل الألبوم الذي لا يفارق "مريم" التي تتأهب للسفر بصحبة "عزت" زوجها لتترك المطرية في أعقاب الكارثة - قصص أعجب. تقرأ "مريم" في الصور أحلام الأرواح الحائرة. تقرأ عن "ممدوح" و "رانيا عبد المسيح" وعن ألاعيب "رضا" صاحب الوكالة، وشريكه الشيخ "أمير"، وعذابات "سلامة عبد العزيز" وابنه "مصعب" وابنته "عائشة" التي تقبض على الجمر، وعن خالهم "الجارحي" الإخوانجي، وكذلك عن التجار والأرزقية والصيادين وقادة الأمن ورجال الأعمال وبعثة التنقيب المرابطة بالمطرية أرض التاريخ. ثم يطل الفرعون "بسماتيك الأول" على الجميع من خلف ذكريات كانت حاضرة طوال الوقت في باطن الأرض السودا... عمل روائي مشوق يغوص في الأرض والبشر والمجتمع، يبحث عن الجمال ويطارد القبح، ليخرج كثيراً مما خبأنا أو تناسينا.
Languageالعربية
PublisherNahdet Misr
Release dateJan 1, 2019
ISBN9789771457220
الخروج من الأرض السودا

Related to الخروج من الأرض السودا

Related ebooks

Reviews for الخروج من الأرض السودا

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    الخروج من الأرض السودا - أحمد يوسف شاهين

    الغلاف

    الخروج من الأرض السودا

    تأليف:

    د. أحمد يوسف شاهين

    إشراف عام:

    داليا محمد إبراهيم

    شاهين ، أحمد يوسف

    الخروج من الأرض السودا: رواية/ أحمد يوسف شاهين

    الجيزة: دار نهضة مصر للنشر, 2019

    344 ص ، 21 سم

    تدمك: 9789771457220

    1 - القصص العربية

    أ - العنوان

    جميع الحقوق محفوظة © لدار نهضة مصر للنشر

    يحظر طبع أو نشر أو تصوير أو تخزين

    أي جزء من هذا الكتاب بأية وسيلة إلكترونية أو ميكانيكية.

    أو بالتصوير أو خلاف ذلك إلا بإذن كتابي صريح من الناشر.

    الترقيم الدولي: 978-977-14-5722-0

    رقم الإيداع: 2019 / 1909

    الطبعة الأولى: يناير 2019

    تليفون: 33466434 - 33472864 02

    فاكس: 33462576 02

    Section0001.xhtml

    21 شارع أحمد عرابي - المهندسين - الجيزة

    خدمة العملاء: 16766

    Website: www.nahdetmisr.com

    E- mail: publishing@nahdetmisr.com

    إهداء

    في ليلة 19 ديسمبر عام 2016، بينما أهل وزوار مدينة «برلين» يتجولون في أسواق عيد الميلاد قبالة مركز «أوروبا» للتسوق، اقتحمت شاحنة يقودها إرهابي السوق بلا رحمة، فقتلت وأصابت العشرات من الأبرياء..

    وفي ليلة التاسع من مارس 2017، بحي «المطرية» الشهير بالقاهرة، الذي كان يُعرف قبلاً باسم «مدينة أون».. أماطت بعثة ألمانية، بعد تنقيب استمر لتسع سنوات، اللثام عن النصف العلوي لتمثال الملك المصري الفرعوني بسماتيك الأول.. في حدث أثري كبير وكشف حضاري مصري مذهل..

    إلى الأرواح التي أزهقتها قلوب تجردت من أسباب الحضارة، لكم كل الرحمة..

    وإلى أرواح من أهدوا الإنسانية هذه الأسباب.. لكم كل التقدير..

    وإليكم.. أهدي هذه الرواية..

    د. أحمد يوسف شاهين

    مريم

    شردت في «كتاب الصور». هو كتابي الذي صاحبني منذ الثانوية، وطول الجامعة.. دفتر أنيق، مزركش الوجه، بهيج الطلعة ومكتظ الصفحات.. شهد فرحتي بكلية الفنون الجميلة، وخيبتي مع عدم تعييني معيدة بها.. كان معي، عندما قالت لي أمي «أنا مش قلت لك بلاش الفنون الجميلة اللي مالهاش مستقبل دي؟»، وكان يرتوي بدموعي التي تبلل صفحاته بينما أرسم على وجهه في عصبية، ساعة مشكلتي مع «طارق».. التي لا بد وأنني سأحكيها يومًا. احتضن «كتاب الصور» أيامي، وسجل حروفي وهي تكبر، وربما تشيخ، فتترك شقاوتها، لتستقيم أخيرًا على السطر، وتسمق خطوطها وتستدير انحناءاتها كما ينبغي، احتفى الكتاب بحروفي كما احتفى بصوري ورسومي.. هذه صورة ابنتي «بثينة» التي أنجبناها بعد أقل من عام من الزواج، ببشرتها الداكنة التي تشبه «عزت»، والتي ورثها عن أمه.. حماتي، التي كانت أول من سخرت من لون حفيدتها، وأول من قال لي منذ أسبوعين في برود: «البنت دي حاتطلع وحشة، ولازم تفهميها كل يوم إنها وحشة.. علشان تعرف كده، وتتصرف على الأساس ده لما تكبر..»..

