Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

عالم اليقين
عالم اليقين
عالم اليقين
Ebook1,368 pages11 hours

عالم اليقين

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

تناول الكتاب شخصيات عظيمة أثرت عقل ووجدان الأمة، جمعتها الكاتبة الصحفية الكبيرة سناء البيسى في كتاب «عالم اليقين » ، داعية إلى إعمال العقل بالتفكر والتدبر، دون إخلال بنص أو تحقير من تفسير. يتكون الكتاب من 12 فصلاً، استهلت الفصل الأول بالحديث عن النبي محمد «صلى الله عليه وسلم »، ثم تحدثت عن بعض أنبياء الله، كأبيهم «إبراهيم »، والصابر «أيوب »، و «يحيى ». وخلال الفصول الأخرى رصدت لمحات من حياة نساء ورجال كانوا نورًا للإنسانية وعلامة للفكر والخلق ويقينًا للإيمان، ومنهم: خديجة بنت خويلد وعمر بن الخطاب وأبوبكر الصديق، ومن الأئمة مالك: وأبوحنيفة النعمان والشافعى وابن حنبل، ومن علماء الأزهر الشريف: عمر مكرم والإمام محمد عبده ومصطفى عبدالرازق والباقورى والشيخ الشعراوى، ومن المفكرين: جوته وبنت الشاطئ، والمقرئين قيثارة السماء الشيخ محمد رفعت، وسلطان التلاوة الشيخ مصطفى إسماعيل. ولم تهمل «البيسى » المواقف المؤثرة في التاريخ، فوقفت عند الفتنة الكبرى، محللة ما نحن عليه اليوم، ومحاولات الإسرائيليات لتشويه صحيح الدين والفكر.
Languageالعربية
PublisherNahdet Misr
Release dateJan 1, 2018
ISBN9789771457190
عالم اليقين

Read more from سناء البيسي

Related to عالم اليقين

Related ebooks

Reviews for عالم اليقين

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    عالم اليقين - سناء البيسي

    الغلاف

    عالم اليقين

    سناء البيسي

    العنوان: عالم اليقين

    تأليف: سناء البيسي

    الإخراج الفني: حسين الشحات

    إشـراف عام: داليا محمد إبراهيم

    جميع الحقوق محفـوظـة © لـدار نهضـة مصـر للنشـر

    يحـظــر طـــبـــع أو نـشـــر أو تصــويـــر أو تخــزيــــن أي جـزء مـن هـذا الكتـاب بأيـة وسيلـة إلكترونية أو ميكانيكية أو بالتصويــر أو خـلاف ذلك إلا بإذن كتابي صـريـح من الناشـر.

    الترقيم الدولـى: 978-977-14-5719-0

    رقــــم الإيـــــداع: 2018/27395

    الطبعة الرابعة: سبتمبر 2019

    Section0002.xhtml

    21 شارع أحمد عرابى- المهندسين - الجــيزة

    تليفـــون: 33466434 - 33472864 02

    فاكـــــس: 33462576 02

    خدمة العملاء: 16766

    Website: www.nahdetmisr.com

    E-mail: publishing@nahdetmisr.com

    مقدمة

    عالم اليقين

    مكثت السنين في قراءة السيرة العطرة وروافدها لما لها من منزلة تسكن القلب وتخاطب العقل، ولأستظل بهديها في تأمل ما حولها من إرهاصات وشخوص وأحداث وأماكن ومواقف ومذاهب وطوائف، وعلى الدوام كان القلم الشغوف يطوف صاحبًا ومصاحبًا يروي وينقل ويشعر ويحس ويسافر ويشاهد يسكنه حب سيد المرسلين ﷺ، ودعاؤه إلى رب العالمين: «اللهم إني أسألك إيمانًا يباشر قلبي، ويقينًا صادقًا حتى أعلم أنه لا يُصيبني إلا ما كُتب لي، ورضًا بما قَسمْت لي» وقوله ﷺ: «إن الله بقسطِه وعدله جعل الروحَ والفرحَ في الرضا واليقين».

    بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ

    عن أم سلمة  أن رسول اللـه ﷺ قرأ: «بسم اللـه الرحمن الرحيم» في أول الفاتحة وعدها آية، وعن ابن عباس : كان رسول اللـه لا يعرف فصل السور حتى ينزل عليه بسم اللـه الرحمن الرحيم، وأن الصحابة  قد أجمعوا على إثباتها في جميع المصاحف في أول السور سوى براءة، وكتبوها بخط المصحف في هيئة كتابته، وفي مداده، ولم يميزوا بين كتاباتها وكتابة المصحف لا في المداد ولا في كيفية الكتابة، ولو لم تكن قرآنًا لما أجازوا إثباتها بخط المصحف من غير تمييز.. ومن هنا لم يكتبوا فيها التعوذ ولا لفظ «آمين» عقب الفاتحة، وقال الإمام الغزالي في «المستصفى»: أظهر الأدلة على أن البسملة من القرآن كتابتها بخط القرآن.. وهناك من يعتبر البسملة قرآنًا مستقلًّا بمثابة سورة قصيرة، وممن ذهب إلى هذا الرأي الرازي وغيره من الحنفية، ويأتي ابن مالك وأبوحنيفة ليقولا إنها ليست قرآنًا في فواتح السور كلها لا في الفاتحة ولا في غيرها، وإنما أُتي بها للتبرك أو للفصل بين السور... وعندما يقول أنس : صليت خلف رسول اللـه وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ بسم اللـه الرحمن الرحيم، وفي رواية أخرى له أنهم عندما كانوا يفتتحون بالحمد للـه رب العالمين لا يذكرون البسملة في أول القراءة ولا في آخرها. فالجواب عنه بأنه عندما لم يسمع فليس فيه إلا نفي السماع وهو لا يستلزم عدم حدوثه مطلقًا لاحتمال الإتيان به سرًّا.. وحول البسملة في سورة النمل في قوله: «إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم»؛ فقد اتفق العلماء قاطبة على أنها جزء من هذه الآية ولا خلاف في هذا بين المسلمين، بينما يختلف العلماء في السبب الذي من أجله لم تذكر البسملة في التلاوة ولا في الكتابة في المصحف في أول سورة «براءة».

    وفي هذا روي عن ابن عباس قوله: سألت عليّ بن أبي طالب: لِمَ لمْ تُكتب البسملة في أول براءة؟ فقال لأن البسملة رحمة، والرحمة أمان، وهذه السورة نزلت في المنافقين ولا أمان للمنافقين.... ولقد كنا صغارًا نردد بأن النمل قد سرق البسملة من براءة..

    وتقسم البسملة إلى أربعة أقسام، أولها «باسم» أي بذكر اسم «الله» الذي ذكر في القرآن الكريم ٢٦٩٦ مرة، وهو الجامع لكل صفات الكمال فهو الله الرحمن، الله الرحيم، الله القادر، الله العالم، الله الحي، ولأنها أطلقت على الله أصبحت اسمًا لله التي أسماها سبحانه «أسماء الله الحسنى»، وقال تعالى في سورة الإسراء: «قل ادعو الله أو ادعوا الرحمن أيًّا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى»، وعن رسول الله ﷺ قوله: «كل أمر ذي بال لا يُبدأ فيه باسم الله الرحمن الرحيم أقطع» وأقطع بمعنى ناقص.

    وحول «الرحمن الرحيم»، من الأسماء الحسنى التي جاءت في البسملة قول جعفر الصادق «عجبت لمن ابتلي بالضُّر ولم يفزع إلى قول الله سبحانه وتعالى: «أنىّ مسني الضُّر وأنت أرحم الراحمين».. فالله يقول له بعدها «فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضُرِّ».. و«الرحمن» هو المُنعم على خلقه بنعمه رحمة منه بهم كالسمع والبصر والرزق والمطر، و«الرحيم» هو الذي يمهل المذنب فلا يعجل بعذابه ويفتح له باب التوبة رحمة به..

    ولما كان الرحمن تعالى قد جعل الرحمة صفة له، ومن ثم لا تنسب الرحم إلا إليه، ونراه قد وصف نفسه بأنه خير الراحمين، ومن هنا فحين يرحم الإنسان أحدًا من خلق الله فإنه يرحمه بالرحمة التي أوجدها الرحمن فيه، ويقول تعالى في الحديث القدسي: «أنا اللـه، وأنا الرحمن، خلقت الرحم، وشققت لها اسمًا من اسمي فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته»، وياأللـه لا تجعلنا أبدًا ممن يقطع صلة الرحم. وقد جاءت الرحمة في القرآن بالعديد من المعاني منها بمعنى (القرآن) في سورة الإسراء «وننزِّل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين»، وبمعنى (المودة والألف) في سورة الحديد «وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة»، وبمعنى (العفو) في سورة الزمر «لا تقنطوا من رحمة اللـه»، وبمعنى (الاستجابة) في سورة مريم «ذكر رحمة ربك عبده زكريا»، وبمعنى (المغفرة) في سورة الأنعام «كتب ربكم على نفسه الرحمة»، وبمعنى (سيد الرسل) في سورة الأنبياء «وما أرسلناك إلاَّ رحمة للعالمين» وفي قول رسول اللـه ﷺ في الحديث الشريف «إنما أنا رحمة مهداة».

    لا عبادة كتفكر

    سمعها منه بصوته ولسانه وفي حضرته فتهلل واستبشر واستأذن قائلها نبي اللـه في أن ينقل بشارتها إلى الناس أجمعين‏..‏ فأذن له خاتم المرسلين‏..

