الإنسان في القرآن
()
About this ebook
عباس محمود العقاد
Victor E. Marsden
Read more from عباس محمود العقاد
أبو نواس: الحسن بن هانئ Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsإبليس Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالتفكير فريضة إسلامية Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالصهيونية العالمية Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsما يقال عن الإسلام Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsبروتوكولات حكماء صهيون: الخطر اليهودي Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsبرنارد شو Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsيوميَّات Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالإنسان الثاني Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالديمقراطية في الإسلام Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsابن رشد Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsفي بيتي Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsمطالعات في الكتب والحياة Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsأنا Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsأبو الشهداء الحسين بن علي Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsابن سينا Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsسارة Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsبلال بن رباح «مؤذن الرسول»: داعي السماء Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsعقائد المفكرين Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsفاطمه الزهراء و الفاطميون Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالأعمال الكاملة في الفكر الإسلامي للعقاد ج1 Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsأبو العلاء Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsمراجعات في الآداب والفنون Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsحياة المسيح Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsمجمَع الأحياء Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsأبو نواس Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالأعمال الكاملة في الفكر الإسلامي للعقاد ج2 Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsذو النورين عثمان بن عفان: عثمان بن عفان Rating: 0 out of 5 stars0 ratings
Related to الإنسان في القرآن
Related ebooks
الإنسان في القرآن Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالعدل الإلهي وأين أثره في المخلوقات Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsحياة محمد Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsإبراهيم أبو الأنبياء Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالاقتصاد فى الاعتقاد Rating: 4 out of 5 stars4/5تأويل جزء تبارك Rating: 5 out of 5 stars5/5مطلع النور Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالفلسفة القرآنية Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsعندما يتحدث الخبير عن الطب الطاقي Rating: 4 out of 5 stars4/5رسالة من الله Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالمعرفة ومفاهيم الخلق بين التراث والحداثة Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsتأويل القرآن العظيم: المجلد الأول Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsدرء تعارض العقل والنقل Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالاكتشاف والمعرفة وأفكار متطرفة: أسـباب لترك الدِين Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsتأويل القرآن العظيم: المجلد الثالث Rating: 4 out of 5 stars4/5حياة الحقائق Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsقصة الطوفان Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالملل والنحل Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsإنسان جديد Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsدرجة حرارة الجنة 49.71 درجة مئوية: فلسفة الوجود والعدم Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsموعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsمفتاح السعادة ومصباح السيادة Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالفتوى الحموية الكبرى Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsمنتهى البيان في عرض الحديث على القرآن Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsفيض الخاطر (الجزء الخامس) Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالحق المر ج 4 Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsرسالة السلام الإسلامي للإنسانية Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالأربعين في أصول الدين Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالإسلام وواقع الأمة Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالأدب الكبير والأدب الصغير Rating: 0 out of 5 stars0 ratings
Related categories
Reviews for الإنسان في القرآن
0 ratings0 reviews
Book preview
الإنسان في القرآن - عباس محمود العقاد
تمهيد
إنسان القرآن هو إنسان القرن العشرين، ولعل مكانه في هذا القرن أوفق وأوثق من أمكنته في كثير من القرون الماضية؛ لأن القرون الماضية لم تُلجئ الإنسان إلى البحث عن مكانه في الوجود كله، وعن مكانه بين الخلائق الحية على هذه الأرض، وبين أبناء نوعه وأبناء الجماعة التي يعيش فيها من ذلك النوع، وبين كل نسبة ظاهرة أو خفية ينتمي إليها، كما ألجأه إلى ذلك كله هذا القرن العشرون.
قديمًا كان الحكماء يجعلون شعارهم في نصيحة الإنسان: «اعرف نفسك!» وإنها لنصيحة قد ترادف سؤالهم: مَن أنت؟ أو سؤالهم: ما اسمك؟ غير أن الإنسان إذا أجابه فإنما يجيبه باسم «باطني» يعرفه بملامح وجدانه، وقسمات ضميره، ولا يقف عند تعريفه بالاسم الذي يختار اعتسافًا من بضعة حروف.
