Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

صيرورة الإنسان العاقل
صيرورة الإنسان العاقل
صيرورة الإنسان العاقل
Ebook438 pages3 hours

صيرورة الإنسان العاقل

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

كتاب صيرورة الإنسان العاقل Homo Sapiens يمثل خلاصة مكثفة لرحلة تطور الجنس البشري من منظار نظرية التطور والاصطفاء الطبيعي للأجناس الحية؛ وهي خلاصة قام بإعدادها وتجميعها باللغة الإنجليزية الأستاذ الدكتور مصعب قاسم عزاوي، الذي تفضل مشكوراً بتقديم المشروع بكليته هدية لإدارة دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع من أجل ترجمته إلى اللغة العربية، وتقديمه بشكل ميسر للقارئ العربي الكريم.


 

Languageالعربية
PublisherPublishdrive
Release dateDec 8, 2022
صيرورة الإنسان العاقل

Read more from مصعب قاسم عزاوي

Related to صيرورة الإنسان العاقل

Related ebooks

Reviews for صيرورة الإنسان العاقل

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    صيرورة الإنسان العاقل - مصعب قاسم عزاوي

    منعرجات تطور الجنس البشري

    قد يكون موضوع التطور البيولوجي للبشر كجنس حيواني يتربع على عرش مملكة الكائنات الحية، أحد أكثر المواضيع خلافية منذ نشر كتاب تشارلز داروين لكتابه الاستثنائي «بصدد أصل الأنواع عبر الاصطفاء الطبيعي»، الصادر في العام 1859، والذي شكَّل قفزة علمية استثنائية غير مسبوقة في تجاوز النظريات السالفة له، وخاصة تلك الدينية منها التي تعزو كينونة بني البشر ونهوضهم الجمعي إلى مرحلة ما بعد الطوفان التي وردت في الأساطير السومرية، والأكادية والبابلية من بعدها، وانتقلت منها إلى كتب الديانات السماوية. وكانت الكنيسة المسيحية بصورتها الأوربية المتزمتة الأكثر صدمة باكتشافات داروين العلمية التي أسقطت كل افتراضاتها عن تاريخ بني البشر  و خاصة فيما يرتبط  بالاعتقاد بخليقتهم بيد المقدس في السماء منذ بضعة آلاف من السنين، لتظهرهم كائنات حيوانية ذات صيرورة تطورية مغرقة في القدم، يعود فيها البشر إلى أسلاف لهم يشتركون بها مع القرود من فصيلة الأوليات، بحيث يمكن اعتبار أولئك الأخيرين أبناء عمومة بني البشر الذين افترقوا عنهم في غابر الأزمان، وهو ما تكشف علمياً بالدراسات الأحفورية والتشريحية المقارنة الفيزيائية التي تعتمد التأريخ بناء على مستوى تنكس القدرة الإشعاعية للكربون 14 في أجسام الكائنات الحية بعد موتها، بالتوازي مع دراسات مورثية معمقة تعتمد على استخراج الحمض النووي DNA من خلايا بقايا عظام الكائنات الحية البائدة لدراسة وتعقب معدل اختلافها عن ذلك القائم في أجساد بني البشر المعاصرين وغيرهم من الكائنات الحية والتي تم اكتمال رسم خارطتهم المورثية في العام 2003؛ وهو ما تكلل بشبه إجماع علمي على أن تاريخ تطور الجنس البشري من فصيلة Hominin يعود إلى أقدم الأفراد المنتسبين إليها من نمط Australopithecus afarensis في حقبة زمنية غابرة عمرها ما يقارب السبعة ملايين من السنين، وهو السليف الذي تطور في منطقة شرق أفريقيا ومنها يعود إليه اسمه الذي ينتسب فيه إلى صحراء عفار في إثيوبيا الحالية. وهو نوع أسلاف البشر الذي تلاه أنماط متعددة من جنس بني البشر من قبيل إنسان هابيلس أو هابيل Homo habilis والذي يدعى أيضاً الإنسان الحاذق، وتلاه بعد ذلك نوع الإنسان المنتصب Homo erectus، ومن بعده إنسان نياندرتاليس Homo neanderthalensis ليصل أخيراً إلى الإنسان العاقل Homo sapiens والذي ينتسب إليه جميع أبناء الجنس البشري الذين يجوبون أرجاء المعمورة راهناً.

