Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

المعرفة ومفاهيم الخلق بين التراث والحداثة
المعرفة ومفاهيم الخلق بين التراث والحداثة
المعرفة ومفاهيم الخلق بين التراث والحداثة
Ebook791 pages6 hours

المعرفة ومفاهيم الخلق بين التراث والحداثة

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

إن منعم النظر في تراثنا الإسلاميّ يلفي أنه زاخر بالدرر والغرر والنفائس، فقد أفاض علماً على الدنيا كلها حيناً من الدهر، إلا أنه شابه ما كدّره عبر ثنايا الزمان، فقد اُترعت كتبه بما أضر ذلك التراث من أساطير وخرافات؛ فصار لزاماً علينا فحصه ودراسته وفق ما استجد من علوم وما اُستحدث من معارف. وكما قضى عنوان الكتاب بين التراث والحداثة، فإن الكتاب يقارن مسائل الخلق (الكون/ الإنسان) حسب ما جاء في كتب التراث وتفاسير القرآن وما رافقهما من أخطاء، وما جادت به قريحات العلماء المعاصرين. فقد كان ما في بعض تلك الكتب من تهافتٍ، الأثر الكبير في تسرب الألوف إثر الألوف من المسلمين من دينهم؛ لأنهم عدّوا ما في متون تلك الكتب مقصد النصّ ومراميه، ومن ثم جادلوا بغير علم من خلال تلك الكتب وليس من خلال أغراض النصّ وغاياته.
Languageالعربية
Release dateMay 31, 2019
ISBN9789948374930
المعرفة ومفاهيم الخلق بين التراث والحداثة
Author

Abdulrahman Omar Faheel Elbum

المؤلف باحث وأكاديميّ متخصص في الاقتصاد والعلوم السياسيّة، وله بحوث علميّة منشورة دولياً، إلا أنه اهتمَّ أيضاً بالبحوث القرآنيّة تدبّراً وبحثاً، فقد ترعرع في بيئة إسلاميّة نقية بفضل والده الشيخ الحافظ، الذي غرس في وجدانه حب القرآن الكريم، وحفَّزه على الذود عن بيضة الدين. كل ذلك كان له دافعاً للبحث ودراسة معاني الكتاب الكريم، والعمل على استشفاف كنهه وإدراك مكنونه، مستفيداً بخبرته العلميّة الأكاديمية في البحث والاستقصاء، واستخلاص النتائج والعبر.

Related to المعرفة ومفاهيم الخلق بين التراث والحداثة

Related ebooks

Related categories

Reviews for المعرفة ومفاهيم الخلق بين التراث والحداثة

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    المعرفة ومفاهيم الخلق بين التراث والحداثة - Abdulrahman Omar Faheel Elbum

    الكتب

    الإهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــداء

    إلى من كان لي خير رفيق، إلى من كان خير ناصحاً وخير معين، إلى من طأطأ للصعاب كي أرتقي، فكان أساً أقمت عليه كل بنائي فكان نعم الأساس، إلى من ألجأ إليه بعد ربي في محني وصروف الدهر، وأظفار المحن، فأسأله ويجيب، وأطلبه فيلبي، إلى من دفعني إلى العلم دفعاً، وأيدني على ذلك تأييداً، إلى من علمني أصول ديني، ومفاهيم عقيدتي، وثوابت إيماني. إلى من تعلق قلبه بنور الرحمن، وعقله بهدي القرآن، فكانت قلوب الخيار له متعلقة، ونفوسهم إليه صبّة، وعيون الأفاضل إليه روامق، وألسنتهم بالدعاء له وبمحاسنه نواطق، وأيديهم إلى الله في مظان القبول ممتدة.

    إلى نفس والدي المطمئنة بإذنه تعالى الشيخ الحافظ

    عمر فحيل البوم

    أُهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدي

    حقوق النشر©

    عبد الرحمن عمر فحيل البوم (2019)

    يمتلك عبد الرحمن عمر فحيل البوم الحق كمؤلف لهذا العمل، وفقاً للقانون الاتحادي رقم (7) لدولة الإمارات العربية المتحدة، لسنة 2002 م، في شأن حقوق المؤلف والحقوق المجاورة.

    جميع الحقوق محفوظة.

    لا يحق إعادة إنتاج أي جزء من هذا الكتاب، أو تخزينه، أو نقله، أو نسخه بأية وسيلة ممكنة؛ سواء كانت إلكترونية، أو ميكانيكية، أو نسخة تصويرية، أو تسجيلية، أو غير ذلك دون الحصول على إذن مسبق من الناشرين.

    أي شخص يرتكب أي فعل غير مصرح به في سياق المذكور أعلاه، قد يكون عرضة للمقاضاة القانونية والمطالبات المدنية بالتعويض عن الأضرار.

    الرقم الدولي الموحد للكتاب 978-9948-37-494-7 (غلاف ورقي)

    الرقم الدولي الموحد للكتاب 978-9948-37-493-0 (كتاب إلكتروني)

    رقم الطلب: MC-02-01-3313938

    التصنيف العمري: 17+

    تم تصنيف وتحديد الفئة العمرية التي تلائم محتوى الكتب وفقا لنظام التصنيف العمري الصادر عن المجلس الوطني للإعلام.

