Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

مصر ياولاد
مصر ياولاد
مصر ياولاد
Ebook915 pages7 hours

مصر ياولاد

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

في واقعية كعين الصقر ترصد سناء البيسي وتسجل وترسم بتعمُّق لا يجاري فيه صدقها إلا أسلوبها الأدبي المميز قضايا مجتمعية ساخنة، حريصةً على تماسك المجتمع المصري، بحيث يمكن وضعها في طليعة من يحمل هموم أبناء مصر ويعبر عنها خير تعبير.
Languageالعربية
PublisherNahdet Misr
Release dateJan 1, 2008
ISBN9789014303956
مصر ياولاد

Read more from سناء البيسي

Related to مصر ياولاد

Related ebooks

Reviews for مصر ياولاد

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    مصر ياولاد - سناء البيسي

    العنوان:

    مصر ياولاد

    المؤلف:

    سناء البيسي

    إشراف عام:

    داليا محمد إبراهيم

    جميع الحقوق محفوظة © لدار نهضة مصر للنشر

    يحظر طبع أو نشر أو تصوير أو تخزين أي جزء من هذا الكتاب بأية وسيلة إلكترونية أو ميكانيكية أو بالتصوير أو خلاف ذلك إلا بإذن كتابي صريح من الناشر.

    الكتابة نسب!

    وأما بعد.. لقد وجدت فيها مبتغاي وبلغت مقصدي لتحقيق مطلبي، وهو أن الكتابة نسب، أي أن أصحاب الأقلام عيلة واحدة تجمعهم صلات الدم، ومن ثم لابد وأن يكون نهجهم ألا يعضُّوا بعضهم، وألا يأكل صاحب قلم لحم أخيه حيًّا أو ميتًا في جلده فنكرههما معًا.. إن ما نراه الآن للأسف من تحرشات في عشيرة الكتاب يعكس أن الدم بقى ميه والذبائح للركب والنهش مسلسلات مع سبق الإصرار والترصد، ولحم الأشقاء وقع فريسة بين الإخوة الأعداء، وما جاء يومًا من وصايا لأصحاب الأقلام للقلقشندي في كتابه «صبح الأعشى في صناعة الإنشا» قد غدا ضربًا من ضروب السخرية التاريخية عندما خاطب الفقيه الكبير الجليل الخبير أصحاب القلم في عام 756 هـــ بقوله: حفظكم الله يا أهل صناعة الكتابة وحاطكم ووفقكم وأرشدكم، فإن الله عز وجل جعل بعد الأنبياء والمرسلين وبعد الملوك المكرمين أصنافًا فجعلكم معشر الكتَّاب في أشرف الجهات، أهل الأدب والمروءة والعلم والرواية، فموقعكم من الملوك موقع أسماعهم التي بها يسمعون، وأبصارهم التي بها يبصرون، وألسنتهم التي بها ينطقون، وأيديهم التي بها يبطشون، فليس أحد أحوج إلى اجتماع خلالِ الخير المحمودة وخصال الفضل المذكورة المعدودة منكم أيها الكتَّاب... فتناقشوا معشر الكتَّاب في صنوف الآداب، وتفقهوا في الدين، وابدءوا بعلم كتاب الله عز وجل فإن في ذلك معينًا لكم على ما تصبو إليه هممكم.. وتحابوا في الله عز وجل في صناعتكم، وتوارثوا أهل الفضل والعدل من سلفكم... ويكفي أن يقال: إن الكتابة نسب: ولله در أبي تمام الذي قال:

    إلا يكن نسب يؤلف بيننا        أدب أقمناه مقام الوالدِ

    أو كما قال لنا أستاذ الصحافة الدكتور عبداللطيف حمزة في محاضراته بالجامعة: إذا كنا نحفظ من متَّ إلينا بالأنساب الجسمانية التي لا تعارف بينها، فأولى أن نحفظ من متَّ إلينا بالأنساب النفسانية التي يصح فيها التعارف، ولذا قال الحسن بن وهب: الكتابة نفس واحدة تجزأت في أبدان متفرقة.. وعلى الكاتب أن يكون قوي النفس حاضر البديهة جيد الحدس، حلو اللسان، جريء الجنان، ظاهر الأمانة، عظيم النزاهة، كريم الخلق، ملمًّا بكل الفنون، حتى ما تقوله الندابة بين النساء والماشطة عند جلوة العروس وما يقوله المنادي على السلع في الأسواق، وأن يكون جامعًا للثقافة العربية وعناصرها المختلفة كالشعر والقرآن والحديث والحكم والأمثال وكلام الخطباء ورسائل البلغاء، عارفًا بالأزمنة واقفًا على عادات العرب في الجاهلية وما بقي من هذه العادات في الإسلام، عالمًا بتواريخ الأمم، جهبذًا في علم المسالك والممالك، دارسًا اللغات، فصيحًا في أوصاف الرجال والنساء والحيوان والدواب والضواري والوحوش والطيور، متبحرًا في أوصاف الآلات على اختلافها والموازين وأنواعها وأوصافها والأحجار النفيسة وأسعارها، مبحرًا في اللغة وأسرارها مما يجعل له رصيدًا ضخمًا من الألفاظ والمعاني يأخذ منه متى شاء يعبر به عن المعنى الواحد بطرق كثيرة من طرق البيان، وهذا المنهج هو أحد أنواع الإعجاز في القرآن، فالقصة الواحدة تتكرر فيه مرارًا في سور متعددة، ترد في كل سورة بلفظ وتركيب غير الذي وردت به في سورة أخرى مع استبقاء حد البلاغة والفصاحة.. إلخ.. وربما من هنا أتت المنزلة الرفيعة للكاتب، حيث كان الكاتب الفضل بن سهل - على سبيل المثال - في خلافة بني العباس يجلس على كرسي مجنح يُحمل فيه إذا أراد الدخول على الخليفة، فلايزال يحمل حتى تقع عين المأمون عليه، وإذا وقعت عليه وضع الكرسي ونزل عنه ومشى وحمل الكرسي حتى يوضع بين يدي المأمون، فيحادثه ويعود ليقعد عليه..