    في كل صفحتين متقابلتين صورة يذيلها تعليق أكتبه، أو أرسم بفرشاتي قبالتها ألوانًا. أتنهد والألوان تخرج من أصابعي لتصف إحساسي بشخص، أو مكان.. أو لحظة. «كتاب الصور» كما أطلقت عليه، ابتاعه لي أبي وضفائري لم تزل مجدولة فوق عرش كتفي، وسخر منه «عزت» كثيرًا عندما رآه معي إبان خطوبتنا، لكن ما الذي أفعله ولا يسخر هو منه؟: عشقي للسينما والأفلام هو «شغل مراهقين»، اللوحات التي أرسمها «لا تؤكل عيشًا»، ومقاطع الكرتون التي أبحث عنها على «يوتيوب» هي شيء يليق بالأطفال كما يقول. يداعب ابنتنا «بثينة» هامسًا لها بصوت مسموع ليسمعني: «معلش يا بنتي، طفلة بتربيكي طفلة، بتحب كرتون ميكي ماوس والنحلة «زينة»..»..

    * * *

    أما هذه الصورة، فهي ل «رانيا»، ابنة عم «عشم عبد المسيح»، وأخت «هاني» ضابط قسم الشرطة. (أنتيمتي) منذ المدرسة، فيها تظهر أيضًا «عائشة» أختي، و«مصعب» أخي.. و«سالي»، (أنتيمتي) الأخرى، التي طعنتني بشكل لن أنساه ما حييت. في الصورة نقف يوم عيد ميلاد أخي، «مصعب».. متحلقين حوله، سطح الصورة الذي تتصارع عليه الصفرة وفلول ألوان استحالت بنية، يحوي الضفائر المجدولة بفخر، «التورتة» والشموع والوجوه المبتسمة في بلاهة.. بينما في الخلفية يظهر أبي فخورًا بشيء ما، وأمي تنظر نحوه بغيظ كالمعتاد.. وعم «سرجاوي» يظهر بوجهه الأسمر في طرف الصورة، يحمل صندوق زجاجات مياه غازية. كانت لحظتها أول مرة أعرف أنه يقرأ ويكتب، عندما قرأ اسم «مصعب» على سطح التورتة، والذي شكلت حروفه المتشابكة دفقات حمراء من كريمة الفراولة المشرشرة قبل أن يصلب عودها على السطح. قرأه، وهنأه في حبور، بينما أمي تبعد «مصعب» عن «سرجاوي» بحزم، وتجامله بكلمتين في نفور.. ضحك هو من دهشتي البادية.. قال لي إن أمه علمته القراءة وهو صغير. أدقق في الصورة.. لا بد أنه كان يحمل قوالب السكر المخروطي الصعيدي، «الجلاب»، التي لا أعلم من أين يتحصل عليها. يقول إن زوجته «دلال» تشتريها من السوق، ثم يخفيها هو في جيب جلبابه الواسع.. ودائمًا ما يأتينا بها كهدية كلما لمحنا مع والدينا نبتاع شيئًا من وكالة «رضا»، التي يعمل مديرًا لعمالها..

    رأيت عم «سرجاوي» مجددًا بالأمس، وكنت أظن أنني لن أراه بعد الكارثة التي حلت به، وبنا جميعًا.. عشرون عامًا أو تزيد تفصل بين الصورة وليلة أمس..

    لكن.. على كل حال هذا أمر يطول الحكي عنه.. فدعني أكمل لك الصور الأخرى من فضلك.. اسمع مني قصتي، بينما أتظاهر بأنني أقص عليك قصصهم!

    الريس «ماهر محمد مختار»،

    أو «مينا السرجاوي»!

    أنا الاثنان.. «ماهر محمد مختار»، المسلم.. و«مينا بولس السرجاوي»، القبطي! وقصتي لا بد أنك سمعت بها! لكنني مهموم الآن بما هو أهم، فأنا محبوس في مخزن ما، أظن أنني رأيته من قبل..

    هكذا همست لنفسي في ظلام بدأت عيناي الاعتياد عليه، وأنا أجلس القرفصاء وأسند ظهري لحائط رطب. لاحظت أنني بدأت أكلم نفسي، فقرأت آية الكرسي واستعذت بالله، ثم أتبعتها بأن استحلفت «مريم» العذراء أن تساعدني! دعوت لزوجتي أن تجد الجنيهات الثلاثين التي خبأتها تحت مخدة نومي، كنت قد اقتصدتها ليوم الجمعة لأشتري بها (أرجل فراخ)، لعلنا نأكل بعض المرق في هذا اليوم. رجوته أن يلهمها الصبر على غيابي المفاجئ، وأن يخرجني من هنا حيًّا، والأهم، ألا يفضحني، وألا يؤذيني في أولادي.. في هذه اللحظة بدا لي الأمر وكأنني أهذي.. قلت بصوت مرتفع: «يا الله» ثم أجفلت وقلت وكأنني أصحح لنفسي في خفوت: «يا يسوع» ثم ترددت.. كأنني لست متأكدًا أي الصيغتين أستعمل، كأنني أشك.. ما إذا كنت أخاطب السيد في السماء بلقبه المحبب! ابتسمت في مرارة، ما بالي كما لو كنت أخاطب المعلم «رضا»، صاحب الوكالة! أنتقي كلماتي أمامه، لئلا يفهمني خطأ، فتحرق نظراته الحانقة وجهي، ويصم صياحه الغاضب أذني.. لكن ربي ليس كذلك. «يارب»! قلتها في يأس، أنقذني يارب، أنت تعلم أنني عبدتك، بقلبي، بقلبي فقط.. ربما يعجز عقلي أن يفهم لماذا وضعتني في هذا الموقف الصعب.. ربما فشلت أن أثبت على تعاليمك وجبنت أن أتبعها، تركت الكنيسة مضطرًّا، وخفت أن أذهب للمسجد بقلبي خوفًا منك.. لكنك تعلم، أكيد تعلم.. أنني في عمري كله.. ما اخترت حرًّا! وأين كانت حريتي؟ تعلم أنني غلبان، وأنني أحبك.. فمن لي سواك.. ولقد كنت وما زلت وستظل، أنت.. ومن سواك؟!!

