Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

دندنة
دندنة
دندنة
Ebook920 pages6 hours

دندنة

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

الكاتبة الصحفية الكبيرة سناء البيسي تطير بنا هذه المرة إلى سماء النغم ونجومه الزاهرة. تصحبنا مع الأنغام إلى أربابها بدءًا من بداية التاريخ المسجل للموسيقى العربية والغناء العربي وأساطينه بدءًا من منتصف القرن التاسع عشر وحتى الألفينات من القرن الحالي. بأسلوبها الحالم ومرادفاتها الغزيرة وإحساسها العالي بالفنون
Languageالعربية
PublisherNahdet Misr
Release dateJan 1, 2020
ISBN9789771458463
دندنة

Read more from سناء البيسي

Related to دندنة

Related ebooks

Reviews for دندنة

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    دندنة - سناء البيسي

    الغلاف

    دندنة

    سناء البيسي

    العنوان: دندنة

    تأليف: سناء البيسي

    إشـراف عام: داليا محمد إبراهيم

    جميع الحقوق محفـوظـة © لـدار نهضـة مصـر للنشـر

    يحـظــر طـــبـــع أو نـشـــر أو تصــويـــر أو تخــزيــــن أي جـزء مـن هـذا الكتـاب بأيـة وسيلـة إلكترونية أو ميكانيكية أو بالتصويــر أو خـلاف ذلك إلا بإذن كتابي صـريـح من الناشـر.

    الترقيم الدولي: 978-977-14-5846-3

    رقم الإيـداع: 27908/2019

    طبعة: يناير 2020

    Dandana2020.xhtml

    21 شارع أحمد عرابي - المهندسين - الجيزة

    تليفــون: 33466434 - 33472864 02

    فاكـــس: 33462576 02

    خدمة العملاء: 16766

    Website: www.nahdetmisr.com

    E-mail: publishing@nahdetmisr.com

    مكثت طويلًا أدور فى فلك صناع النغم، وصياغ الكلم، وسلاطين الطرب، وأساطين الألحان، وأساطير الدندنة، وسافرت على أجنحة التواشيح والطقاطيق والموَّال والدور، ورجع الآهات، ومنازل المقامات، وانسجام الأبيات، ودوزنة الآلات، وأصداء الرتم، وحلو القصائد، وغزل الأزجال، وصوفية الرباعيات، وروحانية الابتهالات، ومسارات الربع تون، وسيادة السيكا، وسطوة النهاوند، وأنين الهجر، وتغريد الوصال، وتمهيد اللقاء، ودعاء السماء، وحديث الدفوف، وترانيم الشجن، وكسر القلوب، وليل السهُّاد، وقهر العزول، وضوء القمر، وقلب يحب فيشدو الكمان، وقصة عشق يرويها الجيتار، وغرام وانتقام على السكسافون، وحزن دفين ما بين السطور، وأورج شغوف يصاحب الأوكرديون، وعنف وشدَّة من الأوبوا الخشبية، وسوانح سماوية من الفلوت الفضية، ومزمار وزغاريد ورقص وزفّة عرس، وأنة عشق، وسجالات ربابة... ولأن مقدرتى الموسيقية تتوقف عند هز أصابعى ورعشة قلبى وفوران عروقى وتمايل رأسى تجاوبًا مع الألحان والإيقاعات، توقفت على أعتاب بوابة الرصد.. رصد الحوار الشعبى المصرى الأصيل الخصيب مع الكون والطبيعة والأشياء، الذى كانت أداته الأغنيات والتعاويذ والرقى، وكلها من الغناء، وقد ظل الغناء طول عمره تعويذة سحرية يحاول بها المصرى فض مغاليق الكون وأسراره الغامضة، فلدينا أغنيات لطرد الحسد، وللعمل، وللجنود، وللنيل والقمر، وللحصاد، وللشادوف والمكن، وللساقية وللنخيل، وللمسافر، ولتوديع الحجاج واستقبالهم، وأغنيات للحب، للخطوبة، للبيضاء والسمراء، للصعايدة والشراقوة والبحاروة، للصيادين، لعمال التراحيل، للغلابة الشقيانين، لقراءة البخت، لليلة الحناء، للميلاد، للمهد، للسبوع، للختان، للشباب والذكريات ونداءات الباعة، والروبابيكيا، والأسفار والقوافل والطريق، والابن والشهيد، وللأم والزوج والأخ وبيت العيلة، ومولد النبى، للقضية والوطن، لقد وجدت الغناء فنًّا ليس فى تركيب شخصيتنا القومية، بل هو مضمون هذه الشخصية، هو ذاتها، باعتبارنا بلدًا تربى على سيمفونية الطبيعة الغنَّاء ... ويفتح الغناء بوابة الألحان، وأبيات الشعراء المبدعين..

    وأبدًا لسنا نؤرخ.. لا .. ولا ننتقد.. وإنما مجرد دندنة ارتفعت فيها أصوات الآلات الموسيقية، والجمل اللحنية، وشدو خاطب الروح والعقل والوجدان، ولحن لموسيقار كان تيارًا جارفًا لو طال عمره لقام بتلحين الحصى والتراب والأشجار..