    في زماننا لم يعد فارق بين وظيفة الكاتب والوظائف الأخرى بل أصبحنا نجد الفارق جليًّا واضحًا في المهنة ذاتها.. بين الكتَّاب والكتبة.. قلم الكتَّاب متصل بوريد القلب وقلم الكتبة متصل بوريد المصلحة.. الكتَّاب يكتبون ما تمليه عليهم ضمائرهم، والكتبة يكتبون ما يُملَى عليهم.. الكتابة انفصلت عن القراءة وتراجعت الموهبة وغدت الثقافة علاقات عامة وموبايلات مسجلًا عليها تليفونات أهم الشخصيات، وبالتالي لابد وأن نعيد النظر في متى يغدو الكاتب كاتبًا على ضوء أن سوق الكتابة في انقراض، وعلى رأي توفيق الحكيم: في هذا الزمان أصبحت الأقدام أهم من الأقلام، وبالأمس دخل صاحبنا صالة التحرير رابطًا (صباع) رجله فسألوه: سلامتك إيه اللي جرى؟ فأجاب: صابعي انكسر.. فأتاه الرد المفحم: بطل كتابة لَاجل تِرَيَّحه... الكتابة الآن قد غدت مهنة من لا مهنة له.. لكل مهنة شروط وشيوخ إلا الكتابة الآن التي أصبحت ما لها شيوخ ولا مرجع. سوق الكتابة جبر ودخلت الصورة تهزم الكلمة وتكدس الجرنال بربطة المطبعة على الرصيف ليباع بالوزن لمهمة القرطاس، والغريب والطريف أن الصحافة الآن قد غدت باسبورًا لإثبات الذات والشرعية في المجتمع بعدما غزتها جميع الطوائف، فالدكتور والأستاذ والعالم والنائب والباشمهندس والمحلل النفساني والسكرتير العلاني والمذيع الترتاني والخبير الغذائي والدوائي ومحلل الفتاوى والحكاوي والشكاوى كلهم، كلهم يعيش الواحد منهم ويموت ونفسه رايحة لحاجة واحدة لا غير، للوصول للناس يقول لهم من خلالها أنا هنا.. مقالة في جريدة أو جرنال.. عامود يذيله باسمه بحروف الطباعة يفتح الجرنال عليه ويصفق هيه.. ومن هنا أسفت ودهشت للعالم الطبيب الكبير صاحب الأربعين عاما في مجال الطب عندما لاحظت مكوثه قابعًا في حجرة السكرتيرة أكثر من مرة في انتظار السماح له بكتابة عدة سطور على صفحات الجريدة تجعله محط الأنظار خارج دائرة المرضى.. كاتب عامود، أصبحت رتبة زي الباشوية والبكوية.. العامود الصحفي غدا بمثابة ميلاد جديد في دوائر المجتمع، من خلاله تكتسب الشهرة الحقيقية التي قال عنها الشاعر حافظ إبراهيم يومًا:

    لكل زمانٍ مضى آية        وآية هذا الزمانِ الصحُف

    ومن هنا عذرت يومًا الكاتب الكبير زكي نجيب محمود الذي لقيته بعد أن كان قد أمضى أكثر من أربعين عامًا يطل علينا فيها بمقالاته ونظرياته وفلسفاته.. وجدت له عذرًا عندما اصطدت على وجهه مظاهر الانتعاش والحبور لحظة نقلت إليه إعجاب سعاد حسني بمقالته في الأهرام.. ابتسم الفيلسوف كأنني منحته قالبًا من الشيكولاتة معلقًا بسعادة بادية: سعاد بتقرالي؟!! وأبدًا لم يكن ورم الأبناط في كتابة الأسماء أوشهرة. الجرنال دافعًا على إقبال القراء، وعلى سبيل المثال الكاتب يحيى حقي بوزنه الثقافي وقامته المعرفية الفارعة عندما عرضت عليه الصحف الكبيرة أن يكتب لها رفض بإباء وفضل الكتابة في صحف دار التعاون قليلة التوزيع بمنطق أن القراء يذهبون للكاتب وليس للجرنال، ومن هنا استمتع قراء التعاون بأندر السطور التي جمعها الناقد فؤاد دوارة مشكورًا في أهم كتب أدب المقالة العربية على طول تاريخها.. ويظل يحيى حقي - الكاتب الشامخ الذي لا يذكر اسمه إلا ومعه قنديل أم هاشم - الأديب الصادق مع نفسه ومع القارئ، عندما وضع القلم جانبًا قبل وفاته بكثير؛ لشعوره بأن مداد العقل قد جف وأنه لن يستطيع أن يضيف جديدًا.. توقف يحيى حقي بينما ظل آخرون يتحفوننا بكتابات فسيولوجية، أي بإفرازات آدمية في سلك القرف والعرق وأشياء أخرى..

    وكتَّاب ياما في صحف سيارة وطيارة ودوارة يومية وأسبوعية وموسمية وتبعًا للتساهيل الأمنية والحزبية والمصالحية والمنظرية.. أصحاب أقلام نامت وأقلام قامت وأقلام تدعم مقولات وأخرى تردم على سياسات.. أقلام في سلك الخدم والفوطة الصفراء ومسح الجوخ، وأقلام متعالية دمها سم مولودة وفي فمها ملعقة من ذهب.. أقلام تقرأ كلامها تفز على حيلك تقوم تقف تضرب تعظيم سلام، وأخرى تضغط على عصب الغدد تملأ الصدغين بسائل لعاب مراده يطق يخرج قذيفة موجهة من اللسان والحلق.. أقلام ما إن تبدأ بمستهل العبارة حتى تقول الله يا جوهرة الكلام يا خلاصة الخلاصة، وأقلام تكلفت روحها بلفائف المومياء مرتعبة لحد الموت في أن تفصح برأيها في حقيقة الوضع حتى لا تخسر وضعها بالوضع.. أقلام وشها مكشوف وأخرى تمسك بالعصا من المنتصف، تقرأ لها نصف كلامها تلقاها تحرم الصلاة تخوفًا من أن يكون بعض السكارى على نصف العصا الآخر من رجالات السلطة.. أقلام فلوسها ياما من جوه، وغيرها تمويلها الكبير من بره، وعلى الجبهتين الريحة مش حلوة.. أقلام مدفوع بها وأخرى مدفوع لها، وتالتة حار ونار فيها حبرها وورقها.. أقلام تؤذن في مالطة وأخرى طق حنك لكنها واصلة.. أقلام تقول للأعمى في وشه يا أعمى وسلامة الشوف، وأخرى تقول لنفس الأعمى يا قرة العين عيني عليك باردة.. أقلام تروح معاك لآخر المشوار وأخرى تكتب عن الفضيحة طشاش والتالتة تديها الطناش.. أقلام تتحسر على رحيلها وتقول فين زمانها من زمن غيرها، وأخرى ترفع يديك للسما تدعي عليها يقصف عمرها وترحل وينهد على راسها عامودها.. أقلام قعدات وسهرات وبلاجات وشاليهات والمصلحة واحدة، واحد يبدأ فاصل العزف، يشاركه صاحبه بدق الصاجات، يتجاوب التالت على الفور بشخللة على جانب الرق، ترد طبلة يقظة في الركن على واحدة ونص لَاجْلِ يتحزم على وقعها قلم يرقص الرعشة ويهز البطن، تصفق له جوقة تستحث عن بعد جهود قلم من أفراد الشلة والمطيباتية واقف على الناصية يخطف معازيم شلة على الجانب الآخر.

    أقلام ارتدت هدوم غيرها، وهدوم غيرها واسعة عليها، وأخرى تتدارى في مسوح رهبان، والبعض يحبك العمة لكن من غير وضوء، ومن شاف الباب وتزاويقه ماشافوش من جوه نشف ريقه..

    أقلام لصوص أفكار بدعوى الاقتباس تنقش عن الغير بالمسطرة كبد الكتاب وجرس القصيدة وروح البحث وجسد المقال، وتخوفًا من تهمة السرقة من أن تذاع في برنامج أو على قهوة أو في رواق جمعية أدبية أو في باب نقد، يؤتى بذكر صاحب الخلق الحقيقي في معرض السطور على الماشي أو في زاوية هوامش ضمن كشف مراجع جهود البحث والتنقيب.

    أقلام يكتب اسمها بحروف طباعة في غلظة لافتات الانتخاب تظل راكزة باركة ع النظر والقلب حتى زوال الكرسي من تحتها، وهنا أتحداك أن تظل في تلابيب الذاكرة قشرة لذكرى سطر أو كلمة أو حرف منها ترك أثرًا، أو فكرة أفادت أحدًا، أو رأيًا ذكر على جانب من أهمية، أو أن أصحابها يومًا قد أزاحوا بلفائف أطنان كتاباتهم الساكتة حبة رمل في ملليمتر أرض، أو ردموا ثقبًا أحدثته قدم نملة، أوسدوا شقًّا انزلق داخله برص، أو زرعوا فسيلة على ضفاف غيط برسيم..