    اسم المطبعة:

    مسار للطباعة والنشر (ش.ذ.م.م)

    عنوان المطبعة:

    دبي، الإمارات العربية المتحدة

    الطبعة الأولى (2019)

    أوستن ماكولي للنشر م. م. ح

    مدينة الشارقة للنشر

    صندوق بريد [519201]

    الشارقة، الإمارات العربية المتحدة

    www.austinmacauley.ae

    +971 655 95 202

    بين يدي الكتاب

    إن الحمد لمن بدأ الخلق ثم خلق كل شيء من شيء، وأبدع كل شيء خلقه، لا إله إلَّا هو، به أثق وبه أستعين، وأن محمداً عبده ورسوله. وبعد:

    نهض الإنسان غير المسلم بعد العصور الوسطى والنهضة العلميّة من سباته العميق، فحطّم أغلال فكره التي غُلّ بها آمادٍ طويلة، وأعصر مديدة، فأطلق ذلك الإنسان عنان عقله يستطلع ملكوت الله، ويستقصي ظاهرات الكون وخبايا الطبيعة وعلوم الإنسان. وعلى الرغم من أن رجالات الإسلام كانوا حملة مشاعل العلم، ومصابيح المعرفة وقتئذ؛ وهذا ليس قولنا بل ما شهد لهم به الأخرون من غير ملّتهم؛ إلّا أن المسلمين منذ ذلك التاريخ إلى يومنا هذا اختاروا إكمال طريق عبوديّة العقل، التي اجتنبها أقوام أخرون وازورّوا عنها، فقيدت عقولهم، وأوصدت أبواب أفكارهم، وجمدت معارفهم، مما جعلهم يستوطئون مركب العجز الوطئ، فركنوا إلى الخرافات والأساطير التي هيّجها واستحثها فكر مراهق غير ناضج عجز عن فهم الكون، وأخفق في إدراك ظاهرات الطبيعة؛ لأن موكب تفكيرهم حطّ بهم عند ذلك الزمان وقرّ؛ فأصبح الإنسان المسلم هَملاً لا يحس الوجود ولا يدركه، فأهمله ذلك الوجود بل وأنكره. فأصبحت أمة اقرأ أقل الأمم قراءة، وأبخل الأمم إنفاقاً على العلوم والمعارف. فصارت أمماً عديدة تمضي خفافاً يكدحون ويجدّون فغزوا الفضاء بعد أن سيطروا على الأرض؛ بينما المسلمون يتعثرون في خطاهم ثقالاً كطفل قام من حبو. وقد كانت نتيجة ذلك الإهمال العلميّ وقيود المعرفة وهيمنة الخرافة تسرب الألوف في إثر الألوف من المسلمين من دينهم؛ لأنهم حين قرأوا تراث ماضوي منفصل عن الوعي المعرفي المعاصر، مبتعداً جوهره عن العلوم ومتجنباً لبّه المعارف، لاذ أولئك الألوف بما يكْلِم الدين، ويثلم اليقين وهو الإلحاد والصدْف عن الحق المبين. إذاً فالخطب بازل لا يكفيه إلا رأي قارح، هو دراسة موروثنا وفق حديث العلوم ومستطرف المعارف؛ لأن العلم الحديث أبان خبايا ذلك التراث الموغّل في الخيال والخرافة؛ فوجد بعض الشباب أنفسهم أمام صور مغايرة وغير مسبوقة لمفاهيم خلق الإنسان والكون على السواء، ومما زاد الأمر سوءاً وتعقيداً أنَّ بعضاً من علماء الدين يحاول إخفاء الجانب المشوه من ذلك التراث، كي يستر ذلك المنظر الخرافي من خلال ترقية ما في متون تلك الكتب عن النقد حتى لا يبرح الخفاء، ولعلي لا أغالي حين أقول أوصلوه إلى مرحلة الإجلال والتنزيه إسوة بالذكر الحكيم ذلك الذي لا يأتيه الباطل من أمامه ولا من خلفه، فحرّموا ملَكة البحث والنقد عند المسلمين فيما بين دفات قديم الكتب وموروثها. والذي أعنيه بالتراث أو الموروث في هذا الكتاب: هو كل ما وصل إلينا من الماضي من أقوال البشر وكان له أثر على حاضرنا.

    وإنّا لنأسى على اعتزال عموم الأمة القراءة، وتنكّبها عن البحث، ورغبتها عن المعرفة؛ مما أدى إلى كساد سوق العلم، وبور بضائعه في أقطار أمتنا. لكن لا نعلم (¹) أخيراً أريد بأمة الإسلام أم شراً بعدم شغف أهلها القراءة كسائر الأمم، ولعلي أحسبه لا يخلو من خير كثير في عصرنا الحديث، وحديثي عن كتب الموروث القديم؛ لأن هناك كثير من أهلها من قرأ قليلاً من كتب ذلك التراث القديم، وتصفح كتيبات المشككين والمعاندين، ونقّر في صفحات الإنترنت، فأصبح من الملحدين، وأمسى من أعداء هذا الدين، فرفع سيف العداوة والبغضاء ليس فقط على ذلك الموروث، بل شمل القرآن الكريم. فأصبح ينادي ببطلان الدين، وأمسى يطالب بإنكار قول أصدق القائلين سبحانه وتعالى عما يصفون. ولعل قول الفيلسوف Francis Bacon أرفع وصف لأولئك التائهين بين وهم الأفكار وقديم التراث، فيقول عنهم: القليل من العلم يجعلك ملحداً؛ لكن الدراسة المعمقة تجعلك مؤمناً بالله.