    دو..رى..مى

    شقيت فى طفولتى وإن كان شقائى نعيمًا للآخرين.. كان فى البيت بيانو لزوم جهاز الست الوالدة، ولم تكن تأتينا قريبة للزيارة وفى ركابها موكب أبنائها إلا ويصبح ذلك البيانو مصدرًا لعذاباتى ومنبعًا لوجع دماغى، فالعيال ما إن يستقر بهم المقام فى الصالون المذهب ونقوم إزاءهم بواجب الضيافة من خشاف وكركديه فيدلقون من أطباقه وأكوابه بالرجرجة وقلة الحياء على كسوة الطاقم المقدس نقاطًا صريحة كطرطشة دم قتيل لساعته، حتى نظل بعد مغادرتهم المأمولة منذ قدومهم فى انحناءات دءوبة تقصف الظهر، ندور رايح جاى على تشويهاتها بقطعة قماش مبلولة بالصابون.. ما إن يعبّ المساخيط جرعات من مشاريب الضيافة هذه حتى تركن الكاسات والكبايات فى أى موضع (كلشكان) فى طريق اندفاعاتهم تجاه البيانو مصدر الإغراء وبوتقة حزب التجمع لتبدأ سيمفونيات الجحيم التجريدية.. والغريب أن والدتى والست قريبتها رغم وجودهما فى إطار الشقع والرقع ومعاول التخبيط، فإنهما كانتا تظلان فى ذروة النشوة والتحام الدردشة تعيشان عالمهما الخاص، بل تسمعان بعضهما جيدًا، بل تضحك إحداهما وتهز كتفها بسعادة على الفصل اللى هوّه اللى قامت به الثانية فى عدوتها، وتدفعها بيدها فى هزار حنون «والنبى يا أختى شاطرة ما هو من غلبك معاها».. ويأذن المولى بالرحيل فتتثاقل الضيفة مزمعة الخروج، فتلم أذرع أخطبوتيتها من فوق أصابع البيانو السوداء والبيضاء والتى فتحت ظهره فى حب استطلاع لرؤية الأوتار التى تتسبب فى البعث الموسيقى، لنقف فى مهمة توديعها بمثل ما استقبلت به من حفاوة على بسطة السلم ساعة تلح فيها الوالدة أن يعود الفريق المدمر للجلوس ساعة أخرى «وحياة معزتك وغلاوتك لم نشبع منك، وواللـه ويمين باللـه لسه بدرى».. وأضع يدى على قلبى خوفًا من نتائج غلظة الحلفان، لكن ما يثلج صدرى العبارة المعهودة «معلش يا أختى علشان مانسيبش البيه قاعد لوحده فى البيت».. ولا نرى تبدد الخيالات الرازحة عند بئر السلم، التى تودع على كل سلمة «مع ألف ألفين سلامة».. «آنستم وشرفتم».. «زارنا النبى».. «ماتطولوش علينا».. لا نرى ذلك التبدد إلا بعد أخذ الوعد بالإياب العاجل إلينا.. «بس على بيات لأجل نشبع منكم وأقعد معاكى يا غالية على راحتنا أقولك وتحكى لى على فصول اللى ماتتسماش، وآهى فرصة للأولاد يلعبوا مع بعض ويتسلوا.. إخوات يا حبيبتى.. والمرّة الجاية بمشيئة الرحمن حاعمل لهم صينية القرع العسلى.. وعندهم البيانو يتنططوا عليه يا روح أمهم».. آه يا أمى.. نطقت باسم مربط الفرس.. سؤدد العذاب. بركان وجع الرأس.. كان ذاك البيانو بالذات مركز همى وغلبى وغيظى من أمى.. فإلى جانب ما كان يفعله عيال الضيفات على أصابعه الصارخة منهم، كانت - رحمها اللـه- تصر على أن تتعلم شقيقتى الكبرى العزف عليه بمفهوم أن ثقافة بنت الأصول ومقوماتها لابد وأن تضم دراسة لارتفاعات وهبوطات السلم الموسيقى، لهذا فقد استأجرت من أجلها واحدة خوجاية تأتى إلينا ثلاث مرات فى الأسبوع تجلس إلى البيانو فوق مقعده اللولبى، وتنحنى الشقيقة بجوارها تتدرب من فوق كرسى السفرة المرتفع.. وهات يا «رى».. وآه يا «مى».. وأوَّاه يا «صول».. ونهارى أسود غطيس من الـ«دو» بالذات!!.. ولم تكن تكاد تستقر فى المسامع نغمة تتدفق معها الدماء طبيعية فى العروق حتى يتم الانتقال لاستهلال تلمس إتقان جملة موسيقية أخرى.. و«أنا عملت إيه فى دنياى استاهل به الانتقام ده.. يا ربى».. ولأن والدتى كانت إنسانة عشرية فكثيرًا ما دعت الخوجاية إلى احتساء فنجان قهوة معها فى طراوة البلكونة تاركة أختى هناك تُعيد ما تعلمته.. وفى خضم الالتصاق الحميم من المعلمة الوحدانية لدفء بيتنا فوجئت بها مرة ترتدى قميص نوم الوالدة، وقد ربطت دماغها بمنديل مزموم على فصين ليمون على جانبى جبهتها وواخدة تعسيلة فى أودتنا، ومطلوب منا نحن أصحاب البيت السير على طراطيف أصابعنا حتى لا نطير النوم من عين الغلبانة بعد أن صعبت موت على أمى إثر ما جسَّت راسها ولقيتها سخنة وبتعطس والكحة شارخة زورها، فأعطتها منقوع لبان دكر وإسبرنتين ودعتها ترقد «الدنيا ماطارتش والبيانو مرزوع مارحلشى».

    كثيرًا ما سمعتها، الخوجاية، تقول لأختى إنه فى اليوم الذى ستتقن معها فيه عزف سيمفونية للمدعو تشايكوفسكى تكون مهمتها فى بيتنا قد انتهت.. ابتهلت كثيرًا أن يطاوعنا السيد تشايكوفسكى، ويجعل ألحانه خفيفة على أختى.. والمدهش فيما قد حدث لى من تطور سماعى، فرغم التدريبات المتعثرة فى البداية إلا أنه مع تصاعد إتقانها أصبحت أتابع النغمات، بل وتشدنى الموسيقى لأنجذب تجاه البيانو أطلب على لسانى أنا سماع ألحان «بحيرة البجع» والأميرة النائمة و«كسارة البندق».. ودرت أبحث فيه وعنه.

    وأتساءل: هل حدث لغير تشايكوفسكى أن تنصاع له النغمات مثلما أسلمت له قيادها ليتصرف كيف شاء له فنه؟!! لقد صاغ عندما بلغ العبقرية من الموسيقى الأثيرية شخوصًا تكاد تراها العين مجسدة.. النغمات كائنات تتحرك وتنفعل وتكره وتُحب وتنفجر بالغضب وتنفجر بالضحك.. واللـه لقد أرسلت أذنى على معبر موسيقاه إلى عينى صورًا أكاد أقسم أنى رأيتها بالسمع والبصر.. رأيت تشايكوفسكى يصوغ بالسلم الموسيقى راقصة الشرق التى تلتف بغلالة لتتهادى على أنغام الدفء وفى ضوء الشموع.. رأيت زهور الفالس التى تستطيع خلال نغماتها الرقيقة التمييز بين بساتين الورد فيها وخمائل الياسمين وفازات زهور الأوركيد. ومن يعشق تشايكوفسكى يبحث عنه نغمًا وتاريخًا وذكريات.

    ومن يعشق تشايكوفسكى تسكنه الموسيقى فلا يرتوى إلا برحيق الألحان غربية كانت أم شرقية.. سيمفونية كانت أم طقطوقة.. كونشرتو أو مونولوجًا.. سوناتا أو موالًا.. وفى رحلتى الدوَّارة مع الدندنة الشرقية وجدت غناءنا الذى نُسميه الآن جديدًا ما هو إلاّ امتداد للقديم بعدما تعايشا معًا ليتخذ الحفيد مكانه إلى جوار الأب والجد، وتتجاوب الصدحات الباقية من الغناء القديم مع الأنغام الجديدة التى تملأ الدنيا.. ويبقى لحن الموسيقار الخالد سيد درويش الذى وضعه منذ أكثر من قرن من الزمان «زورونى كل سنة مرّة» معزوفة عالمية، فالعبقرية لا تموت، وأبدًا لم تمت على ألسنتنا وفى أسماعنا ونحن فى الثلث الأول من القرن الواحد والعشرين الذى نذهب فيه إلى دار الأوبرا المصرية وندفع فى التذكرة الألوف لنجلس منصتين لساعات فى انسجام تام لطقطوقة «ليه يا بنفسج بتبهج» لصالح عبدالحى، ودور «قدّه المياس» لسلامة حجازى، وموشح «لما بدا يتثنى حبى جماله فتنى» للشيخ المسلوب، و«أنا عشقت وشفت غيرى عشق» لمنيرة المهدية، و«هو ده يخلص من اللـه القوى يذل الضعيف» لزكريا أحمد، و«بلاش مناهدة طاوعينى إيه تاخدى لـمّا تلاوعينى» لعبداللطيف البنا، و«اوعى تكلمنى بابا جاى ورايا» لنعيمة المصرىة، و«اللى حبك يا هناه» لأم كلثوم، وطقطوقة «هاجرانى ليه ظالمانى ليه» لمحمد عبدالوهاب..

    وما بين هؤلاء وأولئك كانت هناك أشعار وألحان ومطربون ومطربات تجولت فى عالمهم بأذن العشق لا بعين الخبير.