    أقلام جريئة وأقلام بريئة. أقلام مدنسة وأخرى طاهرة سامية. البعض شامخ والبعض شايخ. أقلام صادقة تزرع الأرض زهرًا زكي الرائحة، وأخرى مدعية، تموه سطح الرمال المتحركة بورود بلاستيك، وتالتة زرعها أشواك وميتها جاية في مصرف من بحور الدم.. وأقلام ترمي الشباك بنعومة الكوبرا توقع بفريستها وتسحبها مسلوبة الإرادة فوق ريش النعام وتخنقها بمنديل ناعم حرير وتدفنها ملفوفة داخل راية التبجيل ووراها جنازة حارة بمزيكة المارشال.. وأقلام تقول رأيها في النور، تكتب بحروف من نور، وأخرى عاشقة للضلمة تنخر في الجذور وتمتص رحيق الساق وتلبد في الذرة، وأقلام لها أسنان تنهش الأعراض وتنخر في جروح النفس وتمزق أشلاء الروح بأظافر الكلمات وتصلب ضحاياها وتقطع الأوصال بشبكات الاتصال، وأقلام لسانها مقطوع ونفسها مقطوع وهي ذات نفسها مقطوعة من شجرة مالهاش حد..

    أقلام في الفارغة تِلِتّ صفحات وفي الهايفة تعجن ملازم ورق، تلقفها مطابع السادة تحضنها بغلاف مقوى وبصمة ذهبية لتخرجها بعد الطبع الكوشيه فشر موسوعة البريتانيك ديكورا لمكتبة فلان بك وفلان باشا وصاحب المعالي فلان، وأقلام تسهر عمرها منكبة تستقطر عصارة عمرها أفكارًا على ورق لحمة.. و.. أقلام تمشي في الزفة وأخرى تمسك الدفة وتالتة تملي بها قفة تاخدها هناك لبعيد ترميها في الترعة..

    أقلام بها حَول، تكتب العربي من الشمال لليمين كأنها تكتب سطورها الباردة لقارئ إفرنجي..

    أقلام من البداية تدير لك ظهرها وتقول الختام مختصرة للغاية فيما لا يفيد طيه ولا فرده، وأخرى تسهب فيما لا يفيد أيضًا، وأقلام تفتش على الغلط بملقاط وتفضل تعيد وتزيد وتفرد كشفها بمكواة رِجْل واللي تقوله النهاردة ترجع تذلنا به في الغد، وأقلام شرع جملتها الجميلة الواضحة المختصر والمفيد..

    أقلام يخشى سطوتها ظالم، تشعل الثورة، تحرر العقول، توقظ النائم، تحضن اللامنتمي تأتي بالشارد، تمسك بطرف الخيط، تمشي خطوة أول المشوار، تحرك أممًا، تتصدر طابور الزحف..

    أقلام تزغزغ وأخرى تبصبص، وغيرها تلعب حواجبها، وأقلام طابعها الإثارة ترجعك وحش غاب تخاطب نصفك التحتي، وأقلام مالها شغلانة سوى قضايا الدين، ليس بالوعظ والتقوى والإرشاد والدعوة والتمثل بالأسوة الحسنة، وإنما بالغمز واللمز وتشويه المقدسات والتجرؤ على سيرة الأنبياء والفجاجة والتطاول لحد الكفر..

    أقلام تبيعك وأخرى تشتريك، وأقلام تخاطب الروح تاخدك لفوق لآفاق الرحابة والسماحة والشفافية، وأخرى تضع راسك في الطين في أسفل سافلين والحجة الاجتهاد والرأي الحر ودرب الديمقراطية وقمع الإرهاب الفكري والاستعانة بالمنظمات الإنسانية..

    أقلام شريفة نظيفة عفيفة، وأخرى وشها مكشوف، كل ليلة في حجرة نوم حزب شكل وولي أمرها أبو إيد طايلة.

    أقلام تناطح السحاب في اتساع الأفق، وأخرى أرضيتها واطية، قرصتها والقبر.

    أقلام مزاجاتية قاعدة في برج عاجي تكتب ما تكتبشي، المهم الوحي ما يزعلشي.

    أقلام رومانسية تطرز دررًا على أنغام التانجو، وأخرى همجية ترقص على طبول الغاب وتسطر فواحش مدمنة بانجو.

    وقلم تزرعه يقلعك، وقلم كلب ينبح ومايعضش، وقلم طول عمرك يا رضا وانت كده، وقلم زي القطط يسبح ويسرق، وقلم يرقص للقرد في مملكته، وقلم لايخاف لومة لائم، وقلم نصب عينه: اللي تكره وشه يحوجك الزمان لقفاه. وقلم يكتب بمنطق جوع كلبك يتبعك، وقلم إن كنت ناسي أفكرك، وقلم ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد، وقلم هئ ومئ وطبلة ورق، وأقلام تخاطب العبيد والعصا معها، وأقلام، الله لايوريك، وأقلام تجيب التايهة، وأقلام متقلة العيار، وأقلام تماحيك وعجب، وأقلام معقولة حلاوتها!، وأقلام عينها باكسة، وأقلام كانت في جرة وطلعت لبرة، وأقلام خلَّتها ميغه، وأقلام في الخباثة تلهط في البالوظة، وأقلام في مولد وصاحبه غايب، وأقلام تديله ماترحموش لحد مايبان له صاحب، وأقلام بكلمة باطل تجبر الخاطر، وأقلام تبين الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وأقلام للي مايستحي يكتب مايشتهي، وأقلام إن كان فيها الكاتب مجنونًا يكون القارئ عاقلًا، وأقلام دخانها من غير نار، وأقلام تقرأ كلامها تحس أنه نشر من قبل، وأقلام تشعرك أنها وصولات صرف، وأقلام تقول لك الحوجة مرة والمحتاجة غناجة، وأقلام تشمها قبل ماتقرألها، وأقلام تبوسها وتحطها جنب الحيطة وأقلام تدوسها وتحطها جنبها، وأقلام زرقاء وأقلام صفراء وأقلام حمراء وأقلام مقلمة، وأقلام مغبشة، وأقلام كتابتها تصلح لحوائط دورة مياه في ميدان عام، وأقلام زي وشها، وأقلام تجيب اللي وراء قدام، وأقلام تصحي الآلام، وقلم تميل عليه وتقوله: ليه؟

    وفي صحبة الأقلام قلم جوعان وقلم غلبان وقلم صوت القطط السمان وقلم كرباج وقلم ضمادة جرح وقلم هلفوت وقلم حوت وقلم ملطوط وقلم شفطوه من غير حس ولا خبر..

    قلم باهت، وقلم عندما يشرع في القول تشحذ شبكات الإنترنت شاشاتها والوكالات فاكساتها والجرائد صفحاتها وتفتح الصالونات أبوابها والأفواه أقوالها وأقلامها..

    قلم يكتب على سطر ويسيب سطر، يمكن يغلط في كلمة بسيطة يقدر في سطر فاضي يبلع ما قاله ويقلب المعنى، وتظل عمرك تقرأ له ولا تعرف ما إذا كان على هذا الجانب أو من دعاة الجانب الآخر..