    ولا بد من الاعتراف بفضل ذلك النسق العلمي الأخير في النظر إلى كينونة الإنسان وأصلها البيولوجي التطوري المغرق في القدم، لإعادة التوازن الشاذ في علاقة بني البشر مع أقرانهم من الكائنات الحية القائم على الوحشية المنفلتة من كل عقال أخلاقي أو منطقي المتمثل في النظر إلى أن كل الكائنات الحية الأخرى مسخرة لخدمة ذلك الإنسان بشكل يتفق مع رؤيته للكيفية التي لا بد أن تعمل بها الطبيعة وكل من قدر له أن يكون جزءاً عضوياً أو بيولوجياً منها لخدمته، بينما هو الإنسان نفسه في الواقع ناتج بيولوجي صرف لصيرورة التطور والاصطفاء الطبيعي الممتدة على بضعة ملايين من السنين، ولما تتوقف بعد، ولن تصدأ عجلتها أيضاً في قابل الأيام، وأن كل الكائنات الحية البائدة فيها، و تلك التي تحتضر قاب قوسين أو أدنى من الانقراض بسبب عسف بني البشر، وغيرها من تلك التي لم تسلم شرورهم بشكل مباشر أو غيره، أسلاف بالمعنى البيولوجي المحض لبني البشر، ويستقيم النظر إليهم أجداداً وأبناء عمومة في جميع الأحوال ودون أي استثناء من تلك القاعدة البيولوجية الصالحة لكل زمان ومكان. والمثال الصارخ على ذلك هو التطابق المورثي بين أي إنسان على وجه البسيطة وأي من قردة الشمبانزي بمعدل يصل إلى 98%، ومع القطط بمعدل 90%، ومع الأبقار بنسبة 80%، ومع الفئران بنسبة 85%، ومع ذبابة الفواكه بنسبة 60%، ومع الدجاج بنسبة 60%، ومع فواكه الموز بمعدل 60%، حيث أن الكائنات الحية جميعها تعود في أصلها التطوري إلى جذر واحد عمره حوالي 80 مليون سنة بحسب كشوفات علم التطور المورثي الحديث.

    وقد يكون الموضوع الأكثر طرافة وحساسية في آن معاً هو الحقيقة الناصعة بالتطابق المورثي بين أي اثنين من أبناء الجنس البشري الراهنين بنسبة تقارب 99.9%، وأن معدل الاختلافات بين إجمالي تعدد الأنماط المورثية في مجموعة بشرية معينة مهما كانت معزولة في أي بقعة من وجه البسيطة، وهو الحاصل الذي يمكن الوصول إليه حسابياً عبر جمع كل الأنماط الوراثية الفردية في مجموعة بشرية، يكاد يطابق بشكل مطلق إجمالي معدل تعدد الأنماط المورثية في أي مجموعة بشرية أخرى مهما كانت بعيدة جغرافياً عن أي مجموعة أخرى. وهو نسق يعيد كل عاقل حصيف فعلياً إلى ذلك النهج الأخلاقي والموضوعي والعلمي في آن معاً لاعتبار كل بني البشر أخوات وإخوة من الناحية المورثية كحد أدنى، وهو ما يتفق مع الكشوفات الأحفورية والأنثروبولوجية التي ترجع جميع بني البشر الراهنين إلى عدد لا يتجاوز بضع مئات من الأسلاف عاشوا في شرق القارة الأفريقية خلال العصر الجليدي الأخير منذ حوالي 70000 سنة تقريباً.