    * * *

    قالوا وهم يضعون الغمامة على عيني: إن الثأر الذي يطاردني يطلبني، ففهمت، أن «عادل الدهشوري» وجدني أخيرًا. أرحت رأسي على الحائط وتنهدت.. أما زال على قيد الحياة ويبحث عني بعد كل تلك السنوات؟ نفس عناده، وتصميمه على الثأر لعائلته، مني أنا؟ ولماذا تعجب يا «سرجاوي».. أنت نفسك ما زلت حيًّا، ومن يعرفك قبل أن تقفز في آخر عربة صدئة تتحرك في قطار الليل منذ ثلاثين عامًا، هربًا من النار والدم، لا تعرف إلى أين تذهب، ربما يسأل نفس السؤال.. وربما يعجب من عنادك أنت في الهرب.. لكن ما بال العناد سعيًا وراء القتل، يشبه العناد للبقاء حيًّا؟! أم أن الحياة نفسها لاتزيد على طريق إلى الموت؟ أولسنا نموت كلنا في آخر العمر، فنصير ترابًا في حفرة تشبه اللواتي أحفرها مع الخواجة؟ ولو كان ذلك كذلك، فلماذا الخطف وليس القتل؟ لماذا لم يقتلوني فورًا؟ أين «عادل» إذا كان وراء كل ذلك؟ أين رصاصته التي ادخرها لأجلي؟ أين الراحة من العمر الذي قضيته هائمًا، خائفًا.. أحفر مع بعثة الآثار، وكأنني أحفر قبري معهم؟

    قلتها ذات ليلة أحدث نفسي: «طول عمري شغال في الحفر ومع الخواجات، عمري ما شفت بعثة منحوسة زي بعثة الخواجة ده..». كانت هناك قبل الخواجة، بعثة من «اليابان».. أصر رئيس البعثة الياباني ألا أكمل.. حاصرتنا المياه الجوفية، شفطنا الماء بالشفاطات العملاقة التي تطل برءوسها من فوق عربة البلدية كسنام جمل عجوز.. لا تمضي نصف ساعة حتى تتجمع المياه مرة أخرى، كأننا لم نفعل شيئًا. ثلاثة أيام ونحن ندفع الماء، ومعه ننزح الإحباط عن قلوبنا، وإرهاق المفاصل عن عقولنا، حتى أشار الخواجة في اليوم الرابع بكلتا ذراعيه متعامدتين أمام وجهه، يمينًا ويسارًا وصاح بالعربية المكسرة: «خلاص.. كفاية خلاص..».. لكنني كنت لم أكتفِ بعد.. كنت ألقط رزقي بالعمل معهم، شاب.. متحمس وأريد لهذا العمل ألا ينتهي، فلوس وزارة الآثار حلوة، و«دلال» كانت قد أنجبت «ممدوح» لتوها، لحمة حمراء في اللفة البيضاء، صدرها جف، والمال ضروري.. لزوم الموغات والسبوع والأكل. لا أتحمل فكرة أن ينتهي العمل.. لذا هززت رأسي بقوة وقلت للخواجة وأنا واثق أنه يفهمني: «فيه حاجة..؟» أشار إلي بالتوقف لكنني استلمت الفأس.. أشرت له أن يتبعني، انهلت على الأرض عدة مرات، لأشرح مقصدي.. وهو يضحك صابرًا على ذلك المجنون الذي يرفض الاعتراف بالهزيمة. هز رأسه في سخرية.. لكنني واصلت والعمال الأكبر سنًّا ينادونني بالتوقف: «إنت اتجننت يا «ماهر»؟.. سيب اللي في إيدك دا لحسن المفتش يشوفك.. حتاخد خصم يا فقري..».. لكن الفأس هوت على شيء صلب.. صمت الجميع، وقفت أمسح عرقي وألهث في قوة، وصيحة الخواجة الظافرة، تخرق أذني. جاءنا بعدها بأيام «زاهي حواس» نفسه، يحضر استخراج التمثال.. صرت أساسيًّا في البعثة، وفي البعثات التي تليها، لم يعد المعلم «رضا» يعترض على عملي معهم، مادامت الوكالة بخير، وأنني أنظم العمل فيها بشكل جيد.. ولا أتقاعس عن الخروج في رحلات الصيد كل شهر.. بعد الظهر صار لي، وأنا صرت أسير الحفر والتراب.. والخواجة الذي يأتي للحفر مرتين سنويًّا، والوزارة التي نسمع بوجودها بقية العام..