    بشارة حروفها النور وكلماتها النور وهديها النور وطريقها النور ومآلها النور فخاتمتها السلام في جنة ترديدها سلام سلام سلام.. بشارة المصطفى تقول: «من قال لا إله إلا اللـه دخل الجنة».. سمعها أبو هريرة فشق طريق الإبلاغ الحماسي السريع ليعترضه عمر  فيقرأ وجهه ويعرف وجهته، فيأمره ناهرًا ناهيًا قاطعًا مانعًا قاصرًا موجزًا: ارجع.. فيعجب أبو هريرة وهو الذي لم يقترف ذنبًا في أن يبلغ الناس رسالة نبيهم بعد أن أجاز رسول اللـه هذا الإبلاغ فيقطع عمر عليه سبيله مبررًا بعدها المنع بقوله: ارجع.. لا تبلغ الناس حتى لا يتكلوا.. ويلحق الناهي بالمنتهى الشاكي لدى رسول اللـه الذي سأل عمر عن السبب فيما رآه وفعله، فقال ابن الخطاب: واللـه لقد خفت يا رسول اللـه أن يتكل الناس.. أي يتكلون على ظاهر اللفظ ولا يعملون.. أي أن يرددوا القول الكريم ليس إلا، وذلك من بعد ما يخطئون، وبعدها يتمادون في غيهم متكلين على القول الموحد باللـه.. فوافق الرسول عمر على رأيه وأشار من فوره على أبي هريرة بعدم التبليغ قائلًا: فخلهم يعملون.. وهنا لم يكن الإذن من الرسول لأبي هريرة بوحي منزل، وكان عمر يعلم ذلك، ولو كان بوحي لما رجع الرسول عن رأيه ونزل على رأي عمر. فمن الأحداث ما كان عن وحي وتعليم من اللـه لرسوله، ومن الأحاديث ما لم يكن عن وحي وإنما عن تفكير واجتهاد من الرسول، وكثير من الأحاديث التي مرت بالرسول، ومن تصرفات الصحابة معه ومراجعتهم له، وسؤالهم إياه: أهذا عن وحي أم عن رأي؟ ورده عليهم أحيانًا بأنه عن رأي، ومن هنا وجدوا لذلك فرصة للإدلاء بآرائهم معدلين رأيه أحيانًا، ومخالفين أحيانًا كما حصل مثلًا في صلح غطفان، وفي غزوة الأحزاب، وفي الخروج لغزوة أحد.. تلك الوقائع وغيرها تدل دلالة قاطعة على أن جزءًا مما كان يقوله المصطفى كان عن رأي واجتهاد منه، ولو كانت وحيًا لما ساغ للصحابة أن يبدوا آراءهم، وقد روى الإمام أحمد بن حنبل أن رسول اللـه قال: «إذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم بعيد، فأنا أبعدكم عنه»، وأيضًا قوله عليه الصلاة والسلام: «إذا أمرتكم بأمر من أمور دنياكم فأنتم أعلم به وأنتم أعلم بشئون دنياكم»، وفي رواية: «وما قلت فيه من قبل نفسي فإنما أنا بشر أخطئ وأصيب»، وقد قال هذا لما ظهر له ولأصحابه أن عملهم بمشورته في عدم تأبير النخل بوضع طلع الذكور فيه كان غير سليم مما عاد بنتائج ضارة على النخيل حيث لم تأت بثمارها ذلك العام، ولو كان الوحي من خلف هذا الرأي لقام بتنبيهه فيه، ولنزل الوحي يصحح له مشورته على أصحابه في الحال. وقد استمرت التجربة عامًا كاملًا حتى أثبتت عدم جدواها.. وهنا فلقد وضع الرسول بذلك أمام المسلمين قاعدة عامة فيما يأخذونه عنه ويعتبر قضية مسلمًا بها لا يناقشون فيها لأنه من صميم اختصاصه الإلهي، وفيما هو من اختصاصهم أن يفكروا فيه ويقبلوا أو يناقشوا ويردوا، بل ربما يعملون بغيره.. ومن هنا وبناء على القاعدة التي وضعها الرسول نفسه وجربها الصحابة معه في حياته علينا أن نناقش كل قول صدر عنه في شئون الدنيا: في طب أو زراعة أو خطة حرب أو ما شابه ذلك من أمور الدنيا، فنقبل منها ما يتفق والعقل والنقل والعلم التجريبي، ونتوقف في كل ما لا يتفق مع ذلك، ولا غضاضة على رسول اللـه لأنه ليس مرسلًا لتعليم الناس أمور الزراعة أو الطب أو ما شابه، فتلك من أمور الحياة، وهو إذا ما تحدث في أمر من ذلك فهو كالناس بشر مثلهم قد يصيب ويخطئ، وقد يكون هو أولى بالعمل به من رأيه، كما حدث في غزوة بدر من أخذه بمشورة الحباب بن المنذر لموقع جيشه.

    وفي الرجوع إلى كتاب «السُّنة والتشريع» للعالم الراحل الدكتور الشيخ عبدالمنعم النمر نجده يقول: «لقد عاش الرسول قبل بعثته أربعين عامًا كأي رجل من العرب يتكلم ويستفيد مما حوله، ويكتسب علمًا وخبرة من الحياة كرجل اجتاز مراحل حياته طفلًا وصبيًّا وشابًّا ورجلًا ككل واحد من أقرانه من أبناء مكة والجزيرة يجتاز هذه المراحل، ومن الضروري أنه استفاد مما يتناقله الناس حوله عن الطب وتجارب كل واحد فيه.. فلا يعقل أن يعيش النبي أربعين سنة في مكة وهو لا يعرف شيئًا عن تجارب العرب ووصفاتهم للعلاج المنتزعة من ظروف البيئة.. ولا شك أنه كان يصف للمرضي ما عرفه وسمعه من شئون التطبيب.. فإذا لم تكن عنده معرفة سابقة بعلاج مرض من الأمراض، حوَّل المريض إلى من يعرف عنده معلومات ومهارة أكثر، كما أشار على صاحبه سعد بن أبي وقاص بالذهاب إلى الحارث بن كلدة من ثقيف وكان مشهورًا بأنه طبيب العرب وهو في ذلك يطبق الآية الكريمة «فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون»، ولو كان وصفه الدواء بناء على وحي من اللـه لأمره اللـه العليم الخبير بعلاج أعلى مستوى مما كان يعرفه العرب لتكون للرسول ميزة محسوسة عن غيره في علاج الناس.. ويروى عن عائشة  قولها: إن رسول اللـه كان رجلًا مسقامًا، وكان أطباء العرب يأتون فأتعلم منهم. وعنها  عن مرضه بالخاصرة (التهاب الكلى) وربما (حصوة الكلية) التي تؤدي إلى فشل كلوي قولها: وكثيرًا ما كانت الخاصرة تصيب رسول اللـه وقد تأخذ منه شهرًا في السنة حتى يستطيع أن يخرج إلى الناس. ولقد رأيته يكرب حتى آخذ بيده أقرأ فيها القرآن ثم أكبها على وجهه ألتمس بذلك بركة القرآن وبركة يده فأقول: يا رسول اللـه إنك مجاب الدعوة، فادع اللـه يفرج عنك ما أنت فيه. فيقول: «يا عائشة أنا أشد الناس بلاء»... لقد أراد اللـه لرسوله ما قاله له في قرآنه الكريم: «قل إنما أنا بشر مثلكم».. أي لا يريد له أن يكون متميزًا عنهم بوحي في شئون حياتهم الدنيوية، إنما الوحي فقط في صلته بالخالق ورسالته السماوية المكلف بتبليغها، وما يتصل بهذا التكليف من أمور الدين والدنيا.

    وقد يحدث الخطأ أيضًا في فهم كلمات خاتم الأنبياء وذلك كما روى أبو داود عن عوف ابن مالك في قوله: كنا عند رسول اللـه وكنا حديثي العهد ببيعته فسأله أحدنا: يا رسول اللـه إنا قد بايعناك، فعلى ماذا نبايعك؟ قال: «أن تعبدوا اللـه ولا تشركوا به شيئًا، وتصلوا الصلوات الخمس وتسمعوا وتطيعوا ولا تسألوا الناس شيئًا». وكان أبوحمزة الخراساني من كبار العباد، فخرج حاجًّا من الشام يريد مكة، فبينما يمشى في طريقه إذ سقط في بئر على حافة الطريق، وما إن بلغ في سقوطه قاع البئر حتى وقع في حيرة مع نفسه: أأستغيث لعل أحدًا يسمعني أو إن الذي عاهدته يراني ويسمعني، فواللـه ما تكلمت بحرف استغاثة للبشر، ومر نفر من الناس فسدوا البئر بالخشب والتراب، فلما رأى ذلك السد لفتحة البئر قال أبوحمزة لنفسه: هذه مهلكة.. ثم أراد أن يستغيث، ولكنه رجع إلى نفسه قائلًا: أليس قد عاهدت.. فسكت وتوكل!!.. وفي هذا قال أبوالفرج الجوزي: سكوت هذا الرجل في هذا المقام لا يحل.. ولو فهم معنى التوكل لعلم أنه لا ينافي استغاثته.. كما لم يخرج رسول اللـه من التوكل بإخفائه الخروج من مكة واستئجاره دليلًا، وتستره في الغار وقوله لسراقة: اخف عنا.. فالتوكل الممدوح لا يناله الإنسان بفعل محظور، وسكوت هذا الواقع في البئر أبي حمزة محظور عليه.. وبيان ذلك أن اللـه تعالى قد خلق للآدمي آلة يدفع عنه بها الضرر وهي نفسها الآلة التي يجتلب بها النفع، وهي العقل.. فإذا عطلها مدعيًا التوكل كان ذلك جهلًا بالتوكل، ولو أن شخصًا جاع فلم يسأل حتى مات من الجوع فبئس المصير، قاله سفيان الثوري وغيره، لأنه قد دُلَّ على طريق السلامة، فإذا تقاعد عنها ألقى بنفسه في التهلكة.. وهكذا يفهم البعض الأقوال التي جاء بها الإسلام الفهم الخاطئ، بينما يحملون في رءوسهم العقول التي تزن الصواب والخطأ.

    تلك الآلة التي خلقها اللـه للآدمي دون مخلوقاته جمعاء حتى الملائكة؛ هي العقل، ولقد جاء في القرآن الكريم كيف أمر اللـه تعالى الملائكة بالسجود لآدم أبي البشر، والسبب أنه سبحانه قد ميز البشر ممثلًا في آدم بتعليمه الأسماء ولم يعلم الملائكة.. فالعلم بأسماء الأشياء وخصائصها فيما خلق اللـه هو ميزة الإنسان على كل المخلوقات بما فيها الملائكة.. والتفكر في الخلق يؤدي إلى طلب العلم، ويقول المصطفى: وهل ينفع القرآن إلا بالعلم بل جاء في سورة العلق: «اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علَّم بالقلم، علَّم الإنسان ما لم يعلم». فالعلم في كتاب اللـه هو من كـلام اللـه المبين، ويقول تعالى: «يرفع اللـه الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات»، والعلم في خلق السماوات وما فيها من نجوم ذكرها اللـه في سورة الواقعة «فلا أقسم بمواقع النجوم، وإنه لقسم لو تعلمون عظيم» وأدى ذلك إلى علم الفلك، وخلق الأرض أدى إلى علم طبقات الأرض (الجيولوجيا)، وخلق ما على الأرض من إنسان وحيوان أدى إلى علم الأحياء، وهكذا العلم في كل نواحيه، ولقد أشاد اللـه سبحانه بالعلم والعلماء والعقل البشري في الحديث القدسي «ما خلقت خلقًا أعجب إلي منك». وعن عائشة قولها: قلت يا رسول اللـه بم يتفاضل الناس في الدنيا؟ قال: بالعقل، قالت: وفي الآخرة؟ قال: بالعقل، قالت: أليس إنما يجزون بأعمالهم؟ قال: يا عائشة وهل عملوا إلا بقدر ما أعطاهم عز وجل من العقل؟ فبقدر ما أعطوا من العقل كانت أعمالهم، وبقدر ما عملوا يجزون.. والإسلام الصحيح يقوم على أساسين هما الدين والدنيا، والدين هو العقيدة والدنيا هي الفكر.. والفكر حرية الحركة للآلة المفكرة عند الإنسان وهي العقل، ورسول الإسلام ﷺ كان نموذجًا لحرية الفكر، سواء فيما جاءت به الجاهلية التي يحاربها، أو الخصوم الذين حاربوه، أو أي إنسان أو جهة يأتي منها النفع والمصلحة.. وقد جاء أيضًا في كتاب السنة والتشريع هذه العبارة عن أصحاب النبي: وكانوا يراجعونه أحيانًا ويبدون رأيًا آخر، وكان عليه الصلاة والسلام يتقبل بصدر رحب هذا الرأي الآخر ويأخذ به، لأن هدفه المصلحة لا التسلط... «لست عليهم بمسيطر»..

