Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

الشعار الرجيم
الشعار الرجيم
الشعار الرجيم
Ebook469 pages3 hours

الشعار الرجيم

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

هى رواية مبنية على سيرة المؤلف الذاتية، وتحكى قصة شاب اسمه حسن عاش طفولته في غزة وسط أخويه المنتمين إلى حماس، وأب و أم وأخت كانت أصغرهم جميعًا. عاصر حسن وشاخد حكايات التناقض بين أقوال الشيوخ وأفعالهم، ورفضهم للجدال، واضراره لترك الدراسة في جامعة حماس الإسلامية، والسفر للجزائر للدراسة في كلية الأعلام بإحدى جامعتها. بعد عودته لغزة، يلاحظ حسن الإختلاف بين سلوك المقاومة الذى تبخر بعد اتفاقية أوسلو، ثم الانتفاضة الأولى، ثم الخلاف المسلّح بين فتح وحماس.
Languageالعربية
PublisherNahdet Misr
Release dateJan 1, 2014
ISBN9789771448754
الشعار الرجيم

Related to الشعار الرجيم

Related ebooks

Reviews for الشعار الرجيم

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    الشعار الرجيم - سلامة عطا الله

    روايـــة

    Title.png

    تأليف: سـلامـة عـطـا الله

    إشراف عام: داليا محمد إبراهيم

    جميــع الحقــوق محفـوظــة © لدار نهضة مصر للنشر

    يحظـــــر طـبــــــع أو نـشـــــر أو تصــويــــر أو تخـزيــــن

    أي جــزء مــن هــذا الكتــاب بأيــة وسيلــة إلكترونية أو ميكانيكية

    أو بالتصويـــر أو خــلاف ذلك إلا بإذن كتابي صريــح من الناشـــر.

    الترقيم الدولي: 4-4875-14-977-978

    رقـــم الإيــــداع: 8994 / 2014

    الطبعة الأولــى: مــايـــو 2014

    Arabic%20DNM%20Logo_Colour%20Established.eps

    21 شارع أحمد عرابي - المهندسين - الجيزة

    تليفـــون : 33466434 - 33472864 02

    فاكـــــس : 33462576 02

    خدمة العملاء : 16766

    Website: www.nahdetmisr.com

    E-mail: publishing@nahdetmisr.com

    ربما تراها مجرد رواية تَصف لك عَالَـمًا لم تسمع عنه إلا في أخبار السياسة... ولكنها سيرة ذاتية لإنسان تمرد على منهج القتل دونما نهاية أو غاية رافضًا فصام المبادئ والمشاعر والسلوك لمن يرفعون راية التديُّن ويتاجرون بها...

    النــاشــــــر

    إهداء

    إلى الذين يشتمون الوطن وهم الأكثر حبًّا له،

    إلى مَنْ خافوا على حياتهم ففضلوا الصمت،

    ويُستثنى كل من كتب أو خطب أو تغنى بحب

    فلسطين ليكنز المزيد والمزيد.. 

    مقدمة

    كان من الممكن أن يمسك الكاتب ببندقية ويمارس بها الدين، ولكنه ذات يوم وهو بعدُ صغيرٌ أدرك أننا لا يمكن أن نمارس الدين بالبندقية، إنما الدين هو العدل والحب والسلام، فكان أن أمسك الكاتب سلامة عطا الله بالقلم، ومن حينها والقلم سلاحه، وبذلك القلم لم يُقم الدين في نفسه فقط، ولكنه أراد أن يقيمه في أمته، لذلك قدم سلامة عطا الله مشروعه الفكري من خلال هذه الرواية، وهي رواية أدبية من طراز خاص، ليست كمثلها من الروايات، ولكنها فريدة في نوعها وتصنيفها ولغتها، كانت آيات القرآن الكريم التي تحض على التفكر والتدبر ماثلة في ذهن سلامة وهو يخط روايته، لذلك كانت الرواية «فكرًا»، وكان الكاتب ـ كما يبدو من وراء السطور ـ منفعلًا بالآية الكريمة (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) لذلك كانت الرواية «حكمة» وكانت لغته صافية ضافية رقراقة خلابة؛ لذلك كانت الرواية «أدبًا» وكانت تراكيبه اللغوية سلسة طيعة مشوقة، لذلك كانت الرواية «تشويقًا» ومن وراء كل ذلك كانت الرواية سيرة ذاتية مؤثرة، تأثر الكاتب، فكان حقًّا على القارئ أن يقرأ وكان حريًّا به أن يتأثر.