    وإن العنصر الأساسي الناظم في عملية تطور الأجناس والكائنات الحية هو الطفرات المورثية التي تحدث بشكل عفوي خلال عملية الإلقاح وتشكل الأجنّة، وتؤدي إلى تغيرات معينة في الشيفرة الوراثية للجنين تنتج لاحقاً تغيرات بنيوية أو وظيفية في جسده تدعى علمياً التغايرات في النمط الظاهري للكائن الحي. وهي التي سوف يتم اصطفاؤها طبيعياً بعد ذلك وفق قانونية الاحتفاظ بالطفرات العفوية الحدوث وما ينتج عنها من تغيرات في النمط الظاهري للكائن الحي إن كانت تؤدي إلى زيادة فرصه في التكيف الفاعل بشكل أكثر كفاءة مع الشروط البيئية والحيوية المحيطة به، وبالتالي زيادة فرصه في البقاء على قيد الحياة، وبالتالي التزاوج وإنجاب ذرية من بعده تمثل الحامل لمورثاته التي أثبتت كفاءة أكثر في التكيف مع متطلبات المحيط البيئي والحيوي. وكمثال على الطفرات العفوية الإيجابية يمكن الإشارة إلى مورثة FOXP2 التي تختلف في بنيتها عند البشر عن تلك الموجودة في أبناء عمومتهم من الأوليات من قردة البانوبو والشمبانزي وغوريلا الجبال والسعلاة Orangutan ببعض المتتاليات الزائدة التكرار في نهايتها فقط. وذلك التغاير الطفيف عينه هو الذي أنتج قدرة الإنسان على التصويت والحديث والفهم والكلام، بشكل لا يقدر عليه أبناء العمومة أولئك.

    وبالقياس على نسق الطفرات العفوية الإيجابية يمكن الإشارة إلى الطفرات العفوية السلبية التي تؤدي في غالب الأحيان إلى إجهاضات أو  إملاصات عند الأم  الحامل، أو في حال تمكن الجنين من الحياة، فإن الصعوبات التكيفية التي سوف يعاني منها مع الشروط البيئية والحيوية التي يعيش ضمنها سوف تجعل من استمرار حياته إلى مرحلة التزاوج والإنجاب صعبة، وهو ما سوف يؤدي موضوعياً إلى استئصال تلك الطفرات العفوية السلبية من الحوض المورثي للجماعة التي ينتسب إليها ذلك الكائن الحي، وهو ما يعني عملياً بأن مركبة التطور تتم باتجاه إيجابي دائماً يسعى لزيادة تكيف الكائنات الحية مع شروطها البيئية والحيوية، وهو التطور الذي يؤدي مع تراكم التغيرات العفوية الإيجابية إلى تخليق أجناس حيوانية جديدة دون أن يغير ذلك من حقيقة انتسابها إلى أصل بيولوجي واحد.