    دندنة

    سمَّعنى.. اطربنى.. اشجينى..ارأف بحالى وغنِّ لى غنوة ألحانها حلوة تأخذنى بعيدًا.. ترحل بى على جناح الشوق كله.. تؤرجحنى تهدهدنى تفسحنى تواسينى تسلينى، تسقينى رحيق الشهد، تصبرنى تفكرنى تسهرنى تسفرنى ترجعنى.. تقارب كلماتها ظنى، وتمسح بالنغم دمعى، وتسكب فى عروقى سلامًا.. الحكاية ــ قسمًا عظمًا ـ ليست حكاية رتم ولا نص تون ولا كونشرتو ولا سيمفونية ولا موسيقى حُجرة ولا جهار ولا جيتار ولا مايسترو ولا كونترباس ولا شوبان ولا شومان ولا خاتشادوريان ولا فيانولا ولا بيانولا ولا حسب اللـه ولا يوهان سباتيان باخ ولا إيقاعات ولا ‎مقامات، ولا كورساكوف ولا كورس ولا سوناتا ولا تشيللو ولا طبلة ولا رق ولا عود ولا ربابة وناى، ولا كنت فين يا على وأمك بتدوَّر عليك.. الحكاية نغمة تدخل قلبك، تسكن روحك، تشنف أذنيك، تزلزلك، ترقصك، وتقلب كيانك، تنتشى، تنفعل، تقف على حيلك، تصفق، تقول كمان وتبارك اللـه، وما لها مثيل، وإيه ده يا شيخة، وعظمة على عظمة يا ست، وتانى تانى لأجل النبى.. و.. تصبح فى وئام موفور الانسجام، اللحن يجرى فى دمك، متربع على لسانك، تردده نومًا ويقظة، ويفضل يزن يطن يوش فى دماغك.. تدندن به بلا مناسبة فى الطالعة والنازلة، وقبل الأكل، وبعد الأكل، وفى الحمام ووسط الزحام..

    وأنا اللى كنت ملتزمة السماع لموسيقى البرنامج الثانى فى الراديو، وبعدها أسيرة لغواص فى بحر النغم لعمار الشريعى، وتلميذة مُنصتة بانبهار لأستذة كل من رتيبة الحفنى وسمحة الخولى، والآن لم يعد يدخل نافوخى مرجع وناقد ومحلل فى عالم الموسيقى والطرب سوى آخر الملحنين المحترمين حلمى بكر الذى قدم 1500 لحن لكبار المطربين مثل ليلى مراد ونجاة ووردة ومحمد الحلو وعلى الحجار وأصالة ومدحت صالح، إلى جانب 48 مسرحية منها «موسيقى فى الحى الشرقى» و«سيدتى الجميلة»، وغنت له شادية من كلمات مصطفى الضمرانى «ماتقولشى إيه ادتنا مصر قول حندى إيه لمصر»؛ ليحصل بعد أوبريت «الحلم العربى» على جائزة القوات المسلحة.. حلمى الذى نجا بأعجوبة من حادث سيارة كان ضيفًا على شاشة التليفزيون يقدم بأستاذية المتذوق روائع الموسيقار محمد القصبجى ليحلل لنا الكثير عن أعماله مثل «يا صباح الخير ياللى معانا، ونصرة قوية، ومدام تحب بتنكر ليه، وأيها الفُلك على وشك الرحيل، وليت للبراق عينا» و«مش ممكن أقدر أصالحك وكمان ماأقدرش أخاصمك» و«أنا شايفاك من ورا جرنالك قال عامل مش واخد بالك ادفع زكى عن أموالك حسنة وربك يكتبها لك»، وأن بداية القصبجى الحقيقية كانت فى عام 1928 حين طالع الجمهور بما يعتبر تحولًا جديدًا فى تاريخ الغناء العربى، وهى أغنية «إن كنت أسامح وأنسى الأسية، مخلصشى عمرى من لوم عنية» الأغنية التى سجلتها أم كلثوم على أسطوانة شركة الجرامفون التى عرضت عليها عرضين:

    إما أن تتقاضى مبلغ ثمانين جنيهًا على تسجيل الأغنية، أو تحصل على خمسة قروش عن كل أسطوانة تباع، ففضلت ثومة العرض الأول، وكان المكسب الكبير من نصيب الشركة التى باعت منها مليون نسخة، فلو أن أم كلثوم رضيت بالعرض الثانى لكان نصيبها فى ذلك الوقت خمسين ألفًا من الجنيهات.. ويعيد الملحن حلمى بكر الفضل للقصبجى فى تصميم مقاييس جديدة وأحجام مختلفة للعود، حتى يمكن توسيع مسافة النغمات أكثر من منطقة الجوابات والقرار، لذلك عَمَدَ إلى استخدام قواعد حسابية ونظريات هندسية فى تحديد طول الوتر وسُمكه «من الأنف إلى الفرس» وفى تجويف «القصعة»، وكان يرى أن وتر العود يجب ألا يزيد طوله على ستين سنتيمترًا حتى لا تضيع نغماته هباءً، ومن هنا عمد إلى تحسين تجويف قصعة العود، وزيادة عدد الأوتار وضبط وتر البكاه على نغمة قرار الجهاركاه.. ويروى بكر عن مدى إخلاص وتعلق القصبجى بأم كلثوم التى رفضت مقدمته الموسيقية الطويلة لأغنيتها التى لحنها من أجلها «رق الحبيب»، فامتثل صاغرًا لرأيها وفصلها ليجعلها قطعة موسيقية منفردة، وكانت فى ذلك الوقت قد أبدت له امتعاضها من تعدد ألحانه لبعض المطربات أمثال أسمهان وليلى مراد ونورالهدى وشادية وهدى سلطان وصباح، فتقوقع فى مقعده بالتخت أمامها يسمع الكـلام ويعزف لها وحدها أنغامه العبقرية، وعندما عادت يومًا من أمريكا بعد رحلة نجاح علاجها من مرض خطير التقاها القصبجى مع جمع من زملائه ــ من بينهم الدكتور عالم الموسيقى محمود أحمد الحفنى ــ فى عرض البحر بزفة كبيرة تغنى فيها سعاد محمد من ألحانه «الفن من فرحة أهله حالف ما ينام»، ومن بعد وفاته ظل مقعد القصبجى ابن عام 1886 شاغرًا فى تخت أم كلثوم حتى خشى معهد الموسيقى العربية أن تخلو الفرق الموسيقية الأخرى من آلة العود العربية الأصيلة، فأرسل إليها لملء الفراغ بشخصية من تلاميذه فاستجابت واختارت تلميذه عبدالفتاح صبرى ليشغل مكانه.