    قلم حر يفتح الشبابيك ويهوِّي فرش البيت ويستضيف ضوء الشمس، وآخر يقلب السلطة على صاحب فكر حر بغرض كسر الجناح وقصف القلم وتقليصه لأبكم أصم محكوم عليه بصمت العدم..

    قلم شرك، وقلم شر، وقلم شبق، وقلم شره، وقلم شيِّلني واشيِّلك، وقلم لايكتب وإنما يكتب له، وقلم شاكٍ، وقلم باكٍ، وقلم على راسه بطحة والتاني على راسه ريشة، وقلم شوكة في جنب الظالم، وقلم في مهب الهواء..

    قلم محروق وقلم مزنوق، وقلم نزاهة وقلم شحات، وقلم فحل وقلم ضحل، وقلم يؤرجحك وقلم يضعك في المستقر، وقلم يصفعك، وقلم يمسك بتلابيبك، وقلم يكرهك في لغة الضاد، وقلم تعشق تبوس الإيد اللي مسكت به..

    قلم نسخ وقلم استنساخ، وقلم معوق يكتب كلمة إليك مشوهة بإليكي بالياء وكلمة «كرمٌ» بـــ«كرمن» في آخرها نون لأنه يسمعها كده بودنه الطرشة..

    قلم لما يغيب يفتقد، وقلم تاه منه الهدف، وقلم سيد، وقلم خدام، وقلم يصلح وابور الجاز، وقلم فاقد النطق وضايعة أدواته في التعبير، وقلم قال يعني ذو أهمية يفضل ينخع عليك لما سيادته كان مع الوزير الفلاني تجمعهما جلسة خاصة، ومع السفير الترتاني في سهرة خاصة، ومع السيد الوزير المحافظ الفلاني على مائدة خاصة، ومع السيد العميد في اجتماع له صفة خاصة و.. وإلخ.. طيب يا سيدي خصوك بإيه يكون على درجة كبيرة من الخصوصية.. خلصني؟!!

    قلم من ذهب وقلم ألماظ وترتر وخرج النجف، وقلم معلق يبحلق لك من جيب البدلة الموهير، وقلم مبتلى بالعذاب يقضي حياته كعب داير على دور الصحف والنشر يرموا له إبداعه كل حين ومين في ذيل عمود أو في فراغ سطور إعلان لم يدفعها المعلن، فإذا ما تجرأ بطلب عودة النشر يلقي صاحب الجهالة على سكرتيرته يمين عقاب بالتلاتة إذا ما عاودت سعيها لنصرة المعذبين في أراضي القلم..

    و.. وسط الألم والقلم أصبحت هناك حقيقة نستشعرها جميعًا بأن هناك مدرسة أقلام جديدة تولد الآن من رحم الصحافة المستقلة الجديدة تبدت مظاهرها وملامحها بوضوح في فترة الانتخابات الرئاسية.. أقلام تلغرافية متأثرة بعصر الإنترنت ولغة الشفرة.. جيل جديد من الأقلام يدخلون على الصحافة لغة جديدة وبسيطة تداخلها عامية تنقب في كنوز القول الشعبي الدفين. صحافة بكر متأججة الصورة، فيها من مفردات الكلمة والتعليق ما يقارب النكتة الصارخة.. كتابة تلبسها روح الحكي والحديث كأنك تسمع من خلالها صوت الكاتب. كأنك جالس بين السطور. صحافة تقرؤها بخاصية المشاركة. الكاتب يكتب سطرًا وأنت بعينك تكتب السطر الذي يليه. الكلمات تسحبك إليها كأنك تمليها على ورق تقرؤه. جديد في عالم الأقلام، أصحابها متمردون على كل حاجة في المهنة والسياسة و.. إلخ.. أبناء جيل جديد صُنّاع قوالب لها أبعاد حداثة غير قوالبنا المتعارف عليها.. مدرستا أخبار اليوم والأهرام دخلت عليهما مدرسة ثالثة، وإن تجاوزت الحدود فيها بعض السطور.. في المدرستين المخضرمتين لم نقف في وجه التجديد بل حرصنا عليه داخل نفس الأطر المتعارف عليها بيننا، لكن المدرسة الجديدة بأقلامها الوثابة قفزت خارج الأطر، حطمتها لتخرج بصحافتها للهواء الطلق.. كتَّاب نوعية جديدة غالبيتها لم تمارس الصحافة داخل المؤسسات التقليدية. أقلام لم تتعامل مع رؤساء الصحف القومية ولم تتلق تعليماتها من الجماعة الفوقية.. شباب الفورة والدهشة والحماس والقلم الذي يسابق معدلات التروي والتـأني والأخذ بالحيطة.. أقلام لم تعرف السير في قنوات القطيع الذي لا يضيف شيئًا.. أصحاب كتابة مغموسة بالسخرية وخفة الظل وإن تجاوزت الخفة أحيانًا خطوط اللياقة.. صحافة الكاجوال بدون الكرافتة وحفلات الكوكتيل والمتحدث الرسمي.. صحافة ترفض صحافتنا لغة وأسلوبًا ومداخل وعناوين.. سقف الجرأة عندهم مرتفع عدَّى السقف، ولغتهم جريئة وإن جاءت سطورهم مدججة بأشواك، وألفاظهم تحمل غلظة المادة الخام المغلفة بعبلها، المعفرة بتراب الفرن والمنجم، التي لم تصقل جواهرها النفيسة بعد ليكتمل زحف الجديد ويسود.. وعذرنا أننا في مواقعنا لم نقف على الشاطئ الآخر مكتوفي الأيدي في معظم الأحايين، فقد كانت هناك انتفاضات. حاولنا أكثر من مرة.. بدأنا أكثر من مشوار بالسهر والعرق والمرض والدم.. كانت لنا إطلالات وإرهاصات، لكنها أجهضت ووئدت بفعل فاعل عندما رفع الستار، استشعر الملقن أننا سنخرج عن النص فألقى بالدفتر وترك الكمبوشة وصعد إلينا ياخدنا على حنطور عيننا لنعاود الالتزام... لهذا لم نترك البصمة ومضينا، كل في طريق بعد ما زال الرحيق!!