    ولقد كان عمر بن الخطاب جريئًا حين يرى الرأي ويعتقد أنه الحق، فلا يتردد في أن يعترض على النبي نفسه، كما فعل عام الحديبية حين أنكر صلح النبي مع قريش قائلًا للنبي بصراحة بالغة: لِمَ نعط الدنية في ديننا؟ وربما دفعته هذه الصراحة إلى أن يدخل في أشياء لم يدخل فيها غيره من أصحاب رسول اللـه، فهو يتمنى أن تحرم الخمر وقد كان فيما زعم الرواة صاحب خمر في الجاهلية، ولكنه بعد إسلامه عرف ضرر الخمر فتمنى أن تحرم، وما زال يجهر بهذا الذي كان يتمناه حتى إذا نهى اللـه المسلمين عن أن يقربوا الصلاة وهم سكارى حتى يعلموا ما يقولون رضي عمر شيئًا، ولكن رضاه لم يبلغ الإقناع، فظل يتمنى جهرًا أن تحرم الخمر تحريمًا قاطعًا، فلما أنزل اللـه قوله الكريم في سورة المائدة: «يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون».. طابت نفس عمر، وكان يتمنى فيما بينه وبين نفسه أن تحتجب نساء النبي، بل كلم النبي نفسه في ذلك، واشتد في هذا الأمر حتى قالوا إنه تعرض مرة لسودة أم المؤمنين في طريقها وقال لها: لقد عرفناك يا سودة. فأحرجها وأحفظها، ولم يسترح حتى أنزل اللـه في سورة الأحزاب: «يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا. وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى».. هنا رضي عمر حين وضع اللـه نساء النبي حيث ينبغي أن يوضعن في منزلة الإجلال.. إلا أنه عندما راجعته امرأته في بعض أمره فأغضبه ذلك وقام بزجرها فقالت له: ويحك إنك لتأبى عليَّ أن أراجعك، وإن ابنتك وغيرها من أزواج النبي عليه الصلاة والسلام ليراجعن رسول اللـه حتى يغضبنه، فأسرع عمر إلى ابنته حفصة أم المؤمنين ليسألها: أفي الحق أنكن تراجعن نبي اللـه؟ قالت: أجل واللـه إنا لنراجعه.. فقام عمر بوعظها ما استطاع، ثم استأذن على أم سلمة أم المؤمنين وكانت بينه وبينها قرابة من ناحية أمه، فسألها في ذلك، فقالت: للـه أنت يابن الخطاب.. دخلت في كل شيء تريد أن تدخل بين النبي وأزواجه.. فأسكتته، وانصرف عمر خجلًا.. ومن قبل ذلك كله وقف عمر موقفًا طابقه القرآن عليه، وذلك في أعقاب غزوة بدر حين شاوره النبي في أمر الأسرى، فأشار عمر بقتلهم، وأشار أبوبكر بالفداء، وأنزل اللـه في سورة الأنفال لومه للنبي والمسلمين في قبول الفداء، وليس غريبًا أن يتحدث الرواة بأن رسول اللـه قال: إن الحق على لسان عمر وقلبه، وليس غريبًا أن يلقب عمر بالفاروق لأنه فرق بين الحق والباطل، ولم يكن عمر أيام أبي بكر أقل صراحة منه أيام نبي اللـه فقد راجع أبا بكر في أمر خالد بن الوليد حين قتل مالك بن نويرة وتزوج امرأته، وظل عمر يلح في عزله لأن في سيفه رهقًا، وبعد وفاة أبي بكر وتوليه الأمر قام على الفور بعزل خالد.

    وحول موضوع الإسراء الذي جاء ذكره في القرآن الكريم في سورة الإسراء: «سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا، إنه هو السميع البصير».. كان موقف عمر عندما سمع بالخبر، استبعاد الانتقال بالجسد لمخالفته للعقل، فلما أكده له أبوبكر غيّر موقفه في الحال، وترك العقل إلى النقل، لأن العقل قد يخطئ، ولكن الإيمان هو العقيدة الثابتة، وإيمان أبي بكر هنا، يستند إلى المعجزة وهي التي تخرج عن نطاق القوانين الوضعية والعقلية.. جدال الدين والعلم، وهل كان الإسراء بالجسد أم بالروح.. ولقد ظل الخلاف موجودًا في هذا الأمر.. آراء تبسط عارضة كل احتمال في معرفة واسعة بهدوء جميل، وكأن الدين والعلم حمامتان تتناجيان فوق غصن واحد في ظل شجرة مباركة.. نموذج للمناقشة والحوار بين قوم يعقلون، وجادلهم بالتي هي أحسن، والمعروف أن عمر أحيا سنة صلاة التراويح في رمضان وإقامة الحد عن شرب الخمر، وكان أول من أخذ الدِّرة هِراوة يؤدب بها الناس إن جاروا عن القصد قليلًا أو كثيرًا، لا يفرق في ذلك بين كبار الصحابة وغيرهم من الناس.. وقد ضرب سعد بن أبي وقاص بالدرة حين جلس عمر يومًا يقسم بين المسلمين مالًا، فأقبل سعد وجعل يزاحم الناس حتى وصل إليه فعلاه عمر بالدرة قائلًا: إنك أقبلت لا تهاب سلطان اللـه في الأرض فأردت أن أعلمك أن سلطان اللـه لن يهابك.. وأعطى عمر الدرة للقبطي وقال له اضرب بها صلعة هذا الرجل عمرو بن العاص لأنه لولاه لما كان ابنه قد اجترأ عليك وقال لك أنا ابن الأكرمين.

    ومن أجل جرأة عمر وشدته في الحق ومطابقة القرآن لرأيه في أكثر من موطن، كان النبي ﷺ يؤثره عنده ويظهر له من ذلك ما كان يقر عينه ويملأ قلبه بالرضا، حتى إنه عندما استأذن النبي مرة في العمرة وقال: إني أريد المشي فأذن له النبي قائلًا: أشركنا يا أخي في صالح دعائك ولا تنسنا فكان عمر يقول لقد قال الرسول لي كلمة تعادل لدي الدنيا وما فيها.. وفي الحديث الشريف قول رسول اللـه: «واتقوا غضب عمر فإن اللـه يغضب لغضبه».. وفي رواية قوله: «إن الشيطان يفر من حس عمر».. وهناك موقفه من رسول اللـه حين مات عبداللـه ابن سلول وجاء ابنه يسأل النبي أن يصلي عليه، فأجابه النبي إلى ما أراد، وإذا عمر يغضب ويراجع النبي في ذلك ويجادله بالقرآن ذاكرًا قوله تعالى في سورة براءة: «استغفر لهم أولا تستغفر لهم إن تستغفر سبعين مرة فلن يغفر اللـه لهم ذلك بأنهم كفروا باللـه ورسوله واللـه لا يهدى القوم الفاسقين»، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام يرده إلى الهدوء قائلًا: إن ربي خيرني فاخترت.. ثم يصلي على ابن سلول.. لكن الوحي لا يلبث أن يطابق رأي عمر، فينزل اللـه في السورة نفسها هذه الآية الكريمة موجهة إلى النبي تقول: «ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره إنهم كفروا باللـه ورسوله وماتوا وهم فاسقون».. وفي موضع آخر بعد غزوة حنين قسم النبي ﷺ الفيء فأعطي المؤلفة قلوبهم من قريش ومن غيرها فأجزل في العطاء، فقام إليه رجل قائلًا: اعدل يا محمد، فإنك لم تعدل، فظهر الغضب في وجه النبي وقال للرجل: ويحك! فمن يعدل إذا لم أعدل؟!.. وهنا استأذن عمر النبي في قتل هذا الرجل، فأبى عليه الصلاة والسلام.. ومن هنا كان عمر أيام النبي ﷺ مزاجه الشدة التي كان النبي يكفكفها ويخفف منها إلى جانب الرحمة التي يؤثرها الرسول ويشجع عمر عليها بالقول حينًا، وبالابتسام حينًا آخر، ومن غير المعروف أن عمر بن الخطاب قد بكى أثناء جاهليته، ولكنا نعرف أنه كان سريعًا إلى البكاء بل النشيج في أكثر الأحيان بعد أن أسلم.. لقد كان كغيره من المؤمنين يمتلئ قلبه وجلًا وخوفًا إذا ذكر اللـه كما جاء في الآية الكريمة من سورة الأنفال «إنما المؤمنون الذين إذا ذكر اللـه وجلت قلوبهم وإذا تُلِيَت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون».. وإذا ما كان النبي يريد رد المقام في المسجد الحرام إلى مكانه الآن، وكان قبل ذلك ملصقًا بالبيت لكنه رأى أن قريشًا حديثة عهد بالإسلام فلم يفعل إلا أن عمر قام بما أراده النبي، وقد وسَّع عمر مسجد النبي ﷺ لما كثر الناس في المدينة وغطى أرضه بالحصى ليكون ذلك أرفق بالناس، وكان المسلمون إذا فرغوا من صلاتهم نفضوا أيديهم المتسخة وأزالوا التراب عن جباههم بشق الأنفس... وأنشأ نظام القضاء وعممه في الأمصار، ولم يجعل للمدينة قاضيًا، وإنما كان هو الذي يقضى في شئون المختصمين، وكان إذا جاءه الخصمان برك على ركبتيه وقال: اللـهم أعني عليهما فإن كـلا منهما يردني عن ديني.. وكان عمر إذا عرضت له المشكلة نظر في كتاب اللـه، فإذا وجد حلًّا قضى به غير متردد، وإن لم يجد في كتاب اللـه نظر في سنة رسوله، فإن وجد فيها الحل قضى به غير متردد أيضًا، وإن لم يجد اجتهد رأيه وقضى بما فيه مصلحة للمسلمين، وكان كثيرًا ما يستشير أصحاب الرسول عسى أن يكون عند بعضهم حديث من سنة النبي، وقد هم عمر أن يكتب السنة فاستخار اللـه في ذلك شهرًا ثم عدل عنه قائلًا: ذكرت قومًا كتبوا كتابًا فأقبلوا عليه ونسوا كتاب اللـه.. وهكذا عندما وجد الصحابة في بعض الأحكام أن ظروفها قد تغيرت في زمانهم عن الظروف التي كانت أيام الرسول والتي أصدر حكمه في ظلها، فغيروا الحكم أو أتوا بحكم آخر يناسب الظروف في أيامهم ويحقق للناس مصالحهم، وكان منطقهم في هذا: إن هذه الظروف الجديدة التي نراها، لو كانت في أيام الرسول لحكم بالحكم نفسه الذي نحكم به الآن تحقيقًا لمصالح الناس.. وقد قال ابن القيم: ومن أفتى الناس بمجرد المنقول من الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل..