    وحول الإلهام قال يومًا الموسيقار زكريا أحمد صاحب الـ 1070 أغنية إلى جانب 56 أوبرا وأوبريت: إن اللحن لا يوجد من يؤديه كما أريده إلا أم كلثوم التى تسمعه منى مرة وتغنيه معى فى الثانية وفى الثالثة تغنيه وحدها، وفى وصفه للجو الـمُلهم قال بأنه يرتاد للإمساك به حدائق مصر كلها، ويسير فى الشوارع، ويركب الترام، وينصت إلى زمارة الكمسارى، ويتبع بائع الذرة المشوية ليسمع تنويعات ندائه على كيزان العسل، حتى يقبض على مفتاح اللحن، وقد يمر به أصدقاؤه أثناء تجواله والبحث عن الإلهام فلا يرد تحياتهم، وقد تلتقى أنظاره بأنظارهم فلا يراهم لأنه يُفكر بعقله وأعصابه ووجدانه فى وضع لحن جديد.. وحول عملية التلحين ذاتها يقول زكريا: «إننى أتعرى من شخصيتى هذه المرئية لألبس شخصية المغنى، ولا أعنى هنا أننى أخضع له لكنى أنقر على حنجرته ثم أخلق من ذاتى ذات المغنى، ثم أعلمه لحنى وأتركه يغنى، وأصفق له إذا أجاد. إننى مستودع من البشر مملوء بمختلف العواطف والقوى، فكلما احتجت إلى استدعاء أحدهم مددت يدى إلى قلبى وأخرجت منه نغمة تختلج لتتدفق فى منافذ قلوب الناس». وليس أجمل من ليلة خلق فنى موسيقى عاشها نجيب محفوظ فى بيت زكريا أحمد فى شرخ الشباب ليكتب عنها سطوره: «ليلة عادية، لا تميزها أحداث، إلا أنها لم تكن ككل الليالى، فقد استمتعت فيها بكل المناهج من مغنى وطرب وأدب وفكاهة وحكايات، كانت ليلة عيد كبير، اجتمعنا فيها فى بيت شيخ الملحنين زكريا أحمد، كنا جمهرة كبيرة من الأصدقاء، منهم من يقرض الشِّعر، ومن يرتجل الزجل، ومنهم من يحترف التأليف ومن يشتغل بالموسيقى، وكان هذا التباين مدعاة لإقامة ندوة أدبية فنية تحدث فيها الحاضرون عن كل شىء، وشيخ الملحنين زكريا أحمد معروف بدعابته، وكان لا يفتأ بين الحين والآخر يقطع حديث المتحدثين بنكتة أو دعابة يضحك لها الحاضرون، ثم يتبعها بترديد باقة من مقاطع أغانيه أو بعض «طقاطيق» من الغناء القديم، ثم يسكت فجأة، ليستأنف الشعراء والزجالون إلقاء أشعارهم وأزجالهم ارتجالًا، وهم يتبارون مرة فى الهجاء ومرة فى المديح.. والشىء الوحيد الذى لايزال ماثلًا فى ذاكرتى من هذه الليلة الفريدة، هو قدرة زكريا أحمد واندماجه فى تلحين إحدى أغانيه فى هذا الجو العاصف.. ليلتها كان يُلحن لأم كلثوم أغنية مطلعها:

    ‎إيه أسمِّى الحب مااعرفش داه بَيِنُّه شىء مبيتوصفش

    ‎كان كلما لحَّن «كوبليه» منها أَسمعه لنا لنردده معه، واستمر على هذه الحال حتى مطلع الفجر إلى أن انتهى من تلحين الأغنية كلها، بل جعل لها نهايتين عرضهما علينا، واختلف الحاضرون على اختيار واحدة منهما، ولكن الشيخ زكريا انحاز لرأى الأغلبية، وبدأنا نردد الأغنية كاملة ونغنيها جماعة قبل أن تغنيها أم كلثوم، وكنت أشعر بسرور زائد؛ لأننى شهدت مولد أغنية وعشت فيها بالأذن والعين، وبعد عشرة أيام كاملة سمعت أم كلثوم تغنى اللحن فتذكرت هذه الليلة التى لن أنساها».

    وليس هذا مرورًا عابرًا وإنما التزام وتوقف حتمى عند العديد من المحطات الجوهرية فى المسيرة الموسيقية المصرية عبر العقود القريبة الماضية، لكن مجال الدندنة لا يتسع لذكر مناقب كل من أثروا الوجدان المصرى والعربى بألحانهم، والذين تتدافع أسماؤهم وأعمالهم على القلم، وكل منهم سيد متسيد صاحب سيادة ونغم، لكن القائمة طويلة واليد قصيرة، ومن بينهم الموسيقار هانى مهنا، والموسيقار هانى شنودة.. ابن طنطا - المولود فى 1943 - مكتشف العديد من المواهب الذين قام بالتلحين لهم، وعلى رأسهم محمد منير بألبومه «علمونى عنيكى»، وعمرو دياب فى ألبومه «يا طريق» وغنت له نجاة «بحلم معاك» و«أنا بعشق البحر»، ولفايزة أحمد «هدى الليل» و«على وش القمر»..ومنهم أيضًا الموسيقار عمر خيرت المؤلف والموزع وعازف البيانو ــ ابن شقيق الموسيقار أبوبكر خيرت مؤسس الكونسرفتوار ـ والذى درس العزف على البيانو على يد البروفيسور الإيطالى «كارو» لينتقل لدراسة التأليف الموسيقى فى كلية «ترينتى» بلندن، وينضم فى بداياته لفرقة «لى بى تى شاه» كعازف درامز والتى كان لها أثر واضح فى مؤلفاته الموسيقية، ولقد أطل عمر خيرت على الجمهور للمرة الأولى مع الموسيقى التصويرية لفيلم «ليلة القبض على فاطمة» عام 1983، وحصل على عشرات الجوائز على مستوى جميع ميادين الموسيقى، فى الأفلام والموسيقى والمسرحيات والفوازير، وكان له السبق فى إعادة توزيع الأغانى التى لحنها عبدالوهاب مثل «إنت عمرى» و«إمتى الزمان يسمح ياجميل»، فأعطاها مذاقًا خاصًّا ليشكره صاحبها معتبرًا أنها أجمل هدية قدمت له، وكان لعُمر خيرت أسلوبه الخاص فى الموسيقى التصويرية؛ حيث استطاع دمج الموسيقى الأوركسترالية الغربية بالأنغام الشرقية مستخدمًا الآلات الغربية مثل البيانو والإكسليفون، وآلات النفخ كالكـلارينت والأبوا والساكس، بالإضافة إلى الآلات الشرقية المميزة كالأكورديون والعود والقانون والكمان، ورافقت موسيقاه الكثير من أعمال النجم عادل إمام مثل «زهايمر» و«فرقة ناجى عطاللـه» و«خلى بالك من عقلك»..

    ولا يغفل السلم الموسيقى عن وضع أول عازف أورج مصرى فى الصدارة وهو مجدى الحسينى ابن أسيوط 1960 الذى انضم إلى فرقة عبدالحليم حافظ وظل مشاركًا له حتى وفاته فى 1977، وعزف مجدى فى فرقة أم كلثوم وهو لم يتجاوز السادسة عشرة عندما غنت «أقبل الليل»، وجعل من آلة الأورج سيمفونية عذبة أفرزت العديد من القصائد والأغنيات لعمالقة الطرب مثل فريد ونجاة ووردة وفايزة وصباح وسعاد محمد.. وكسر مجدى التقليد الذى كانت تتبعه أم كلثوم بأن يجلس كل العازفين خلفها حين أصرَّ أن يعزف واقفًا فكان له ما أراد، وكان عُمر خورشيد وراء تقديمه لعبدالحليم حافظ ليعزف معه على الأورج أغنية «مشيت على الأشواك» فى فيلم «أبى فوق الشجرة»، وكان لم يزل فى الرابعة عشرة، وحول تطور عبدالحليم وسخائه على فنه يذكر مجدى الحسينى أثناء توجههم للمطار للعودة للقاهرة من لندن أنه أبدى له إعجابه بأورج غالى الثمن فسأله عبدالحليم عن سعره، فذكره له متمنيًا لو باع هدومه ليشتريه، فما كان من حليم إلا تأجيل السفر والتوجه لشراء الأورج لكن السيولة المادية التى معه لم تكف للشراء فباع ساعته فى الحال وأكمل الثمن وعادوا بالصيد الثمين للقاهرة!