    إنَّ سيطرة الكثير ممن يدّعون العلم وحماية الدين على عقول العامة، من خلال مطالبتهم بالرجوع إلى أعصر غابرة وموروثها المقدّس، اعتقاداً منهم أن علوم تلك الأعصر وتراثها هي المنقذ من الجهل والضلال، رافضين بذلك كل مظاهر التجديد والبحث عما هو مفيد للعقل الإسلامي الحديث، معتقدين أنه لا حاجة لاستعمال العقل، فكل شيء موجود في ذلك التراث، الذي ظلوا له عاكفين لا يبغون عنه حولاً ولا مراماً أخراً. إن تلك السطوة في الواقع إبعاد الفكر والعقل عن الواقع، وهذا خلاف نحيزة البشر، فالمركوز في أذهان الناس أن العقل ذو تعلُّق مباشر مع الواقع الـمُعاش، أي: تأثر العقل بالواقع. فإذا كان العقل لا يرى الأشياء إلا بصورة ماضويّة فقط (لأسباب أيديولوجيّة) فلا ريب أن ذلك يجعل من الفرد يحيد عن واسع النهج إلى ثنيات المضايق، ويعدل عن متسع المسلك إلى بُنيَّات الطرائق. فربط العقل بالماضي فقط هو في واقع الأمر تجاهلاً لحقائق الأمور المعروفة، نحو الحقيقة القائلة: إن العلوم والثقافة والمعارف متطورة بتطور المجتمعات، وإنها تراكمية يأخذ بعضها بعنق بعض في سلسلة تواصلية بديعة، مما يجعل موكب التاريخ ونهر الحضارة يجريان بلا توقف. إن ذلك التجاهل وتلك السيطرة على الأفكار خلقا مأزقاً كبيراً فُرض على عقل الأمة وواقعها، فأدى إلى سياقة حشود كبيرة إلى الإلحاد؛ ذلك بأن أوحوا إلى أتباعهم أن العلوم الحديثة هي الضلال الكبير، فألّفوا الكتب في ذلك نحو (فضل علم السلف على الخلف) لابن رجب، ولا ننسى قول ابن القيم: كلام المتقدمين قليل، كثير البركة، وكلام المتأخرين كثير، قليل البركة. حتى أصبح ذلك الموروث القديم أرثودوكسيّة رسميّة فرضت قهراً على المسلمين كأنه هو الدين ذاته. وخليق بأمثال أولئك أن يعملوا على إعمال عقولهم، وإجالة نظرهم في ظاهرات الكون وخباياه؛ كذا العمل على تغذية عقول الشباب بالعلم النافع الحديث تحصيناً لهم من الانحراف والازورار عن جادة الصواب؛ بدلاً من أقوالهم وأفعالهم تلك التي يسيئون بها إلى الدين من حيث يقدّرون الإحسان، ويحملون على عقيدة ديننا وزر أنفسهم ووزر من جاء بعدهم، ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾النحل: (25) حتى أصبحت الأقدار تضحك وتسخر مما يقدّرون؛ لأن تقييد العقول سبب موجة عارمة لا تبقي ولا تذر من الكفر والإلحاد في كل المجتمعات الإسلاميّة المتشددة منها والمتحررة سواء بسواء.

    إن عدّ ذلك الموروث القديم أنه أسّ الدين وعماده ولا حياد عنه، يعدّ من الأسباب الرئيسة لتفشي ظاهرة الإلحاد. فعدُّ تفاسير القرآن الكريم القديمة فقط مفاتح العلوم ومخازن الفهوم يقوي مواضع الملحدين في تحدياتهم أهل الحق، كما أنه يعزز مواقفهم في إنكار الوجود الإلهي؛ وقد نجح الكثير منهم وأصبح لديهم أتباع ومريدين، وصار عددهم يطّرد زيادة مع الزمان، فصارت ظاهرة الإلحاد من ظاهرات عصرنا الراهن الرديء، التي أمسى العناد سِمتها، والإنكار صِفتها، والجدل سلاحها على الرغم من جهل الكثير من أولئك المعاندين، وقصر بصيرتهم، وضعف مداركهم، وضيق أفقهم. لأنهم بذلك الجدل والمماحكة يلهثون باحثين عن عزاء حيث لا عزاء يوجد، ولا أحسب ذلك إلا حالة نفسيّة تسيطر على عقولهم تدفعهم إلى اللهو بأفكارهم، واللعب بمداركهم؛ فصاروا مترددين بين احتمالات فاسدة، أو مُشتبهين بين معاني العلوم وخيالات الأوهام؛ فأصبحوا يتلددون في مراتع الجهل، حتى أمست أفكارهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء وهو عن الماء بعيد.

    ولا نعدوا الصواب حين نقول: إن الذي دعانا إلى كتابة هذا الكتاب هو القلق من تفاقم ظاهرة الإلحاد بسبب انتشار وسائط منهجيّة قديمة وغالطة لتفسير النصّ الكريم. كذلك الامتثال إلى أمرهِ تعالى بالتفكر في خلقهِ العجيب، والنظر في إعجازهِ الكبير، وإنَّ ما جاء به القرآن الكريم من تحريض على التفكر، وحث على اللحاق بالمعرفة، وتحفيز على اتّباع العِلم الذي يعد مقرراً لحرية العقل والإيمان والإرادة، التي أقرّها الله في كتبه، وأيّدها أنبياؤه ورسله. لذلك لا يصح برأينا الاتّباع بلا تفكير، وتقليد الأخرين دائماً من غير تدبير. فقد سئمت عقول كثير من الشباب اليوم عفونة بعضاً من التراث وإفلاسه ولا أقول كله. فتلك العقول التي منح اللهُ البشر تعد راجحة وقادرة على التمييز والتفصيل، ففرضت علينا من ذاتها النظر في آيات الخلق وعجائب الطبيعة، ومن ثم معرفة البارئ، كما أنها لا تجبرنا على الاتّباع والتقليد، بل تقودنا دائماً إلى البحث والاستقصاء علّنا نظفر برقائق من العلم المكين، أو بدقائق من معارف العارفين. لذلك ربما أكون أصبتُ قليلاً وأخطأتُ كثيراً في هذا الكتاب، فلعل مع الخواطئ سهم صائب. وبالتالي أعلم يقيناً أن هذا الكتاب سينال رضا بعض القرّاء واستحسانهم، وغضب بعضهم واستيائهم، فغايتي ليست رضا سائر الناس الذي لا يُطال، بل فتح المجال للمناقشة العلميّة والمحاورة المعرفيّة وصولاً إلى الحقائق، التي لا تؤتى بلا بَدَل، ولا تنال إلا بفضل الروية وطول التأمل.