    كانت رحلة سلامة هي رحلة المعرفة، إذ لم يكن كغيره من الغلمان يذهب إلى ملاعبهم وألعابهم، ولكنه كان رجلًا «صغيرًا»، كان رجلًا مذ أن كان طفلًا، يجلس مع الكبار ويسمع قصصهم ويناقشها في عقله، سمع من أخوَيْنِ له كبيرين، وعرف أسرارهما، وأدرك أن «النداهة» قد سلبت وعيهما، إلا أنه ظل محتفظًا بوعيه محافظًا على عقله وسلامة تفكيره، ومع حركة الإخوان في فلسطين بدأ الكاتب يحث الخطى، ولكنه كان في كل حين يتوقف ليفكر ويراجع، وحين سافر إلى الجزائر وتعرف على أنماط جديدة من البشر اكتسب خبرات وخبرات، ورأى أن بعض المظاهر قد لا تنبئ عن الحقيقة، وذلك من خلال الشاب الذي أُصيب بالشلل الرعاش، والذي وقع في ظن بعضهم أنه يتطوح من الخمر في حين أنه كان يتطوح بفعل المرض، وكم كانت المظاهر خادعة، لذلك دخل كاتبنا إلى مرحلة جديدة في المعرفة، ومنها أخذ يناقش معنا بعض أفكار الإخوان وحركتهم «حماس» وتصرفاتها، ويضعها على ميزان العقل والشرع، حقًّا كانت رحلته مؤلمة، أصيب بسببها بالكثير، ولكنه ظل محتفظًا بسلامته النفسية والذهنية والفكرية، محافظًا على توازنه الإنساني، ومع ذلك فإنك مع انفعالك بأحداث الرواية إلا أنك حتمًا ستحب «صاحبنا» وقد تبكي معه في مواضع البكاء، فقد نجح في أن يصنع معادلة مشاعرية وفكرية نادرة، يتضامُّ فيها الأدب مع الدين والوطن والسياسة، في قالب شديد التشويق، فهنيئًا للأدب العربي بكاتب سيبزغ نجمه إن أتقن صنعة الرواية.

    ثــــروت الخــربــــاوي

    1

    ... أمَّا قبل

    صباح بروكسل الضبابي يشعره بالاختناق.. تزيده قتامة تلك الوجوه العابسة لأسباب لا يفهم كثيرًا منها..

    كعادته.. كان متناقضًا، مؤمنًا متردِّدًا، شجاعًا جبانًا، ثائرًا هادئًا، صعبًا سلسًا، حادًّا لعوبًا، باكيًا ضاحكًا، تسكنه المفارقات العجيبة، ويقف دومًا على طرفي نقيض، تمامًا كما كانت ظروف حياته المتصلة بأحداث تختلف حولها التقييمات والمواقف.

    حسن الأسمر ذو العينين الواسعتين يعلوهما حاجبان سميكان، القادم من مدينته البعيدة إلى أشواك المنفى... عُجن على حب التأمل والتحليل، ومع ذلك فقد سجَّل اندفاعًا كبيرًا في بعض مراحل حياته، حتى بات هو والصراع رفيقينِِ دائمينِ.

    صفحات حياته كُتبت بحبر مدينته المتكئة على مساحة ضيقة جدًّا-مدينة محاربة دائمًا، مهزومة غالبًا، مكابرة شقية عنيدة عالمة جاهلة، مدينة تأبى إلا أن تأسر ساكنيها وتقودهم برغباتها، وتتمايل بمصائرهم كما يوسوس لها شيطان شعاراتها.