    وصدق عليه الصلاة والسلام عندما قال لا عبادة كتفكر.. وإن الفكر والمفكرين أشياء لا تنبت إلا في جو الحرية، وتطبيقًا لما جاء به الإسلام الحق في قوله تعالى «وجادلهم بالتي هي أحسن»، وهذا الجدل أي الحوار وحده يلغى المبرر لوجود الإرهاب والتعصب، فإن وضع الكمامة على الفم يؤدى إلى التحرك باليد والإمساك بالخناق واستخدام الأرجل في غير موقعها!!

    الفصل الأول

    محمد ﷺ

    محمد ﷺ

    وضم الإله اسم النبي إلى اسمه

    إذا قال في الخمْس المؤذن أشهد

    وشق له من اسمه ليجلَّه

    فذو العرش محمودٌ وهذا محمدُ

    أشهد أن لا إله إلا اللـه وأن محمدًا رسول اللـه.. رُفع ذكره ﷺ في الدنيا والآخرة، فليس من خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا ينادي بها.. رُفع اسمه مقرونًا باسم اللـه كلما تحركت به الشفاه، وليس بعد هذا رفع وليس وراء هذا منزلة، وهو المقام الذي تفرد به ﷺ دون سائر العالمين.. وفيما جاء في فضل الصلاة على رسول اللـه ﷺ «عن أبي طلحة أن رسول اللـه ﷺ جاء ذات يوم والبِشْر في وجهه فقلنا إنا لنرى البشر في وجهك يا رسول اللـه قال: إنه أتاني الملك فقال: يا محمد إن ربك يقول: أما يرضيك أن لا يصلي عليك أحد إلا صليت عليه عشرًا، ولا يسلم عليك أحد إلا سلمت عليه عشرًا»، وعن ابن مسعود أن الرسول ﷺ قال: «أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليَّ صلاة»، وهناك قرابة الأربعين حديثًا نبويًّا في فضل الصلاة على رسول اللـه ﷺ منها عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللـه ﷺ: «من صلى عليَّ صلت عليه الملائكة، ومن صلت عليه الملائكة صلى اللـه عليه، ومن صلى اللـه عليه لم يبق شيء في السماوات ولا الأرض إلا صلى عليه»، وقوله عليه الصلاة والسلام: «أقربكم مني مجلسًا أكثركم عليَّ صلاة»، وقوله عليه الصلاة والسلام: «الدعاء بعد الصلاة عليَّ لا يُرد»، وقوله عليه الصلاة والسلام: «الصلاة عليَّ نور على الصراط»، وقوله عليه الصلاة والسلام: «إن اللـه تعالى وكَّلَ بقبري ملكًا أعطاه أسماء الخلائق كلها فلا يصلي عليَّ أحد إلى يوم القيامة إلا بلغني اسمه وقال يا رسول اللـه: إن فلانًا صلى عليك»، وقوله عليه الصلاة والسلام: «ما اجتمع قوم في مجلس ولم يصل عليَّ فيه إلا تفرقوا كقوم تفرقوا عن ميت ولم يغسلوه»، وقوله عليه الصلاة والسلام: «إنّ للـه ملائكة بأيديهم صحائف من نور، لا يكتبون إلا الصلاة عليَّ وعلى أهل بيتي».وقوله عليه الصلاة والسلام: «من صلى عليَّ في يوم مائة مرة قُضيت له في يومه مائة حاجة»، وقوله عليه الصلاة والسلام: «إن للـه ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني الصلاة عليَّ من أمتي فأستغفر لهم»، وقوله عليه الصلاة والسلام: «من صلى عليَّ كنت شفيعه يوم القيامة»، وقوله عليه الصلاة والسلام: «من صلى عليّ صلاة واحدة أَمر اللـه حافظيه أن لا يكتبا عليه ذنبًا ثلاثة أيام».. وعن عائشة رضي اللـه عنها قالت: «من صلى على رسول اللـه عشر مرات وصلى ركعتين، ودعا اللـه تعالى، تُقبل صلاته، وتُقضى حاجته، ودعاؤه مقبول غير مردود».

    وعن زيد بن حارثة قال: سألت رسول اللـه ﷺ عن الصلاة عليه فقال: «صلوا عليَّ واجتهدوا في الدعاء وقولوا اللـهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد»، وعن أبي هريرة قال: قال رسول اللـه ﷺ: «صلوا عليَّ فإن صلاتكم عليَّ زكاة لكم واسألوا اللـه لي الوسيلة»، وعن سهل بن سعد الساعدي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال «لا صلاة لمن لم يصل على نبيه»، وعن أبي هريرة عن النبي ﷺ قوله: «لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم»، وعن أبي هريرة عن رسول اللـه ﷺ قوله «ما من أحد يُصلي عليَّ إلا رد اللـه عليّ روحي حتى أردَّ عليه»، وقوله عليه الصلاة والسلام: «أقربكم مني منزلًا يوم القيامة أكثركم عليَّ صلاة»..

    اللـهم صل على سيد المرسلين وخاتم النبيين ورسول العالمين الذي أُنزل عليه في الكتاب العزيز تعظيمًا له وتوقيرًا «يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا، ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى اللـه بإذنه وسراجًا منيرًا. وبشر المؤمنين بأن لهم من اللـه فضلًا كبيرًا» (سورة الأحزاب)، وهو خطاب خاص لم يخاطب اللـه به أحدًا من المرسلين ولا من الأنبياء ولا رسولًا بالرسالة، إلا سيد خلقه محمدًا ﷺ، فإن اللـه تعالى نادى أبا البشر: «يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة»، و«يا نوح اهبط بسلام منا»، و«يا إبراهيم أعرض عن هذا»، و«يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض»، و«يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك».. وقال لمحمد ﷺ: «يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك»، و«يا أيها الرسول لا يحزنك»، و«يا أيها النبي حسبك اللـه». «يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال»، و«يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين»، و«يا أيها النبي إذا طلقتم النساء»، و«يا أيها النبي لمَ تحرم»، و«يا أيها النبي اتق اللـه»، و«يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وداعيًا إلى اللـه بإذنه وسراجًا منيرًا»..

    رسول اللـه إلى الخلق أجمعين مَن قالت عنه السيدة عائشة : «كان قرآنًا يمشي على الأرض».. كان في قوله ﷺ لمعاذ بن جبل ما يُنزل على القلوب أمنًا وسلامًا واستبشارًا بالغد.. ففي حديث أنس بن مالك أن النبي ﷺ ومعاذ رديفُهُ عَلَى الرَّحْلِ، قال: «يا معاذ بن جبل» قال: لبيك يا رسول اللـه وسعديك (ثلاثًا)، قال: «ما من أحد يشهد أن لا إله إلاَّ اللـه، وأن محمدًا رسول اللـه صادقًا من قلبه إلاَّ حرمه اللـه على النار»، قال: يا رسول اللـه أفلا أخبرُ بها الناس، فيستبشروا؟ قال: «إذن يتَّكلوا» أي حتى لا يتكلوا عليها فأخبر بها معاذ عند موته تأثمًا أي تجنبًا عن الإثم إن كتم وهنيئًا لنا أن معاذًا لم يكتمها، ونشهد أن لا إله إلا اللـه وأن محمدًا رسول اللـه.. اللـهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.

    Section0007.xhtml

    الأسوة الحسنة

    يا حبيبي يا رسول الله، يا من قلت في حديثك الشريف إن الزمان سيأتي بزمان يصبح المسلم اللائذ بدينه فيه كمن يقبض بيده على جمرة من نار‏..‏ هل هذا زماننا يا نبي الله الذي ندافع فيه ضد من يجترئ على مقامك؟‏!..‏ ضد من يتطاول على سيد المرسلين ورحمة العالمين؟!‏..‏ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون‏..‏ يا أحب خلق الله على الله، يا من كُتب اسمه على عرش الرحمن،‏ وجاء وصفه في التوراة وأودعت صفاته في الإنجيل‏..‏ إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا‏..‏ يا سيد أهل الأرض‏..‏ من أنا التي تزور الأراضي المقدسة ولا ترِدُ ساحتك لتنال نفحة من رضاك‏..‏ لا كنت ولا كان لي طريق فأنت القائل‏:‏ «من لم يزرني فقد جفاني»..‏ طرت إليك‏..‏ للمدينة المنوَّرة أرتوي بحرمك النبوي..‏ أصلي وأسلم فأشرف الخلق يرد السلام:‏ «ما من أحد يسلم عليَّ إلا رد الله عليَّ روحي حتى أرد عليه السلام»‏..‏ يا شفيعي شفاعة‏.‏ يا حبيب الله ضارعة للمغفرة وأنت الرسول قد استغفرت للجميع‏..‏ في حضرتك أهمس‏.‏ أغض البصر في مقام الهيبة كما أوصانا صديقك الصدِّيق بألا ينبغي رفع الصوت على نبي حيًّا أو ميتًا‏،‏ ويلزم الأدب في الوقوف والخشوع والسلام‏،‏ كما كان يفعل بين يدي النبي حيًّا تأدبًا لمن يحييه ربه ليرد السلام‏،‏ وهو الذي قال عنه ربه «يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون»‏..‏ أصلي وأسلم وأخشع وأتأدب فكيف بالله يعلو الصوت وفي العيون مثوى محمد المختار أشرف الخلق سيد الورى..‏ النور المبين الأمين الأسوة الحسنة‏..‏ إذا ما كان في الرحاب علو يأتي فليس يا صاحب الإحسان سوى ارتفاع جيشان الدموع‏،‏ ولولا أن الموت حق‏،‏ ولولا أنك نهيت عن البكاء لأنفدنا عليك ماء المقلتين‏..‏ يا من أنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضله عليك عظيمًا‏..‏ الأنبياء يصلون بين يدي الله تعالى حتى ينفخ في الصور‏.‏ الأنبياء يصلون ويحجون ويلبون‏،‏ وقد سئل كيف يصلون ويلبون وهم أموات في الدار الآخرة وليست دار عمل‏،‏ فأتى الجواب أنهم كالشهداء‏،‏ بل أفضل منهم‏،‏ والشهداء عند ربهم يرزقون‏..‏ يا سيد المرسلين جاوز الظالمون المدى..‏ صدمة الإسلاموفوبيا قد استصرخت حبك في قلوبنا‏.‏ فجرت ينابيع قدرك عندنا‏.‏ أشعلت جذوة الذود عن مقامك بيننا‏..‏ جمعتنا‏.‏ حركت محبتنا تجاهك‏،‏ وكيف لا ننسى أحقادنا وصراعنا وشعثنا وننفض كسلنا للدفاع عن صورتك الحقيقية في قلوبنا؟