    وقد يكون المرتكز العلمي الأكثر رهافة وأهمية في آلية الاصطفاء الطبيعي هو عدم الحاجة إلى زمن طويل للتعبير عن طفرة إيجابية ما مكنت حاملها من التكيف بشكل أكثر كفاءة مع شروط محيطه الحيوي والبيئي، وزادت من فرصه في البقاء على قيد الحياة، وبالتالي التزاوج، وإنجاب ذرية من بعده، لا بد أن ينقل إلى نصفهم حتماً - ما لم تكن الطفرة واقعة على الصبغي الجنسي الذكري -Y سواءً كانوا من الذكور أو الإناث نفس الطفرة العفوية الإيجابية التي تحلى بها، و هي التي سوف تعزز من فرصهم للبقاء على قيد الحياة والتكيف مع محيطهم البيئي و الحيوي في حال عدم تغير الشروط البيئية والحيوية بين زمن الآباء وزمن الأبناء، وهي التي سوف تعبر بيولوجياً منهم إلى ذريتهم بشكل يؤدي في نهاية المطاف إلى شيوع تلك الصفة الإيجابية في عموم المجموعة البشرية التي ينتسب إليها ذلك الفرد الذي حدثت الطفرة العفوية الإيجابية في بنيته الوراثية أثناء تخلقه ككائن حي، وذلك من خلال الميزة التفاضلية التي تمتع بها ومن بعده ذريته ومكنتهم من التكيف بشكل أكثر كفاءة مع محيطهم البيئي والحيوي، والبقاء فترة أطول على قيد الحياة، وبالتالي زيادة فرصهم في التزاوج وإنجاب ذرية من بعدهم، وهي ميزة تفاضلية لم يتمتع بها أقرانهم في المجموعة البشرية التي ينتسبون إليها، والذين لم يكونوا من حاملي تلك الطفرة المورثية الإيجابية، وما تنتجه من أنماط ظاهرية في حاملها سواء على المستوى البنيوي أو الوظيفي في أعضاء أجسامهم المختلفة الهيكلية والحركية الاستقلابية والدماغية كما هو الحال في مورثة FOXP2 السالفة الذكر، وهو ما سوف يؤدي إلى تناقص مضطرد في أعداد أولئك الأفراد من غير حاملي تلك الطفرة العفوية الإيجابية بعد أن أصبحت مورثة شائعة في الحوض المورثي للمجموعة البشرية التي ينتسب إليها الفرد الأول الذي حدثت في جسده تلك الطفرة العفوية وأصبحت صفة عمومية في أفراد تلك المجموعة بعد عدة أجيال. وهو ما سوف يؤدي في المآل الأخير بعد تراكم عملية التناقص المضطرد لأعداد الأفراد الذين لم يتحلوا بتلك الصفة المورثية الإيجابية التي أصبحت عمومية، إلى انقراض عملي لأولئك الأفراد الذين لم يتحلوا بتلك الصفة المورثية الإيجابية، لعدم قدرتهم على مجاراة المستوى الأعلى من التكيف الذي يتمتع به حاملو تلك الصفة العمومية الإيجابية، وهو ما يعني اندثار مورثاتهم من الحوض المورثي للمجموعة البشرية التي ينتسبون إليها بعد عدد من الأجيال قد يزيد أو ينقص حسب درجة الميزة التفاضلية التي قدمتها تلك الطفرة العفوية أو تلك، فكلما كان مستوى مساهمة تلك الطفرة العفوية أكثر وأكبر في زيادة فرص التكيف والبقاء على قيد الحياة لذرية حامل تلك الطفرة كلما كان عدد الأجيال المطلوبة لتتحول تلك الطفرة العفوية إلى صفة عمومية شاملة في الحوض المورثي للجماعة البشرية أقل، وسرعة انقراض الأفراد غير الحاملين لتلك الصفة من نفس الحوض المورثي أكبر وأكثر حدة.

    والمثال النموذجي على ذلك الفهم العلمي الذي لا بد منه لكيفية حدوث التطور في الأجناس الحية عبر آليات الاصطفاء الطبيعي، هو بالنظر إلى لون بشرة بني البشر، الذي يرتبط عضوياً بدرجة قدرتهم على امتصاص الأشعة فوق البنفسجية من ضوء الشمس لتركيب فيتامين D، الذي عوزه يؤدي إلى كسور عفوية في العظام يصعب التئامها، وهو ما يعني صعوبة الحصول على الطعام للمصاب بها، وبالتالي احتمالاً كبيراً لاندثاره البيولوجي، وهو ما يفسر الحقيقة العلمية بأن سكان المناطق المشمسة حول منطقة خط الاستواء يتمتعون ببشرة داكنة، والتي تنسجم مع حقيقة أن البشرة الداكنة تمتص بشكل أقل الأشعة فوق البنفسجية، نظراً لوفرة ضوء الشمس بكميات فائضة تكفي لتركيب حاجة الجسم من فيتامين D، بالإضافة إلى ميزة تفاضلية تقدمها البشرة الداكنة للمتحلي بها، ألا وهي حمايته من شر زيادة احتمالات حدوث سرطانات الجلد بكافة أشكالها وخاصة تلك من نوع الميلانوما Melanoma والتي تحدث جراء زيادة امتصاص الجلد للأشعة فوق البنفسجية نفسها التي لا بد من التعرض إلى درجة محدودة منها ليقوم الجلد بتصنيع فيتامين D الضروري.