    لم يكن «ممدوح» يصدقني، عندما أحذره من اللعب في «الأرض السودا» طفلًا، أو المرور جنب خرابات «عرب الحصن» شابًّا يافعًا.. في طريقه لسوق الخميس للعمل. يخرج من بيتنا بمحاذاة مركز الشباب، يمر على «ميدان التعاون» المزدحم، يعبر «شارع التروللي» حيث الترام ومن ينتظرونه للسفر خارج المطرية في اتجاه حلمية الزيتون أو عين شمس، ناس بلا عدد ولا ساعة في معاصمهم. يسير خلف «مسجد الأنوار المحمدية» ويلف حوله ليدلف من مدخل السوق حيث فرشة الملابس، «تالت فرشة بعد المدخل» كما حفظ مكانها منذ أن كان طفلًا يعمل بها باليومية لسنوات، قبل أن يستلم المكان ويصير له وحده، يراه الشيخ «أمير» الجالس أمام المسجد قبيل أذان الفجر، فيسلم عليه ويخبرني دائمًا كم هو شاب مبتسم وقوي.. «لماذا لا أراه في المسجد يا «ماهر؟». فأحار في الجواب، وأغلق عيني كما يفعل المسلمون وأنا أقول بصيغة دعاء، مرققًا صوتي: «ربنا يهديه.. صغير وبكره يعقل، ربنا يكرمك يا مولانا..». يعود «ممدوح» كل ليلة بعد وقفته في السوق محملًا ببضعة جنيهات يومية.. فأقول إن الله ربما يرضى عنه برغم كل شيء صار مني، وإلا لما رزقني ورزقه، كل يوم!! لا يصدقني عندما أحكي له كيف كانت أتوبيسات السياح تمر بها، وتتوقف لرؤية آثار «مدينة أون»، كما كانوا يسمونها. لماذا لا يأتون الآن؟ ابتسمت لنفسي وهمست لها كم أنني غبي، بل قل: لماذا يأتون؟ أكوام من القمامة تغطي «عرب الحصن»، و«الأرض السودا».. سور صغير طوله لايزيد على متر، وجنبه حارس يشرب شايًا ويعفر سجائر، «ولو ماحضرش يوم ولا عشرة لا تفرق».. كما قال عنها «أمير» للمعلم «رضا» يومًا وهو يضحك، «حارس تابع للوزارة، يحرس حتة مقلب زبالة»، يسألني «ممدوح»: «ليه؟»، أرد: «علشان ده مكان كان فيه آثار زمان..»، يعاودني: «وليه ماحدش يتصرف في الأكوام دي؟»، لا أعرف، لكنني أعرف موضوع الحارس والأتوبيسات التي لم تعد تأتي، أعرف كل ذلك جيدًا.. لأنني أنا نفسي الحارس!!

    تذكرت حظ الخواجة العثر، وصوم البعثة عن أية اكتشافات لسنوات.. وابتسمت بمرارة وسط ظلام المخزن. حقًّا، تعودت على الحفر معهم وعلى النحس الملازم لنا، ولي في رزقي. غمغمت أحادث نفسي بصوت مسموع: «بس انها توصل إني أتخطف؟ إيه الجديد يا «سرجاوي»؟ ما انت في محنة على طول.. إنت حاتنسى؟ حاتنسى أيام البلد، وأيام التار واللي حصل؟ الحريقة اللي ولعت من بيت لبيت، لحد ما خلصت على كل البيوت، إنت اللي عشت. إنت اللي هربت، من بلد لبلد، ومن قطار لقطار، ومن حارة لشارع، حتى وصلت ل«المطرية».. استخبيت وسط المسلمين وعملت نفسك واحد منهم، خدتك «المطرية» في حضنها، وضللت عليك.. فيها اتجوزت واشتغلت، وخلفت عيال زي القمر، عرفت معنى الفلوس الحلوة، اشتغلت وربنا بارك لك في القليل، تحفر آثار وتبقى أسطى، تصطاد على مراكب بالأسابيع وترجع مَرضِي، سالم غانم.. رزق حلال، وعمل شبه منتظم، بعد الدنيا ما علمتك إنك تمشي في الظل، تدفن راسك في حفرة تحفرها وتخرج باطنها من الرمال، كأنك خايف إن حد يتعرف عليك، وبعد ما أصبحت بتخاف من أي حد شكله مش من هنا.. أو يعرف ناس هناك..».

    ما تزعلش من اللي إنت فيه، «المطرية» أعطتك كتير.. مش يمكن كفاية عليك كده؟».

    أحنيت رأسي في يأس وأنا خائف من هذا الخاطر.. فقلت في رعب بصوت مسموع، خرج على الرغم مني.. مغالبًا دمعة قهر: «طيب مش مهم أنا يا رب، بس خللي بالك من ولادي، احميهم واحمي «دلال» يارب..»

    * * *

    هل ينفرج باب المخزن عن الخاطفين، فيتضح أن الأمر كله خطأ؟

    لابد أنهم قصدوا شخصًا آخر. شخصًا له أعداء، له كينونة ومال وعقارات.. رجل أعمال أو سياسيًّا أو نصابًا أو تاجر مخدرات..