    ثقافة الكذب

    لقيتني واقعة في ملقف كذب، حتى بت أسائل النفس عما إذا كان العيب فيَّ أنا أم في الآخرين من حولي.. هل في مظهري ما يوحي بالسذاجة والغفلة واللامؤاخذة الـــ..... لكي يتوجه صوبي مباشرة كل ذي كذبة ليسرد على مسامعي ما لذّ له من طيبات وشطحات الكذب المغطى والمكشوف والمكنون والمتداول والدارج؟! أنا التي أم هم الذين أولاد الذين أصبح الكذب عندهم يخرج تلقائيًّا بلا حبكة أو تحضير فينطق به اللسان كمضغ اللبان؟

    الكذب الذي أصبح في بلادنا غريزيًّا وفطريًّا وبيولوجيًّا مثل إفراز العرق... واحدة قرارية كذب منهم كانت تكذب بلا مبرر جعلتني أعيش طي حكاياتها الوهمية زمنًا من أن أمها ليست أمها وإنما امرأة أبيها، وأن والدها كان حكمدارًا بالذات في الإسماعيلية، وأنها عاشت طفولتها لحد ثالثة ابتدائي هناك في إحدى فيلات المرشدين الأجانب، وأنها أصيبت بكسر في عامودها الفقري وسافرت للعلاج في ألمانيا لمدة عامين، وأن بسم الله الرحمن الرحيم طلع يبص عليها من شراعة الحمام وأن وأن.. وصدقتها.. فما الداعي لأن أكذبها، لكني في يوم من الأيام استكفيت وعدلت تمامًا عن متابعتها بعدما زرت بيتها واستقبلتني من تطلق عليها لقب امرأة أبيها لتروي - في حضورها - إن عمرها ما تعبت في حمل مثل حملها في هذه البنت التي أنجبتها في بيتهم في شارع السكة الحديد بالمنصورة عندما انتقل الوالد من شغلانة قنا بالمحكمة الشرعية في شارع العباسي، ومن يومها والعيلة بختم الدقهلية من المنصورة لرأس البر ومن رأس البر للسكة الحديد، والسفرية الواحدة لخال البنت في الزقازيق أيام الكوليرا وعزلونا شهرين في الحجر الصحي...

    والأخرى التي ما إن يجيء ذكر أحد من المشاهير أمامها إلا وتعقب بقولها: قريبي.. من عائلة بابا.. متربي في بيتنا مع أخواتي.. سلميلي عليه.. وحدث أخيرًا أن جاء على لساني اسم مهندس شاب سليل عائلة معروفة، فما كان منها إلا أن أوصتني وبإلحاح أن أحمل له منها سلامًا وأشواقًا من طنت.... صاحبة والدته الروح بالروح، من قعد على حجرها وعمل عملته مرات ومرات.. و.. وراحت تكيل من أحداث الروابط الحميمية.. ولم أكذب خبرًا، فعند أول لقاء سارعت أنقل إليه تحيات طنت... فلاقاني بملامح أسمنتية، فرحت أعيد عليه ما ذكرته الطنت.. جارتكم في الدقي، وصاحبة ماما، من كنت تخبط على بابها طفلًا بكلوة يدك، عايز كلاته وصباع محشي.. وأتاني رده إيمائيًّا نافيًا رافضًا مستنكرًا متعجبًا، بمد باطن الشفة السفلى لتحت مع عقد الحاجبين نفورًا في نقطة الوسط ورفع معدل الكتفين لمستوى القفا ولف كفي اليدين كلًّا في اتجاه الخارج، فتركت لدي مجامع التنويهات الحركية تأكيدًا ضمنيًّا بأن صاحبنا عمره بالعمر ما سمع عن الطنت إياها، أو أتاه خبرها في يوم من أيام طفولته أو نضجه أو رجولته... وصعبت عليَّ روحي وحطيت في دماغي تصميمًا بأن أنقل لها جهله التام بها، لكني والله العظيم من يومها وأنا مكسوفة من مواجهتها.. ماذا أقول لها؟!

    وطبيبة القلب التي سرحت بي وصدقتها، لكني بعدما فصَّصت حكايتها لقيتها حقيقة لعبت بي الكرة الشراب، فقد روت لي من بين ضروب شطارتها ومهارتها أنها في فترة عملها في باريس اخترقت جنازة متبرع فرنسي بقلبه سرًّا بعد وفاته لتدخل بشنطتها الطبية مستأذنة الأهل أثناء إجراءات النهاية وتقفل عليها هي والميت الباب وتقلعه هدومه وتفتح صدره وتأخذ قلبه المتبرع به وتخيط مطرحه وتلبسه هدومه بالبدلة الريدنجوت وترجعه تابوته وتخرج بشنطة القلب مودعة بمثل ما استقبلت به من مظاهر التبجيل والتوقير والاحترام كمندوبة من وزارة الصحة، وطبعا ضحكت لما ماتت على روحها من الضحك على منظري المتوجس وأنا أتابع حابسة الأنفاس مغامرتها المحفوفة بالمخاطر تخوفًا من انتقام أسرة الفقيد لو علمت في أي لحظة بما يجري لفقيدها خلف الباب... وتعرف أنها كذبة بإيه؟ قالوا بكبرها!

    ولابد من وجود صلة وثيقة ما بين إنكار وجود الأم الحالية وخيال الكثير من الكذابين، فقد مكثت سنين مع أحد الزملاء الحكائين وهما الساردين كذبًا، المحلقين في سيناريوهات متصلة من صنع الخيال، كان يروي لي تباعًا قصة نشأته وطفولته على حلقات بحكم أوقات فراغنا في العمل ليغذي أحداثها بأكاذيب، بلعتها في وقتها حقائق.. ثم لماذا يكذب وهو رجل ملء هدومه وإنسان سوي - كما ظننته وقتها - وأنا لم أجبره على صدق أو كذب.. قال لي إن من قامت بتربيته عمته، وأن من عاش بينهم على أنه الشقيق الأصغر لهم ما هم إلا أبناء تلك العمة وأن عمره بالمرة لم تقع عينه على شكل أمه لأنها ماتت أثناء عملية ولادته، وأن الصورة الوحيدة لها في حوزة عمته.. «طيب ولماذا لم تر تلك الصورة؟!» «كانت في الدرج» «ولماذا لم تفتح الدرج؟!» «كان المفتاح في سلسلة عمتي».. «طيب قول لعمتك أنا نفسي أشوف شكل أمي».. «الست لم تمانع».. «طيب ولماذا انتظارك السنوات؟!».. «قبل ما تموت عمتي قالت لي: خذ المفتاح وافتح الدرج تلقى مظروف أصفر كبير، أفتحه تلقى مظروف سماوي صغير.. افتحه يا ابني وشوف أمك. وأسلمت عمتي روحها لبارئها.. «طبعا بعد خارجتها جريت على الدرج؟!».

    «فتحت الظرف الأصفر وطلعت الظرف السماوي، مسكته في إيدي وسرحت».. «لقيت روحك طالع شبهها؟!».. «لم أفتح الظرف».. «ارتعشت وأعطيته لابن عمتك، يفتحه بدلًا منك؟!».. «أبدًا».. «أخذت الظرف في حضنك ونمت لخيوط الفجر؟!».. «أبدًا».. «رجعته للدرج؟!».. «أبدًا» «قطعته.. يا سلام!!!» «أنا فضَّلت صورة أمي تفضل مبهمة في خاطري لأظل أخلع عليها شخوص أبطالي. في مرة أتخيلها ملاكًا من السماء ومرة تضاهي جمال أنجريد برجمان، وقد أتمثلها زعيمة مثل هدى شعراوي أو زبيدة زوجة هارون الرشيد أو صاحبة حنجرة بلاتينية مثل أسمهان أو أم كلثوم، ودائمًا أراها في خيالي شاهقة البياض تميل بوجهها ناحيتي فيتهدل شعرها الناعم على جبيني تغني لي هوه ننه نام وأنا أدبح لك جوزين حمام». وصدقته مقدرة مشاعره الرومانسية ولوحة شهقة بياض جلد والدته في محيطنا الأزرق الكابي.. بعدها لم أصدقه عندما رن التليفون لأسمع السويتش يطلب الأستاذ فأجيبه بأنه غير موجود فيعطيني محدثته ذات الصوت الأجش المتقدم في السن تطلب مني سرعة تبليغه بأن والده دخل في نوبة السكر.. سألتها: «أقول له مين يا فندم أول ما يوصل؟».. «قولي له يا بنتي والدتك».. «حاضر يا طنت»..