    مدينة لا تسلك طريقًا مستقيمًا، تهوى المنعرجات والمفاجآت والمطبَّات والحفر.. التراب فيها يعشق العابرين العابثين المتمردين، ويحابي من لامسه حافي القدمين صغيرًا، ثم نسي ماضيه فتغطرس وتشدَّق كبيرًا..مساحة تمارس الظلم بسيف أحزابها على قاطنيها. مدينته التي لفظته إلى صباح هذا البلد البارد الذي يتحدى أشعة الشمس -إن أشرقت- أن تُذهب ما به من جليد المشاعر… من لحظة مغادرته محطة القطار اعتاد حسن أن تهرول به قدماه إلى ذلك المقهى المقابل على ناصية الشارع الرئيسي متلهفة لقهوته الساخنة ووجوه الجنسيات الأخرى التي تلوذ مثله بسقف يجمع الغرباء فيشعرون فيه بالألفة والسكينة … نادرًا ما يتبادلون بينهم الحديث، ولكن إحساسهم بأنهم هنا -في حدود تلك الأمتار القليلة- هم الأغلبية يمنحهم بعض القوة... أو قل الكبرياء في مواجهة ما يتعرضون له خارج هذا السقف. نادرًا ما تتغير الوجوه... كلما وفد وافدٌ جديد أصبح الاحتمال الأكبر أن يحتجز له مكانًا كزبون مستديم في المقهى الذي يسعد صاحبه كل فترة بإضافة مقاعد جديدة لزبائنه الجدد. وكعادته احتل زاويته المفضلة التي لم يغيرها منذ قدم هنا لأول مرة منذ شهرين.. منذ أن قدم إلى هذا البلد الذي يشبه المنفى هاربًا من شوارع بلدته القديمة وحواريها التي شهدت طفولته.. وكانت تترقب بصبر نافد موته على أرصفتها بلا ثمن.. اختار له الحكماء هذا المنفى البارد... دبر له المعارف عمــلًا في مكتب تذاكر إحدى دور السينما الشهيرة بعرض أفلام الرعب... ساعدته فرنسيته التي يجيدها في الحفاظ على مورد رزق يكفيه حياة الكفاف.. تمر عليه وجوه الداخلين إلى صالة العرض لمشاهدة الفيلم... بينما في داخله تتصارع أفلام تفوق في مشاهدها أي رعبٍ يطل عبر الشاشة... وتمر عليه الأيام كقطار بطيء يدهس جسده النحيل..وصدره المكبوت بحكايات الحزن الليلي الذي لم يجد له صاحبًا هنا يتنفس معه الذكرى.. أو على الأقل يمنحه الحق في البوح.. لذا قرر من الغد أن يدونها في جلسته الصباحية بالمقهى على أوراقٍ لن يقرأها أحد.. ولكنها فقط ستتيح لصدره مساحة للتنفس.

    متبلدة هي التحيات هنا... حتى بين الوجوه المألوفة بعضها البعض.. لا تتعدى إيماءة بسيطة مصحوبة بربع ابتسامة، سريعًا ما تنسحب بعدها العين إلى ما يشغلها… على الطاولة المقابلة يجلس الرجل الخمسيني ذو الملامح العربية في مكانه منكبًّا على صحف الصباح كالمعتاد. تصادفت عيونهما مرات بنظرات باهتة، رد ابتسامة حسن بمثلها لا بأحسن منها... يُطيل الجلوس والتأمل دونما صاحب أو رفيق إلا من قهوته وجرائده التي يطويها تحت إبطه عند المغادرة.. تعرف على اسمه بالصدفة حين نسي ذات مرة قلمه على الطاولة بعد أن غادرها فلحقته العاملة تناوله إياه وهي تنادي مسيو أنيس.. يذكره هذا المسيو بألفة عمه صبحي الذي كان كثيرًا ما يهرب من أحزانه إليه... يلتمس منه دفء النصيحة ونفحات الأمل... كثيرًا ما قرر أن يتقرب من مسيو أنيس ولكنه تراجع حتى لا يقحم نفسه على حياته.. فالكل هنا يتوجس من الآخر، حتى وإن تلاقت ملامحهم العربية.