    هل يسمعون قصتي، فأقصها عليهم؟ هل أخبرهم عن البحر..؟

    سأقول لهم، إن البحر عالم تاني.. لن أجمل كلامي لكم، لا يوجد ناس كتير تعرف هذا الكلام، أو تقدره. حكيت ل «دلال» عنه بعد سرحة صيد، فقلت لها إن البحر ليس الشاطئ، ولا التمدد بأجسام نصف عارية «علشان تتشمس»، ولا الأسر التي يبدو عليها السعادة.. الوجوه اللامعة والهدوم النظيفة المكوية، البحر ليس يدين ناعمتين تقضيان الصيف، ولا سيقانًا تتحسس الموج المتكسر على الرمل قبل أن يلملم رداءه عائدًا، وكل همها «المياه سخنة ولَّا ساقعة النهارده». سيسألونني من أين جئت؟ فأقول: أنا عشت نص عمري في الصعيد، بلد صغيرة تابعة ل «قنا».. بالاسم بس، لكن تابعة للمركز، والعمدة، وعيلة العمدة ومزاج العمدة.. ربما سأقول أيضًا: «أنا عشت نص عمري بس في الصعيد، لكن عمري كله اتلون بلون بيوتنا الكالحة هناك، ولون الترعة وريحة الكانون وصوت القوالح وهي بتتحرق في نار الفرن في الشتا، البحر بالنسبة لي، مش هو بحر الناس اللي عايزة تتشمس.. إحنا في الصعيد بنحب الشمس علشان أحسن من البرد، لكن لا نسافر مخصوص من أجل أن نصيف..»

    الشمس عندنا طول السنة.. لكن ما ينقصنا، هو أشياء أخرى.

    لابد للإنسان أن يعيش ولو مرة، أسبوعين تلاتة في البحر. أنا عشت في قلبه كثيرًا، وملأ هو قلبي بسحر السكون، وصوت الماء وهو يلطم حافة المركب في إصرار، كأنه يقطع الوقت بحكايات وجد لها نهايات.. كنت أحس إن مخي يصفو، برغم قلقي على العيال وأمهم. لكن الحين، وأنا في المخزن بعد اختطافي من الريس «رضا»، قلقي يفيض عن أيام البحر التي أكون فيها بعيدًا بآلاف الكيلومترات. هل مر اليوم في غيابي بسلام؟

    * * *

    لو كنت الآن في عرض البحر، واقفًا على سطح المركب، لاحترم النوم عادته معي، فلا يثقل بزيارته، إذ يجثم بثقله المخملي الهادئ على عيون الصيادين معي، بينما يترك لجفوني حريتها الأثيرة، لأهرب من همومي.. كنت شردت ببصري في «الشانشولا»، وهي تشق بأصابعها سطح البحر. السرحان في «الشانشولا»، الشبكة الكبيرة التي نستخدمها للصيد الليلي، هو أكثر شيء مريح في الدنيا. قبل أن أعمل مع الريس «رضا»، تدربت شهورًا مع مراكب كثيرة، والتقطت سر صنعة «الشانشولا». عرفت كيف أشد الحبال وأحبك عقدها، أتخير الحبل الغليظ الذي يسهل أن أدككه، وأغلق جوانبها بإحكام كما تعلمت، ليتبقى قاعها المخروطي، يفتح ويقفل بحسب حاجتنا، وتتحكم هي بمزاجها في جوانبها الأخرى.. لكن الأهم، هو أنني تعلمت كيف أغطسها تحت الماء، ومتى يحين وقتها لتلتهم أسراب الأسماك. الصيادون يأتمرون بنظرة عيني، التي تدلهم على أن عمق البحر اللائق بها قد حان مكانه، فيثبتونها في القائم الخاص بها على سطح المركب، بينما أتأهب للغطس بها، متفاديًا الرفاص، أحتضنها فتلين معي، وتستسلم للعمق الذي أسحبها إليه. أعود لبرودة السطح فيعرفون أن المهمة قد حانت، وأن كشاف الضوء قد حان وقته..

    الصيادون يسمونها «الشانشلة».. «المطرية» تمتلئ بالصيادين الذين يحبون الارتحال لبحيرة «المنزلة» وحولها «مطرية» أخرى أيضًا.. لكنها ازدحمت بالبلطجية منذ زمن. قامت وزارة الداخلية يومًا بحملة لتطهير البوغاز من البلطجية، قالوا إن الوزير يقودها بنفسه.. لكنهم عادوا مرة أخرى وكأنهم اتفقوا مع الحملة. بمجرد أن اختفت زوارق الشرطة، عاد الحال لسيرته القديمة. لم يدخل صياد واحد البوغاز بعدها.. صرنا نصطاد في عزبة البرج في «دمياط»، أسبوعًا أو اثنين، أعود بنصيبي، ألف أو ألف ونصف.. لكن الزحام صار لا يطاق، وبدا أن هناك احتياجًا للتفتيش عن أماكن أخرى، وجب أن تبحر إليها المراكب عوضًا عن «المنزلة»، تحت وطأة الأفواه المفتوحة، والجيوب التي أضناها الخواء. على قهوة «المطرية»، قال لي الريس «صالح»، ريس المراكب القديم ، وهو يسعل بعد نفس عميق من حجر السلوم، ويعدل شاله الأزرق الحريري: «إنت ليك في «الشانشلة» يا «ماهر»؟». هززت رأسي بالموافقة ترقبًا، وحذرًا من أن أبدي سعادة أو ضيقًا من سؤاله. الريس «صالح» له هيبة وكلامه موزون، من الأفضل أن تستمع له قبل أن ترد.. سألتني «دلال» عنه يومًا، فقلت في ثقة: «نص الرجالة على القهوة يتمنوا كلمة منه علشان يشغلهم معاه، أو يلاقي لهم شغل..».. واصل «صالح» في ثقة: «تطلع البحر الأحمر؟»..