    لقد أصبح الكذب هو القاعدة والصدق هو الاستثناء، وغدا يمارس يوميًّا في البيت والعمل وبين الزملاء والأصدقاء حتى تؤكد الدراسات أننا نقول يوميًّا ما لا يقل عن 200 كذبة بمعدل مرة كل 5 دقائق بدءًا من مجاملة في غير محلها كأن نقول لواحد أمنيتنا أن يغور في ستين داهية: وشك ولا وش القمر. ونقول لواحدة تقاطيعها مخاصمة بعضها: إيه الحلاوة دي! إمسكوا الخشب. إلى اختلاق أعذار وأسباب لعدم الذهاب للعمل كالإصابة بنزلة برد أو ارتفاع في الضغط أو وفاة خالي أو طلاق أختي أو مغص كلوي، وبات الصادق بيننا عملة نادرة، بل كاد يكون نادرة من النوادر. هذا بينما يولد الإنسان في الأصل صادقًا ليكتسب الكذب من ثقافة تشيع بين الناس.. ثقافة كذب، منابعها سلوك الأم والأب والمدرس والبائع والجار والمحافظ والوزير والدولة والجريدة.. المناخ كله يدفع به في هذا الاتجاه، وفي ذلك قال صلى الله عليه وسلم: «كَبُرَت خيانة أن تُحَدّث أخاك حديثًا هو لك به مُصَدّق وأنت له به كاذب».. وأتأمل في كلامنا الفضفاض فأجد نصفه كذبًا وإن كان القصد منه إيجازًا واختصارًا للسرد الطويل مثل: أنا داير على لحم بطني من امبارح ورايح آكل لي لقمة.. فاللقمة الواحدة هنا أبدًا لن تشبع من جوع.. ومثل: أنا ما نمتش بقالي شهر ورايح آخد لي تعسيلة.. وصاحبك واخد على خاطره ورايح آخد لي معاه لفتين.. وعطشان موت وعايز بق ميه.. ورايح أصلي لي ركعتين.. ورحت عند الجماعة وقعدت لي حبتين.. وركز يا ابني وذاكر لك كلمتين.. وعنده شعرة.. وعليك واحد.. إلخ..

    ويختلف الكذب شرقًا وغربًا باختلاف المعمار، كما يقول العالم الدكتور مأمون فندي، فالمعمار الأوروبي والأمريكي والياباني له صفة الصراحة والأماكن المفتوحة، بينما معمار الشرق فلسفته الكتمان والسرية بالدهاليز والتخفي والحرملك والمشربيات، والإيحاء بالغنى والتمسك بالمظاهر ومن بره هالله هالله ومن جوه يعلم الله ولبِّس البوصة تبقى عروسة ونام معرش ولا تنام مكرش والاستدانة لعمل الوليمة..

    ولعل من أهم الصفات التي مكنت الأنبياء والمرسلين من تبليغ رسالتهم وأداء أماناتهم صفة الصدق، والدليل أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم حينما بُعث إلى الناس كافة والعرب خاصة أخذ في أول الأمر ينادي على جبل الصفا كل قبيلة باسمها: «يا بني فهد.. يا بني عبد مناف أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلًا بهذا الوادي تريد أن تُغِير عليكم أكنتم مصدقيَّ؟» قالوا: نعم.. ما جربنا عليك كذبًا.. بمعنى أنهم لو عهدوا منه كذبًا ولو مرة واحدة لفشل في دعوته، ولكنهم لم يثبتوا على الصادق الأمين كذبًا، وإلا لواجهوه بذلك وصدوه من أول لحظة دعا فيها إلى الله تعالى..

    أما القرآن الكريم فيكفي أن نعرف أن ذكر الكذب فيه مثل كذب، فكذبت، كذبوا، ما تكذبون، يكذبون، كذبتم، كذبوكم، كذبوه، كذبوهما، تكذبان، الكذب، كاذبون، كاذبة، كذاب، المكذبين، المكذبون تبلغ حوالي 285 مرة، وجاء في عقاب الكذب في آياته: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِين﴾ (سورة الأنعام آية: 11)، ﴿وذَرْنِي والْمُكَذِّبِينَ أُولِي النِّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيْلًا﴾ (سورة المزمل آية: 11)، و ﴿كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُوْنَ (٦٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِيْنَ﴾ (سورة المرسلات الآيتان: 46، 47)، و﴿انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا﴾ (سورة النساء آية: 50).. وفي ذم الكذب وقائله قول النبي صلى الله عليه وسلم عن صفوان بن سليم رضي الله عنه قال: قلنا يا رسول الله أيكون المؤمن جبانًا؟ قال: نعم، قيل له: أيكون بخيلًا؟ قال: نعم، قيل أيكون المؤمن كذابًا؟ قال: لا. وعن بهز بن حكيم - رحمه الله - عن أييه عن جده، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ويل للذي يحدث بحديث ليضحك به القوم فيكذب، ويل له، ويل له»، وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار».. ورغم أن الكذب مذموم في كل مكان، فهناك استثناءات في حدود ضيقة، وهي الأمور التي حددها الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه الذي روته أسماء بنت يزيد رضي الله عنها أنه قال: «يا أيها الناس ما يحملكم على أن تتابعوا على الكذب كتتابع الفراش على النار؟ الكذب كله حرام على ابن آدم إلافي ثلاث خصال: رجل كذب على امرأته ليرضيها، ورجل كذب في الحرب فإن الحرب خدعة، ورجل كذب بين مسلمين ليصلح بينهما»... وربما من المنطلق الأول انطلقت وليسامحني الله فقد لجأت للكذب على السيدة الوالدة - رحمها الله - في بدايات التدريب الصحفي والجموح العاطفي؛ كي لا تطير وتتبدد سحابات السعادة والتحليق في السماوات الوردية بقذائف الهاون المؤنبة المحذرة المهددة المكدرة بشأن تأخري خارج المنزل، مع ذكر ما لا تمل من تكراره على مسامعي حول سمعة البنت وكلام الناس وعقاب الوالد إذا صحا واستشعر غيابي عن موقعي في سريري أو خلف مكتبي، ولست أدري للآن السبب في تلك الجملة الختامية التي كانت تصاحب موال سم البدن، ألا وهي: وابقي قابليني.. في البداية كانت عملية طبخ الكذبة تستغرق مني ما قبل الفسحة وطولها، بعدها نصفها، بعدها أصبحت حجة الغياب التي سوف أسوقها يتبلور كذبها ساعة المرواح، ثم تنبثق وأنا طالعة السلالم، إلى أن بلغت بالتدريب أن كانت تخرج محبوكة مقلوظة على لساني بمجرد إدارة المفتاح ومواجهتي لمشهد ماما في جلستها المهيبة فوق كنبة المواجهة قدام باب السكة..

    كنت خلاص قد وجدت الخلاص بحكم المناخ الصحفي باللجوء المنقذ إلى حرفي الألف ذات المد والجيم المتعطشة في آخر كلمات أطواق النجاة.. إيه يا ماما اتأخرت في المونتاج.. في الميزانباج. في الريبورتاج.. ولكي يطول بي معبر الإجازة والسماح لجأت إلى كلمات أخرى لا تسير في الخط المستقيم لصلاح العافية الاجتماعية والعلاقات الأسرية بضبضبة - من الضباب للتمويه - كلمات جديدة تنطق مدغمة دون وضعها في مركز الفوكس، أي الوضوح التام..