وهو على أية حال سؤال إلى «شخص» بعد شخص، قد يسمعه عشرون في الحجرة الواحدة ويجيبون عليه عشرين جوابًا متفرقات.
وقديمًا كانوا يزعمون أن أبا الهول كان يلقي سؤاله، فيهلك من لم يعرف جوابه. وكان سؤالًا عن الحيوان الذي يمشي على أربع في الصباح، وعلى اثنتين عند الظهيرة، وعلى ثلاث عند المساء، فكان سؤالهم لغزًا من ألغاز الأقدمين عن الإنسان في أطوار عمره، بين الطفل الذي يحبو على أربع، والفتى الذي يعتدل على قدمين، والشيخ الذي يتحامل على عصاه. وهو لغز شبيه بطفولة الإنسان كله؛ لا تبتعد المسافة بين جهله وعلمه، ولا بين الهلاك فيه والنجاة.
إلا أن القرن العشرين جمع الأسئلة، فلم يدع سؤالًا عن نسبة من نسب الإنسان لم يطلب جوابه، على نذير بالهلاك لمن جهل الجواب، وقد يكون هلاكًا للجسد والروح.
ما مكان الإنسان من الكون كله؟
ما مكانه من هذه السيارة الأرضية بين خلائقها الأحياء؟
ما مكانه بين أبناء نوعه البشري؟ وما مكانه بين كل جماعة من هذا النوع الواحد، أو هذا النوع الذي يتألف من جملة أنواع يضمها عنوان «الإنسان»؟
وهي أسئلة لا جواب لها في غير «عقيدة دينية» تجمع للإنسان صفوة عرفانه بدنياه، وصفوة إيمانه بغيبها المجهول، تجمع له زبدة الثقة بعقله، وزبدة الثقة بالحياة؛ حياته وحياة سائر الأحياء والأكوان.
إن القرن العشرين كان حقيقًا أن يسمى بعصر «الأيديولوجية»، أو عصر الحياة «على مبدأ وعقيدة»؛ لأنه كلما ألقى على الإنسان سؤالًا من أسئلته تلك لم يعفه من جوابه، ولم يسلمه إلى جزاء أهون من جزاء الحيرة عند السكوت عليه؛ فإن يكن سكوتًا عن الأجوبة جميعًا؛ فهو الهلاك المحدق بالأبدان والعقول.
وليس أكثر من «المبادئ والعقائد» التي نسمع عنها في هذا القرن ويسمونها بالمذاهب و«الأيديولوجيات».
ولكن أجوبة القرن العشرين، مهما يكن من شأنها، فهي أجوبة العصر الذي يحل المشكلة الزمنية ولا يتعداها إلى مشكلة الأبد: مشكلة ما مضى، وما أتى من الدهر، وما يأتي إلى غير نهاية، ولا جواب لهذه المشكلة غير العقيدة الدينية التي تؤمن بها الإنسانية، فلا يغني فيها إيمان فرد واحد بينه وبين ضميره، أو جواب سؤال واحد لمن يقول: من أنت؟ وماذا تعرف من نفسك بين عامة النفوس؟ قصاراك أنك واحد منها بين ألوف الألوف، عاشوا ويعيشون وسيعيشون، ولا يسكتون عن تلك الأسئلة عامة، ولا أمان لهم ولا لك إن سكتوا عليها.
هذه العقيدة الدينية توجد كما ينبغي أن توجد، وإنما الضلالة فيمن يريدها على غير سوائها الذي تستقيم عليه، ولا تستقيم على سواه.
هذه العقيدة الدينية لا توجد اليوم لتنبذ غدًا، ولا توجد على الأيام للعَارفين دون الجاهلين، وللعاملين دون الخاملين، ولمن يطلبون الخير للناس دون من يطلبون الخير لأنفسهم، ولمن يعتقدون دراية ومحبة دون من يعتقدون تسليمًا ورهبة، ولمن يسعون سعيهم إلى العلم والإيمان دون من يقعدون في مواطنهم منتظرين، وقد يقعدون وهم يجهلون أنهم قاعدون، ولا يعلمون ما الخبر وما المنتظر، إن علموا أنهم منتظرون!