    إنَّ من أسباب تخلف الأمة الإسلاميّة هو انكفاؤها على ذاتها، وانعزالها عن الأمم الأخرى في المناحي العلميّة والفلسفيّة، وإن كان لها من ذلك نصيب في عصرنا فهي محاولات خجولة لا ترتقي إلى مستوى الأحداث والمُشكلات التي تحدث في عالمنا اليوم، لأن علماءنا قليلون ومقلون. إنَّ الخوف من أن العلم الحديث خصوصاً في مجالي الطب والفلك اللذين خصّهما القرآن عن غيرهما من العلوم الأخرى بالذكر سوف يهدم ما قاله القرآن، ينم عن جهالة جهلاء متربعة في عقول أهل الكهنوت الدينيّ الذين نصَّبوا أنفسهم حراس الدين، وحماة العقيدة. فأقول لهم لا خوف البتة من العلم على القرآن؛ لأن الخطأ ليس في القرآن الكريم، فذلك كتاب لا يأتيه الباطل أبداً؛ بيد أن الخطأ والزلل والانحراف يكمن في التوسل بأمهات التفاسير القديمة للوصول إلى حقائق الكون ونشأته في عصرنا الحديث، لأن تأويلات النصّ القرآنيّ العظيم التي أطّر لها الموروث القديم – في مسائل الخلق لا التشريع – لا نزاع في قصورها ولا خلاف على خُلْفِها، لأن تلك التفاسير تحمل طابع ذا تعَلُّق بالزمان، والعقل، والبيئة المحيطة، وكل ذلك متغير، فلزم عدم ثبات تأويلات النصّ. مثَل ذلك قول قدماء العلماء ورواة الحديث ومن بعدهم المفسرين: إن آدم أول البشر، لكن العلماء المعاصرون، وشواهد التاريخ المتواترة وأدلة العلم القائمة تقول: إن آدم ليس أول البشر. والقرآن يشير إلى أن آدم ليس أول البشر كما سنعرض في هذا الكتاب بصريح العبارة وواضح الإشارة. نعم هذا ما أشار إليه القرآن في آياته المجيدة بكل جلاءٍ ووضوح. لكن تهافت التأويلات القديمة التي لوت أعناق النصوص كي توافق خرافات بالية، وأساطير عتيقة، هو ما سبّب ابتعاد الباحثين عن مرمى النصّ واقترابهم من مقصد التراث؛ فاعتمد كثير من علماء الإسلام المتقدمين منهم والمتأخرين على ذلك الموروث، على الرغم من قدمه وعدم توافقه مع عصر العلوم والاكتشافات؛ فسبّب ذلك فساد الفهم وخلل الإدراك؛ لذلك كلما تبدّت نظرية طبيّة أو فلكيّة خالفت تأويلات النصّ القرآني، لا النصّ ذاته، بادر غير واحد من مشايخ الأمة إلى إنكارها ورفضها واستهجانها؛ لأنهم أعفوا عقولهم من كدّ النظر، وقلوبهم من تعب التفكر في تلكم النظريات.

    لذلك لا تثريب علينا إن قلنا: إن الموروث القديم الذي اهتم بتأويلات النصّ الديني (القرآنيّ/ الحديثيّ) – وحديثي في هذا الكتاب دائماً عن مفاهيم الخلق – أبتلى بأمرين لهما ضجيج مزعج، واللذان يعدان موطن الداء الدَّوَي، ومكمن المرض العُقام؛ لأنهما يؤثران على العقل سلباً، فيشلان التفكير العلميّ، ويغلقان باب البحث والتقصي، لماذا؟ ببساطة لأن الإنسان المسلم لازال ينظر إلى الكون ونشأته من خلال حيز ضيق ووفق مصطلحات ومفاهيم وأفكار منطلقة من نصوص وأحكام بعينها، وعادة ما تكون تلك الفهوم نتاج ما غرزه المجتمع بأطيافه كلها في العقل الباطن لهذا الإنسان، فيصبح هذا الإنسان تابعاً لتلكم الأفكار ومؤيداً لها من حيث يعتقد أنه محسن وهو بلا ريب غير ذلك، وهنا يكمن الفساد لأن الفرد لم يعد يقبل مخالفاً له في الرأي؛ بل لا يتوقف الأمر هنا، وإنما يتعدى إلى الغضب والاعتداء في حين يعتقد أن ذلك هو الصلاح والدفاع، وهو الفساد عينه. لأن المركوز في الطبع البشريّ أن الفطام على المعهود شديد الوقْع على النفوس. ولأن من ينشأ في بيئة فكريّة محددة ويخضع لمناسكها وتقاليدها يصعب عليه أن ينظر في الأمور نظراً مجرداً من أي هوى. لذلك حان وقت إسكات تلك الجلبة وذلك الصخب، وعلاج ذلك المرض، وتجريد العناصر الكهنوتيّة المسببة لذلك الضجيج من سلطتها الأيدولوجيّة والفكريّة إلى الأبد بعلاج هذين الأمرين:

    الأمر الأوَّل: الخرافة التي أُسست على روايات إسرائيليّة، وأخبار تلموديّة، والتي دست في تراثنا الإسلاميّ القديم وقُدّست بشكل كبير، حتى أصبح إنكارها يرتقي عند بعضهم إلى الرِّدة عن الدين، على الرغم من إنكار بعض علماء الأمة لتلكم الخرافات والأساطير وهذا مما ستستقبله في جنبات هذا الكتاب، ويجد الباحث الجاد الذي يستثمر آليات النظر الحصيف، ومناهج العلم الرصينة أن تلك الخرافات ما هي إلا ضغثاً على إبالة، فلا يجب أن يلقي إليها أي نحرير باله؛ لأن كل ذلك الدسّ كان لمرامي مصطنعة دبرها الذكاء والتحايل البشريّ غرض حجب شموس الحقائق بغيوم الأضاليل. وعليه فإن وصلتُ في انتقاداتي إلى الدائرة الخرافيّة في ذلك التراث والمتعلقة بمفاهيم الخلق – لا الفقه – فذلك لا يعني نقد الدين ذاته البتة، ولا شخوصاً بعينهم، بل آراء قدمت من بشر، بمعنى: نقد ما قيل وليس مَن قال. وإنّ ما قيل في كثير من ذلك التراث أضاليل انتقدها الفطاحل والأفذاذ والأعلام الأثبات المشهود لهم بسعة العِلم، وجزالة الفضل، والتضلع في علوم اللغة والتفسير والفقه وأصوله نحو الشيخ الإمام محمد عبده والإمام جمال الدين الأفغانيّ والشيخ محمد رشيد رضا والشيخ رفاعة الطهطاوي والشيخ عبد المتعال الصعيديّ والشيخ محمد الطاهر بن عاشور وغيرهم كثير، وأبقى في نقدي دائماً محترماً شرائط النقد العلميّ من دون الانحطاط إلى مستوى السب والمساب والافتراء على جميع العلماء إن نتفق مع آرائهم كلاً أو جزءاً أو لا نتفق.