    لجأت إلى ما هو خارج السياق، لكنه داخل نطاق الآج.. أدمج بسرعة كي لا تستدل على معاني الكلمات ومدلولاتها الأذن المرهفة.. كلمات مثل الباتيناج والمساج والسابوتاج والماكياج والأنبلاج والأرميتاج.. و.. سامحني الله..وبوجه عام إذا ما كان عمل الصحفي يضطره للكذب الدوري في نطاق مجاملة المصدر بقوله: آسف لإزعاج حضرتك، فحقيقة الأمر أنه لا هو آسف ولا يعنيه هذا الإزعاج في سبيل الحصول على السبق الصحفي..

    وربما كانت أكبر كذبة في عالم صحافة الغرب ما حدث عام 1960 لجريدة النيوز كرونيكل في إنجلترا لسان حزب الأحرار لمدة تفوق مائة عام.. الحزب القديم العنيد، لحزب المحافظين ولسياسة حزب المحافظين..الجريدة التي كانت مملوكة لأحد أصحاب الملايين صاحب مصانع الشيكولاتة العالمية كادبوري.. فذات صباح فوجئ أكثر من مليون ونصف المليون قارئ ممن يشترون الجريدة بأنها باعت نفسها لجريدة الديلي ميل لسان حال حزب المحافظين، وليس هذا فقط، بل لقد كان في داخل الصفقة وفوق البيعة مجلة ستار المسائية أيضًا، فتم اندماج النيوز كرونيكل في الديلي ميل وستار في إيفننج نيوز، ولم تكن المفاجأة للقراء وحدهم بل أيضًا للمحررين والموظفين والعمال الذين يعملون في المؤسسة، وعددهم ئلثمائة صحفي وثلاثة آلاف عامل ممن كان عليهم الاختيار ما بين تغيير جلدهم من أحرار إلى محافظين في أربع وعشرين ساعة أو أخذ تعويض يساوي راتب أسبوع عن كل سنة خدمة.. وعندما سئل مستر كادبوري عن السبب في عملته السوداء التي لم تعمل حسابًا لأي اعتبار سياسي والتي تصرف من خلالها وكأنه يبيع دكانًا للملابس الداخلية، أعلن أن الجريدة كانت تعاني من أزمة مالية طاحنة وأنه حاول إنقاذها من الغرق، وقد ثبت بعدها مباشرة كذب ادعائه عندما قام في خلال شهر واحد من بيع الجريدة بشراء مصانع شيكولاتة ألمانية بحوالي مليون جنيه لتوسيع تجارته الحلوة، وهكذا ساحت الكرونيكل على الشيكولاتة كادبوري وراحت مطرح ما راحت..

    ووجدتها أخيرًا حقيقة وليست مثلًا حكاية كداب الزفة، وإن تبدلت الزفة هنا إلى جنازة مع الاحتفاظ بمشاعر الصهللة والرقص، وذلك في تراث المزارعين في شرق الصين الذين يستعينون براقصات العري الاستربتيز لجذب المعزين إلى الجنازات اعتقادًا بأن في ذلك تكريمًا لأفراد أسرة الميت وجلب الحظ لهم.. الراقصات الفضليات - الوصف ليس من الأخلاقيات وإنما من أنهن اللاتي فضلن كما ولدتهن أمهاتهن من بعد نزع الثياب - يستحممن أمام الناس ويقدمن عروضًا عارية مع الثعابين مما يدفع المشاهدين من الرجال للمشاركة الجدية، هذا وقد أفادت وكالة شينخوا الصينية الرسمية مشكورة بأن الشرطة تقوم الآن بالقبض على منظمي تلك النوعية من الجنازات، وأصدرت السلطات المحلية تعليماتها بحظر العروض المماثلة المدعية الحزن، مع التبليغ عن ترتيبات أية جنازة خلال 12 ساعة بعد وفاة الشخص؛ لأن احترام الميت دفنه بدون رقص..

    ويُفرِخ الكذب كتاكيته في أرض الجهل، ومن هنا لوحظ في الانتخابات الأخيرة أن بوش حصل على أصوات معظم الناخبين الأمريكيين في الجزء الأوسط من الولايات المتحدة وهو تقريبًا الريف الأمريكي، وأغلبيتهم لم يخرجوا من الولايات المتحدة وإمكاناتهم العلمية والثقافية محدودة للغاية ومتمركزون داخل الدولة، ولا يهمهم ما يحدث خارج البلاد، أما الناخبون في الساحل الشرقي والغربي والذين يتمتعون بمعرفة وفكر فلم يعطوا أصواتهم لبوش..

    ولقد كان الصدق والأمانة دافعًا لكي يطفئ الخليفة عمر بن عبدالعزيز السراج بعدما ينتهي من مسئوليات ومهام الدولة مستعينًا بإضاءته - نور الحكومة - ليقوم بشئونه الخاصة بعدها في الظلام، وعندما وجد الخليفة عمر بن الخطاب عقدًا جاء لامرأته هدية خيرها بينه وبين العقد، حيث لايجوز قبوله على بيته وهو من أموال المسلمين، كذلك عندما اشتهت زوجه الحلوى قال لها من أين لي ثمن الحلوى لأشريها. ما زاد على قوتنا فالمسلمون به أولى، فقومي لبيت المال رديها، وقال الشيخ محمد عبده بعد زيارته لفرنسا بأنه وجد هناك إسلامًا بلا مسلمين، أما في بلادنا فإننا نجد مسلمين بلا إسلام.. ذلك الصدق من دعائم التقاليد في أوروبا وأمريكا التي يعتبر فيها التهرب من الضرائب والتجنيد جريمة تجريح للذمة الوطنية، والتي تلزم على سبيل المثال الموظف الرسمي بعدم قبول أية هدايا، كما لا يجيز القانون للرئيس الأمريكي باعتباره موظفًا رسميًّا تلقي هدية بأكثر من 30 دولارًا.

    وفي المرة التي زار فيها شيخ الأزهر الرئيس بوش الأب في البيت الأبيض وأبدى الأخير إعجابه بمسبحة الشيخ قدمها له هدية فأبى متسائلًا: كم ثمنها؟! ومن تقاليد كبرى الصحف الأمريكية ألا تجوز دعوة الصحفي مجانًا، وألا يركب طائرة تقوم أية دولة بدفع ثمن تذكرتها، ولا يقبل بحال من الأحوال هدية بأكثر من عشرة دولارات حتى لا يميل قلمه، وفي المرة التي دعي فيها رئيس تحرير النيويورك تايمز للسعودية لم يقبل السفر إلا بعد تسديد جريدته لثمن التذكرة...