هذه العقيدة بنية حية، قوامها دهور وأمم، ومعايش وآمال، ونفوس خُلقت ونفوس لم تُخلق، ونفوس يخلق لها تراثها قبل أن يصير إليها، وسبيلها جميعًا أن تتهدى إلى قبلة واحدة: تنظر إليها فتمضي قُدمًا، أو تفقدها في الأفق فهي أشلاء ممزقة، كأنها أشلاء الجسم المشدود بين مفارق الطريق.
إن القرن العشرين منذ مطلعه يعرض العقيدة بعد العقيدة على الإنسان وعلى الإنسانية، ولا نعلم أنه عرض عليها حتى اليوم قديمًا معادًا، أو جديدًا مبتدعًا هو أوفق من عقيدة القرآن، وأوفق ما فيها أنها غنية عن الاختراع والامتحان، وأنها على شرط العقيدة الدينية من بنية حية شملت ملايين الخلق، وثبتت معهم وحدها في كل معترك زبون يوم خذلتهم كل قوة يعتصم بها الناس.
•••
ونحن ندعي في هذه الصفحات أن المنصف بين النصائح لا يستطيع أن ينصح لأهل القرآن بعقيدة في الإنسان والإنسانية أصح وأصلح من عقيدتهم التي يستوحونها من كتابهم، وأن القرن العشرين سينتهي بما استحدث من مبادئ ومذاهب و«أيديولوجيات» ولا ينتهي ما تعلَّمه أهل القرآن من القرآن، وأن أهل هذا الكتاب يتدبرون القول فيتبعون أحسنه، إذا تدبروا فلم يأخذوا بعقيدة من هذه العقائد التي يُروِّجها دعاتُها باسم المادية، أو الفاشية، أو العقلية، ويريدون بها أن تكون على الزمن بديلًا من العقائد الإلهية، ومن عقائد الغيب الذي يحسبونه معدومًا، أو موجودًا كمعدوم.
وقد استمع الناس إلى المادية التاريخية فقالت لهم: إن الإنسان عملة «اقتصادية» في سوق الصناعة والتجارة، تعلو وتهبط في طبقاتها بمعيار العرض والطلب، وصفقات الرواج والكساد. أما الإنسانية فقد أنصتت إلى المادية التاريخية فقالت لها: إنها شيء لا وجود له مع طوائفها التي تخلقها الأسعار والأجور.
واستمع الناس إلى الفاشية فقالت لهم: إن الإنسان واحد من عنصر سيد أو عنصر مسود، وإن أبناء الإنسانية جميعًا عبيد للعنصر السيد، والعنصر السيد قبل ذلك عبد للسيد المختار، بغير اختيار.
واستمع الناس إلى «العقلية» فقال لهم قائل منها: إن «إنسانيتهم» كذلك شيء لا وجود له، ووهم من أوهام الأذهان، وإن الشيء الموجود حقًّا هو الفرد الواحد! وبرهان وجوده حقًّا أن يفعل ما استطاع من نفع أو أذًى كلما أمن المغبة من سائر الأفراد والأحداث.
وغير جديد ما استمعوه من أهل العقائد الإلهية عن مكان هذا الإنسان من الأرض والسماء، ومكانه من إخوته في آدم وحواء.
سمعوا أنه روح وجسد، ودنيا وآخرة، ينجو شطره بمقدار ما يهلك شطره، ويصح له الوجود بمقدار ما صح له من عقبى الفناء.
وسمعوا أنه إنسانان؛ إنسان صحيح مقبول، وإنسان زائف مدخول. صحيح مقبول كل من اجتباه مولاه على هواه، وزائف مدخول كل من خلقه ونفاه، ولعله لم يخلقه ودعاه إليه من دعاه.