    انخلع قلبي لبعد المكان، تخيلته بحرًا لونه أحمر مثل الدم، لكنني تذكرت «سفاجا» ورحلات الصيادين من قريتنا هناك.. كنا صغارًا.. نتندر تارة ونخيف بعضنا تارة بقصص العفاريت والجن، كلها تدور في البحر عند «سفاجا» أو في الخرائب.. لكن أخوالي حكوا كثيرًا أنها تحوي ميناء وبها بيوت وناس يعيشون مثلنا. كنت قد تزوجت ورزقني الرب ب «ممدوح»، و«إسراء» و«دعاء»، أفواه مفتوحة، والرزق يحب الخفية.. انكمشت رهبتي وقلت لنفسي هو عمل ومنه نعود.. تذكرت وقف الحال في الصيد هذه الأيام.. فقلت للريس «صالح» دون أن أفكر أكثر: «أي حتة فيها رزق..».

    «حنركب من قصاد «حلايب» بعد بكره.. اتصرف.. حانغيب 3 أسابيع وناخد الساحل لحد «إريتريا».. بكره الصبح طالعين بعربية نقل حتركبوا فيها كلكم.. تجهز نفسك في المعاد عند ضَهر السوق، قدام مسجد «الأنوار المحمدية»..الصيادين ليهم التلت في السرحة دي..».

    * * *

    زمان.. قبل أن تطأ قدماي أرض «المطرية»..

    كانت قريتي، التي لم تعد قريتي..

    نحن عائلة مسيحية عريقة، لكننا عبيد! والمعنى ليس مجازيًّا، أنت سمعتني بشكل صحيح..

    نحن عبيد عائلة «الدهشوري»!

    لم نكن في طفولتي نداري ديننا مثلما أفعل أنا اليوم. لم أضطر إلى الصلاة مع المسلمين، ولا الصيام، ولا إلى الحديث عن النصارى الكفرة، كما يقول الريس «رضا» عنهم، إذ بدأت المناوشات بينه وبين «هاني عبد المسيح»، ضابط القسم المنقول إلينا حديثًا، بشأن موضوع العماير، وعندما بدأ سعي «رضا» والشيخ «أمير» وراء التصاريح. لو قال لي شخص وأنا في شبابي قبل هربي من القرية، إنني سأضطر يومًا ما إلى التظاهر بأنني مسلم، لنعته بالخرف.. ما باله لو قال لي إنني سأتزوج مسلمة؟ وأختار لأبنائي أسماء لا تشبه أسماء أعمامي وأخوالي؟

    كنا نعيش كأي أسرة عبيدًا مسيحيين، في كنف أسرة مسلمة كبيرة. «الدهشوري»، أكبر عائلة في القرية. عرفت عندما كبرت أن مثل ذلك اختفي من «قنا»، ومن البلدان الكبيرة، وأن قريتنا وشبيهاتها من القرى الصغيرة، هي الوحيدة التي لا تزال تحتفظ بهذا النظام، زاد ذلك من غيظي، ومن نقاشي مع أمي، لكنه لم يقدم ولم يؤخر شيئًا. أبي وأعمامي وأخوالي، جميعهم يعملون في أرض «الدهشوري»، وتجارته، ويعنون ببهائمه وزراعاته. نتقاضى أجرًا، لكنه لا يكفي شيئًا، الأسرة تعلم أبناءها حتى الابتدائية، وكفى. تمر سنون فيشتد عود الصغار، فنصير أُجَرَاء لنريح آباءنا، الذين انحنت ظهورهم من خدمة «الدهشوري». لا يمكن لأحدنا أن يتزوج دون إذن، أو يترك القرية دون إذن.. أو يزوج ابنته دون إذن.. ساعتها يجلس أرضًا، بعد أن يستأذن، ويتمطع «الدهشوري» في جلسته وهو يسأله بتأفف عما يريد.. ويمنحه بعدها قبولًا مغموسًا بذل، أو رفضًا لا ينقضه أعتى «أفوكاتو»..

    قرر عمي أن يعلم ابنه بالقاهرة.. غضب «الدهشورية»، قيل له أمامي: «من إمتى العبيد بتتعلم في مصر؟».. عمي وأسرته توسلوا، وبكت زوجة عمي للحاجَّة زوجة «الدهشوري»، لكنه طردهم من البلدة، ولم نره ثانية أبدًا.. كان أبي يحرم علينا أن نسأل عنه أو نذكره في أحاديثنا.. نحن في رعاية وكنف «الدهشوري»، يتعهدنا بالحماية لأننا مسيحيون، الحماية ممن؟ منه هو؟ أم من المسلمين مثله؟ لم أفهم، ولم أستسغ طعم الصفعة التي تلقيتها من أمي عندما سألتها ذلك السؤال، في حضرة أبي ليلة العيد..