    وهو ما يعني بأن البشرة الداكنة صفة مورثية إيجابية تمكن حاملها الذي يعيش في المناطق المشمسة الأقرب لخط الاستواء من تحقيق ميزة تفاضلية على أقرانه من ذوي البشرة الفاتحة نظراً لتمكنه من الحصول على احتياجاته من فيتامين D بشكل ملائم، بالإضافة لحماية نفسه من وبال سرطانات الجلد القاتلة التي تكاد معدلات حدوثها عند البشر ذوي البشرة الداكنة أن تكون شبه صفرية. وذلك الفهم الأخير للميزة التفاضلية لتحلي بني البشر في شرق القارة الأفريقية مهد بني البشر الحاليين ببشرة داكنة يمكن سحبه على آلية الاصطفاء الطبيعي التي أدت ببني البشر لاكتساب بشرة فاتحة شاحبة حينما بدأ البشر منذ حوالي 70000 سنة خلال العصر الجليدي الأخير بالتحرك من القارة الإفريقية شمالاً عبر وادي النيل وشبه جزيرة سيناء ومنها إلى بلاد الأناضول ومنها إلى عموم أرجاء القارة الأوربية بحثاً عن مصادر الطعام الشحيحة إبان العصر الجليدي الأخير، في رحلة تمحورت حول السير في كل المسارب التي قد تمكن البشر من صيد الحيوانات البرية الكبيرة الحجم والتي تضاءلت أعدادها بسبب الإفراط في صيدها من قِبَلِ البشر الذين بدأت أعدادهم بالتزايد، و هي الحيوانات التي كان لا بد من السعي بحثاً عنها ليس فقط للحاجة إلى لحمها، بل إلى جلودها لاستخدامها لكساء أجساد بني البشر الذين لا يمتلكون فراءً تحميهم عسف برد العصر الجليدي الأخير القارس حتى في القارة الأفريقية نفسها. وهو التحرك المكاني المضطرد الذي أنتج تغيراً في الظروف البيئية التي كانت البشرة الداكنة تمثل تكيفياً مثالياً معها، إذ أنها أصبحت سمة ذات تأثير سلبي على قدرات حاملها في التكيف مع الظروف البيئية الجديدة في الأماكن الجغرافية التي حل بها بعيداً عن خط الاستواء، التي كان من ضمنها تناقص مضطرد في معدلات وفرة أشعة الشمس بشكل يتناسب طرداً مع بعد المكان الجغرافي الذي وصل إليه البشر المرتحلون بحثاً عن طرائدهم عن خط الاستواء، وهو ما يعني من الناحية البيولوجية صعوبة حصول ذوي البشرة الداكنة من البشر المهاجرين الأوائل على كمية كافية من فيتامين D للحفاظ على أجسادهم من وبال الكسور العفوية، وهو ما أفسح فرصة للأشخاص الذين تحدث لديهم طفرات عفوية ينتج عنها شحوب أو ابيضاض بشرتهم في التكيف أكثر مع الشروط البيئية الجديدة؛ إذ أن البشرة البيضاء أكثر قدرة وكفاءة على امتصاص الأشعة فوق البنفسجية، وبالتالي تصنيع فيتامين D، والبقاء على قيد الحياة لإنجاب ذرية تخلفهم من بعدهم يحمل نصفها بالحد الأدنى مورثات بشرتهم الشاحبة، لتصبح صفة غالبة بشكل شبه مطلق بعد عدة أجيال لابد أن تغيب فيها مورثات أولئك ذوي البشرة الداكنة التي أصبحت سمة سلبية تعيق فرصهم في البقاء على قيد الحياة وإنجاب ذرية من بعدهم تحمل مورثاتهم في الشروط البيئية الجديدة التي حلوا بها. وذلك التوصيف العلمي يتسق مع ذلك التدرج في مستوى شحوب بشرة بني البشر بحسب ابتعاد البقعة الجغرافية التي عاش فيها أسلافهم على عدة أجيال عن خط الاستواء، ويتسق أيضاً مع المعرفة العلمية الثابتة بحسب كشوفات علم المورثات الأحفوري الحديثة عن أن سكان غرب القارة الأوروبية وخاصة البقعة الجغرافية التي تعرف ببريطانيا حالياً كانوا من ذوي البشرة الداكنة قبل حوالي عشرة آلاف عام، وتحولوا بقوة الاصطفاء الطبيعي إلى بشر ببشرة بيضاء كما هو الحال راهناً.

    وهو التوصيف الذي ينسجم أيضاً مع المعرفة العلمية الثابتة بأن جميع بني البشر ذوي العيون الزرقاء ينتسبون إلى فرد إنساني واحد، حصلت لديه طفرة وراثية أدت إلى تحليه بمستوى أقل من الميلانين في جسده، وهو ما أدى بالنتيجة إلى ازرقاق قزحيته، وابيضاض جلده، ومكنت سلالته من التكيف أكثر مع شروط قلة الوارد من أشعة الشمس في شمال القارة الأوروبية، حيث غالبية البشر ذوي العيون الزرقاء.