    لقد حدثتنا بأن إسلامنا يعلمنا العدالة والموضوعية في النظر إلى الآخرين‏،‏ ولهذا فواجبنا تقديم حقائق الإسلام لشعوب الغرب ضحية الثقافة المغشوشة‏،‏ والفكر العنصري، والزيف الإعلامي الذي يغترف في عدائه للإسلام وتزييفه لحقيقته من مخزون الذاكرة الصليبية القديمة‏،‏ لهذا وجب على المسلمين الاهتمام بتقديم حقيقة الإسلام لإنسان الغرب‏..‏ وجب الدفاع عن الرسول النبي بمعرفة الرسول الإنسان‏..‏ الذي قال فيه ربه‏:‏ «طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى» الذي جاءه المولى القدير بالنصر الكبير‏:‏ «إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا»‏..‏ الرسول النبي الذي اكتفى أن يقول ما هبط به الوحي ردًّا على من أنكروا رسالته‏:‏ «ويقول الذين كفروا لست مرسلًا قل كفى بالله شهيدًا بينى وبينكم ومن عنده علم الكتاب»‏..‏

    محمد ﷺ الذي دعا إبراهيم الخليل ربه أن يرسله إلى أبنائه من بعده‏:‏ «ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم»‏..‏ الداعي بالحق للحق‏..‏ السراج المنير الذي سأله علي بن أبي طالب  عن سنته فقال‏:‏ «المعرفة رأس مالي والعقل أصل ديني، والحب أساسي والشوق مركبي، وذكر الله أنيسي، والثقة كنزي، والعجز فخري، والزهد حرفتي، واليقين قوتي، والصدق شفيعي، والطاعة حسبي، والجهاد خلقي، وقرة عيني الصلاة، وثمرة فؤادي في ذكره، وغمي لأجل أمتي، وشوقي إلى ربي»‏..‏ المصطفى من سئلت السيدة عائشة عن خلقه فقالت‏:‏ «كان خلقه القرآن»‏..‏ قول الحق الخالد «وإنك لعلى خلق عظيم» تقول عنه عائشة‏:‏ «كان فراش رسول الله ﷺ في بيته مسحًا نثنيه ثنيتين فينام عليه»‏.‏ فلما ثنيناه ليلة بأربع استيقظ في الصباح فقال‏:‏ «ماذا فرشتم لي؟ فذكرنا له ذلك فقال‏:‏ ردوه بحاله فإن وطأته منعتني الليلة صلاتي»..‏ أكرم البشر على ربه الرسول الإنسان يصفه ابن أبي هالة ابن السيدة خديجة قبل زواجها من رسول الله بقوله‏:‏ «خافض الطرف‏.‏ نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء‏..‏ يبدأ من يلقاه بالسلام‏،‏ متواصل الحزن‏،‏ دائم الفكرة‏،‏ ليست له راحة‏،‏ ولا يتكلم في غير حاجة»‏..‏

    كلماته لا تهين أحدًا ولا تجافي إنسانًا‏.‏ يعظم أمر النعمة ولا يذم أي شيء يذوقه ولا يمدحه حتى لا يقال عنه إنه يفضل طعامًا عن آخر؛ فكل رزق من الله يستحق التعظيم‏..‏ لا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها‏..‏ إذا تحدث أتم الكلمات حتى يفهمها من أمامه‏..‏ وكان لا يمل التأمل‏..‏ وليست له عادات مميزة تكون ضعفًا له‏..‏ ولا ينطق إلا في حق‏..‏ كلماته موجزة لا زيادة فيها ولا نقصان‏..‏ ويسأل الحسين  والده عليَّ بن أبي طالب‏:‏ كيف كان دخول رسول الله إلى أي مكان؟‏!‏ وتأتي إجابة عليَّ بن أبي طالب‏:‏ كان دخوله لنفسه مأذونًا له‏..‏ بما معناه أنه إذا دخل مكانًا فإن ما بداخل المكان يتكشف له قبل الدخول‏،‏ فلا يدخل إلا إذا كان من بداخل المكان على استعداد للقاء من هو أحب إليهم من أنفسهم‏..‏ محمد أعرب العرب، مَن أوتي جوامع الكَلِم الذي قال: «أنا قرشي واسترضعت في بني سعد بن بكر» له من اللسان العربي أفصحه بالنشأة القرشية البدوية‏..‏ وخير من وصف جمال فصاحته في نطقه وكلامه السيدة عائشة حين قالت‏:‏ «ما كان رسول الله ﷺ يسرد كسردكم‏،‏ ولكن كان يتكلم بكلام بيِّن فصل‏،‏ يحفظه من جلس إليه‏». الرسول الكريم من نعرفه بالوصف خيرًا من معرفتنا لبعض المخلدين بصورهم وتماثيلهم التي نقلت عنهم نقل المطابقة الظاهرة إلا أنها لا تحفظهم لنا كما حفظت الروايات المتواترة أوصاف النبي في كل حالة من حالاته وكل لمحة من لمحاته‏،‏ وخلاصة المحفوظ أن الرسول ﷺ كان نعم المسمى بـالمختار، إذا نظر إليه الناظر رأى رجلًا أزهر اللون‏،‏ عظيم الهامة‏،‏ واسع الجبين‏،‏ سبط الشعر‏،‏ أزج الحاجبين بينهما عرق يدره الغضب‏،‏ أدعج العينين في كحل‏،‏ أسيل الخد‏،‏ ضليع الفم‏،‏ غزير اللحية‏،‏ جميل الجيد‏،‏ عريض الصدر‏،‏ واسع ما بين المنكبين‏،‏ طويل الزندين‏،‏ رحب الراحة‏،‏ لا بالمشذب ولا بالقصير‏،‏ مربوعًا أو أطول من المربوع‏،‏ معتدل الخلق متماسكًا لا بالبدين ولا بالنحيل‏،‏ وإذا أقبل يتحرك نظر إليه الناظر فرأى رجلًا يصفه الأقدمون بأنه حي القلب ويصفه المحدثون بالحركة والحيوية‏.‏ يمشي كأنما ينحدر من جبل‏،‏ ويرفع قدمه فيرفعها تقلعًا كأنما ينشط بجملة جسمه‏،‏ ويلتفت فيلتفت كله‏،‏ ويشير فيشير بكفه كلها‏،‏ ويتحدث فيقارب يده اليمنى من اليسرى في أثناء كلامه وهو على هذه الحركة الحية جم الحياء‏:‏ أشد حياء من العذراء، نضاح المحيا إذا كره شيئًا عرف ذلك في وجهه‏،‏ وإذا رضي انطلقت أساريره وتبين رضاه‏.‏ واقترن النشاط والحياء بالقوة‏.‏ ويركب الفرس عاريًا فيروضه على السير‏،‏ ويداعب من يحب بالمسابقة في العدو‏،‏ وتجلت تلك الروح السمحة في علاقته بكل الناس ترحم كل ضعف وتمتزج بكل شعور‏..‏ قال أنس بن مالك :‏ دخل النبي ﷺ على أمي فوجد أخي أبا عمير حزينًا‏.‏ فقال‏:‏ يا أم سليم‏..‏ ما بال أبي عمير حزينًا؟‏..‏ فقالت يا رسول الله مات نغيره‏..‏ وكانت تعني طيرًا كان يلعب به‏..‏ فقال ﷺ:‏ أبا عمير‏..‏ ماذا فعل النغير؟‏..‏ وكان كلما رآه قال له ذلك‏،‏ ومثل هذا عطفه على الضعف البشري في رجل مثل عبدالله الخمار الذي لقب بهذا اللقب لما اشتهر به من السكر والدعابة‏،‏ فكان النبي ﷺ يحده في الخمر ولا يتمالك أن يضحك منه‏،‏ وكان رسول الله ﷺ محبًّا للدعابة، قال لعمته صفية‏:‏ «لا تدخل الجنة عجوز‏»!..‏ فبكت فقال وهو يضحك‏:‏ «الله تعالى يقول إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا» ففهمت ما أراد وثابت للرجاء‏.‏

    وطلب إليه بعضهم أن يحمله على بعير فوعده أن يحمله على ولد الناقة فقال‏:‏ يا رسول الله‏!..‏ ما أصنع بولد الناقة؟‏..‏ فقال‏:‏ هل تلد الإبل إلا النوق؟‏..‏ وكان ﷺ يقول مداعبًا لحاضنته السوداء أم أيمن وهي عجوز‏:‏ «غطي قناعك يا أم أيمن»‏!‏ وسمعها في يوم حنين تنادى بلكنتها الأعجمية‏:‏ سبت الله أقدامكم‏!‏ بنطق الثاء سينًا فلم تنسه الغزوة القائمة أن يصغي إليها ويداعبها بين نذر الحرب وصليل السيوف‏،‏ وأقبل عليها يقول‏:‏ اسكتي يا أم أيمن فإنك عسراء اللسان‏!‏فكانت هذه الدعابة في ذلك الموقف المرهوب كأنها تربيت سيد الفصحاء على تلك اللكنة البريئة‏..‏

    الرسول الإنسان‏..‏ يحبونه ويحبهم‏..‏ فيض إنسانية امتزجت طواعية وارتجالًا بجميع خصاله وعلاقاته بالناس لاسيما الضعفاء، فكان أحرص على جبر القلوب وتطييب الخواطر وتوخي المواساة واجتناب الإساءة‏،‏ يتفقد أصحابه كبارًا وصغارًا ويسأل عنهم‏،‏ ويتحدث إلى ذوي الأقدار وعامة الناس فلا يحسب صغيرهم أن أحدًا أكرم عليه منه‏،‏ ويتحدث إليه من شاء فلا يقطع عليه حديثه وإن طال‏،‏ وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس‏،‏ ومن جالسه يصبر عليه حتى يكون هو المنصرف‏،‏ وما أخذ أحد بيده فأرسلها حتى يكون الآخذ هو الذي يرسلها‏..‏ ومن سننه التي اتبعها وأوصى باتباعها أن يجيب دعوة من دعاه ولا يرد دعوة عبد ولا خادم ولا أمة ولا فقير‏،‏ وفي ذلك يقول من وصاياه في آداب الولائم‏:‏ إذا اجتمع الداعيان فأجب أقربهما بابًا‏،‏ فإن أقربهما بابًا أقربهما جوارًا‏،‏ وإن سبق أحدهما فأجب الذي سبق‏..‏ يبدأ من لقيه بالسلام ويمر بالصبيان فيقرئهم سلامه‏،‏ وربما خفف صلاته إذا جاءه أحد وهو يصلي ليسأله عن حاجته ويلقاه بالتحية‏.‏ يتقي الغضب جهده ويعالجه إذا أحسه بعلاج من الروح‏،‏ فيقبل على الصلاة والتسبيح‏،‏ أو بعلاج من الجسد‏،‏ فيجلس إذا كان قائمًا ويضطجع إذا كان جالسًا‏،‏ ويأبى الحركة التي ينزع إليها وهو غضبان‏..‏