    ومع الرشفة الأولى من قهوته السوداء أخرج حسن قلمه وبدأ في سطر صفحته الأولى.

    2

    أمَّا بَعْد...

    فهم نائمون، ونحن في ذروة أَرَقِنَا. يَحْلُمون،ونحن نَختلي بأنفسنا. منضبطون بأوقاتهم ومواعيد أكلهم وشربهم ورقادهم وفرحهم وطبيعة الأشياء في حياتهم، ونحن لا ننضبط إلا في استمرار فوضانا..يتوقف القطار فيصعدون على مَهَلِهِم..على رِسْلهم، ونحن نُسرع ونزاحم لاعتقادنا بأنَّ القطار قد يفوتنا..هم لا يَفهمون ما قبلَ وما بعدَ استعجالنا، ونحن لا نفهم أنهم يَفهمون أنَّ القطار لن يتحرك قبل التأكد من صعودهم جميعًا.. يُبطئون ونُسرع، فيتقدمون ونَتخلفُ إلى الوراء. انتصاراتهم وإنجازاتهم وخلافاتهم لا تتطَلَّبُ دَمًَا، ونحن قرارُ كرهنا وقتلنا وعنفنا وقسوتنا لا يتطلب وقتًا.

    ومر زمن، ثم مر الزمن. تباعدت المسافات، وحينما قررنا مُباشرةَ الفَهْم، صرنا ننادي.. لكنَّهم أبعدُ من أنْ يَصِل إليهم صوتُنا.. حاولنا الاقتراب، وأوشكوا أنْ يسمعونا، بيد أنَّ ضجيجنا الصاخب كان صوتين مختلطين، واحدٌ يقول: اقتربنا،والآخر ينادي بالرجوع، فأتْعَبَنا الصُّـراخُ في وجوه بعضنا.. فتوقفنا جميعًا. لم نَصِلْ ولم نَرْجِع، وما زلنا نُزاحم في المحطة. وتمرُّ علينا قطاراتٌ وقطارات، ونحن ما زلنا في المحطة.

    ومر زمن، ثم مر الزمن. مَحونا اسمَ المحطة، وكتبنا بخطَّين مختلفين: ساحةُ معركة.. مرةً أَسقطُ أنا ومرةً أخي. يومًا أُجرح أنا ويومًا غيري. وتمرُّ القطارات..ومن النوافذ ينظر إلينا العابرون دون أنْ يتوقفوا..مِن جديد،صرنا نراقب حركة القطارات دون أن نحتاج إليها؛ لأن حالتنا تستدعي سيارات إسعاف، فاختلفنا على رقم الطوارئ. جرَّبنا كل الأرقام حتى ذابَ الرقم المطلوب في بحر دمائنا.. وكلَّما حاولنا الاتصال، أجابنا صوتٌ طالبًا تصحيحَ الرقم. قال قائل منا: فلنهدأ ونتذكر الرقم، لكنَّ الجميع مشغول. أحدنا أجابَ على اتصاله شيخ، وآخرُ جماعة، وثالث ومائة وألف وملايين.أعجبهم رنين الاتصال، فنسوا أنهم يريدون الإسعاف، ولم يعد يهمهم الرقم، وها نحن على حالنا. يمر العابرون، ونلتقط صحفًا يرمونها عن أخبارهم. منَّا من يُجفف بها عرقه، ومنَّا من يَمسح بها دماءه، ونعرف أنَّ بعضنا يقرؤها، ولا نعرف كم منَّا يفهمها.