    وعلى ذِكر موسيقى الجاز، فرائدها فى مصر والعالم العربى هو الموسيقار يحيى خليل ابن القاهرة فى 1946 الذى كوََّنَ أول فرقة جاز بمصر فى الرابعة عشرة من عمره وأطلق عليها اسم «كايرو جاز كوارتيت» ليُسافر بعدها للدراسة فى أمريكا وهو فى العشرين ليلتحق بمعهد «روى ناب» للجاز لمدة خمس سنوات تتلمذ فيها على يد العازف الأسطورى «روى ناب» نفسه من كان مُلهمًا ومعلمًا للعديد من أشهر عازفى الجاز فى العالم، ويطوف يحيى أنحاء أمريكا ويعزف مع العديد من فرق الجاز والصول والروك والبلوز، ويصول ويجول بفرقته التى تضم عازفين من جميع أنحاء العالم فى أكثر من عشرين دولة وأكثر من مائة مدينة، ويشارك فى أكثر من خمسة آلاف حفل ومهرجان خلال الأربعين سنة الماضية، ومن خلال قيام يحيى خليل ـ الشبيه بالروائى الأمريكى إرنست هيمنجواى ـ بتطويع الآلات الموسيقية الغربية لعزف الألحان الشرقية مما جعل جيل الشباب المصرى يُقبل على موسيقاه ويُعجب بها ويتزاحم لحضور حفلاته فى دار الأوبرا فى الهواء الطلق بالمسرح المكشوف، ومسرح الجمهورية وفى قاعة المؤتمرات بالإسكندرية، وأينما حل وارتحل.. وليحيى برنامجه التليفزيونى الموسيقى «عالم الجاز».. وعبر رحلة طويلة حرص فيها يحيى خليل على التميز ورفض الخضوع لمنطق السوق مخلصًا لأفكاره وثقافته الواسعة، فهو مؤمن بأن لكل فنان بصمة لابد وأن تظهر فى كل عمل يقدمه للناس، وهو فى السينما لم يشارك إلا فى أفلام فاتن حمامة «أرض الأحلام» و«يوم حلو ويوم مر»، وقد قامت شركة كولومبيا بإنتاج فيلم خاص عنه مثل الفيلم التسجيلى الذى قامت به قناة النيل الدولية بعنوان «رجل الجاز»...

    ويُعد عبدالحميد على أحمد الشاعرى وشهرته «حميد الشاعرى» ابن إقليم برقة الليبى بمدينة بنى غازى فى 1961 النجم الموسيقى المفضل لدى مواليد الثمانينيات، ورغم دراسته للطيران المدنى فى بريطانيا تبعًا لرغبة والده، قام بإشباع هوايته الموسيقية باستئجار أحد استوديوهات التسجيل الصوتى بلندن لإجراء تجاربه فى التلحين والغناء لإصدار ألبومه الأول «عيونها»، لكن الأذن المصرية لم تتقبل تلك التجارب الأولى، ومع ألبومه الثانى حقق نجاحًا كبيرًا، ليُقدم خلال مسيرته سبعة عشر ألبومًا لعشرات المطربين والمطربات، وكان له السبق بتقديم الدويتو الغنائى مع أكثر من مطرب منهم مصطفى قمر فى أغنية «غزالى» وهشام عباس فى دويتو «عينى»، ويعود إليه الفضل بالمشاركة فى صناعة جيل كامل من المطربين؛ منهم عمرو دياب، ومحمد منير، وسيمون، وإيهاب توفيق، ويفضل الشاعرى عدم تسليط الأضواء على حياته الخاصة، فلا يتحدث عن زوجته أو أبنائه نديم ونوح ونبيلة ونورا، ويستعد للعودة قريبًا للساحة الفنية بتقديم أعماله بطريقة مبتكرة، ليس على شرائط الكاسيت وإنما على نظارة ثلاثية الأبعاد مسجلًا عليها أغنيات الألبوم مصورة، ومن هنا لا يمكن السطو عليها أو الاطلاع على محتواها إلا بامتلاك النظارة..

    وفى منزلة الريادة يأتى ابن سمالوط بمحافظة المنيا فى 16 إبريل 1948 عمار على محمد إبراهيم على الشريعى الشهير بـ«عمار الشريعى» صاحب العلامات والبصمات فى الموسيقى الآلية والغنائية المصرية، بالإضافة إلى الموسيقى التصويرية للعديد من الأفلام والمسلسلات رغم عدم إبصاره، وقد حفـظ عمــار خمسـة أجـزاء من القـرآن فى طفولته، واشـترى له والده بيانو للعـزف عليه، وخـلال فـترة الدراسة تعرف إلى الموسيقار كمال الطويل الذى تبناه، وبمجهوده الذاتى أتقن العزف على البيانو والأكورديون والعود ثم الأورج، حيث بزغ نجمه فيه كأحد أبرع عازفيه فى جيله، واعتبر نموذجًا فى تحدى الإعاقة نظرًا لتعقيد آلة الأورج واعتمادها بدرجـة كبيرة عـلى الإبصـار، وكان أول لحـن له «امسكوا الخشب» للفنانة مها صبرى عام 1975، وزادت ألحانه على 150 لحنًا لمعظم مطـربى ومطـربات مصر والعـالم العربى، ومن اكتشـافاته مـنى عبدالغنى، وآمال ماهر، وعـلى الحجـار.. ومـنذ عام 1991 حتى 2003 وضع عمار جميع الألحان والموسيقى لاحتفاليات أكتوبر التى تقيمها القوات المسلحة المصرية..

    وقد تجـاوزت أعمـاله السينمـائية بوضع الموسيقى التصويرية لها 50 فيلمًا، والتليفزيونية 150 مسلسلًا، وكان لبرنامجه الإذاعى «غواص فى بحر النغم» شهرة فائقة، حيث كان يقوم بتحليل الموسيقى والأغانى بطريقة مبسطة للمستمع العادى، ومن بعدها قام على قناة دريم بتقديم «سهرة شريعى» استضاف فيها غالبية نجوم الطرب والألحان الحاليين والمتقاعدين، وقد أصيب الشريعى فى ثورة 25 يناير بأزمة قلبية أودت بحياته فى ديسمبر 2013 عن عمر جاوز 64 عامًا لتبقى ومضات من ألحانه عالقة بالأذن مهما يطل الزمن مثل لحنه مع رأفت الهجان، وزينب والعرش، وأحلام هند وكاميليا، وحب فى الزنزانة، والمصراوية، وريا وسكينة، وزيزينيا، وأبوالعلا البشرى، ودموع فى عيون وقحة، ولا تنسى الأذن صدى وقع خطوات السعدنى فى ليل الحارة المصرية فى مسلسل «أرابيسك».. وكان عمار الشريعى الفنان الذى يرى بالبصيرة قد ساهم مع مؤسسة «دانسنج دوتس» الأمريكية فى تقديم نوتة موسيقية بطريقة «برايل» للمكفوفين.