    الأمر الثاني: التشبث بتلك الخرافات والتمسك بذلك المأثور القديم على وجه العموم وعدّه أسّ العلوم وأساس المعارف. ومن خرج عن تلك العباءة البالية عُدَّ أيضاً من الزنادقة المارقين من الدين مروق السهم من الرمية، والذين وجب توجيههم ناحية جادة صواب المتمسكين بتلابيب ذلك الموروث، وهي في الواقع ابتعاد عن سمو غايات القرآن ومقاصده، وانحراف عن سنن الله في خلقه، وخروج عن الفطرة الإنسانيّة والجُبْلة البشريّة.

    أريد أن أنوه القارئ الكريم تنويهاً مهماً، إلى أنَّ ما أسوقه في هذا الكتاب ليس لإثبات الإعجاز العلميّ للقرآن الكريم، فالقرآن الكريم منهجاً يُتّبع وليس تجارب معمليّة واجبة الإثبات، فكل دعوات الإعجاز العلميّ، وما نسمعه من تبشيرات ما هي إلا محاولات البحث عن آيات قرآنيّة ملائمة لموضوعات علميّة محددة وربط تلك بتلك، والذين يفعلون ذلك جعلوا من أنفسهم هدفاً للسخرية، فهم بذلك يحاولون احتواء المعرفة القرآنيّة الجبارة والمستمرة باستخدام نظريات آنيّة ليست آيلة للانهيار فحسب، بل ولتقويض أسسها ومبناها في أي وقت، مكتفين بنظرات عابرة وعجلى على تلك النظريات من دون فحص واع أو اختبار دقيق لمحتواها، محاولين بذلك الدفاع عن النصّ القرآنيّ، لكن في الواقع هم يُفرغونه من محتواه العظيم عند مقارنته بتلك النظريات، فهم بذلك يسيئون إلى النصّ من حيث يعتقدون الإحسان، ويفسدون من حيث يظنون الإصلاح، فيصبح الإحسان والإفساد على سوية من الأمر. لذلك فإن كل همّي في هذا الكتاب عدم إنزال النصّ المقدس إلى مستوى الواقع، وعقل البشر المحدود، وملكة الإنسان اللغويّة كما يفعلون، بل أحاول ما أمكن أن أصعد بالواقع وتفكير المرء ولغته إلى مستوى النصّ عبر ضروب من الفهم تتفق مع مرامي النصّ وقصوده، تلك الفهوم لا خوف منها على هذا النصّ العظيم، قدر خوفهم من الحضارات الحديثة عليه. إنَّ خوفهم من الحضارة الغربيّة الزاحفة بقوة نحونا والتي يظنون أنهم قادرون على احتوائها بذلك الربط بين العلم وتلك الآي الكريمات ما هو إلا هروب من واقع الجهل الكئيب، والكسل العلميّ، والكساد المعرفيّ الذي نعيش، فخيل إليهم أنه لا وسيلة لمواجهة تلك الحضارة إلا بتلك الواسطة البخسة، التي جعلتنا نهلل للماضي في حلقات مفرغة بلا فعل أو حراك، وتركتنا نعيش عالة على الأخرين، نجتر ابتكاراتهم وعلومهم، ونُكَفّر فلسفتهم ومعارفهم، والأَنكى من ذلك نُحمّلهم مسؤولية فشلنا وأخطاءنا التي لا تبرح تفارقنا مذ تركنا عقولنا رهائن التراث العتيق. لذلك فإن الطريقة الصحيحة في مواجهة تلك الحضارة وغيرها من الحضارات لا تكمن في التحرك على أساس الخصومة والعداء المذهبيّ والدينيّ، بل في استيعاب الجديد القادم من تلك الحضارات الخليق بالقبول، ورفض ما لا يتماشى مع الفطرة الإنسانيّة والنحيزة البشريّة.

    إنَّ الربط بين ما استحدث من علوم بالذكر الحكيم ينطوي على مفاسد عظيمة، أثرها في كثير من الأحايين سلباً على النصّ. ولا يجوز برأينا أن يزعم أحد أنَّ ما تستنتجه عقول البشر المحدودة مطابق للنصّ الحكيم على وجه الإطلاق. وللأسف نرى ربط بعضهم العلوم الحديثة بآي القرآن المجيد حتى يفغر الناس أفواههم وعيونهم تعجباً لأقوالهم، وهذا تدليس في العلوم، واختلاق على المعارف؛ نحو قولهم بأن الجبال أوتاد الأرض ويستدلون زيفاً من مراجع ليس مجالها، فهذا ربط ليس في محله؛ لأن القرآن لا يعني تلك الأوتاد التي يعتقدها أو يظن أنها القصد القرآنيّ. فلا يمكن أن تكون الجبال أوتاد الأرض، ومثبّتة لها، وهي جزءاً منها ولازالت تتشكّل إلى يومنا هذا، وما مادت بنا الأرض؛ وإن منها ما ليس له امتداد في الأرض كامتداد الأوتاد حسب زعمهم.