    يوم العيد يخرج أبي، كبير «السرجاوية»، نسمى بذلك لأن كبيرنا يضع السرج المذهب على حصان أبيض عربي، يمتلكه «الدهشوري»، ويسوقه من لجامه بفخر و«الدهشوري» يجلس عليه. يقيم مائدة طويلة أمام الجامع الكبير، في وسط الميدان، يحني أبي ظهره ساعتين ليملأ أطباقها بالطعام، ويطلق «عادل الدهشوري» عيارين في الهواء ابتهاجًا فيتبعه الخفراء في سلسال من النفاق، يتحلق كبار «الدهشورية» في جلابيبهم وعباءاتهم المذهبة، ويجلسون في فخر بينما أبي يناولهم أرغفة الخبز التي اشتراها بماله، قائمًا بينهم وهم جلوس.. يغمسون خبزنا في مرق لحم عجل «الدهشوري»..

    أبي يخدمهم (ليجدد الحماية). قالتها أمي لي همسًا عندما تكررت أسئلتي، و«الدهشورية» ينفقون على الوليمة بما يليق بهم، فهم يعلمون أننا لا نقدر على شراء اللحم أو عمل الموائد.. بعند أقول: «هو ذل وخلاص؟ بيعملوا لنا إيه يعني؟ ما يسيبونا نشتغل ولَّا نعيش ولَّا نروح «قنا»؟». تلكز أمي صدري بخفة، وهي تشير لي أن أخفض صوتي، بينما نختلس النظر معًا من خلف ستار منزلنا لأبي وهو يوزع الخبز راسمًا ابتسامة تجمدت على وجهه، و«الدهشورية» يتناولون منه الخبز، عيونهم لا تصافح وجهه.. في اعتياد من ألف الموقف، وأمي تقول في همس وبلهجة من يذكرني بنقطة غابت عني، لتخفف ثورتي: «ذل إيه؟ أبوك اللي بيجيب العيش من جيبه.. هو فيه أكل من غير عيش؟».

    أجيب في غيظ: «طيب، ما ياكلوا عيش وخلاص؟ لازم البلد كلها تتفرج على أبويا وهو بيأكلهم، من لحمتهم؟».

    «هم اللي عاوزين لحمة.. اللي يفنجر يفنجر من جيبه..».

    لا تفلح محاولات أمي لإقناعي بقوة موقفنا.. «إحنا أهل كرم، ومش بتوع مشاكل، اللي عاوز يتمنظر هو حر، الرب عارف النية، ومش بينسانا.. وبعدين ماتنساش إن «الدهشورية» ساعة الجد بيقفوا معانا، بينقطوا في الطهور والسبوع، وبيجهزوا البنات يوم جوازها، وما بينسوناش في يوم الفرح، وإحنا ناس مش قليلة الأصل يا ولدي..».

    تهدهدني كما تفعل كل ليلة، تغني لي بصوتها الرخيم:

    وفي مرة بالعب مع ابن الجيران جه قالي اكذب عشان تبقي الكسبان

    قلت له: لأ، يسوع راح يزعل مني وقلبي مش هايفرح ما دام هو زعلان

    قام فر مني وجه جنبي يسوعي في لحظة لقيته جنبي وحسيت بالأمان

    أهدأ على أنغام صوتها..حت أحس أن كل شيء بخير..وأنام..

    حتى كانت الكارثة ذات يوم

    * * *

    عندما انكشف أمر ابن عمي، كانت الفضيحة التي زلزلت كيان البلد..

    ابن عمي، الأجير في أرض «عادل الدهشوري» نفسه، ابن العمدة الكبير.. هام حبًّا بابنته الدلوعة «مليكة».. ويبدو أنها بادلته الحب، لكن المشاعر في تلك السن التي لا تتجاوز العشرين، تكون ملتهبة، حارقة للصدور، ولا يتحملها قلب ولا تحتويها ضلوع.. سمعت أبي يهمس لعمي في جلسات السمر ليلًا بعد عمل الغيط والحقل، أن يلم ابنه، وسمعت عمي يغمغم كم أن الولد يغلبه هو وأمه..!

    حتى كانت الواقعة المريعة، عندما أفاقا لما فعلاه.. لطمت خديها وصرخت.. داهمه الخوف فحاول إسكاتها، لكنها قاومت، حتى آخر صرخة، وحتى قرقعة فقرات رقبتها.. حتى همدت جثتها في مخزن البهايم خلف المنزل..

    حرق «الدهشورية» بيوتنا، قتلوا إخوتي وأبي وأمي.. بحثوا عني وتوعد «عادل الدهشوري» أن يقتلني وابن عمي معًا.

    لكنني هربت.. من بلدة لبلدة، ومن قطار لقطار، خرجت وأنا لا أعرف إلا أن أبتعد، وأتخفى.. حتى وصلت إلى «القاهرة».. بلا مال ولا هوية ولا سند. كنت أبيت في الشارع، تحت الكباري، أتلقط رزقي من أي شيء، مسح زجاج السيارات في الإشارات، وعملت لفترة في مطعم للفول والطعمية..