    لا يجلس في مكان ثابت وإنما في المكان الذي ينتهي به بين الناس؛ وذلك حتى لا تكون هناك لأي إنسان مكانة في مقعد أو مجلس‏..‏ وكان في آدابه الاجتماعية قدوة الرجل المهذب في كل زمان‏،‏ فلم يُر قط مادًّا رجليه بين أصحابه‏،‏ ولم يكن ينفخ في طعام ولا شراب ولا يتنفس في إناء، وإذا أخذه العطاس وضع يده أو ثوبه على فمه‏،‏ وربما نهض بالليل فيتسوك بالسواك‏..‏ وما خلف عهدًا وفي ذلك ما قاله عنه عبدالله بن أبي الخمساء‏:‏ بايعت ﷺ بيعًا قبل أن يُبعث وبقيت له بقية فوعدته أن آتيه بها مكانه فنسيت، ثم ذكرت بعد ثلاثة أيام فجئت فإذا هو مكانه فقال‏:‏ يا فتى لقد شققت عليَّ، أنا هنا منذ ثلاثة أنتظرك‏..‏ كان حبيب الله يكني أصحابه ويدعوهم بأحب أسمائهم‏،‏ وكان أكثر الناس تبسمًا‏،‏ وكان به شفقة ورحمة ورأفة بجميع الخلق حتى إن الحق تبارك وتعالى قال في شأنه‏:‏ «لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم»‏،‏ وقال عليه أفضل الصلاة والسلام‏:‏ لا يبلغني أحد منكم عن أصحابي شيئًا، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر‏..‏ النبي ﷺ الشديد التواضع‏:‏ خرج مرة على أصحابه متوكئًا على عصا فقاموا فقال‏:‏ لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضًا، وقال‏:‏ إنما أنا عبدٌ يأكل كما يأكل العبد، ويجلس كما يجلس العبد. ويقول أبوهريرة‏:‏ دخلت السوق مع النبي ﷺ فاشترى سراويل وقال للوزان‏:‏ زن وأرجح‏..‏ فوثب البائع إلى يد رسول الله ﷺ يقبلها فجذب يده وقال‏:‏ هذا ما تفعله الأعاجم بملوكها ولست ملكًا، إنما أنا رجل منكم‏..‏ ثم أخذ السراويل فذهبت لأحملها فقال‏:‏ صاحب الشيء أحق بشيئه أن يحمله‏..‏ محمد الإنسان الذي وضعت له مارية القبطية ولدًا في السنة الثامنة للهجرة ففرح الرسول فرحًا عظيمًا‏،‏ لأنه رأى فيه عوضًا عما فقده بموت أبنائه الذكور من خديجة، فوهب جارية لأبي رافع الذي بشر بالمولود‏،‏ ثم أعلن أن مولد الطفل من شأنه تحرير الأم‏،‏ وحلق شعر المولود في اليوم السابع‏،‏ وختن‏،‏ ثم نحر الرسول جملين‏،‏ وتصدق على الفقراء‏،‏ وجاءت المرضعات يتنافسن‏،‏ كلٌّ تبغي شرف إرضاع ابن رسول الله الذي سُمي إبراهيم‏،‏ فأعطاه الرسول امرأة البراء بن أوس‏،‏ ووهبها لذلك حديقة نخيل‏،‏ فخرجت المرضعة بالوليد إلى بني مازن‏،‏ وكان الرسول كثيرًا ما ينطلق إليها‏،‏ ويدخل البيت فيأخذ ابنه بين ذراعيه‏،‏ فلا يشبع من تقبيله وشمه‏،‏ وازداد حبه لمارية القبطية فاغتاظت نساؤه وأضحى البيت يضج بالمشاجرات حتى ضاق بهن الرسول فاعتزل في مشربةٍ له يرقى إليها بسلم من جذوع النخيل ينام فيها على حصير وعلى رأس السلم غلام له يأتيه بالطعام ويحرس المشربة التي أوصد بابها دون أعز الصحابة‏،‏ وفي اليوم التاسع والعشرين فكر في حزن عمر وأبي بكر والدي حفصة وعائشة فاستردهما مع زوجاته‏،‏ إلا أن فرحة الرسول التي صاحبت مجيء إبراهيم لم تدم طويلًا‏،‏ فقد فارق الطفل الحياة في رجب سنة ‏٩‏ هـ‏ ،‏ وسنه لا تزيد على سبعة عشر شهرًا أمام عيني أبيه اللتين فاضتا بالدموع الغزيرة‏،‏ ورأى عبدالرحمن بن عوف تلك الدموع‏،‏ وتذكر منع الرسول الصياح وشق الجيوب ولطم الخدود في حالة الحداد فقال‏:‏ أو لم تكن نهيت عن البكاء؟‏،‏ قال‏:‏ «البكاء من الرحمة والصراخ من الشيطان» وهطلت الدموع الغزيرة مع قوله‏:‏ «تدمع العين ويحزن القلب‏،‏ ولا نقول ما يسخط الرب‏،‏ ولولا أنه وعد صادق‏،‏ وموعد جامع‏،‏ فإن الآخر منا يتبع الأول‏،‏ لوجدنا عليك يا إبراهيم وَجْدًا شديدًا ما وجدناه‏..‏ إنا لله وإنا إليه راجعون»‏..‏ وغسلت زهيرة أم المرضع الجسم الصغير وحمله الفضل بن العباس‏،‏ وأسامة بن زيد حتى مقبرة البقيع‏،‏ وأنزلاه القبر‏،‏ فلما وارت الأرض ابنه الذي عقد عليه الآمال‏،‏ وقف الرسول على قبر الصغير وصلى عليه‏،‏ وقال‏:‏ يا بني قل‏:‏ «الله ربي، والإسلام ديني، ورسول الله أبي»..‏ وبكى الناس للمشهد متألمين‏،‏ وفجأة علت الوجوه بهتة كما احتجبت السماء الصافية بحجاب رمادي وبهتت الشمس‏،‏ وتضاءل ضوءها قليلًا قليلًا‏،‏ على أنه لم تحجبها أدنى غمامة‏،‏ واعترت الطبيعة كلها رعدة خفيفة ثلجية‏،‏ كرعدة الحمى، فسارع الطير إلى أوكاره الليلية يحتمي بها صائحًا جزعًا‏،‏ ثم انطفأت الأشعة الأخيرة التي لاتزال تضيء المكان بنور باهت مخيف‏،‏ فأسدلت الظلمة ثوبها على الأرض في وضح النهار، بينما تلألأت نجوم مرتجفة في كبد السماء‏..‏ وارتاع القوم اضطرابًا‏،‏ وتشتت شمل الناس فلم يدر أحد أي طريق يسلك في انتظار وقوع الدمار الأعظم‏،‏ إلا أن بعضهم وقد راعه وقوع ذلك الانقلاب الطبيعي وموت إبراهيم صاح‏:‏ يا رسول الله‏!.‏ إن عين الشمس قد غشيتها الدموع فاحتجبت تشاركك حزنك‏..‏ فاعتدل الرسول قائمًا متغلبًا على آلامه ليعلن بصوت ثابت لا يتململ‏:‏ «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله‏،‏ لا ينكسفان لموت أحد من عباده ولا لحياته»‏..‏

    محمد‏‏ ﷺ الذي لم يَجُد الدهر بمثله لم يستطع القول الحق إلا أن يضعه على رأس قائمة العظماء الذين أسهموا إسهامًا وافرًا في بناء صرح الحضارة البشرية‏،‏ ويذكر مايكل هارت المؤلف الإنجليزي للكتاب العالمي (العظماء مائة على رأسهم محمد) أن سبب اختياره أنه أتى بأوفى الأديان وأتمها وأكملها‏،‏ واستطاع توحيد العرب بعد شتاتهم وأنشأ منهم أمة موحدة فتحت العالم المعروف يومئذ‏..‏ وشهد شاهد من أهلها‏..‏ قال برنارد شو الكاتب الإنجليزي:‏ إن أوروبا الآن بدأت تحس بحكمته وبدأت تعشق دينه‏،‏ كما أنها ستبرئ العقيدة الإسلامية مما اتهمتها به من أراجيف وأكاذيب رجال أوروبا في العصور الوسطى، وسيكون دين محمد هو النظام الذي يؤسس عليه دعائم السلام والسعادة‏،‏ ويستند على فلسفته في حل المعضلات وفك المشكلات ثم قال‏:‏ وإن كثيرين من أبناء وطني ومن الأوروبيين الآخرين يقدسون الإسلام‏؛‏ ولذلك يمكنني أن أؤكد نبوءتي فأقول‏:‏ إن بوادر العصر الإسلامي الأوروبي قريبة لا محالة‏..‏

    وأتت المستشرقة الألمانية العالمة الجليلة سيجريد هونكه في عام‏١٩٦٠‏ لتكتب شمس الله تسطع على الغرب ليظل كتابها حتى الآن يعاد طبعه حتى وصل لأكثر من مليون نسخة والذي جاء بين سطوره‏:..‏ واليوم‏،‏ وبعد انصرام ألف ومائتي عام‏،‏ لايزال الغرب متمسكًا بالحكايات المختلفة الخرافية التي كانت الجدات يروينها‏،‏ حيث زعم مختلقوها أن الجيوش العربية بعد موت محمد نشرت الإسلام بالنار وبحد السيف البتار من الهند إلى المحيط الأطلنطي.‏ ويلح الغرب على ذلك بكل السبل‏:‏ بالكلمة المنطوقة أو المكتوبة‏،‏ وفي الجرائد والمجلات‏،‏ والكتب والنشرات‏،‏ وفي الرأي العام‏،‏ بل في أحدث حملات الدعاية ضد الإسلام‏..‏ بينما الكلمة القرآنية الملزمة كما ترد في الآية السادسة والخمسين بعد المائتين من سورة البقرة تقول‏:‏ لا إكراه في الدين‏..‏ فلم يكن الهدف أو المغزى للفتوحات العربية نشر الدين الإسلامي، وإنما بسط سلطان الله في أرضه‏،‏ فكان للمسيحي أن يظل مسيحيًّا،‏ ولليهودي أن يظل يهوديًّا‏،‏ كما كانوا من قبل‏.‏ ولم يمنعهم أحد أن يؤدوا شعائر دينهم‏،‏ وما كان الإسلام يبيح لأحد أن يفعل ذلك‏..‏ ولم يكن أحد لينزل أذى أو ضررًا بأحبارهم أو قساوستهم ومراجعهم‏،‏ وبيعهم وصوامعهم وكنائسهم‏.