    وعليه فإن هذا الكتاب ليس تفسيراً للقرآن الكريم، فهو قراءة تحليلية لظاهرات الخلق (الكونيّة/ الإنسانيّة) وفق ما استجد من علوم وما استحدث من معارف تُرافقها قراءة لمضامين النصّ العظيم آخذاً نصب عيني قدسيّة النصّ وهيبته، مبتعداً عن غيبيات الموروث الدينيّ التي أُقدّمها في هذا الكتاب للعرض وتبيان عجزها عن الإحاطة بمقاصد النصّ القرآنيّ فقط؛ وعليه ولعل من نافل القول، إن الكتاب للبُحّاث عن حقائق العلوم، والمجتهدين في استخراج ودائعها وخباياها، لذلك كنت مبالغاً في الوصف وحشد الشواهد وتكثير الأمثال؛ وعليه أُهيب بالقارئ إلى الصبر على التّجرد من شائع الآراء وقديمها، والانفكاك عن المألوف من الاعتقاد، وتفريغ الذهن من المسبوق من الأفكار، لأن هذا الكتاب سيترك للقارئ متنفساً من الأمر يعرف فيه الحقائق، فهو سينتهي بك إلى ضفتين على النقيض تماماً: الأولى مرفأها حقائق كتابنا العزيز الذي لا يأتيه الباطل من أوَّله إلى آخره، كذلك ما استجد من علوم ومعارف حديثة. أما الثانية فمرفأها الخُرافات والأساطير التي دُسّت في موروثنا القديم، وما أرمي إليه هو أن يجعل القارئ عقله حكماً عدلاً وفؤاده دليلاً وقائداً بين مرفأ الحقائق وضفة الأساطير.

    المؤلف

    ماندورا – أستراليا


    () قد استعمل ضمير الجمع في هذا الكتاب لما جرى عليه الاستعمال العربيّ القديم، مما يجعل المخاطِب متحدثاً باسمه وباسم غيره، ولا نرمي به إلى تعظيم الذات ولا الإعجاب بالنفس البتة

    الفصل الأوَّل

    العلم

    إنّ المستقرئ لتاريخ العلم في كل حقوله يلفي أنه نامي يتمم نواقص الإدراك السائدة في كل وقت ومكان، ويبين غوامض ظاهرات الكون، ويجمع شتات المعارف، ويصحح أخطاء الأوائل؛ إلَّا أنه يبقى دائماً منقوصاً، محوجاً إلى العناية، مفتقراً إلى الاهتمام؛ لأن التاريخ أبلغنا والتجارب علمتنا أنّ ليس كل ما قاله العِلم كان دائماً صحيحاً، فقد تقوضت كثير من قواعده بعد ثُبوتها ورسوخها. فيستبين لنا أنه متطوّر ونام، وليس جامداً وهامداً كما يعتقد كثيرهم ويظن، فإنْ تعاملنا معه على وجه اعتقادهم ذاك واجهنا مشاكلاً عديدة ومصاعباً جمَّة. فالعلم هو من طوّر حياة الإنسان وجعلها أفضل، فلا يمكن إلا أن يكون نامياً متطوراً وخاضعاً في الوقت ذاته لناموس التّرقي والتدرج. فالعلم هو من أرشد إلى وجود خالق لهذا الكون، وهو من أبان طرق الخير وأوضح مسالك الضلال. لذلك يطرح التنزيل الحكيم مسألة العلم في صفحاته العديدة، وآياته الكثيرة، على أنه المُخلِّص من الجهل، والمنقذ مِن الضلال، والمرشد إلى الله خالق البشر والهادي إلى معرفة الكون وما نرى من مخلوقات وظاهرات، وما لا نرى من غيب أشار إليه المولى عزَّ وجلَّ في كتابه العزيز. بذلك أسَّس القرآن الكريم للعلم والدعوة إليه؛ بل لا أُغالي حين أقول إنَّ العلم كان قبل العبادة وإقامة شعائر الدين منذ زمن سيدنا آدم، إلى عهد رسولنا عليهما السلام. فكان العلم لصيقاً بتسوية الإنسان ونفخ الروح فيه، أي كانت التسوية أولاً ثم جاء العلم ثانياً قبل الأمر بالعبادة والعمل. لذلك قال تعالى في ذلك الأمر: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ◌ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ البقرة: (30/31). أحسب أن هاتين الآيتين لا يُفرغ من الحديث فيهما، لما تحملان من معانٍ كبيرة وفهوم ساميّة ورفيعة، ليس فقط في مسألة الخلق؛ بل في مسائل علميّة وفلسفيّة عدة؛ فتبيّن لنا الآيتان الكريمتان ذلك التسلسل الثنائي بشكلٍ جليّ ولائح، أوَّلهما جعل آدم خليفة، وثانيهما تعليمه. كذلك أمر الله سبحانه وتعالى نبيه الكريم – ﷺ – بالقراءة في أوَّل كلمات الذكر قبل أن يأمره بإقامة الشعائر، أو حتى الدعوة إلى وحدانيّة الخالق.