    وأدخل محل أعشاب في لندن لأجد نفس النوع المطلوب بسعرين مختلفين، فأسأل البائع عن السبب فيشير لأحدهما بأنه موجود قبل رفع السعر، والثاني من بعده، وأقارن بينه وبين شمامي السوق عندنا، المتحفزين لاحتكار السلعة التي لم تزل تتمطى ناوية الارتفاع، خاصة عندما تؤكد الحكومة على تثبيت الأسعار مثلما حدث بشأن البنزين، وربنا يستر على الزبيب وعين الجمل وياميش رمضان الذي دخل خلاص في نطاق التصريحات، الكلمة الجديرة برفعها لمجمع اللغة العربية لاشتقاق كلمة بديلة قد يفلح بدلًا منها التكذيبات.. والمرء معذور إذا ما اضطر إلى الكذب اضطرارًا بعدما يجد الخصلة متأصلة في عالم الحيوان، فالديك يطلق نداء لاجتذاب الفرخة يفيد كذبًا بأنه عثر على طعام فتسارع المغفلة بالحضور لتغدو الفرصة مواتية لصاحب العرف، ويدعي الشامبانزي العرج لينطلق برشاقة حين يدير الخصم له ظهره، ويفتعل القرد المسن عراكا بين زعماء القرود لينفرد وحده بالإناث.

    ولم يعد الأمر في حاجة لجهاز كشف الكذب (البوليغراف) الذي تمكن المتمرسون وأصحاب السوابق من التلاعب به، وها هو رئيس إسرائيل موشيه كاتساف رغم عدم إدانة الجهاز له لم يزل التحقيق معه مستمرًّا في جريمة التحرش بموظفة مكتبه، ومن قبله شارون في اتهامه حول مصادر تمويل حملته الانتخابية... والأمر لا يحتاج إلى جهاز ولا معاينة فمقارنة أقوال وتصريحات بعض المسئولين عندنا إزاء حادثة ما مكررة تغني وتزيد وتفضح، ففي مأساة قطار الصعيد السابقة في عيد الأضحى عندما تفحمت 300 جثة قام صاحبنا بحكم أبهة انتمائه الرسمي وقتها بالدفاع المستميت عن الحكومة. وعندما لم يصبح الآن في صدارة السلطة تحول بنسبة 180 درجة ليغدو من أكبر المعارضين مع أن الهم والغم والإهمال الذي أضاع القطارين واحد، والميتين هنا وهناك من نفس أهل البلد..

    ويسلم فم حسن نصرالله زعيم حزب الله في حديثه الأخير في التليفزيون اللبناني عندما قال شامخًا إنه كان يثق في التصريحات الإسرائيلية حول عدد القتلى على الجانبين، ويرى في أرقام رجاله بعض المبالغة، لكنه في هذه الحرب بحكم قربه من المعارك وفرصة التحقق من صحة الأرقام وجدهم في إسرائيل أكبر الكذابين.. وتنشر مجلة التايم في عددها الأخير صورة الرئيس بوش غلافًا محاطًا من أعلاه وأسفله بتعليق جرىء مختصر يعكس إحساس أمريكا المحبط هذه الأيام بعد هزيمة حليفتها إسرائيل.. التعليق يقول: لقد تم فينا الفعل الفاضح.. صَدِّق أو لا تُصَدِّق!!

    سلامة الذوق

    في تأملاتي المغتاظة لمسألة الذوق والتذوق في بلادي يروعني ويلوعني ويقض مضجعي أن القانون فيها يعاقب من يخدش الحياء، لكنه يسامح ويطنش ويجعل ودن من طين وودن من عجين ويديها الطرشة ويشتري دماغه ويلغي عقله ويكبر مخه ويرمي وراء ظهره كل ما يخدش الأذواق.. ولقد انتهيت إلى أن السبب ومربط الفرس يعود إلى أن واضعي هذا القانون الذي يكيل بمكيالين: المتكلم والساكت، الباتر والقاتر، الكاسر والحاسر، الرهيب والرهيف، هم أنفسهم قد نشئوا وترعرعوا بمفهوم ثقافي وتربية بصرية وإطار جمالي لا يرى في التشويه اللوني أو التشييد السبهللي أو التردي المظهري أو التخريب الأثاثي أو التزيين الزمخشري أو التتويه اللفظي أو التخلف الحركي أو في فازة الورد البلاستيك الصماء ما يجرح البصر أو يؤذي النظر.. ومن هنا فإن افتقاد الذوق عندنا الآن قد غدا بمثابة المرض العضال المتفشي في جميع الساحات، بينما يظن من ضيعوه دهرًا وواروه عمدًا وشيعوه عرضًا وكمموه قصدًا وشوهوه رصدًا.. يظنون ولا حول ولا قوة إلا بالله أنهم ناس ذوق ذوق ذوق!!

    وظني أن إحدى مشاكلنا الأساسية في مصر عامة أن أصبحت لا هوية لها في مسألة الذوق والطراز.. ضاعت هويتنا.. سُرِقت هويتنا.. شخصيتنا.. سماتنا.. واجهتنا.. كلها غدت ممزقة لا تستطيع تحديدها.. صحيح أنها هوية مركبة ومعقدة بتركيبتها التاريخية التي تحوي أكثر من أربع طبقات فيها المصري والعربي والمسلم والقبطي إلى جانب موروثات فرعونية وبيزنطية.. إلا أن مصر لم تكن بمثابة الحصان الذي تغير عليه عدد من المسافرين أثناء الرحلة أو عدد من الركاب أثناء سباق التتابع، وإنما استمر راكبه - المصري القديم والمعاصر - هو الأول والأخير والوحيد طوال الرحلة دون أن يتغير، وأقصى ما تغير فيه رداؤه ولونه وجلده.. وقد كان الأمل كبيرًا في أن تُفْرِخ تلك التركيبة المصرية المتفردة نمطًا مبتكرًا خلّابًا له الطابع المصري الحديث الجدير بالراكب الوحيد، لكن يبدو أننا لما دُهِسْنا على مر التاريخ بحكم موقعنا الجغرافي في سجلات الدهسنة كمعبر من الشرق للغرب دهسنا ذوقيًّا أيضًا بعدما اختلطت واختلفت الأذواق فغرقنا في اللاهوية الذوقية، وأصبح ذوقنا سمك لبن تمر هندي كما تشاهد وتلمس في الشارع المصري إذا ما نظرت حولك للملابس، للوجوه، لتصرفات البشر، لواجهة المحلات والمباني، أو إذا ما رفعت عينيك للافتات، أو إذا ما نظرت تحت الرصيف، أو إذا ما فتحت أذنك للإذاعة، أو إذا ما فتحت عينيك للشاشات.. مجتمع تستشعر فيه عدم الانتماء والتوهان الذي من جرائه جاء الافتقار للذوق في بيوتنا وشوارعنا وملابسنا ومظهرنا ومخبرنا وفنوننا وموسيقانا.. لماذا بالله أصبحنا بلدًا بلا شخصية ولا هوية ولا مدخل ولا مخرج ولا أنت تعرف داخل منين ولا خارج منين ولا أنت في القاهرة أم في بوركينافاسو أو في كوالالمبور.. بذمتك إذا لم تكن في حي الأزهر أو الحسين أو تحت ظلال الهرم أو واقف مسنتر في مواجهة خوفو أو في ردهة المتحف المصري أو عند سبيل أم عباس أو تسمع من بعيد عبدالوهاب أو أذان الشعشاعي أو صوت الشيخ رفعت أو من السيدة لسيدنا الحسين لعبد المطلب أو حتى شعبان عبدالرحيم.. هل تستطيع القول بأنك في مصر بالذات.. المحروسة هبة النيل التي وصفها عمرو بن العاص بأن رجالها عجب ونساءها لعب وأرضعها ذهب وهي لمن غلب، وقال فيها حافظ إبراهيم:

    أنا إنْ قَدّر الإلهُ مماتي        لا ترى الشرق

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1