    ومر زمن، ثم مر الزمن. تَعِبَ بعضنا من القتال. لكنه لم يشبع بعد، فقرر الوقوف خلفًا، أو بعيدًا عن الجبهة الأمامية للدماء؛ لأنه يريد جوًّا صافيًا يَمْنَحُه الفرصة لكتاباتٍ حول فضل الحرب وضرورةِ حمل السلاح، ثم قال: أنتم عنِّي في الدماء والرصاص والقنابل، وأنا عنكم في التمجيد والتأليف والتلحين والنشيد. صار دورُه إشعالَ قلوب الآخرين ثورة، ليقاتلوا بِضَعفهم أقوى القوى، وبسرعةٍ يتساقطون كأنهم ينتحرون. حجرٌ مقابل قذيفة، وألعابٌ نارية في مواجهة طائرة حربية، وكل مرة تمتلئ المقابر والصحف بأرقامِ قتلى قَضَوا نَحْبًا ليس لهم، ولا يزال الشيخ يهوى دفع إخوانه للموت في ساحة المعركة؛ لأن ذلك سيضيف جمالًا دراميًّا حزينًا على نشيده وخطبته، فينتشي بنرجسيته أكثر.

    إحساس رائع لم يشعر به منذ زمن.. أخيرًا خرجت الكلمات من صدره.. انتابته النشوة وهو يلمح حروف كلماته العربية أمامه على الورق.. تلك اللغة التي اشتاقت عيناه لرؤيتها في ظل لافتات الفرنسية التي تحاصره أينما ذهب... طلب قهوته الثانية وعاد لكتاباته.

    النساءُ تلِدُ فيكبر الأطفال انتظارًا لدورهم في طوابير القتل، وَحَسْبُهم أنْ تُذكَرَ أسماؤهم في أحد أناشيد شيخهم خلف الصفوف، حتى صار كافيًا أن يَسمع الشبل أغنية أو هتافًا أو آية، لِيَحُثَّ خطاه نحو المقصلة، وعيناه ترمقان الجنة، فرارًا من الواقع إلى الجنة. ولم لا يستعجلون الجنة؟! فمن يراقب عبر الصفوف الآمنة، لم يوفر مسكنًا أو غرفة لزوجين لن يتزوجا، لكنه وعد المقاتلين المحرومين بجميلاتٍ في مروج خُضر، وحوريات يعشقن المضرجين بالدماء. أين هم يا شيخنا؟ أجابهم: في الجنة خلف المعركة تمامًا. سألوه كم يستغرق الطريق؟ قال: مسافة طلقة أو طلقتين، ونصحهم باختصار الوقت. فأذَّنَ مُؤَذِّنٌّ: أيها الإخوة والرفاق، اربطوا أحزمتكم استعدادًا للإقلاع صوب الفردوس. يلبّون النداء دون أن يكون لديهم وقت للتصفيق أو الثناء على أنغام شيخهم هناك في الصفوف الهانئة، فكيف إذن ستكون حفلة إذا غاب التصفيق؟! غناءٌ للموت ولا تصفيق!! هكذا لن يكتمل العُرس.إلَّا أنَّ القاتل القوي يُكمل المشهد، فيتسلى بالتصفيق خفية أو علنًا لمن أجاد دفع الأرواح للموت. فالقتل في عرف القويِّ ليس سوى لمسة على لوحة إلكترونية، ترافقها كهكهة صاروخ لئيم يَضحك على ضعف خصومه، فيرسلهم شظايا إلى الجنة، وبعدها يرث القويُّ ميراثَ الراحلين. ولضمان سير العملية دومًا وبسلام، يَقتطع القويُّ من بعض ميراث المقتولين، ويُغَلِّفُ المبلغ، ويكتب على ظرف البريد اسمًا لا يُنْبئ عن المُرسل، وقد يكتب عليه: من صديقكم، دون تحديد الهوية، لينتهيَ الثمن بين يدي شيخ المقتولين، كي يتمكن مجددًا من تأليف وتلحين وعزف كلمات ثورية جديدة، تسوق الناس إلى الجنة المقيمة خلف المعركة مباشرة، وطريقها مختصر ومجهَّزٌ بأحدث الأسلحة المختصة في تسهيل مهمة اللاجئين إلى الآخرة.