    لقد كان أتباع الملل الأخرى هم الذين سعوا لاعتناق الإسلام والأخذ بحضارة الفاتحين‏،‏ فاتخذوا أسماء عربية وثيابًا عربية وعادات وتقاليد عربية‏،‏ وتزوجوا على الطريقة العربية ونطقوا بالشهادتين‏..‏ لقد كانت الروعة الكامنة في أسلوب الحياة العربية‏،‏ والتمدن العربي، والسمو والمروءة والجمال‏،‏ وباختصار‏:‏ السحر الأصيل الذي تتميز به الحضارة العربية‏،‏ بغض النظر عن الكرم العربي والتسامح وسماحة النفس‏..‏ كانت كلها قوة جذب لا تقاوم‏..‏

    في حجة الوداع دخل الرسول مكة في وضح النهار‏،‏ وأناخ ناقته أمام باب السلام وتطلع للبيت الحرام قائلًا‏:‏ «اللهم زد هذا البيت تشريفًا وتكريمًا وتعظيمًا ومهابة وبرًّا‏،‏ وزد من شرفه وكرمه ممن حجه أو اعتمره تشريفًا وتكريمًا وتعظيمًا وبرًّا‏»‏ وبعد أن توضأ بدأ بالحجر الأسود فقبله بينما فاضت عيناه بالبكاء‏..‏ وفي اليوم الثامن من ذي الحجة قام الرسول ﷺ إلى وادي منى، حيث نصبت له خيمة من صوف فصلى هناك العصر والمغرب والعشاء‏،‏ وفي اليوم التالي اعتلى ناقته القصواء وسار إلى جبل عرفات بعد صلاة الفجر فاحتشد الناس على سفوح الجبل الصخرية وفي السهل والشعاب المجاورة‏،‏ فخطب فيهم الرسول من فوق ناقته التي قادها بنفسه إلى قمة الجبل‏،‏ ووقف أسفل الرسول ربيعة بن أمية الذي كان يردد كلماته بصوته الجهوري أثناء فترات السكوت المتعمدة لهذا الغرض‏..‏ وأتت بداية الخطبة موجهة لكل الناس بقوله‏:‏ «يا أيها الناس‏.‏ اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدًا»‏..‏ في خطبته أوصى النبي ﷺ بالنساء وحذر من الشيطان، وعدَّد الشهور الهجرية ومنها أربعة حرم‏،‏ وحرم الربا‏..‏ وختم خطبة الوداع بقوله‏:‏ «فاعقلوا أيها الناس قولي، فإني قد بلغت‏،‏ وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدًا‏،‏ أمرًا بينًا‏:‏ كتاب الله وسنة رسوله».‏

    أيها الناس‏،‏ اسمعوا قولي واعقلوه‏.‏ تعلمون‏:‏ أن كل مسلم أخ للمسلم‏،‏ وأن المسلمين إخوة‏،‏ فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه‏،‏ فلا تظلمن أنفسكم‏..‏ اللهم هل بلغت؟‏!

    ‏فأجابه المائة ألف حاج بصوت واحد يفيض إخلاصًا وإجلالًا وإيمانًا‏:‏ اللهم نعم‏..‏ فقال الرسول‏:‏ اللهم فاشهد‏..

    وفي موضع آخر من عرفات يقال له الصخرات‏،‏ ويتميز بألواح صخرية ضخمة نزل على الرسول الوحي على حين غرة‏،‏ فكاد عضد ناقته يندق من ثقل الوحي الذي نفذ إلى قلب صاحبها‏،‏ فوقعت على ركبتيها‏،‏ وها هي ذي كلمات العلى القدير التي نزلت ختامًا لخطبة الرسول تعلن أن رسالة محمد قد انتهت‏:‏ «اليوم أكملت لكم دينكم‏،‏ وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا»‏...‏

    يا حبيب الله المبشر والنذير‏..

    لقد وقف على عرفات ملايين الحجاج رضوا لهم الإسلام دينًا فرفعوا أيديهم للسماء يلبون‏،‏ تتحرك أطراف ثيابهم البيضاء فوق الرءوس فيموج سطح الجبل المقدس بملايين الأجنحة الموشكة على الطيران، بينما تردد الصحراء صيحة قوية ترتفع من جنبات الوادي.. واحدة‏..‏ الملايين يا سيدي يا رسول الله قد وضعوا جانبًا لغاتهم الخاصة ليتحدوا في لغة واحدة لغة الكتاب‏..‏ لغة القرآن الكريم المتربع على عرش عالم إسلامي يمثل ربع سكان الأرض وطنًا مترابط الأوصال سهل الاتصال تبلغ مساحته خمسة وثلاثين مليونًا من الكيلومترات‏..‏ الكل تآخى لغة وقلبًا‏..‏ الكل أسقط فروق الأجناس والدرجات والأحقاد؛ مذهبية كانت أم سياسية‏..‏ تآخيًا قلت عنه يا نبي المسلمين: «مثلُ المؤمنين في توادِّهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحدِ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».‏

    عالم إسلامي لا يخشى شيئًا من شراسة أعدائه‏..‏ من بذاءة أعدائه‏..‏ من جموح وجنوح أعدائه‏..‏ عالم الخشوع والشكر والعبادة‏..‏ عالم الحجاج الذين يباهي بهم ربهم ملائكته‏:‏ جاءوني شعثًا غبرًا من كل فجٍّ عميقٍ يرجون رحمتي ويخشون عذابي..‏ ويشهدهم أنه قد غفر لهم‏..‏ عالم يرفع للسماء يده يلبى دعوة الخالق‏:‏

    لبيك اللهم لبيك‏..‏

    اللؤلؤ المنثور

    من أثر الرسول

    تنتهي زيارة الضيف فتصحبه مودعًا للباب بقولك على سبيل المجاملة‏:‏ زارنا النبي وحصلت لنا البركة‏..‏ مجاملة لواحد من البشر‏..‏ فما بالك بالبركة الحقيقية الحاصلة دومًا من استنشاق عبق سيد البشر عند زيارتك لآثاره الشريفة في مسجد الإمام الحسين.. قطعة من قميص رسول الله ﷺ، المصطفى الذي اصطفاه ربه فأرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، وثلاث قطع كبيرة من اللباس النبوي لامست بدنه فنالت الحظوة المباركة، وقطعة من عصاه، ومن حربته، والمِرْوَد والمكحلة اللذين استدارا في إطار حدقات عيون تبصرت بسدرة المنتهى، والملقاط الذي انتزع شوكة من قدم اعتلت جبال الصخر للوصول للغار ليسمع صاحبها: اقرأ، والمرآة التي عكست مطلع النور ووجه حبيب الله الذي قال له: «فإنك بأعيننا»، ومشطه الذي فرق الشعر ورجله وأسدله وضفره وتمشى بسنونه فوق الرأس الجليل.. و..بعض شعرات مباركات من الرأس الذي تم حلقه في حجة الوداع فأخذه أبو طلحة ليقسمه بين الناس للاحتفاظ به تبركًا.. والمصحفان المنسوبان لعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب... وغيرها من آثار نبوية.. آثار من نور انتقلت من مكان إلى مكان، وذكرها برهان الحلبي في حاشيته «نور النبراس على سيرة سيد الناس»، ليعرفنا بأنها: كانت عند بني إبراهيم بينبع التي ورثها أبًا عن جدٍّ، ثم اشتراها في القرن السابع تاج الدين بن حنا أحد وزراء مصر الذي شيَّد لها مبنى على النيل عُرف باسم رباط الآثار، المعروف الآن بجامع أثر النبي، وكان مبني محكم البنيان وله طاقات مطلة على الماء، ومكان ينزل إليه وفيه خزانة من خشب عليها عدة أستار الواحد فوق الآخر، وداخل الخزانة علبة من شجر الجوز فيها من الآثار الشريفة الكثير، وقد زرناه غير مرة وقلنا فيه شعرًا منه:

    يـــا عـــين إن بعـــد الحبيـــب وداره..

    ونـــأت مرابعـــه وشـــط مـــزاره

    فلـــك الهنــا فلقــد ظفــرت بطائــل..

    إن لم تريـــــــــه فهـــــــــذه آثــــــــاره

    ويأتي ابن بطوطة في أوائل القرن الثامن الهجري ليكتب عن زيارته لآثار النبي تلك بقوله: بت ليلة خروجي من مصر بالرباط الذي بناه تاج الدين بن حنا، وهو بناء عظيم بناه على مفاخر عظيمة وآثار كريمة اشتراها بمائة ألف درهم، وبنى الرباط وجعل فيه الطعام للوارد والصادر، والجراية لخدام تلك الآثار الشريفة التي يقصدها الناس في كل يوم أربعاء.. وبقي الرباط عامرًا مأهولًا حتى زمن إبراهيم باشا الدفتردار والي مصر الذي قام بتوسعته وبنى تحته رصيفًا لسد مياه النيل عنه، ورتب له مائة خادم عثماني، وأوقف له الأراضي، وعين به القراء والحراس بالمناوبة.. وبعد تولي السلطان الملك الأشرف قنصوه الغوري المملكة المصرية نقل الآثار إلى قبة الغوري التي أنشأها تجاه مدرسته داخل باب زويلة وباب الخرق - الذي صار باب الخلق- من القاهرة المُعزية، وبقيت الآثار محفوظة بقبة الغوري ثلاثة قرون عندما توقف النيل عن الوفاء أثناء ولاية خاير بك لمصر إلى أن جاء يوم الأحد السادس من رمضان فنزل ملك الأمراء وتوجه إلى المقياس وفرق أجزاء القرآن على الفقهاء فقرءوها عشرين دورًا، ثم قرءوا صحيح البخاري، وقام بتفريق المال على اليتامى، وأحضر من الآثار الشريفة قميص الرسول ﷺ، ووضعه في فسقية المقياس وغسلوه من مائها وسط الضجيج والابتهال والتضرع إلى الله بعودة الفيضان.. ثم نقلت الآثار النبوية من القبة إلى المسجد الزينبي، وبعدها في موكب حافل إلى خزانة الأمتعة بالقلعة، وبعدها إلى ديوان الأوقاف، ثم إلى قصر عابدين مقر الخديو توفيق، ومن القصر في العام نفسه إلى المسجد الحسيني تبعًا لأوامر الخديو بحفظها، قبل نقلها في نسيج من الديباج الأخضر المطرز بسلوك الذهب والفضة قامت زوجته الأميرة أمينة ابنة الأمير إلهامي باشا ابن والي مصر عباس باشا الكبير بتطريزه بيدها.. وأقيمت بعدها شعائر الاحتفال بالرحلة المباركة من القصر إلى المسجد، حيث تبدى موكب فخم لم تشهد مصر له مثيلًا، مشى فيه نحو ثلاثين ألفًا من أبناء مصر على أقدامهم، واحتشد لرؤيته على جانبي الطريق نحو مائتي ألف، وكان الخديو قد دعا جميع العلماء والأعيان إلى القصر للاشتراك في المسيرة الكبرى المشرفة، وأمر موظفي الدواوين بالمشاركة، وكانت الآثار الشريفة ملفوفة في خمسة أكسية من الديباج مرفوعة على أسرة في بهو الاستقبال الكبير وحولها مجامر البخور، فلما توافد المدعوون استدعى الخديو إلى مجلسه قاضي القضاة وشيخ الأزهر محمد الإنبابي والشيخ محمد البنا مفتي الديار، ومن كبار العلماء الشيخ محمد المهدي العباسي، ومن السادة الأشراف نقيبهم السيد عبدالباقي البكري، والسيد عبدالخالق السادات... حمل الخديو فوق ذراعيه إحدى الودائع الخمس الكريمة، وعهد إلى كل من أخيه الأمير حسين كامل باشا، والغازي أحمد مختار باشا المندوب السلطاني العالي، ومحمد ثابت باشا رئيس الديوان الخديوي، ومحمد رءوف باشا ناظر الأوقاف، ليحملوا الأربعة الباقية ليخرجوا بها إلى ميدان عابدين ليتقدم السيد البكري ويتسلم الوديعة التي يحملها الخديو وينتظم مع الحاملين لبقية الآثار.. وكان خروج الموكب المحاط بمجامر البخور وقماقم العطر من القصر في ضحى ذلك اليوم ليصل إلى المسجد الحسيني بالسير المتمهل بين صفوف فرسان الشرطة بأعلامهم في ثلاث ساعات، فكان سيره من عابدين إلى ميدان العتبة فشارع محمد علي إلى ميدان باب الخلق فشارع تحت الربع إلى باب زويلة فشارع السكرية، فالعقادين فالغورية فالسكة الجديدة إلى أن وصل إلى المسجد الحسيني.. وعند الوصول أودعت الآثار في خزانة المسجد ومعها المصحف العثماني، وتسلم المفاتيح ناظر الأوقاف.. وعندما تولى الخديو عباس حلمي أصبح للآثار النبوية حجرة خاصة جعل لها بابان، واحد إلى المسجد، والآخر إلى القبة، حيث خزانة الآثار بحائطها الجنوبي باقية إلى اليوم محتضنة آثار النبي ﷺ الذي أنقذ مسرى البشرية من ليل الجاهلية إلى نور الإيمان.