وسمعوا أن الإنسان يُولد بذنب غيره، ويموت بذنب غيره، ويبرأ من الذنب بكفارة غيره، ويمضي بين النعمة واللعنة بقدر من الأقدار لا نصيب له فيه من عصيان أو طاعة، ومن إباء أو اختيار.
وسمعوا من القرآن غير ذلك، فهم متدبرون يستمعون إلى العقل كما يستمعون إلى الإيمان إذا اطمأنوا وثبتوا على اطمئنانهم إليه.
الإنسان في عقيدة القرآن هو الخليقة المسئول بين جميع ما خلق الله، يدين بعقله فيما رأى وسمع، ويدين بوجدانه فيما طواه الغيب فلا تدركه الأبصار والأسماع.
و«الإنسانية» من أسلافها إلى أعقابها أسرة واحدة لها نسب واحد وإله واحد، أفضلها من عمل حسنًا واتَّقى سيئًا، وصدَق النية فيما أحسنه واتقاه.
•••
وفي الصفحات التالية كتابان في كتاب وجيز، نبدؤهما بعقيدة القرآن، فنعيد هذه الكلمات القلائل في صفحات، ونتلوها بعرض مفيد لتاريخ البحث عن نشأة الإنسان في مذاهب الفكر والعلم، أو مذاهب الحدس والخيال، ولا نزيد في سردها على الإلمام بما يصلح أن يكون محكًّا للنظر فيما يؤخذ بالبرهان، أو يؤخذ بالإيمان عن حقيقة الإنسان.
الكتاب الأول
الإنسان في القُرآن
المَخْلُوق المسْئُول
ارتفع القرآن بالدين من عقائد الكهانة والوساطة وألغاز المحاريب إلى عقائد الرشد والهداية. لا جرم كان «المخلوق المسئول» صفوة جميع الصفات التي ذكرها القرآن عن الإنسان، إما خاصة بالتكليف أو عامة في معارض الحمد والذم من طباعه وفعاله.
ولقد ذُكِرَ الإنسان في القرآن بغاية الحمد وغاية الذم في الآيات المتعددة، وفي الآية الواحدة، فلا يعني ذلك أنه يُحمد ويُذم في آنٍ واحدٍ، وإنما معناه أنه أهل للكمال والنقص بما فُطر عليه من استعداد لكل منهما؛ فهو أهل للخير والشر؛ لأنه أهل للتكاليف.
والإنسان مسئول عن عمله — فردًا وجماعة — لا يؤخذ واحد بوزر واحد، ولا أُمَّة بوزر أُمَّة: كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (الطور: ٢١). تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (البقرة: ١٣٤).
•••
أما مناط المسئولية في القرآن، فهو جامع لكل ركن من أركانها يتغلغل إليه فقه الباحثين عن حكمة التشريع الديني، أو التشريع في الموضوع.
فهي بنصوص الكتاب قائمة على أركانها المجملة: تبليغ، وعلم، وعمل؛ فلا تحق التبعة على أحد لم تبلغه الدعوة في مسائل الغيب ومسائل الإيمان: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (يونس: ٤٧). وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (فاطر: ٢٤). وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا (الإسراء: ١٥).
•••
أما العلم فإن أول آية في الكتاب تلقاها صاحب الدعوة الإسلامية كانت أمرًا بالقراءة، وتنويهًا بعلم الله وعلم الإنسان: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم (العلق: ٣–٥).
وأول فاتح في خلق الإنسان كان فاتحة العلم الذي تعلمه آدم وامتاز به على سائر المخلوقات: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (البقرة: ٣١، ٣٢).
•••
وأما العمل فهو مشروط في القرآن بالتكليف الذي تسعه طاقة المكلف، وبالسعي الذي يسعاه لربه ولنفسه. لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا (البقرة: ٢٨٦). وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ (النجم: ٣٩). فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (الزلزلة: ٧، ٨).