    كنت قد تعودت على الهرب من الشرطة، أينما ظهروا أهرب، فليس معي بطاقة شخصية، ولا أعرف ماذا أخبرهم لو قبضوا علي للتحري، لكنني في المطعم الذي عملت به قابلت شابًّا مثلي، نعرف بعضنا من كسرة العين، ومن تعمد عدم إطالة النظر لعين أحد، هذا هارب آخر من شيء ما، سألته متشجعًا عن مكان أبيت فيه، قال إنه يقوم على نظافة القهوة الكبيرة في «المطرية» قرب «شارع الترام»، وإنني يمكنني أن أذهب معه بعد انتهاء البيع في المطعم، لأبيت معه.. قلت في حذر: «أطلع بطاقة منين؟».. ابتسم وقال في يأس: «معاك فلوس؟ دي مهرها غالي» لما خفضت بصري في خيبة، ربت على كتفي وقال: «ماتقلقش، عندي جماعة بيضربوا باسبورات علشان الهجامة اللي بيطلعوا يسترزقوا من نشل الحجاج.. ماتستغربشي كده، البلد مافيهاش شغل، وأهو اللي في الحج ده بيبقى معاه قرشين حلوين.. المهم، حاكلمهم لك.. اسم الكريم إيه؟» أجبته في خفوت وكأنني أجرب الاسم في فمي: «ماهر»..

    قال في ضيق وقد بدأت عيناه تضيقان: «ماهر إيه يعني؟».. فهمت مراده، فقلت: «ماهر محمد..»، أشرق وجهه، تلقف ردي الساذج في حبور وكأنه أراد أن يسمع ذلك بالضبط، أدهشني.. لكنه قال كمن ارتاح من هم ثقيل: «عاشت الأسامي يا ماهر..»

    هكذا دخلت «المطرية» لأبيت فيها ليلتي الأولى.. تلك الليلة التي أعقبتها ليالي ثلاثين عامًا متتالية..

    * * *

    «ماهر محمد مختار».. الاسم يزين البطاقة المضروبة التي أعطوها لي كرامة للشاب الذي قابلته في المطعم. وقفنا في كماين عدة، ونزلنا من الميكروباصات وأمين الشرطة يسبنا، ويجمع بطاقاتنا ليفحصها الظابط. أول مرة ارتعدت.. لكنني صرت بعد ذلك واثقًا كل الثقة من أن ورقي سليم. يقلبها الظابط في يده ثم يطيل النظر لي بشك ويسألني: «انت منين ياض انت؟» أجيبه في ثقة «المطرية يا باشا».. شيء ما في قلبي يتمزق برغم رباطة جأشي الظاهرة.. من هو ذلك الذي تحمل البطاقة صورته؟ «ماهر محمد مختار».. مسلم.. عاطل..!! «مينا السرجاوي»، ابن «بولس السرجاوي» و«أوديت نخلة»، أصبح «ماهر محمد مختار؟ أصبح يعمل في مطعم ويعود لينام في القهوة ليلًا.. يقول عن نفسه إنه من «المطرية»، ويبدو على صوته أنه يصدق ذلك فعلًا!!

    * * *

    تعودت أن أتذكر أمي بصورتها، وأن أكتم صوتها في عقلي.. لأنني كل مرة كنت أسمع صوتها وهي تغني.. وكأنها لم تفعل شيئًا في عمرها سوى الغناء والترنيم..

    خدها نصيحة على مر الأيام إبليس لو جالك ماتسمعلوش كلام

    قوله يا شاطر ماتتشطرش علي عشان أنا مش قدك مالكش معايا كلام

    إن كنت شاطر تروح تتحدى ربي وهو هايوريلك ويغلبك كمان

    * * *

    كبر «ممدوح».. كبر حتى صرت أخاف عليه أكثر.. هذا الخوف لن ينتهي إلا بموتي، ساعتها سيدفنونني في مقابر المسلمين بالطبع، لكنني سأكون اطمأننت على «ممدوح»..

    سميت «ممدوح» على اسم عمي الذي هرب لتعليم أبنائه في القاهرة، والذي حرج علينا أبي الإتيان على ذكره، تركت ل «دلال» تسمية «دعاء» و«إسراء» وأخذت تعلمهما الصلاة وحفظ القرآن، فلم أظهر أي تفاعل مع ذلك لا سلبًا ولا إيجابًا، لكنني لم أعرف علام أعود «ممدوح» من صلاة وعبادة، لكنني قدرت أنه سيقلدني، ويحاكي أقرانه المسلمين، وهم كثر، بعكسنا نحن المسيحيين. أما أنا، فكنت أصلي الفجر مع المسلمين.. في البدء لم أكن أعرف ماذا أقول، لكنني حفظت الفاتحة حتى أتجنب الحرج يوم قراءة فاتحة البنات، كنت أصلي الجمعة وأعرف كيف أتوضأ، وأضع المصحف أمامي مفتوحًا قبل الصلاة أتأمل في نقوش الصفحة وأحرك فمي وأهز جسدي إلى الأمام والخلف مثل الفقي، كل هذه الأمور كانت ثقيلة على قلبي في الشهور الأولى، لكنني وجدت نفسي أعتادها، هل يقرءون حقًّا القرآن ويفكرون في

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1