    ويمثل محمد عمر خورشيد الشهير بـ«عمر خورشيد» ابن حى عابدين فى 1945 أسطورة صنعت نفسها بشرائه لأول جيتار وهو فى التاسعة من عمره بـ12 جنيهًا من مدخراته؛ لتتفجر موهبته بعد دخوله عالم الموسيقى الشرقية عن طريق بليغ حمدى وعمله مع كبار المطربين فى عصره مثل أم كلثوم وعبدالحليم ونجاة وفايزة، وكان ضيفًا دائمًا على منزل الست يعزف لها مقطوعات صغيرة صعبة أعجبت بها؛ لذلك عندما احترف الموسيقى طلبت منه العمل فى فرقتها، فكان ذلك بمثابة شهادة تاريخية بموهبته أمام الجميع، وقد بدأ عمله كممثل سينمائى فى فيلم «ابنتى العزيزة» إخراج حلمى رفلة فى 1971، والذى شارك فى بطولته نجاة ورشدى أباظة، وكانت أول بطولة مطلقة له مع صباح فى فيلم «جيتار الحب»، وشاركت معهما البطولة فى نفس عام 1971 ملكة جمال العالم جورجينا رزق، كما اشترك فى بطولة أكثر من عمل تليفزيونى منها «الحائرة»، «الخماسين»، وقام بمغامرة الإنتاج السينمائى لفيلمى «العاشقة» و«العرافة»، وخلال عمره القصير الذى مرَّ كالسراب تزوج 5 مرات، فى البداية لينا السباعى، ثم الفنانة ميرفت أمين، ثم جورجينا رزق، ثم الفنانة مها أبوعوف، وعارضة الأزياء اللبنانية جيرالدين التى كانت بصحبة الفنانة مديحة كامل فى سيارته عندما اختلت عجلة القيادة فى يده ليتسبب الموقف الدرامى فى الحادث الذى ترك آلامًا غائرة فى القلوب والذى أودى بحياة أسطورة لنموذج فى ريعان الشباب.

    ولم تزل قائمة أصحاب الإبداعات الموسيقية فى مصر تتواكب تتدافع على السطور لننتقى منها أحد أساطينها وهو الموسيقار الكبير محمد سلطان ابن الإسكندرية خريج الحقوق مكتشف هانى شاكر ونادية مصطفى ومحمد ثروت وسميرة سعيد، الذى أخذه محمد عبدالوهاب من يده لمبنى الإذاعة ليُقدمه كملحن ومطرب على درجة رفيعة المستوى؛ ليظل سلطان لصيقًا به فى مكان الأب الروحى له حتى وفاته، فيقوم بمواراة جثمانه بنفسه داخل القبر، وكان سلطان قد بدأ حياته الفنية كممثل ليشارك فى بطولة عدد من الأعمال السينمائية قبل زواجه من فايزة أحمد ليتفرغ للتلحين لها ولغيرها من أصحاب الأصوات المميزة، ويصنع الزوجان بتلاحمهما أجمل الألحان والأبناء، لكن من بعد وفاة فايزة التى كسرته - على حد قوله - يعيش سلطان فى هدوء مستغرقًا فى القراءة، مرددًا آيات القران الكريم الذى يحفظه عن ظهر قلب، وعندما يُسأل سلطان عن حال الطرب اليوم فى مصر، تأتى إجابته قاطعة بأنه لا يوجد الآن فى مصر طرب، ويستمر سؤاله عن السبب فى المستوى المتدنى للطرب، فتكون إجابته بتراجع الإذاعة والتليفزيون عن الإنتاج، وبالتالى أصبح لا يوجد لجان استماع من خبراء الموسيقى فى مصر لكى تكتشف المواهب الغنائية التى تستحق أن تصل لكل الناس، وأصبح بديل ذلك برامج المواهب الغنائية التى يكون هدفها المكسب المادى فقط لصالح القنوات الفضائية... وعلى حد علمى بالفنان التشكيلى الكبير حسين بيكار ابن حى الأنفوشى بالإسكندرية 1913 أنه إلى جانب الرسم ماهر فى العزف على آلة «البُزق» الشبيهة بالربابة، لكننى فى البحث عن معدلات الدندنة على الساحة الموسيقية وجدت بيكار فى طفولته شغوفًا بالموسيقى ليعلم نفسه العزف على العود الذى اشتراه والده لأخته وأصبح صاحب مهارة كظاهرة لافتة فى الحى، خاصة أنه كان يصاحب العزف بغناء الطقاطيق الصغيرة، وفى مدرسة الفنون الجميلة التقى بأستاذه الفنان أحمد صبرى؛ حيث اجتمعت موهبتهما الموسيقية إلى جانب الرسم، فاشترى صبرى خصيصًا عودًا لتلميذه وجلس يرسمه عازفًا فى لوحة شهيرة على مدى عشر جلسات، وبعد التخرج فى 1933 بدأ بيكار نشاطه الموسيقى بتكوين فرقة تقدم أعمالها على المسرح ليغنى فيها بيكار مع كبار مطربى ذلك الزمان أمثال صالح عبدالحى وزكريا أحمد وعبده السروجى، وكانت بعض أعمال الفرقة تذاع على محطة إذاعة محلية تسمى «سابو»، ومنذ تخرج بيكار فى الثلاثينيات رسم لنفسه العديد من الصور سجل فيها جميع مراحل عمره حتى أيامه الأخيرة وظلت آلة البزق تصاحبه فى خلواته وفى جلسات الأصدقاء.

    ‎وفى مسيرة الدندنة كان ولابد أن نعيد الفضل لأصحابه تاريخيًّا، ولا نهيل التراب على من أخرجونا يومًا من الظلمات إلى النور، ومن تحت لفوق، ومن خلف ستائر النسيان لخشبة المسرح فى الأمام، خاصة ذلك الكبير الذى يتجلى اسمه فى كل شأن ومحفل كعلامة فارقة بين وبين، كضوء نافذ لمستقبل جديد، كصاحب نهضة عملاقة على أرض مصر فى كل مجال، كنقطة بداية لعبارة صُنع فى مصر.. محمد على.. مؤسس مصر الحديثة الذى وجدته رغم مهامه الكبيرة قد أقام أول مدارس للموسيقى بمصر تعتمد على الأسلوب العلمى لتدريس الموسيقى فى مهمة إعداد العازفين وقادة الفرق، مما ساعد بعدها على انتشار الموسيقى فى ربوع مصر، ومن تلك المدارس مدرسة الطبول والأصوات بناحية الخانقاه فى 1827، ومدرسة للعزف بالنخيلة، ومدرسة الآلاتية بمصر الجديدة، وكان أساتذة هذه المدارس من الألمان والفرنسيين ومنهم «بوبا بك» و«جلبرا» لتواكبها المؤلفات الموسيقية مثل «سفينة الملك ونفيسة الفلك» لعمر شهاب الدين، و«تحفة الوعود بتعلم العود» و«حياة الإنسان فى ترديد الألحان» و«الروضة البهية فى أوزان الألحان الموسيقية» و«الكتب الثلاثة لمحمد ذاكر بك».. ومن أمثلة أشهر ليالى الموسيقى والغناء يوم الإثنين الموافق أول نوفمبر 1896 عند حضور الخديو إسماعيل افتتاح دار الأوبرا الملكية بالقاهرة الذى قدمت فيه أوبرا «ريجوليتو» لفيردى، وكان الحدث الموسيقى الثانى هو «فرح الأنجال» فى 15 يناير 1873 لتستمر لياليه أربعين ليلة، حيث بدأت الاحتفالات بزواج ثلاثة من أبناء الخديو إسماعيل وأخت لهم التى تبارى فيها كبار مطربى ذلك العصر ومطرباته وعلى رأسهم عبده الحامولى والمطربة ألمظ.. وعودة إلى صدر الإسلام عندما ظهر الكثير من القيان من بينهن «سيرين» مولاة حسان بن ثابت إحدى الجاريتين اللتين أهداهما المقوقس فى عام 630م إلى الرسول ﷺ، وقد روى الأصفهانى صاحب «الأغانى» أن «عزَّة الميلاء» تلميذة سيرين كانت تغنى من أغانى سيرين، وبهذا تكون الموسيقى المصرية القديمة قد وجدت طريقًا إلى الجزيرة العربية منذ فجر الإسلام فى حنجرة سيرين وتلميذتها، فوضعت بذلك نواة الصلة الفنية بين مصر والموسيقى العربية.. هذا ويعد أبوعبدالمنعم عيسى بن عبداللـه الذائب أول مغنٍّ وموسيقار فى الإسلام، وسُمِّى الذائب لكثرة ترديده البيت التالى:

    قد برانى الشوق حتى          صرت من وجدى أذوب

    ‎ومن تلامذة الذائب كانت «عزة الميلاء» التى سُميت بهذا الاسم لتهاديها على الجانبين، وقيل إنه فى مجلسها كان لابد من الصمت التام، ومن بدر منه عمل مخل جوزى لفوره بالعصا، وقد وصفها طويس بأنها «سيدة الغناء العربى»، وألف فيها إسحاق الموصلى أربعين كتابًا، وكان فى حد ذاته فلتة زمانه حتى قال فيه الخليفة الواثق: «ما غنَّانى إسحاق قط إلا وظننت أنه قد زيد فى ملكى، وإن إسحاق لنعمة من نِعم اللـه، ولو أن العمر والشباب والنشاط مما يشترى لاشتريتهن له بنصف مملكتى».

    وعندما مات إسحاق رثاه الخليفة المتوكل بقوله: «ذهب صدر عظيم من جمال الملك وبهائه وزينته».

    Section0016.xhtml

    كوكبة من الطاقات الفنية الفذّة فى عالم النغم قلما يجود الزمان بمثلها مرة أخرى.. أئمة أساتذة الفن الأصيل التى سوف تخلد ألحانها فى تاريخ الموسيقى الشرقية.. كانت مهمتى تجاهها من بعد الاستغراق فى عالم الآلات والطرب الوقوف بقلمى الشغوف على شاطئ الحيرة لتحديد لقب أى منهم، فالغالبية شدت بالغناء وكانت لها فى ميادينه صولات وجولات وأدوار وقصائد وطقاطيق، والغالبية أيضًا نسجت الألحان التى غناها أشهر المطربين لتشارك بالنصيب الأكبر فى صنع أمجادهم.. ومن هنا اصطحبت معى موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب وحده كنموذج فريد لأضعه تاجًا على جبين الغناء فى فاصل المطربين.. ودفاعى الشرعى أن أشهر ألقابه الرفيعة كان «مطرب الملوك والأمراء»..

    الخُلعى يا بنات!

    كامل الخُلعى

    Dandana2025.xhtml

    راحوا لبيتهوفن يسألونه: من هو الموسيقى الموهوب؟ فرد عليهم أنه الذى إذا سمع أنثى تُغنى فى الحمَّام وضع أذنه لا عينه على ثقب المفتاح.. وعندما أبدى أحدهم إعجابه الشديد بلوحة لسيزان وسأله: كيف تخرج الألوان بديعة من بين أصابعك بمثل هذا الإتقان؟ أجابه: إنى أخلطها بدمى!.. هكذا الفنان.. قضيتى أنا فى الحياة.. الذى أعجبت به وأحببته وتزوجت منه ولمست حلمه واحتويت هواه ورحبت بوحيه واستأنست انطلاقته وصاحبت انصهاره وعزمت إلهامه على الفطار والغدا والعشا.. وصعدت يومًا إلى مكتب توفيق الحكيم فى الدور السادس بالأهرام لأسأله عن علاقة الفن بالغرابة.. عن الحبل السُّرى الذى يربط بين الفنان ورحم اللاتقليدية.. وهل لابد أن تكون لدى الـمُبدع شعرة بوهيمية فى عمله إن لم توجد فى شخصيته؟! أعجبه سؤالى الذى نبش لديه نبع الذكريات، وكان دليل إعجابه أننى طلبت من عامل البوفيه فنجان قهوة على حسابه فلم يبد امتعاضًا، فقد كانت الذكريات تداعب حنجرته بدغدغة تفجِّر موجات ضحك تلقى برأسه إلى ظهر مقعده.. إى واللـه، فقد تذكر الحكيم فنانًا بوهيميًّا عاصره وهو «كامل الخُلعى»..

    سألته أن يزيدنى عنه، فليست سوى الدكتورة سمحة الخولى من كان يأتى ذكره على لسانها بلثغتها المحببة فى معرض الحديث الموسيقى التليفزيونى.. وصورة أمى محفورة على جدران طفولتى تجلس إلى أصابع بيانو جهازها والستارة الكروشيه برسوم ملايكة يداعبها الهواء فى مروره الحر متهاديًا لحجرة المسافرين من بين فروع الياسمين إذا ما صفا مزاج والدى وأثنى على جودة طهيها ظهرًا، وقال لها قبل ما يخرج فى العصر لأصحابه: «افتكرى كده مش عايزين حاجة أجيبها لكم معايا».. فتغذيه عيونها المكحلة بعباءة الود، ويدعو لسانها اللاهج بالامتنان أن يكفيه المولى شر الطريق، ويجعل له فى كل خطوة سلامة.. ويتصاعد بها الانتشاء للمعاملة الإنسانية فترتدى روبها الساتان المشجر وتضع فوق ظهر البيانو فنجان القهوة المحوّج بالحبهان، وتعزف لنا مارش «يا طالع السعد» ودور «أفراح القبة»، وطقطوقة «كنت فين يا على وأمك بتدور عليك».. ونسألها بانبهار عن صاحب الألحان فتستدير إلينا بوجهها، بينما مهارة أصابعها تكمل العزف بلا متابعة منها: «الخُلعى يا بنات».

    عن الخُلعى قال الحكيم لأنصت أنا إلى حديثه عن موسيقار أيام أمى وأم أمى:

    قليلون من عرفوا كامل الخُلعى فى أوج مجده الفنى..لقد كان من سلالة أولئك البوهيميين الذين لا يعرف أحد عقلاء هم أم مجانين؟

    كان من أئمة الفن وكتاب الموسيقى.

    - كان له فى الموسيقى مؤلفات تنم عن غزير علم ورسوخ قدم.