ورسل البلاغ هم أول المكلفين بالعلم والعمل، أممهم جميعًا أمة واحدة هي «الأمة الإنسانية»، وإلهُهُم جميعًا إلهٌ واحد هو رب العالمين: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (المؤمنون: ٥١، ٥٢).
وفيما ذُكر فيه الإنسان من آيات الكتاب وصف له وهو في الذروة من الكمال المقدور له بما استعد له من التكليف، ووصف له وهو في الدرك الأسفل من الحطة التي ينحدر إليها بهذا الاستعداد. وكل هذه الآيات توسع مفصل فيما ورد من نصوص الأمر والنهي، والعظة والتذكير، والثواب والعقاب.
فالإنسان أكرم الخلائق بهذا الاستعداد المتفرد بين خلائق السماء والأرض من ذي حياة أو غير ذي حياة: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (الإسراء: ٧٠). لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (التين: ٤). سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ (لقمان: ٢٠). سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ (الحج: ٦٥).
•••
ولكنه ينفرد بين الخلائق بمساوئ لا يُوصف بها غيره؛ لأن السيئة والحسنة — على السواء — لا يُوصف بها مخلوق غير مسئول.
فهذا المخلوق المسئول يُوصف دون غيره من الخلائق بالكفر والظلم والطغيان والخسران والفجور والكنود؛ لأنه دون غيره أهل للإيمان والعدل والرجحان والعفاف. إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (إبراهيم: ٣٤). إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ (العلق: ٦، ٧). إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (العصر: ٢). بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (القيامة: ٥). إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (العاديات: ٦).
وقد يُذكر بالضدين في الآية الواحدة كما جاء في قوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (التين: ٤، ٥).
ونقرأ في بعض التفاسير أن أسفل سافلين هو أرذل العمر، وهو يقتضي أن يكون «أحسن تقويم» هو تقويم الطفل الوليد.
ونقرأ في غيرها أن أسفل سافلين هي الجحيم، فيكون لزامًا أن الجنة هي المقصودة بأحسن تقويم.
وفهم الكثيرون أن التقويم الحسن هو الصورة الظاهرة لاعتدال قوام الإنسان، وليس جمال الخلق وحده مرتبطًا باعتدال القوام، بل ترتبط به القدرة على العمل والإرادة، وهي قدرة لم تخف علاقتها بصورته الظاهرة قبل عصر التشريح والعلم بوظائف الأعضاء، الذي أثبت العلاقة الضرورية بين اعتدال القامة وجهاز النطق في الرأس والعنق وعمود الظهر وسائر البدن، ثم زاد الناس علمًا بما يعنيه التقويم الحسن من فضائل العقل والجسد، ومن مزايا الفطنة والجمال.
وإنما المعنى الموافق لسائر معاني الآيات، أن الجمع بين النقيضين في الإنسان ينصرف إلى وصف واحد، وهو وصف الاستعداد الذي يجعله أهلًا للترقي إلى أحسن تقويم، وأهلًا للتدهور إلى أسفل سافلين.
على أن الآيات التي قصر فيها القول على خلق جسد الإنسان لم تخلُ مما يوحي إلى المخلوق المسئول أن أطوار خلقه السوي إعداد لما هو أشرف من حياته الحيوانية، وبرهان من براهين التبليغ برسالة الغيب، عسى أن ينظر في الخلق فيرى فيه آثار الخالق الذي لا تدركه الأبصار والأسماع: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (المؤمنون: ١٢–١٤). ذَٰلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ (السجدة: ٦–٩). وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ (الروم: ٢٠). سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (يس: ٣٦).
ولا يُسأل الإنسان عما يجهل، ولكنه يُسأل عما علِم، وعما وَسِعه أن يعلم، وما من شيء في عالم الغيب أو عالم الشهادة هو محجوب كله من علم الإنسان، فما وسعه من علم فهو محاسب عليه.
الكائن المُكَلَّف
القرآن كتاب تبليغ