    لا وقت للقتلى كي يعرفوا أن قاتلهم يموِّل شيخهم، المؤلف أو المنشد، لا فرق، ليتقن عمله في قرع طبول الحرب، ويُحسن التأثير في المعركة، ويُعلي صوت الترتيل مع صمت الجنائز والقبور. لم يتساءل المقتول يومًا عن مصالح شيخه خلف الصفوف، فما زال يعتقد أن إمامه يُنشِدُ له كي تحبه الجميلات في الجنة أكثر، ولم يسأل ولم يسأل ولم يسأل. فحياة المقتولين ما بين الميلاد والقتل لا تتسع للأسئلة. فما إن يخرج المولود من رحم أمه حتى يستقبله الشيخ الصديق الأخ، بكلمات وأهازيج تزيده شغفًا بطقوس المعارك وتغريد الرصاص، وما إن يكبر حتى يُقتل دون أن يورِّثَ لمن بعده سؤالًا: لماذا نُقتل؟!

    سيدي القتيل، لا أعلم إذا كانتْ ستصلُك رسالتي أم لا، وفي حال وصولها، أرجو تأكيد الاستلام بِصَمْتِكَ المألوف، وبعد...

    فنحن بعدَك بألف قتيل. الجميع يبلِّغونك التحية ويسعون للقائك قريبًا. لا تقلق من طول الفراق. كما نُعلِمُكَ أنَّ ابنك الأكبر يُجهَّز لرحلته نحوك، ويساعده في ذلك، جزاه الله خيرًا، زوج زوجتك في الدنيا.لا تسألني من هو؟ أعتقد أنك تعرف مسبقًا، أو أنك نسيت أو تناسيت أن أرملة القتيل تصبح زوجة ثانية أو ثالثة أو رابعة لأحد مشايخ أو إخوان القتيل. لا عليك سيدي القتيل، نَودُّ سؤالك إذا ما زلت تستمع لمؤلفات وأناشيد شيخك خلف الحدود والجنود؟ هو أبلغنا أنك تسمعنا، ولا شك أنك تسمعه أيضًا. ولأنك تُحبه، نعلمك سيدي أن محبوبك خلف الصفوف لا ينقطع عن إطرابنا وتذكيرنا بسيرتك وحبك للموت، ويقف بالمرصاد لكل من يختلف معك. افرح سيدي القتيل، فقد صارت فلسفتك في الموت مدرسة للأجيال، وباسمك بُني سجنٌ لمن ينتقد منهجك. وعلى سبيل الطرفة، أحدِّثك بما فعله شيخك قبل أيام مع أحد المزاودين عليك: ثمة يافع أراد التطاول على الأمجاد فسطَّر محاولة شعرية يَذُمُّ فيها مدرسة القتل. وحينما سقطت الوريقة بين يدي إمامك،وضع نهاية لحياة ذاك اليافع؛ كي لا يتجرأ مرة أخرى ويدعو لبناء مدرسة الحياة بالقرب من مدرستك. حينها قد يعكر صفو جنتك بجنة يقول إنها يجب أن تكون هنا كي تكون عندكم سيدي القتيل. أعرف أن فضولك يقودك للسؤال عمَّا كتب ذاك اليافع، ولذا سأنقل لك ما كتب، مع الإشارة إلى أنه اجتُث قبل أن يكبر عودُ الشعر فيه؛ لأنه يستحق الاقتلاع. فاضحك وأنت تقرأ ما كتب:

    الجنة أنت لا سواك فارتوِ حُبًّا يُخلَّد في هواك..

    واشرب قهيوتك اللذيذة تنتشِ وتفرح في مساك..