    ومنذ أن أصبح العلم من صفات البشر على اختلاف أجناسهم وألوانهم وأزمانهم بعد النفخ في آدم، تفاخر البشر به بل وتعالوا حتى على من قرّبهم الله إليه، ويبلغهم بما يريد أن يفعل في ملكوته – الملائكة – فعد الإنسان نفسه أفضل خلق الله؛ بل قال كثير من مشايخ المسلمين: إن علم الإنسان فاق كل العلوم، وتجاوز كل الفهوم؛ حتى أنه فاق علم الملائكة في السماء. وما دمنا بصدد ما ادّعوا، فلا بأس أن نعرّج قليلاً على علم الملائكة ومن قال بأفضليّة البشر عليهم؛ فقد أشكلت الآيتان الكريمتان المذكورتان في صدر هذا الفصل كثيراً على العلماء في موضوع علم الملائكة وأفضليّة البشر من الأنبياء، بل بالغوا وقالوا حتى الصالحين منهم علمهم وفضلهم أكبر من علم وفضل الملائكة. فقال معظم المفسرين – وليس كلهم – بأن علم الملائكة أقل من علم البشر، يقول الشيخ الطاهر بن عاشور – رحمه الله – وهو من المعاصرين في تفسير قوله تعالى على لسان الملائكة سبحانك لا علم لنا إلَّا ما علّمتنا: ثم إنّ كلامهم هذا يدل على أنَّ علومهم محدودة غير قابلة للزيادة فهي مقصورة على ما ألهمهم الله تعالى وما يأمرهم فللملائكة علم قبول المعاني لا علم استنباطها. فقوله عن الملائكة أنهم لا يستنبطون العلوم كلام فيه نظر، بل يداخله فساد كبير، مما يجعله قول مختل يحتاج في تقويمه إلى لطف نظر وفضل روية؛ لأنه من خلال التأمل المستفيض، والنظر الحصيف إلى الردّ الملائكيّ وتحليله تحليلاً فلسفيّاً معمقاً بعيداً عن نزوات البشر وتعصباتهم. أقول: إنّ الملائكة عرفوا أنّ ذرية آدم ستفسد في الأرض وتسفك الدماء قبل أن يسوي الله تعالى تلك الذرية؛ لأنهم حين علموا أنَّ اجتماع الشهوات من قبيل الجنس والأكل، وأنماط السلوك نحو الغضب والحب والكراهية مع العقل في جسد واحد، وهو بدن البشر، أوجب وقوع الفساد من اجتماع تلك الغرائز والسلوكيات. وهذا دليل على سمو علومهم ورقي مداركهم عن منتهى علومنا ومدى معارفنا، وهذا يُعدّ استنباطاً رائعاً وهو ما أُنكر عليهم. فكيف يقول شيخنا الجليل هذا القول. وهو القائل في تفسير قوله تعالى: ﴿وَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ﴾ الأعراف: (20) أي إلا أن تكونا في القرب والزلفى كالملكين، وقد مثل لهما بما يعرفان من كمال الملائكة. أمَّا قول بعض العلماء إنَّ الصالحين والأنبياء أفضل من الملائكة يعد كلاماً ليس له آيبة ولا رائحة؛ بل اتباع الهوى الذي لا يغني من الحق شيئاً. فقد استندوا إلى القول بأن الملائكة: (¹) خَلقٌ من خَلقِ الله تعالى، خلقهم الله عزّ وجلّ من نور، مربوبون مسخرون، عباد مكرمون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، لا يوصفون بالذكورة ولا بالأنوثة، لا يأكلون ولا يشربون، ولا يملون ولا يتعبون ولا يتناكحون ولا يعلم عددهم إلا الله. كأنهم بوصفهم هذا يصفون الرجال الآليين أو ما يعرف بالروبوتات؛ وفي كلامهم هذا نظر أيضاً، فلو كان صحيحاً لما اصطفى الله من الملائكة رسلاً كما اصطفى من الناس. إن الادعاء بأنَّ البشر لهم نوازع الشر ويسيطرون عليها والملائكة ليس لهم تلك النوازع. يعد ادعاءً بلا برهان يسنده ولا دليل يؤيده. يقول تعالى: ﴿عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ التحريم (6) وهذا يدلّ على أمر مهم جداً، وهو وجود ملائكة لديهم نوازع الشدة والغلظة، وقد اختصّهم الله بالعذاب؛ وبالتالي يشير قوله تعالى إلى وجود ملائكة أخرين يتصفون بالرحمة. إذاً منهم من يمتلك صفات الشدة ومنهم من يمتلك سمات الرحمة، ومع ذلك فإنَّ عبادتهم أجلّ من عبادتنا. يقول أبو حيان التوحيدي: (²) إنها خلق شريف لله – تعالى – ولها مراتب متفاضلة. كما يقول تعالى فيهم: لا يعصون الله ما أمرهم، على الرغم من إرادتهم الكاملة في العبادة ولم يكونوا مجبرين على ذلك؛ بل مختارين راضين، ولا أدل على ذلك من عصيان إبليس لأمر ربه وفي حضرته. بينما من الرسل – عليهم السلام – من عصى أو نسي، فآدم عصى أمر ربه على الرغم من أنَّه سواه بيده، ونفخ فيه من روحه، ﴿وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ﴾ طه: (121). وموسى قتل نفساً، ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ﴾ القصص: (33). ويونس ذهب مغاضباً وظنَّ أن لن يُقدر عليه ﴿وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ الأنبياء: (87) ومما يدل على أن فعله كان محظوراً قوله تعالى ﴿اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ﴾ القلم: (48). ومحمد نبَّهه الله في مواضع ذات عدد في القرآن، فعلى جادة المثال قوله تعالى: ﴿وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ﴾ الأحزاب: (37)، كما أن الله قال له: ﴿لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ الفتح: (2). عليهم السلام جميعاً. ثم كيف يكون البشر أفضل من الملائكة، والملائكة هم من يتوفون البشر الظالمين والطيبين على السواء؟! ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَىٰ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تعْمَلُونَ﴾ النحل: (28) وقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ النحل: (32)، والسؤال الذي يثور من فورهِ هنا، من هو الأكثر رفعة الذي يَتوفى الجميع طيبين وظالمين أنبياء وصالحين أم الذي يُتوفى؟ وأي رفعة أكبر من هذه اقرأ قوله تعالى: ﴿وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الزمر: (75). أمّا قول ابن تيمية: وآدم خلقه الله من طين: فلما سواه، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له الملائكة، وفضَّله عليهم بتعليمه أسماء كل شيء وبأن خلقه بيديه، وبغير ذلك. فهو وصالح ذريته أفضل من الملائكة، وإن كان هؤلاء مخلوقين من طين، وهؤلاء من نور مجموع الفتاوى (11 /95) فيه نظر، فكلامه قد يفضي إلى انفلات القول من عقال المقصد والمرمى، نتيجة مغامرة خالية من التفكر، تقودها أَنفة الإنسان وكبريائه وغروره، وما أشبهها بأنفة إبليس حين أُمر بالسجود فأبى واستكبر لاعتبارات خياليّة في نفسه قادتها الأنفة ذاتها والكبرياء نفسه. ولا أفهم من قوله هذا إلا معنىً واحداً وهو أن: ابن تيمية – رحمه الله – ومن يقول قوله إنهم يرون أنفسهم أفضل من الملائكة. فيتشابه قولهم وقول من قال: ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ﴾ ص: (76). لذلك لم نقرأ أو نسمع في حدود مطالعاتنا المحدودة عن الأنبياء أنهم ادّعوا بأنهم أفضل من الملائكة، أو حتى أفضل من البشر، فالرسول الخاتم والأنبياء من قبله – عليهم الصلاة والسلام – يصفهم الكتاب الكريم بأنهم بشر مثلنا على الرغم من سمو منزلتهم واصطفاء الله لهم من بين البشر جميعاً، حتى صاروا من أهل الزلفى دون غيرهم؛ إلا أنهم يظلون بشراً، يقول المولى عزَّ وجلَّ في محكم التنزيل: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ الكهف: (110). لكن جاء من بعدهم (³) من قال غير قولهم وفضّل نفسه على الناس وعلى الملائكة. بل جرت بهم العادة أن يمزجوا كتاباتهم بأنفة وكبرياء نحو – ابن تيمية – القائل عن نفسه: من قام بالإسلام أوقات الحاجة غيري؟ ومن الذي أوضح دلائله وبينه وجاهد أعداءه وأقامه لـمّا مال حين تخلى عنه كل أحد؟ (⁴) مجموع الفتاوى (3: 107). كما أن قوله خلق الله آدم بيده لا ينفي خلق الله الملائكة بيده، والله خلق السماء بأيدٍ فهل هي أفضل من الملائكة؟ يقول تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ الذاريات (47). وأجد ما قاله الزمخشريّ – رحمه الله – في تفسير قوله تعالى: ولقد كرمنا بني آدم أفضل ردٍّ عليهم ولا تثريب علينا أن ذكرناه: وحسب بني آدم تفضيلاً أن ترفع عليهم الملائكة وهم هم ومنزلتهم عند الله منزلتهم، والعجب من المجبرة كيف عكسوا في كل شيء وكابروا، حتى جسرتهم عادة المكابرة على العظيمة التي هي تفضيل الإنسان على الـمَلَك، وذلك بعد ما سمعوا تفخيم الله أمرهم وتكثيره مع التعظيم ذكرهم، وعلموا أين أسكنهم، وأنَّى قربهم، وكيف نزّلهم من أنبيائه منزلة أنبيائه من أممهم، ثم جرَّهم فرط التعصب عليهم إلى أن لفقوا أقوالاً وأخباراً منها: قالت الملائكة: ربنا إنك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون منها ويتمتعون ولم تعطنا ذلك، فأعطناه في الآخرة، فقال: وعِزّتي وجلالي، لا أجعل ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له: كن فكان، ورووا عن أبي هريرة أنه قال: لمؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده، ومن ارتباكهم أنهم فسروا (كثيراً) بمعنى: (جميع) في هذه الآية، وخُذلوا حتى سُلبوا الذوق فلم يحسوا ببشاعة قولهم.