    كان من معاصرى الشيخ سلامة حجازى؟

    - قدَّر الشيخ فنه، لكنه لم يسلم من غرابة أطواره.. صادفه ذات يوم وقد ترك عوده وفنه وحمل صندوقًا لمسح الأحذية يجوس به مقاهى القاهرة، فناداه الشيخ سلامة متعجبًا ليسأله: جرى إيه يا سى كامل؟! وأراد أن يمنحه مبلغًا يعينه على حاله، فقال له سى كامل وكأنه لا يعرفه: تعريفة واحدة ثمن المسحة.. وبالفعل لم يأخذ سوى التعريفة بعد مسح الحذاء، ومضى رافع الرأس معتزًّا بعمله.

    وأنت يا حكيم، ألم تعاصر بوهيميته عن قرب؟

    - عرفته عام 1923 عندما كلفته فرقة عكاشة أن يُلحن إحدى رواياتى؛ لذلك كان من الضرورى أن ألقاه بين حين وآخر، وأن أصغى إليه وقد وضع على رأسه «كلبوشًا» من الصوف، وارتدى معطفًا قصيرًا مرقعًا فوق بنطلون متقلص يظهر قدميه الحافيتين بدون جوربين واللتين تطرقعان فى قبقاب من الخشب.. وفى صدره العود يضرب عليه بأنغام رائعة.

    وصوته؟

    - كان لا يفسد أنغامه سوى صوته الأجش الذى يقطعه سعال التبغ الرخيص الذى يخرج من حنجرته كأنه خارج من ماسورة خربة فى ماكينة طحين.. ولكن العجيب.. أننى كنت أطرب لذلك الصوت وأرى أنه يخرج من بلبل ذهبى الفم فضِّى الحنجرة.. حتى إذا انتهى من بعض الألحان طرح العود وهبَّ واقفًا ليذهب معى إلى التياترو لتحفيظ الفرقة، فنهبط سلم منزله فى القلعة، والذى كان يخيل لى فى كل مرة أنه سينهار بنا لرقة خشبه وطقطقته تحت أقدامنا الثقيلة.. ونخرج إلى الطريق وأنا أحمد اللـه فى سرى على السلامة والعافية.. وألتفت إلى صديقى الموسيقار فأرى العجب.. إنه خرج يسير معى فى الشارع بنفس ثيابه فى المنزل.. وإلى أين؟ إلى تياترو الأزبكية فى أهم شوارع القاهرة! ولم أكن أخجل من مصاحبته، فهو كامل الخُلعى وكفى! وليتنا كنا نذهب راكبين فلا تلمحنا العيون، لكنه كان يُصر على التمشية سيرًا على الأقدام، فالمسافة فى نظره فركة كعب.. شارع محمد على لا أكثر ولا أقل.. ففيم ركوب سوارس أو الترام!

    هو بثياب الشحاذين يضع ذراعه فى يدك وأنت بملابس الأفندى؟!

    - وليتنا كنا نمضى فى طريقنا دوغرى.. بل لقد كان لسى كامل أطوار.. فهذا بائع «كيزان» صفيح لزوم المطبخ أو الزير.. ما أشعر إلا والموسيقار الذى كان يدندن بجوارى بأجمل الألحان قد وثب إلى البائع وصاح فيه فجأة: بكم الكوز يا جدع؟ وما يمضى قليل إلا وكامل الخلعى قد اشترى بكل ما معه ما لا يقل عن عشرة كيزان.. وهل تدرين كيف كان يحملها.. ربطها له البائع ووضعها فوق كتفه.. واستأنفنا السير وأنا أقول له متحرجًا: أتذهب بها إلى التياترو يا سى كامل؟!

    فيرد غاضبًا: وما له؟ هو أنا سارقها لا مؤاخذة.. وعندما أسأله عما يدعوه لشراء كل هذا العدد يجيب: كلها منافع يا سيدى.. ويحكى كيف أن كوز الحمَّام دائمًا يضيع، فأقسم أن يشترى كل كيزان البلد حتى تبطل حجة أهل منزله.

    كـلام معقول!

    - إن فن كامل الخُلعى كان يجعلنى أرى كل تصرفاته معقولة.. ولكن الأمر الذى لم أستطع أن أجد له سببًا معقولًا هو ما حدث بعد ذلك.. فقد سرنا فى شارع محمد على إلى أن وصل موكبنا المشخلل بالكيزان إلى ميدان باب الخلق، وعندئذ طلع علينا شحاذ من أولئك الشحاذين الذين يضعون الطرطور على رءوسهم ويلبسون رداء مرقعًا بمختلف ألوان الرقع، ويحملون المبخرة النحاسية يلقون فيها مع كل قادم عليهم أو أثناء مرورهم على كل حانوت بقبضة من المستكة والقرنفل والعود والعتروت وعين العفريت وغيرها من أنواع البخور وهم يبسملون ويحوقلون.. اقترب هذا الشحاذ منا ليقول صائحًا: أهلا يا سى كامل.. وتصافحا باليد فى البداية، ثم تصاعدت الأشواق ليتعانقا بالمبخرة والكيزان، ومضى الشحاذ معنا وكأنه صديقنا.. وما كدنا نصل إلى ميدان العتبة حتى لحق بنا زميل آخر بمبخرته.. فصافح وعانق وانضم إلى الركب.. وهكذا مشينا إلى التياترو.. ثلاثة شحاذين بمن فيهم سى كامل وأنا رابعهم الذى لم أعد أدرى هويتى بينهم.. لكنى لم أُلق بالًا إلا لمن قد يصادفنى من معارفى وزملائى أهل الحقوق والقانون.. وما هم قائلون.. إنه الفن.

    الفن.. مين يعرفه إلا اللى عاش مع أهله.

    - ما كان شىء يعنينى ويبهرنى مثل الفن وأهله.. كان لكلمة الفن فى أذنى وقتئذ رنين لا يباريه رنين الذهب فى تيجان القياصرة. وبريق صوته بريق الجواهر فى عروس الأكاسرة.. أى حياة تلك التى كنا نحياها فى ذلك العهد؟ حياة ما أرحبها وأعمقها وأجملها بين مناظر المسرح المبطنة بالخيش والقماش تصرخ فيها الكلمات بالمعانى والموسيقى بالجلال، والمصابيح أضواء تخسف بجانبها الأقمار وتنكسف الشموس.. ذلك أن الفن هو حلم يعيش فيه الفنان..

    إذن الفن وهمٌ لا غير؟!

    - الفن وهمٌ له دولته وحدوده وقوانينه وعروشه وتيجانه، ولا يكتفى الفنان بالحياة فى هذا الوهم لنفسه، فهو إن فعل ذلك واكتفى به لم يعد فنانًا، بل سمِّى فى الحال مجنونًا، وكان مقره مستشفى المجاذيب.

    الفارق يا حكيم الزمان؟!

    - الفرق الوحيد الذى ينقذ الفنان من هذا المصير أن ينجح فى أن ينقل إلى الناس وهمه وأن يدخلهم دولته، وأن يخلق لهم شخوصًا وهمية يأنسون إليها كما يأنس، ويعيشون معها كما يعيش، وينفعلون معها، ويضحكون ويبكون، ويخرجون ويدخلون وكأن الوهم حقيقة.. ما المجنون إذن فى بعض الأحيان إلا فنان احتفظ بوهمه لنفسه وعاش فيه وحده.. وما الفنان فى بعض الأحيان إلا مجنون استطاع أن يفرض وهمه على الناس، وأن يجعلهم يحبون هذا الوهم، وما ينتج

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1