    رافق رفيقك في الجنان وعش الحياة هنا كفاك..

    تجد نفسك كالملاك يحوم حولك وفي سماك..

    تنادي الطير أقبل فيعزف حبًّا بلحن رضاك..

    وإذا سئمت ففيك جميلُ مكانٍ يوازي مستواك..

    اقفز له يا صاحبي فالسقم حتمًا يعالجه دواك..

    أنت كلك وفيك منك حولك وجدك والهلاك..

    فلا تكن كجهنم تُشعل نارها وغليلها بغباك..

    فتجف روحك بالهموم ليحتطب منها وباك..

    إياك ثم إياك تأجيل يوم جنتك إلى غداك..

    حينها لن تكون أنت وسينجو من كان سواك..

    كلمات تافهة مكانها القمامة الآن، فشيخك خلف الحدود يا سيدي القتيل، تعامل مع الأمر بحزم وندعو الله ألَّا يتكرر.

    وقبل الختام، سيصلك من الدنيا كلُّ أحبابك، وستسعد بلقياهم قريبًا، وسَيُنشِد لهم شيخك كما أنشد لك. وسلامي لعائلتي وجيراني وشعبي المقيم معك في الجنَّة. مرفق كشف حساب بتكاليف تعليم أبنائك وعلاجهم، كي تراسل أحد الأئمة القدماء ممن باتوا مسئولين، علَّهم يُعْفون أبناءك من رسوم جامعاتٍ ومستشفياتٍ صارت لهم ملكًا خالصًا. نرجوك الاتصال بأحدهم لأن زوج أرملتك يرفض التسديد،ومن بقي من عائلتك لم يعد قادرًا على تأمين المبلغ. أما إذا تواصلت مع أحد المشايخ بشأن أبنائك، وأوصاك بالصبر واحتساب الأجر عند الله، فحاوِل مرة أخرى، ولا تنسَ إِخبارَنا بماذا أجبت عليه من إقامتك في الآخرة. وفي الختام... أنتم تعرفون أنَّ من يحبكم ملزم بحماية مَنْ تُحِبُّون بَعدكم، فإذا ما استطعتم المساعدة في منع أذى من يسعى لإهلاك نسلكم..فلا تبخلوا.. والسلام عليكم.

    يا شيخ..لو استجاب الله لدعائك في كل صلاة، بأن يرمِّل نساء أعدائك، وييتِّم أطفالهم، ويسلِّط عليهم من لا يخاف الله ولا يرحمهم، لصارت الدماء شرابنا، ولحم البشر طعامنا.. يا شيخ أنت تدَّعي عبادتك لإلهٍ، لكنك تتعامل معه كعبد، فتطلب أن يُعطيَك وينتقم من خصومك ويُميزك عن باقي البشر، فإما أنك ترى ربَّك عبدًا برتبة إله، أو أنه إله عنصري يحبك أنت ويكره سواك.. ولا داعي لتذكيرك بسوءاتك وسوء تعاملك مع جيرانك وزوجتك وأبنائك. الكل يرى هذا ولا يزال الكثير يستمع إلى خطبتك ويدعونك في زواجهم وعند موتهم. ما أقبحها من حياة تبدأ وتنتهي بين يدي دجَّال يشهد الميلاد والزواج وصولًا للكفن والدفن تحت التراب! نمضي وكم مضت أمم ركبت قطار الحضارات، ونحن وحدنا نتقاتل في المحطة.

    * * *

    زفير ملتهب مسموع الصوت والحضور انطلق من صدره إلى هواء المقهى البارد، أفرغ أثقالًا عن ظهر قلبه المتعب.. وحين رفع عينيه إلى الوجهة المقابلة استقبلته عينا مسيو أنيس بابتسامة صغيرة... لم يتمالك نفسه من الفرح بها فبادله ابتسامة عريضة ونهض يقطع الأمتار الثلاثة التي تفصلهما متوجهًا إليه مادًّا يده بالتحية:

    ـ اسمي حسن.