    وتعرف الآثار النبوية عند الأتراك بالأمانات المباركة، ويتبرك بها الزائر في جولته بقصر توبكابي باستنبول، ويعدها الأتراك من مفاخر دولتهم، ويرجع المؤرخون وجودها عندهم بأنها كانت عند أشراف مكة وأمرائها، فلما استولى السلطان سليم على مصر عام ١٥١٧م بادر بطلبها من الشريف بركات أمير مكة وقتها فبعث بها إليه ليضعها بداية في الحرملك بقصر توبكابي حتى هيأ لها حجرة خاصة نقلها إليها ليحتفل بزيارتها مع عظماء دولته في منتصف رمضان.. ولما تولى السلطان مراد بن أحمد نقل الآثار إلى حجرة أخرى في القصر ليظل الاحتفال بها قائمًا في رمضان بحضور السلطان وعظماء دولته لزيارة تلك الآثار الشريفة التي تضم قطعة من ثوب يزعمون أنها البردة التي وهبها ﷺ لكعب بن زهير ، ويقال إن البردة كانت على الرسول فجاء الحسن والحسين فأدخلهما فيها معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها معهما، ثم جاء عليٌّ فأدخله معهم، ليتلو بعدها قوله تعالى: «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا» ومن آثار توبكابي النبوية التي نسردها على علاتها كما جاء في كتالوج توبكابي: سن من أسنان الرسول ﷺ، ونعلان نبويان، والبردة، وحجر عليه أثر القدم الشريفة، والسجادة النبوية، وقبضة سيف من السيوف النبوية، والقوس النبوي، واللواء النبوي، وماء من الغسل النبوي، وقدر منسوبة لنوح ، ومرجل كان لخليل الله إبراهيم ، وسيف داود ، وعصا شعيب ، وقميص يوسف ، وميزاب من الذهب كان بالكعبة المشرفة لعله مفتاح قديم للكعبة، حيث كان يعمل للمفاتيح بمصر كيس من الديباج الأخضر المطرز يرسل به إلى مكة مع الكسوة ويجدد كل عام، وغطاء باب التوبة الذي يفضي إلى سلم يصعد عليه إلى سطحها، وحلية من الفضة كانت على مقام إبراهيم  بالحرم المكي، وشعرات من رأس الرسول، وسجادة الصديق ، وعمائم الخلفاء الأربعة  وسيوفهم وراياتهم وسبحاتهم، وقبضات ستة سيوف من سيوف العشرة المبشرين بالجنة، ورايتا الحسن والحسين، وسيف جعفر الطيار، وسيف خالد بن الوليد، وسيف شرحبيل ابن حسنة أحد الصحابة، وسيف معاذ بن جبل، وتاج أويس القرني، ومصحف عثمان ومصحف علي بن أبي طالب بخط يده.. ويذكر تاريخ الأتراك أنه في يوم تولي السلطان مراد بن أحمد الملك المعروف بمراد الرابع أنهم في اليوم التالي لمبايعته قلدوه سيفين أحدهما سيف نبوي والآخر سيف السلطان سليم، وأنه ارتدى يومها على رأسه عمامة يوسف  المجلوبة من خزانة السلطان الغوري في مصر... ويعترض العالم المؤرخ أحمد تيمور باشا على الآثار التي تنسب للأنبياء نوح والخليل وداود وشعيب ويوسف لبعد العهد وتقادم الزمن، وكذلك على السبح المنسوبة للخلفاء الأربعة، فإن السبح بشكلها الحالي لم تكن قد صنعت في ذلك العصر، وإنما كانوا يعدون التسبيح بالأنامل والنوى والحصا وعقد العقد في الخيوط مثل الخيط الذي كان لأبي هريرة.. وأما مفاتيح مكة التي حملها المملوك لطيف أغا للقسطنطينية فقد كوفئ عليها عند وصوله، كما ذكر الجبرتي بقوله: وعند دخول لطيف أغا بالكنز النبوي عملوا له موكبًا عظيمًا مشى فيه أعيان الدولة وأكابرها ووضعت المفاتيح على صفائح الذهب والفضة وأمامها البخور في المجامر المطعمة وخلفها الطبول، وأنعم عليه السلطان بطوخين - خصلتين من ذنب الفرس تعلق على الرأس وكان للوزير ثلاثة، وللصدر الأعظم خمسة، وللسلطان سبعة- ومنحه لقب باشا ليغدو لطيف باشا.. وكانت نهاية الباشا إثر عودته لمصر عندما قبض عليه وقتله محمد بك لاظوغلي كتخدا مصر أي وزيرها، وقد كافأ إسماعيل باشا الوزير القاتل بعمل تمثال له لحفظه مصر أمانة تحت لوائه في غيابهم، ولهذا جعلوا تمثال لاظوغلي مادًّا ذراعه مشيرًا بإصبعه إلى الأرض كناية عن تثبيته ملكهم بأرض مصر، وعندما لم يجدوا صورة له لصياغة التمثال على نسقها أرشدهم أحد معاصري لاظوغلي إلى تاجر تركى بخان الخليلي يشبهه فصاغوا التمثال على مثاله ليسمى ميدانه باسمه بشارع الدواوين.

    وإذا ما كانت هدية شريف مكة إلى قصر توبكابي باستنبول ثلاثًا وأربعين شعرة مباركة للرسول، فإن السلطان محمد الخامس قد أهدى منها بالتالي أربعًا وعشرين إلى بعض المدن بالمملكة العثمانية.. وتبعًا لخريطة الشعرات المسجلة اليوم فإن منها شعرتين بالمسجد الحسيني اللتين كانتا بقبة الغوري، وهما في زجاجة محفوظة في صندوق صغير من الفضة أضيفت إليهما شعرة ثالثة أهداها أحمد طلعت باشا.. وهناك شعرة تكية النقشبندية بدرب الجماميز التي أهدتها والدة عباس باشا الكبير الوالي، وشعرة المشهد الحسيني بدمشق الملاصق للجدار الشرقي لصحن المسجد الأموي.. وشعرة مقام التوحيد بدمشق التي تزار في المولد النبوي وليلة الإسراء والمعراج وليلة ٢٧ رمضان.. وشعرة بيت المقدس.. وشعرتان بعكا وحيفا؛ الأولى بمسجد أحمد باشا الجزار بعكا، والثانية بالجامع الكبير بحيفا.. وشعرتان بطرابلس إحداهما بجامع طورغود باشا والثانية ببني غازي في جامع راشد باشا المشهور بجامع عثمان.. وشعرة في بهوبال بالهند أهداها السلطان محمد رشاد لملكة بهوبال سلطان جهان بيكم التي وضعتها عند عودتها في صندوق ثمين حمله والدها بهوبال على رأسه فتكأكأ عليه الناس للتبرك بلمس الصندوق فكاد يفرم تحت الأقدام قبل بلوغه المسجد بالشعرة المباركة..

    وعندما اختار الرسول ﷺ الرفيق الأعلى وبويع أبوبكر بالخلافة ذهبت السيدة فاطمة الزهراء إلى الخليفة تطالبه بأن يرد عليها ما ترك أبوها من أرض بفدك وخيبر فأجابها بقول أبيها: «نحن معشر الأنبياء لا نورث وما تركناه صدقة» ولا شك في أنه ﷺ خلف من بعده منقولات قليلة مما كان يلبسه أو يستعمله في حياته اليومية من ثياب وأدوات، وما كان يستعمله كذلك في شئون الدولة منذ تولاها، بعد أن استقر له الأمر في المدينة، كخاتمه الذي نقش عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله، وكالعَلَم الذي كان المسلمون يتخذونه في حروبهم وغزواتهم في حياة نبيهم.. ويُجمع المؤرخون على أن الخاتم قد توارثه الخلفاء، إلى أن وصل إلى عثمان بن عفان أيام خلافته، ليسقط منه في بئر أريس بالمدينة، فأمر بنزح البئر فلم يهتد إليه أحد، من هنا نقش عثمان لنفسه خاتمًا جديدًا عليه الكلمات عينها لا إله إلا الله محمد رسول الله.. أما من تصدق عليهم أبو بكر أو أمهات المؤمنين من متعلقات الرسول الكريم فلم تذكره كتب السيرة التي انشغلت بحياة الرسول الحافلة ورسالته العظيمة، وغزواته، ورسله إلى الملوك، ولم يذكر المؤرخون الأوائل إلى من ذهبت الآثار النبوية وإلى من آلت إليه، ومن هنا اختلفت الآراء والمصادر وانفرد كل مؤرخ بذكر أثر واحد أو اثنين من الآثار مثلما انفرد كثير بذكر المكحلة والمشط، وانفرد الجبرتي بذكر قطعة عصا، وانفرد ابن إياس بذكر قطعة من القميص!!

    آثاره التي ذهبنا نحصيها على طول البلاد وعرضها فوجدناها في القضيب والبردة اللذين أصبحا من شعار الخلافة، فقد كانوا في يوم العيد يطرحون البردة النبوية على أكتاف الخليفة آخذًا القضيب المنسوب للرسول في إحدى يديه فيخرج للجماهير محاطًا بالجلال والوقار مما يصدع القلوب ويبهر الأبصار، وهناك المنبر والسرير

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1