    وذلك النسق من الفهم لآليات تطور الأجناس الحية والاصطفاء الطبيعي، مقدمة ضرورية لا بد منها لفهم صيرورة حلول بني البشر الحاليين من نوع الإنسان العاقل Homo sapiens محل أسلافهم من أنواع البشر التي سبقتهم، والتي لم تكن عملية فجائية، وإنها عملية تدريجية كان جوهرها تلاقي واختلاط البشر خلال عملية انتقالهم وترحالهم في أرجاء البسيطة، كان ناتجها الأساسي هو حلول الأنماط البشرية الأكثر تكيفاً مع متطلبات شروطها البيئية والحيوية، والتي تمثلت أساساً في أولئك البشر الذين تمتعوا بأدمغة أكبر من الناحية الحجمية، وهو ما يتفق مع صيرورة نمو أدمغة بني البشر على امتداد سبعة ملايين من السنين من حوالي 300 سنتيميتر مكعب في أسلاف البشر الأوائل إلى حوال 1450 سنتيميتر مكعب في البشر الحاليين، بالإضافة إلى الميزة التفاضلية الاستثنائية للطفرة المورثية التي حدثت في مورثة FOXP2 في تاريخ يعود لحوالي مائتي ألف عام مضت، وهو عمر بني البشر المعاصرين من نوع الإنسان العاقل Homo sapiens، فاكتسبت فيه تلك المورثة بفعل طفرة عفوية فيها بعض المتتاليات الإضافية فيها، أدت إلى تغير طبيعة البروتينات والوظائف التي تنتج عن عمل تلك المورثة، وهو ما أدى إلى تمكين البشر من التصويت بالشكل الفائق الذي يستطيع البشر الإتيان به راهناً، بدل التواصل عبر طرق أخرى أقل دقة في توصيل المراد منها سواء كانت دمدمة أو همهمة أو صراخاً أو حتى إيماءات حركية ولغة جسد تعبيرية لا زالت تمثل جزءاً مهماً من أدوات تواصل البشر الضمني غير الصريح فيما بينهم.

    وتلك القدرة الرفيعة على التصويت كانت المقدمة الضرورية لنشوء اللغات، وزيادة قدرة البشر على التنسيق والتخطيط فيما بينهم، وزادت من قدرتهم الجمعية على الحفاظ على حياة المجموعات البشرية التي ينتسبون إليها، والتي كانت في معظمها وحتى نهاية العصر الجليدي الأخير منذ حوالي اثني عشر ألف عام، مجموعات صغيرة لا يتجاوز عدد أفرادها المائة وخمسين شخصاً، هم فعلياً أسرة موسعة تنظمها قرابة الدم والرحم الحقيقية فيما بينهم.

    وهي اللغة، وزيادة حجم دماغ بني البشر الحاليين من نوع الإنسان العاقل ما مكن البشر المعاصرين من نوع الإنسان العاقل Homo sapiens من الحلول محل أسلافهم من أنواع البشر الأخرى سواء عبر الاستيلاء على مصادر قوتهم، بالاستناد إلى قدراتهم الأعلى في التخطيط والتنسيق والتعاون باستخدام اللغة، أو عبر التزاوج معهم، الذي أدى إلى تقهقر مورثات كل الأنواع البائدة من البشر التي لم تتحلى بالميزات التفاضلية الاستثنائية التي تمتع بها بنو البشر من نوع الإنسان العاقل وأهمها القدرة على الكلام وما يستتبعها من قدرات للتواصل اللغوي، والتواصل والتنسيق والتخطيط الجمعي، والتفكير والتحليل، إذ أن اللغة هي وسيط للتفكير أساساً أكثر من كونها وسيلة محضة للتواصل بين البشر، وهو ما أنتج ما يمكن النظر إليه من القدرة الفائقة للبشر المعاصرين على التفكر والاستنباط والإبداع والعمل الجمعي

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1