    ـ أهلًا حسن.. أنا أنيس.

    ـ أعرف يا سيدي فقد سمعت النادلة تناديك به منذ أيام.

    ـ لم أرك مشغولًا بالكتابة قبل هذا الصباح. صحفي أنت؟

    ـ لا... أعمل في مهنة لا رابط بينها وبيني.

    ـ هذا أفضل.. أنا صحفي وأشفق على غيري من متاعب هذه المهنة الصعبة.. على أية حال سعيدٌ أنا بالتعرف عليك أيًّا كان ما تكتبه... ربما يتسع الوقت صباح الغد لأتعرف عليك أكثر.

    إلى طاولته عاد حسن تفيض من عينيه بهجة هذا السلام العابر.. مد يده إلى الأوراق قبل أن يغادر.. وما إن احتضنتها يداه حتى لمعت عيناه بوميض فكرة عابرة... واستدار عائدًا إلى أنيس.

    ـ سيدي.. ربما تلك الأوراق تنوب عني في حديث طويل لا يتسع له وقتك... ستخبرك عني يا سيدي... فكثيرًا ما يكون القلم أفصح من اللسان... دونت لك فيها أيضًا رقم هاتفي.

    ناوله الأوراق وانصرف كطائر رزقه الله قوت يومه من السعادة... فطار مغردًا في تسبيحة الحمد الصباحية...

    3

    لم تستغرق جولته في السوق العربي في قلب بروكسل طويلًا.يعشق مروره اليومي حتى وإن لم يكن في حاجة لشيء يشتريه .. المكان الوحيد في هذه الأرض الباردة الذي يمنحه شيئًا من دفء.. وجوه البشر وصيحات الباعة التي تشبه مثيلتها في أسواق صيدا والموسكي …هنا اتحد الوطن العربي على أرصفة السوق بعد أن فشل في أن يتحد على الخريطة...هنا يستقبل سمعك ترتيلات الشيخ عبدالباسط للقرآن الكريم من كاسيت أبو حميد بائع الخضار ويتسلل إلى أذنيك من بعيد غناء أم كلثوم الذي ينبعث من كشك الحاجة أم زهرة ممزوجًا بأشعار محمود درويش وأغتيات الراب المغربي …هنا سوق الغرباء الذي يبيع الألفة ويستنطق قلبك باللغة الأم التي تذوب فيها اللهجات المتعددة … لم تتجاوز جولته نصف الساعة، انطلق بعدها إلى محل عمله بالسينما... لم يعاود التفكير فيما فعله... لم يسأل نفسه للحظه لماذا أعطى الأوراق لأنيس.. كل ما يعرفه أنه كان بحاجة كي يُسمع صوته لأي بشر بعد أن ضاقت بصوته جدران غرفته التي يحدثها كل مساء في هذه الزنزانة الكبيرة.. التي يسميها أصحابها وطنًا.

    4

    الخامسة صباحًا .. غادر أنيس الفراش مستجيرًا من الصداع الصباحي المزمن بفنجان قهوة وقرص المسكن وجرائد اليوم السابق التي جرت معها بعض أوراق احتاج معها لحظات ليتذكر أنها للعابر الذي قابله في المقهى في الصباح.. كثيرًا ما يقابل أنماطًا غريبة من القادمين من الوطن العربي.. صار مألوفًا لديه البائس والمستهتر والمنطوي على ذاته... صارت تلك الوجوه في حياته شخوصًا عابرة لا تحرك القلب... ومثلهم حسن.... ربما ظن حسن أن عمله الصحفي سيدفعه بفضول لقراءة ما سطرته يداه.. ولكن هذا

    الحسن لا يعلم أن عمله الصحفي قد أورثه الملل من القراءة والكتابة؛ لذا فقد تناول أوراقه ودسها في حقيبته المختنقة بصحف الأمس التي لم تلتقط أنفاسها سوى

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1