    والأكثر أهميَّة من ذلك كله أنَّ الله تعالى لا يُقدّم ذِكر الملائكة في القرآن الكريم فحسب بل يقدم ذكر الكتب الرساليّة على ذكر الرسل على وجه العموم، فلو كان الرُّسل أفضل لَذَكرهم قبل الملائكة يقول تعالى: ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا﴾ النساء: (13) ويقول أيضاً: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾ البقرة: (285). وقوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ الحج (75) وغير ذلك من الآيات. وكفى ردَّاً قوله تعالى في الرُّسل عليهم السلام: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ﴾ الفرقان: (20) ونرى أنّ هذه الآية فاضلةً عن الكفاية، فالمعروف والمعترف به من الجميع مائية (⁵) دلالة أكل الطعام، ولا مجال للشرح؛ وهذا لا ينطبق على الملائكة؛ لأنهم أطهار والبشر يأكلون. واستنادهم إلى قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ الإسراء: (70) بأفضلية البشر على الملائكة يعدّ استناداً ضعيفاً؛ بل لا يعدو إلا عبثاً ودوراناً حول الساقية؛ لأن الآية تشير من طرف لا يخفى على ذي بصيرة أو علم وجود كثير من المخلوقات أفضل من البشر، لأنَّ الله قال: فضلناهم على كثير مما خلقنا وليس على كل ما خلق. فقولهم مردود؛ لأنهم فسروا كلمة (كثيرٍ ممن خلقنا) في الآية السابقة بمعنى كل ما خلقنا وفي ذلك فساد كبير. لأن حدود فهم البشر اقتصرت على ما في الأرض فقط، متناسين الحجم الهائل من الكون الذي قد يحوي مخلوقات أخرى أفضل من البشر. فهم بهذا التأويل قد جعلوا مركزيّة الإنسان موازية لمركزية الله كما يرى المستعرب اليابانيّ Toshihiko Izutsu. إذاً فالقول بأنَّ علم الملائكة محدود وأقل من علم البشر وأنَّ البشر أفضل منهم يعد زلل. لأنَّ الله خلق الإنسان ذا شهوات عدة نحو الأكل والشرب والجنس، تلك الشهوات ذاتها أعطاها الحيوان أيضاً، ولم يخلق الملائكة بتلك الشهوات فضلاً لهم ورفعة على البشر الذي يستوي تماماً مع الحيوان في جوانب من تلك الملذات. كما أن آدم – عليه السلام – كان يعلم أن الملائكة أفضل منه، لذلك وقع في المحظور وعصى ربه لرغبته في أن يكون ملكاً، فلو كان يؤمن بأنه أفضل من الملائكة لما استطاع إبليس إغواءه بالدعوة إلى أن يكون ملكاً، يقول تعالى: ﴿وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخَالِدِينَ﴾ الأعراف: (20)، فكانت رغبته في الصفاء والخلد والكمال أقوى من الانصياع لأمر الله، لما يعي من أمر نفسه وما يعتريها من نقص وفناء. الصحيح أنّ الله فضّل البشر على كثيرٍ من الخلق بالعقل الذي نوه إليه القرآن وهتف به مرات ذات عدد، وأمرنا بالتعويل عليه لقوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَعْقِلُونَ﴾، ومن ثمَّ العلم، إلَّا أن ذلك العلم لا يرتقي إلى علم الملائكة أو منزلتهم التي منحهم الله، لأنَّ الله يقول مخاطباً البشر: والله يعلم وأنتم لا تعلمون. والآية الكريمة: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ الحج: (75) فيها دلالة عظيمة على وجود تفاوت بين الملائكة كوجود هذا التفاوت بين البشر، لذلك حدث الاصطفاء

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1